اخر الروايات

رواية عيون الريان الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم نيللي العطار

رواية عيون الريان الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم نيللي العطار




                                              

كن مثل الشمس في جمالها ورحمتها
وكن كالظلام فأستر عيوب الآخرين
كن كماء النهر في كرمه
كن كالأرض في تواضعها
وأظهر للناس كما أنت , وكن كما تظهر .... 

+


-جلال الدين الرومى-

+


******************

+


جلسة مُضيئة ، يشع منها النور كقنديل يفرّق عتمة الليل عن نوافذ العالم ، وحديث طويل كما غصن يغسل وجوه الأحباب بندى الاشتياق ، وأصواتهم المتداخلة بدت مثل زقزقات شجن يتغنى بها عندليب يقف على حافة ينبوع يتلو أنشودة بجوهرها حبُّ ، وألم ، ودموع فراق .. كانت تتوسطهم وأطرافها الخمسة تحتويهم جميعاً ، على ذراعها الأيمن تستند مريم ، وذراعها الأيسر تتوسده ريهام ، وساقيها المُتعبتين مِقعداً لمصطفى وريتاچ .. أما قلبها "طرفها الخامس" يحملهم كُلهم مع باقي أبنائها الراحلين .. 

+


-(ياحبايبي ، أنا حاسة ان روحي ردت فيا لما شوفتكم).. قالتها وسيلة بحنو بالغ وهي توزع قبلاتها عليهم بالتناوب

+


اعتدلت ريهام في جلستها تقول بمشاعر صادقة (احنا من غيرك ولا حاجة ، ربنا يخليكِ لينا ومايحرمناش منك تاني أبداً)

+


ردت عليها وسيلة ببَشَاشة (الصراحة أنا كنت زعلانة عشان ماسألتوش عليا ، بس لما عرفت اللي حصل معاكم عذرتكم)

+


رفعت مريم أنظارها قليلا تتطلع إليها قائلة بابتسامة عذبة (حضرتك حلوة أوي ياماما)

+


بادلتها وسيلة ابتسامتها بأخرى أكثر حباً وقالت (ياروح قلب ماما ، ماتتصوريش فرحتي بيكِ عاملة ازاي) .. ثم ربتت على وجنة ريهام مُتابعة (وفرحتي بيكِ انتِ كمان ياعروسة) 

+


قالت ريهام بحُزن خفي (كان نفسي اخرج عروسة من الدار) 

+


ارتعشت ملامح وسيلة بعض الشئ قائلة بصَبر يخالطه ألم لا يزول (قَدّر الله وما شاء فعل) .. هتفت على كريمة لتأخذ الصغيرين اللذان غلبهما النُعاس وتنومهما داخل غرفتها الخاصة بينما نطقت مريم بحنين (صباح وحشتني)

+


ابتلعت وسيلة غُصة مُسننة وخزت حلقها قائلة (عاشت كريمة وماتت شهيدة) .. سكتت هُنيهة تقاوم وجعها (كانت صاحبة عمري وعشرتي الغالية ، الدار اتبنت وكبرت على إيديها ، انا بحلم بيها دايماً ، بتطمن عليا وتطمني عليها هي والولاد، الله يرحمها ويحسن إليها ويجعل مثواها الفردوس الأعلى)

+


(اللهم آمين) .. خرجت بعمق وصدق من بين شفتي يتيمتان نشأتا نشأة مُغلفة بالرحمة على يد مُربية غرفت لهما الحنان والمحبة بكفيها الطاهرتين ، وكانت نِعم الأم والأخت والصديقة وستظل ذِكراها الطيبة تُعطر حديثهما حتى آخر العمر .. 

+


حاولت وسيلة تخفيف الكآبة التي خيّمت على الأجواء قائلة (عارفة يامريم؟ ، أنا كنت حاسة ان فيه حاجة بينك وبين ريان أكبر من الحُب)

+


أيدتها ريهام مؤكدة (اللي يشوفهم يعرف إن فيه دم رابطهم ، حتى ملامحهم شبه بعض) .. سألتها بمرح (فاكرة لما وصفته ليكِ أول مرة وقولتلك إنه شبهك؟)

+




                
ضحكت مريم قائلة (معقولة أنا حلوة زيه؟)

+


تولّت وسيلة إجابتها بحِمية أمومية (لا طبعاً انتِ أحلى)

+


(احنا بنتنا قمر ياحبيبتي) .. قالتها ريهام بطريقة مسرحية فتعالت ضحكاتهن بشكل مُبهج .. توقفت مريم عن الضحك مُتحدثة بجدية (كنت عايزة آخد رأيكم في موضوع مهم) ... انتبهتا لها باهتمام فأردفت (الدار لازم تتفتح تاني)

+


سألتها وسيلة بقلة حيلة (ازاي يامريم؟، انا لا عاد فيا صحة ، ولا معايا إمكانيات مادية أبدء من أول وجديد)

+


أمسكت مريم كفها تقبل ظاهره قائلة (صحتك هاتتحسن لما الدار تفتح حُضنها لولادها) .. استكملت بترقب (ولو عالفلوس ، انا عندي الحل) .. صمتت لبُرهة تستجمع رباطة جأشها مستطردة (طنط رويدا ، مرات خالي وأم ريان .. ممكن تساعدنا)

+


تشنجت ريهام قليلاً تقول بدهشة (انتِ عايزة ماما تحط إيديها فإيد الإنسانة اللي ضيعت حياتك؟ ، ومش بس كده، دي تبقى خالة المُجرمة اللي حرّضت على حرق الدار؟)

+


أوضحت مريم وجهة نظرها بهدوء (هي مالهاش ذنب في جريمة بنت أختها)

+


قاطعتها وسيلة بضيق (وجريمتها في حقك زمان؟) 

+


ابتسمت مريم قائلة برضا (ربنا بيسبب الأسباب ، ولولاها ما كانش أكرمني بيكم وعشت أحلى أيام حياتي وسطكم فالدار ، ويمكن انهاردة بعتني ليها عشان تكفر عن ذنبها) .. .. ساد صمتاً مشحوناً بالتفكير بينهن قطعته هي بأمل أن يتفهمن مقصدها (الست دي اتظلمت واتحرمت من أمومتها ، واتفرقت عن ابنها على حياة عينها وعينه)

+


تكلمت ريهام بحَنَق ورفض (انتِ كنتِ كبش فدا لانتقامها ، بالبلدي ماقدرتش عالحمار اتشطرت عالبردعة)

+


حاورتها السيدة وسيلة بتعقل (حرمانها من الأمومة مش مبرر إنها تتخلى عن إنسانيتها ، وافترضي اني سامحتها ، هاثق فيها ازاي؟)

+


ردت مريم (الحَسنة تمحو السيئة ، ويمكن لو خدت فرصة تانية تثبت للكل إنها مش وحشة ، وعلاقتها تتحسّن بريان)

+


مطت ريهام شفتيها (هو ده مربط الفرس ، ريان) 

+


حرّكت مريم رأسها بموافقة ضاحكة (ده مربط الفرس ، والفرس نفسها) .. نظرت لوسيلة ترجوها بلُطف (عشان خاطره وخاطري ياماما توافقي)

+


استسلمت وسيلة قائلة (خاطركم غالي عندي ياست مريم ، لله الأمر من قبل ومن بعد) ..

+


تهللت مريم كثيراً ، تكاد أن تقفز فرحاً قائلة (هاتصل بيها تيجي حالاً)

+


وبحال مُختلفة كانت رويدا "الطرف المَعني بالذكر" تجلس في شقة المنيل التي أهداها لها ريان يوم ميلادها ، تحديداً داخل شرفتها الواسعة المُقابلة لنهر النيل ، تمسك كوب كبير به مشروب شتوي ساخن ، أعدته ليُدفئ دواخلها المُرتجفة ، ويؤنس وحشتها عِوضاً عن البشر ، بهيئة تُطبق شِطراً من قصيدة لجبران خليل جبران قال فيها (زاهداً فيما سيأتي ، ناسياً ما قد مَضى) .. مُتخذة قراراً قاطعاً بعدم الرجوع إلى الڤيلا مُجدداً ، عقب مواجهتها الأخيرة مع العائلة ، تاركة كل شئ خلف ظهرها وليفعل سعد مايشاء ، سواء طلَّقها أم أبقاها على ذمته ، لم يعد الأمر يشكل أي فرق بالنسبة لها ، فألمها أكبر من زواج حاولت قدر استطاعتها ألا يفشل ، وكأنها تخوض حرب شَعَواء ، واكتشفت أنها لم تحارب سوى نفسها ، وما جَنت يديها إلا الوحدة ، وكومة جراح لا تُداوى ، مُخَلِّفة آثاراً سرمدية الشقاء..قاطع خُلوتها هادئة الحُزن رنين هاتفها باتصال انتظرته منذ مغادرتها لبيت حَموها (الحاج زين الدين) .. أجابت بلهفة شديدة فأتاها صوت مريم رِقراقاً قارئة التحية (السلام عليكم)

+



        

          

                
ردت رويدا بسعادة (وعليكم السلام ياحبيبتي ، طمنيني عليكِ)

+


-(أنا كويسة الحمدلله ، حضرتك أخبارك ايه؟)

+


-(بقيت أحسن لما سمعت صوتك)

+


-(فاضية نتقابل انهاردة؟)

+


-(ياخبر ، ده انا لو مش فاضية أفضي نفسي مخصوص عشانك)

+


-(هابعت لحضرتك العنوان عالواتس ، اتفقنا؟)

+


-(اتفقنا) .. قالتها رويداً بحماس عارم ثم أغلقت الخط ..نهضت سريعاً كي ترتدي ملابس تصلح للخروج ، وبخطوات مُتعجلة استقلت سيارتها مُيممة مقصدها نحو العنوان الذي أرسلته لها مريم عبر تطبيق الواتساب.. ولحُسن الحظ أن المكان قريب وبالفعل لم تمر سوى دقائق قليلة حتى وصلت هناك ، صَفّت السيارة أمام البناية وترجلّت ثم عبرت البوابة الخارجية ومنها إلى المِصعد ، ضغطت رقم الطابق ولحظات فصلتها عن بلوغها الشقة المقصودة وبأصابع مُتوجسة قرعت الجرس ، وأخيراً انفتح الباب ، استقبلتها "كريمة" وأدخلتها إلى غُرفة الضيافة حيث توجد السيدة وسيلة برفقة ريهام ومريم .. احتفت بها الأخيرة بابتسامة ودودة ثم دَعتها للجلوس 

+


-(أهلاً بيكِ يامدام رويدا) .. قالتها وسيلة بتحفظ 

+


ردت رويدا موزعة نظراتها على الموجودين (أنا شوفتك قبل كده)

+


أومأت وسيلة نفياً قائلة بنوع من التهكم (ما اتقابلناش وجهاً لوجه ، لكن هاديتيني بمريم من واحد وعشرين سنة) .. ازدادت حيرتها فأردفت (أنا وسيلة علوي ، افتكرتيني؟)

+


فغرت رويدا فاهها مندهشة ، تحاول تحريك لسانها المعقود وبالكاد استطاعت التحدث بأسف (البقاء لله يا افندم)

+


قالت وسيلة بهدوء (ونِعمَ بالله) .. سُكون مشحون بمشاعر مُختلطة ساد عليهن للحظات ، بَترته هي بلهجة لائمة (قبل أي كلام ، وعايزاكِ تتفهمي موقفي ، أنا لولا مريم ماكنتش استقبلتك في بيتي)

+


طأطأت رويدا رأسها بحرج قائلة (عندك حق ، بس أنا والله ندمانة، يمكن أول مرة اقولها صريحة ، عشت طول عمري بحارب إحساسي بالذنب، وبدل ما اصلح غلطتي، كوّمت غلطة فوق غلطة وشيلتهم كلهم زي الجبل على ضهري وخسرت أعز الناس) ... 

+


وجهّت مريم كلماتها لرويدا بإشفاق وتعاطف (اللي فات مات خلاص ماتفكريش فيه ، وحضرتك وعدتيني إنك هاتعملي أي حاجة عشان علاقتك بريان ترجع كويسة، وانا طلبت مقابلتك انهاردة عشان ...)

+


قاطعتها رويدا بتلهف (موافقة ، من غير ما اعرف انتِ عايزة ايه ، لو طلبتِ روحي بس آخده في حضني ثانية واحدة قبل ما اموت ، والله موافقة)

+


تأملت مريم خير وسألتها (يعني مستعدة تتكفلي معانا بتصليح الدار وفتحه من أول وجديد؟)

+


انفرجت أساريرها بشدة والتمعت عينيها بوميض مُبتهج قائلة (بجد؟ ، بتفكروا ترجعوا دار وسيلة تاني؟)

+



        
          

                
أجابتها مريم مبتسمة (بجد ، معانا؟)

+


وبدون تفكير قالت (معاكم بكل ما أملك)

+


تدخلت وسيلة قائلة (الثواب عظيم بس النية عشان ريان؟ ولا لوجه الله؟)

+


قالت رويدا بصدق (لوجه الله طبعاً ، يمكن يغفر لي ذنوب عملتها زمان في لحظة تهور وطيش شباب)

+


أحست وسيلة بالارتياح قائلة (ربنا يتقبل منك ومنا)

+


تحمست رويدا قائلة (التكاليف المادية كلها عليا ، ومن بكرة هامشي فالإجراءات ، وهاخلص التصاريح والأوراق اللازمة ونبتدي على طول)

+


اتسعت ابتسامة مريم قائلة بنبرة ذات مغزى (وبالنسبة للشركة الهندسية اللي هانختارها عشان الإصلاحات ، تفتكري نختار مين؟)

+


فهمت رويدا مقصدها قائلة بغمزة مرحة (حبيب القلب طبعاً)

+


ضحكت مريم ولم تستطع وسيلة منع نفسها من الضحك، الوحيدة التي كانت تراقب الموقف بجمود كانت ريهام، ينتابها شعور عدائي تجاه تلك المرأة، وتود أن تنهال عليها ضرباً وتقطع خصلات شعرها لتأخد حق رفيقة العمر أولاً ، ثم تدعوها على الغداء وكوب قهوة بأناقة تامة .. لاحظت رويدا تحديقها بها بطريقة شريرة فسألت (مين الآنسة؟)

+


بادرت مريم بإجابتها (دي ريهام أختي وصاحبتي ، ومؤخراً خطيبة كريم صاحب ريان)

+


قاطعتها ريهام تقول لرويدا بسماجة (ويوم الخميس الجاي هابقى مراته)

+


قالت رويدا بمفاجأة (ألف مبروك ياحبيبتي ، كريم ابن حلال ويستاهل كل خير)

+


شكرتها ريهام بتعابير مُريبة (ميرسي)

+


مالت رويدا على مريم هامسة بتعجب (هي مش طايقاني ليه؟)

+


غطت مريم فمها بجانب كفها تقول بخفوت (ابعدي عنها لحد ماتفك لوحدها ، بدل ما تجيبنا كلنا من شعرنا) .. تحكمت رويدا في ضحكتها بشق الأنفس 
بينما اقترحت وسيلة بتلقائية (ايه رأيكم نحضر الغدا سوا؟ ، عشان يبقى بينا وبين مدام رويدا عيش وملح) .. انهت كلماتها بتشجيع مستندة على عُكازها لتنهض وتقودهم باتجاه مطبخها الواسع لإعداد وجبة الغداء ، وكعادتها التي لم تغيرها السنوات والظروف " السيدة وسيلة" لا تأكل إلا ماتعده بنفسها ، لثقتها ويقينها أنها أمهر طاهية قد يقابلها إنسان ، وإذا صادف وتذوقت طعامها فأنت أكثر البشر حظاً في هذا العالم .. التففن جميعاً حول طاولة مُستديرة متموضعة بالمنتصف وبدأت هي بتوزيع المهام .. وبعد وقت قصير اندمجن جميعاً وانصهرت أحاديثهن المرحة ، وتعالت ضحكاتهن مع الأبخرة المتصاعدة من أواني الطهو لتمتزج برائحة الملوخية والأرز الممزوج بالشعيرية والدجاج المُحمّر .. 

+


-(المفروض ريان يعرف بموضوع تصليح الدار) .. قالتها مريم وهي تضع حساء الملوخية فوق الأرز في طبقها 

+



        
          

                
المبادرة بالرد كانت لرويدا (ممكن تبلغيه انتِ)

+


أعطتهما وسيلة رأياً (اعتقد هايكون أحسن لو بلغتوه سوا)

+


عارضتها رويدا بأسف (أنا آخر حد فالدنيا ممكن ريان يحب يشوفه)

+


ربتت مريم على كفها المستقر على الطاولة قائلة (انتِ أمه ، وهايفرح لما يشوفنا مع بعض)

+


أيدتها وسيلة (مريم بتتكلم صح ، ريان عمره ما هايردك لو مشيتي ناحيته خطوة ، بالعكس هايمدلك إيده ويمشيلك قصاد خطوتك عشرة)

+


رفرفت رويدا بأهدابها تكبح غلالة دموع وخزت جفنيها قائلة بتأثر (ياحبيبي يا ابني ، طول عمره حنين وقلبه طيب وبيساع الكل ، وانا غلطت في حقه كتير وماعرفتش قيمته غير متأخر)

+


لم تستطع مريم منع نفسها من احتضانها فجذبتها برفق لتعانقها ماسحة على ظهرها بحنان قائلة (ريان بيحبك اوي) .. أبعدتها عنها قليلاً وأضافت بمرح لتخفف عنها (من كتر حبه ليكِ ، واخد منك ملامح كتير وطالع قمور خالص شبهك)

+


ضحكت رويدا قائلة (بذمتك مش هو أحلى؟)

+


تبرمت ريهام التي تتابع الموقف بغيرتها المُعتادة على صديقتها لاوية شفتيها (ماتخلصونا من المُحن ده ، عشان المرارة يادوبك)

+


همست رويدا لمريم بخفوت (هي هاتفك امتى؟ ، انا بدأت اخاف منها)

+


رفعت مريم أكتافها وأنزلتهما سريعاً قائلة (مش عارفة ، يمكن لما يتكتب كتابها الخميس الجاي تبقى كويسة)

+


همهمت رويدا بصوت خفيض (دي عمل كريم الأسود مش خطيبته) .. اعتدلت في جلستها مستكملة بشماتة (أحسن ، يستاهل ، عشان الحيوان كان مسميني حفيدة أوغلو أغا)

+


***************

+


في شركة الريان / 

+


اليوم يوم عيد ، وجميع موظفي الشركة من أكبرها لأصغرها يحتفلون بعودة صديقهم ، وأخيهم ، وابنهم ، لرأس عمله ، لم يسموه يوماً مديراً ، وهو لم يُمارس عليهم إلا الحُب ، والألفة ، والود ، والتقدير ، مرّ عليهم مروراً مستقيم السير ، خفيفاً مثل ريشة بيضاء ، بسيطاً كأحلامهم ، بشوشاً ، مُبارك السريرة حتى في أظلم لحظات حياته ، "ريان" عارض حلو الخِصال والهيئة ، وحدث سَعد الأثر ، وظاهرة نادرة الوجود ، وبينما كان يجلس خلف مكتبه ، يتفحص الملفات الكثيرة الموضوعة أمامه ، مُتذمراً بسبب إهمال والده وتكديس الأعمال وتراكمها بتلك الطريقة ، تلقى اتصالاً من سكرتيرته تبلغه بوجود ضيوف يودون مُقابلته ، أو بمعنى أصح ضيفتين تعلم إحداهما بصفتها زوجة رئيس مجلس الإدارة ، والأخرى شابة جميلة ، تتأمل المكان حولها بانبهار ، طلبت رويدا منها عدم إبلاغه بهويتهما مُتعللة برغبتها في مفاجأته ، ثواني فصلتهما عن اللقاء وبمجرد دخولهما الحَذِر ، رفع أنظاره المُنشغلة استعداداً للترحيب بهما، تسمّر مندهشاً يحاول استيعاب مرافقة مريم لوالدته يتسائل في سره مُتعجباً ، ما الذي جمع الشامي بالمغربي؟! .. 

+



        
          

                
-(ازيك يابشمهندس؟) .. استفساراً مُتأنياً نطقته رويدا مُدققة النظر في وجهه باشتياق، تقاوم غريزة أمومتها التي تحثها على عناقه ، وكان الرد صمت ونظرة مُتسائلة لمريم فقالت الأخيرة مُبتسمة بحلاوة أخرجته من ذهوله (مش هاتقولنا اتفضلوا؟)

+


نهض ليقف قِبالتهما قائلاً بعدم فهم (انتم بتعملوا ايه هنا؟)

+


رفعت مريم كفها تتلمس ياقة قميصه بأطراف أناملها قائلة برقة مقصودة (وحشتني) .. ثم أردفت مُشيرة لوالدته بنظرة نصفها برئ والآخر يضغط على وترٍ ما لا يتبين كُنهه (قصدي وحشتنا) ...

+


تنحنحت رويدا قائلة بتوجس (أوي والله)

+


تحرّك ليعود لجلسته مُجدداً وغموض مايحدث يستثير أعصابه ويفقده السيطرة على هدوئه قائلاً بلهجة آمرة (أقعدوا) .. أطاعتاه والترقب سيد الموقف فضغط زر استدعاء السكرتيرة مُتابعاً (تشربوا ايه؟)

+


أجابت مريم بخجل (شكراً ، مش عايزة) .. بينما قالت رويدا واضعة ساق فوق الأخرى مُدعية الرسمية (قهوة سادة)

+


قال بتلقائية (بس انتِ بتشربيها مظبوطة)

+


ردت بلهفة ظللت مُقلتيها (خلاص تبقى مظبوطة) .. 

+


ارتعشت ملامحه قليلاً وقلبه يهفو ليرتمي بين أحضانها ، ينتابه حنين شديد لرائحتها ، وبالكاد استطاع التحكم بنفسه وتحدّث عبر جهاز "الإنتركم" (اتنين قهوة مظبوط ، وواحد عصير لمون يارانيا من فضلك) .. 

+


تراجع للخلف قليلاً يتسائل بفضول أقرب للحيرة (خير؟ ، جايين ليه؟)

+


المبادرة بالحديث كانت لرويدا (شغل)

+


-(شغل؟ ، ازاي يعني؟)

+


-(هانفتح دار وسيلة تاني) .. 

+


فغر شفتيه بصدمة لكنها لم تعطه فرصة للمزيد من الاستفسارات مستكملة (أنا ومدام وسيلة اتفقنا على كل حاجة ، شوف الإجراءات ، وحدد التكاليف وبلغني)

+


قال بفم مُنفرج غير مُصدقاً (ماما؟! ، انتِ بتتكلمي جد؟!)

+


تأثرت رويدا بكلمة "ماما" التي خرجت منه عفوية ، وجميلة مثله قائلة بابتسامة حانية (جد ياحبيب ماما) ..

+


وقعت كلماتها وتأكيدها للأمر على قلبه وقوع بلسماً شافياً فبادلها ابتسامتها بأخرى (واشمعنى اختارتوا شركتنا؟ ، مش خايفة من بابا؟)

+


مطت رويدا شفتيها وذكره لسعد أغضبها قائلة بحنق (أولاً أنا مابخافش من حد ، وثانياً مريم اللي اختارت الشركة ، والله موافق تنفذ المشروع أهلاً وسهلاً ، مش موافق ، مفيش مشكلة الشركات كتير)

+


استند بمرفقيه على سطح المكتب قائلاً بنبرة ذات مغزى (أنا بس بفكرك ان الشركة شركة سعودك)

+


عبست تقول بطريقة طفولية (خلاص مفيش سعودي ، أبوك دلوقتي بالنسبالي بشمهندس سعد زين الدين وبس)

+



        
          

                
ضحك قائلاً (عامةً أنا موافق)

+


تهللت أساريرها قائلة (اتفقنا ، وانا بكره هاخلص التصاريح المطلوبة....)

+


قاطعها بعملية (ماتتعبيش نفسك ، الشركة هاتخلص التصاريح) .. 

+


تبادلت رويدا النظرات الفَرِحة مع مريم التي كانت تراقب المشهد مبتهجة بصمت وهدوء ثم قالت بامتنان (شكراً يامريم...)

+


بُتِرت جملتها بواسطة رنين هاتفها بمكالمة من شقيقتها فاضطرت لفتح الخط فوصلها صوتها مَنهاراً 

+


-(اهدي يانُهى، مش فاهمة منك حاجة) .. قالتها رويدا بخضة وصراخ أختها مُستمر فالازدياد لكنها التقطت بعض الكلمات التي أدركت منها ماحدث ، أغلقت الخط واستقامت واقفة تجمع متعلقاتها الشخصية قائلة بفزع (محمود مات) .. أو بمعنى أصح قُتِل ليتحقق الوعد الإلهي ويذيقه رب العالمين مرارة الغدر ، ومثلما أزهق أرواحاً بريئة بإشارة من إصبعه، قام أحد المتورطين معه بقضاياه المشبوهة باستئجار رجل انتحل شخصية طبيب من أطباء المُستشفى المُحتجز بها منذ سقوطه مشلولاً عقب انتحار ابنته ، ودخل غرفته متخفياً ليحقن وريده بحُقنة هواء فارق على أثرها الحياة ليلحق بشيطانته الصغيرة ، وكما زور تقارير حريق الدار ، تم تزوير تقارير أسباب وفاته ومات الطاغية وسيُدفن بأسراره المُخرية ، وأولها أنه قاتل ليلىٰ زين الدين وعبدالرحمٰن زوجها، وهناك عند الله ستجتمع الخصوم وسينال كل ذي حقٍ حقه ، وأعلنت الجهات المُختصة وفاة المتهم قبل تنفيذ حكم الإعدام ، وكأن ربه عَجّل بلقائه كي لا يُسقِط القصاص عقوبة آخرته 

+


-(لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله وإنا إليه راجعون) .. رددها ريان بخفوت وقبل أن تهم والدته مُستأذنة بالانصراف لتساند شقيقتها في مصابها استوقفها مُضيفاً (هاوصل مريم ، واجيلكم عالمستشفى) .. أقرن قوله بنهوض مُتزن فقالت له باعتراض طفيف (خليك ، ماتتعبش نفسك)

+


تحرّك قائلاً بإصرار (ماينفعش اسيبك انتِ وخالتي لوحدكم في ظرف زي ده ، لازم يكون معاكم راجل) 
.. وكعادته دائماً وأبداً تُحرّكه المسئولية "سيدة مبادئه" تجاه ذوي قُرباه ، رغم آذاهم الذي طاله ، وجحودهم نحوه إلا أنه لا يستطيع تجاهل كونهم أهله... "أمه وخالته" امرأتان وحيدتان بلا سند ولا رجل ووجوده بجوارهما في مثل هذا الموقف واجب وأصول تربى ونشأ عليها .. 

+


-(محمود ده يبقى أبو چيسي؟) .. سؤالاً وجهته مريم لريان فأومأ لها إيجاباً دون حديث .. حانت منها نظرة مُعاتبة إذائه والإنزعاج مُرتسم فوق ملامحها ، وإحساس سئ يختلج صدرها ويقطع أوصال عقلها المُسالم ، ويمدها بامتعاض وضيق تعلم سببه جيداً .. إنها تغار ، وفي غاية الغيرة الآن وعليه إدراك ذلك ، واتقاء شر المليحة إذا غارت .. وَقفت بهدوء ومُحيّاها لوحة عابسة ، عتيقة الألم ، وبرتابة شديدة خرجوا جميعاً من المكتب ثم إلى خارج الشركة ، استقلت رويدا سيارتها متجهة نحو المُستشفى ، بينما تولّى ريان مهمة توصيلها لبيت جدهما على وعد باللحاق بأمه .. ظلّت ساكنة طوال الطريق ، تتابع حركة المارة بأنظار مُتصلبة ، تشعر بأنها رفعت سقف توقعاتها في تقديره لها أكثر مما ينبغي ، تتأرجح بين التحليق في أبدية حبه ، وبين الرغبة في تركه والسفر لأخيها والبكاء على صدره..

+



        
          

                
استفسر ريان عندما لاحظ وجومها مُحتوياً كفها (مالك ياحبيبي؟) 

+


جاوبت باقتضاب ساحبة يدها بحدة (مفيش)

+


استغرب طريقتها قائلاً (كده ومفيش؟! ، أمال لو فيه هاتعملي ايه؟!) .. كتفت ذراعيها مُسلطة بصرها على النافذة ولم ترد كاظمة غيظها بشق الأنفس

+


-(مريم!) .. قالها ريان بزفرة حانقة 

+


التفتت إليه تقول بهدوء مصطنع (نعم)

+


سألها بنفاذ صبر (مالك؟)

+


قصدت مضايقته قائلة (يوسف وحشني)

+


أصابت هدفها بدقة متناهية وبالفعل تمكنت من إثارة غضبه فعض جانب فمه يجاهد على ضبط أعصابه قائلاً (فجأة قلبتي وشك عشان يوسف وحشك؟)

+


أشاحت بوجهها عن مرمى رؤيته قائلة بجمود (آه ، أنا بتضايق لما أخويا بيوحشني...)

+


قاطعها صاكاً أسنانه (وحش أما يلهفك انتِ واخوكِ يا حبيبتي)

+


حدجته باستياء قائلة (انا عايزة أبات عند ماما وسيلة انهاردة)

+


رفع حاجبه قائلاً باستهزاء (ليه ما اوصلك السويس احسن؟)

+


ضحكت ساخرة بمرارة (ياريت والله ، بس للأسف البشمهندس مش فاضي ، وراه حاجات أهم طبعاً) ..

+


رمقها بنظرة جانبية قائلاً بحزم (مفيش بيات بره البيت) .. 

+


قوّست شفتيها لأسفل كالأطفال قائلة (ماليش دعوة ، عايزة اروح لماما)

+


-(وانا قولت لا، وياريت نكبر ونبطل شغل عيال شوية) 

+


-(وفيها ايه لما تسيبني أبات هناك؟)

+


-(مش هتنامي في مكان بعيد عني يامريم ، اسمعي الكلام وقولي حاضر) .. اتخذ الطريق من الشركة إلى منزل الحاج زين الدين وقته المُستحق وتوقف بالسيارة أمام الباب يتأملها قائلاً بحُب (خدي بالك من نفسك)

+


ردت عليه بمقلتين غائمتين (روح ياريان الحق عزا جوز خالتك ، مايصحش تتأخر انت برضه كنت خطيب بنته) .. همّت بالترجل لكنه أمسك ذراعها يتطلع لهيئتها الحزينة ، فتملصت من مسكته ولم تعطه فرصة لحديث أطول مُتابعة بصوت مهزوز (مش كنت بتسألني من شوية مالي؟ ، إعرف بقا لوحدك أنا مالي) .. وبلا تردد نزلت من السيارة صافقة الباب خلفها بعصبية ليست من طباعها ، تاركة إياه مذهولاً ، انتظر حتى فتحت نجاة واطمأن أنها دلفت نحو الداخل ثم أدار المُحرك مُجدداً ليلحق بوالدته كما وعدها ، ومتاريس أفكاره تطحن عقله ، وأخيراً أدرك عِلّة غضبها ، لاح شبح ابتسامة مُتلاعبة على شفتيه .. "حُلوته" تغار ، وغيرتها شهية مثلها وراقت له كثيراً ، وسيتركها عامداً مُتعمداً تخوض التجربة ، وتتذوق لذوعة مشقّتها بكل رحابة صدر ، كي تنضج وتتعلم أن الغيرة لون داكن من ألوان الحُب ... وعلى الطرف الموازي تحديداً في الحديقة وجدت مريم جدها وخالها مُجتمعين بأُلفتهم المُحببة ، ألقت التحية بابتسامة تخفي خلفها توترها فاستقبلاها بحفاوة كبيرة 

+



        
          

                
-(أشرقت الأنوار ياست البنات) .. قالها سعد بحنو ودعاها لتجاوره (تعالي اقعدي جنبي) .. أطاعته بصمت خجول فأحاط كتفها بذراعه لتستند برأسها فوق كتفه ، طبع قبلة عميقة على جبينها مُستكملاً (حقك عليا يامريم ، أنا عارف إنها متأخرة شويتين ...)

+


قاطعته مُعتدلة في جلستها (احنا عيلة ياخالو ، مفيش بينا الكلام ده)

+


أضاف سعد بانكسار (ليلىٰ الله يرحمها كانت أطيب خلق الله ورويدا نفسها بتشهد بـ ده ، ازاي طاوعها قلبها وقدرت تعمل في بنتها كده؟) ... سكت هُنيهة يقاوم غُصة مُسننة تعبأ حلقه بطعم صَدِأ واستطرد (بس خلاص أنا هاطلقها وزي مارميتك زمان ، هارميها وهاخرجها من حياتنا)

+


احتوت مريم راحتيه بين كفيها مُبتسمة بود (ولو قولتلك اني محتاجاها في حياتي؟ ، هاتطلقها برضه؟)

+


أجاب سعد برفض (دي واحدة خانت العيش والملح وماصانتش العشرة ، ازاي عايزاني أثق فيها تاني؟)

+


قالت مريم ببشاشتها الجميلة (مفيش إنسان فالدنيا مايستاهلش فرصة تانية ، وهي فرصتها جات لها لحد عندها والصراحة الست بتحاول تصلح أخطائها ، وانا شخصياً بدأت أحبها واتعلق بيها) .. مطت شفتيها تمازحه (وخلي بالك طنط رويدا جميلة وشيك ، ومش باين عليها السن وألف مين يتمناها ، يعني لو طلقتها بجد هاتتخطف خطف وتتجوز بعد شهور العدة بنص ساعة)

+


غمغم سعد بغيرة (تبقى تفكر وتعملها ، وانا اقطع رقبتها واعلقها على باب الڤيلا ، قال تتجوز بعدي قال)

+


ضحكت مريم قائلة (أنا عرفت ريان طالع لمين) .. وعلى ذكره تسائل الجد زين المُراقب الصامت للمشهد بأعين مُغتبطة ورضا واستحسان لتعقل حفيدته ، وأدبها وجمال تربيتها وطيبتها التي ورثتها من والدتها (هو فين صحيح؟)

+


جاوبته بتعابير غير راضية (جوز خالته مات ، وراح يدفنه)

+


قال الجد بإيمان قوي (لا إله إلا الله ، مُستريح ومُستراح منه)

+


تحدث سعد بنبرة كارهة (الله لا يرحمه ولا يغفر له)

+


تأثرت مريم قائلة (الراجل بين أيادي ربنا ، أذكروا محاسن موتاكم)

+


حاورها جدها شارحاً (سيدنا النبي عليه أفضل الصلاة والسلام مَرّ بجنازة فقال "مُستريح ومُستراح منه" ، فالصحابة سألوه "يارسول الله ما المُستريح والمُستراح منه؟" ، فجاوبهم "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا ، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب" ، ومحمود ده كان عبد فاجر ومؤذي ، وربنا ريح الدنيا والناس من شره)

+


استفهم سعد مستغرباً (المهم دلوقتي ريان راح يدفنه ليه؟ ، مايموت ولا يغور في داهية)

+


جاوبت مريم (عشان مايسيبش مامته وخالته لوحدهم من غير راجل)

+


قال الحاج زين موضحاً بعدما استشعر ضيقها (ريان متربي عالأصول ، واللي عمله صح ، مهما كانت الخلافات ، ماينفعش يسيب اتنين ستات بطولهم في موقف زي ده ، مابالك بقا إذا كانوا أمه وخالته؟)

+



        
          

                
هزّت رأسها مُدعية التفهم رغم ازدياد غضبها ، الأمر لا يتعلق مُطلقاً بوالدته أو خالته، لكن الغيرة ياصديقي تلسع القلب مثلما يلسع النحل سارق العسل من خليته .. بالكاد رسمت بسمة هادئة على شفتيها قائلة (فيه حاجة مهمة هاتفرحكم اوي لما تعرفوها) .. انتبها لها بكامل اهتمامهما فواصلت (طنط رويدا اتكفلت بتصليح الدار وبإذن الله هانفتحه قريب)

+


هلل جدها بسعادة (الله أكبر ، ايه الخبر الجميل ده؟) .. بينما تنحنح سعد مُحاولاً السيطرة على مشاعره (براڤو عليها ، مُبادرة لا بأس بها ، ربنا يوفقها ويجعله في ميزان حسناتها)

+


رفعت مريم حاجبيها ببراءة مصطنعة (ادعيلنا نخلص بسرعة ياخالو ، عشان لو جالها عريس نلحق نجهزها)

+


رمقها سعد بغيظ قائلاً (عِرسة أما تقرصها في نن عينها ، أنا لسه ماطلقتهاش ، ايه هاتتجوز عليا؟)

+


حركت مريم كتفيها لأعلى وأسفل قائلة (لا طبعاً ، لما تطلقها ياسعودي ، احنا ماعندناش بنات تقعد من غير جواز) .. نهضت من مكانها استعداداً لتصعد غرفتها مُتابعة قاصدة إثارة حنقه أكثر (صحيح نسيت انت بالنسبة ليها دلوقتي بشمهندس سعد زين الدين وبس ، مش سعودي) .. 

+


لم يستطع الجد زين كتم ضحكته أكثر من ذلك ، ولأول مرة منذ وفاة ابنته يضحك بهذا الشكل .. اقتربت منه مريم بتقاسيمها المليحة ثم انحنت تقبل رأسه بعفوية قائلة (تدوم الضحكة ياجدو) .. ارتعشت ملامح الشيخ العجوز فحركتها الحنونة أعادت لذاكرته مشهد كان يتكرر كثيراً مع ليلىٰ .. اعتادت رحمها الله عندما يضحك تقبل رأسه وتدعو نفس الدعوة ، الفرق بينهما أنها تقول "جدو" بدلاً من "بابا" 

+


ربت بكفه المُجعد فوق وجنتها يجيبها بذات الجملة التي كان دوماً يرد بها على دعوة فلذة كبده الراحلة (ويديمك نعمة ياليلىٰ ، ويبارك فيكِ وفذريتك) .. استقامت بوقفتها تطالعه بتعجب من خطأه في إسمها لكنها لا تعلم أنه قصد هذا الخطأ ، ولم يخطئ قط، وشعوره نحوها الآن شعور أب نحو ابنته التي عادت للحياة.. وأعادت له حياته من جديد ، فلا فرق بين ليلىٰ .. وذرية ليلىٰ 

+


-(عن إذنكم ، هاطلع أوضتي أرتاح شوية) .. قالتها مريم بتهذيب ثم انصرفت بخطوات هادئة ميممة مقصدها شطر غرفة والدتها ، والتي لم تُفتح إلا لها وأصبحت غرفتها.. تتبعها جدها بعينيه المُغبشتين بدموع الفرحة والحزن في آن واحد حتى توارت كلياً ً عن أنظاره وقال بنبرة مهزوزة (سبحان الله مافاتتش حاجة من أمها الله يرحمها)

+


وافقه سعد الرأي قائلاً بتأكيد (هادية ومؤدبة وحلوة زي البسكوتة الناعمة)

+


ابتسم والده قائلاً (حلاوتها تُصلِح ما أفسدته الأيام في قلوبنا، والصراحة له حق ريان يحبها ويموت فيها بالشكل ده)

+


بادله سعد ابتسامته قائلاً (أنا ملاحظ إنك بتحب أحفادك أكتر من ولادك)

+


تحولت ابتسامة الأب لضحكة مُتزنة (دي حقيقة فعلاً ، أعز من الوِلد وِلد الوِلد)

+



        
          

                
عبس سعد يقول بطفولة لذيذة لا تظهر إلا أمام والده (يعني أنا راحت عليا خلاص يازيزو؟)

+


استمر أبوه في الضحك مُضيفاً (بكره هاتعذرني لما تشوف ولاد إبنك بيتنططوا حواليك)

+


-(إبني ده عيل نحس وهياخد وقت على مايتجوز ويفرحني بولاده ، انا بفكر اتجوز تاني واجيب له اخوات)

+


-(ياشيخ اتنيل ، انت قادر تقوم من مكانك لما تتجوز وتخلف)

+


-(كده يا حاج؟ ، بتقطمني بدل ما تدور معايا على عروسة؟)

+


-(اتلم ياسعد ، انا وانت عارفين ومتأكدين إنك ماتقدرش تستغنى عن رويدا)

+


تنهد سعد بألم (زعلان منها أوي يابابا)

+


تكلم الحاج زين بتعقُّل (انت غلطت في حقها زمان ، وخليتنا كلنا مشاركين معاك في غلطك من غير ذنب) .. استند بكفيه على عُكازه مستطردا (حرمتها من أبسط حقوقها كأم ، والحرمان وحش خصوصاً إنها كانت في احتياج شديد لوجود ابنها جنبها) 

+


حاول سعد التبرير (انا كنت عايز ابني يتربى صح على إيدك ....)

+


قاطعه أبوه بحكمته المُعتادة (ده في حد ذاته عدم تحمل مسؤولية منك ، ريان دوا عينيا وروحي فيه بس مهما حبيته عمري ما هاحبه أكتر من أمه ، ابنك اتربى أحسن تربية واتعلم وكبر ، بس كبر مهزوز وناقص أم) .. سكت هُنيهة يراقب ردود أفعال ولده النادمة وأردف (وهي كمان كبرت ناقصة قلب ، لأنك خلعت قلبها بإيدك وحطيته في صدر غير صدرها) .. طأطأ سعد رأسه بأسف ويبدو أن كلام الحاج زين لامس منطقة الإحساس بالذنب بداخله فأكمل هو باستحسان ورضا عن مريم (بنت أختك، العيلة الصغيرة فهمت في يوم واحد اللي الكل مافهمهوش من سنين ، مراتك مش وحشة ، اعترف بينك وبين حالك إنك ضغطت عليها بأنانيتك لحد ما خرجت أسوء مافيها)

+


رفع بصره الحائر يسأله بتيه (تفتكر تستاهل فرصة تانية زي ما مريم بتقول؟)

+


أومأ الحاج زين إيجاباً (العشرة الطويلة ، وسنين غربتكم سوا، ونوم الجنبين ، واستحمالها ليك يستاهلوا فرصة تانية ، وابنكم يستاهل حبال الود ترجع تاني بينه وبين أمه ، الولد بيحبها ومكسور من غيرها ياسعد ، ضحي شوية عشانه) 

+


فكّر سعد لثواني ، يود لو يصرّح أنه أيضاً يحبها ومكسور بدونها ولا يتحمل فراقها ، ويشتاقها بعيوبها قبل مميزاتها رغم غضبه منها ، وإذا تنازل وضَحّى سيكون من أجل ريان أولاً .. ثم من أجل نفسه ثانياً ، قال بموافقة نسبية يشوبها غموض طفيف (عامةً تكفلها بتصليح الدار خطوة كويسة ، وربنا يقدم اللي فيه الخير لينا جميعاً) 

+


*************

+


على صعيداً آخر / 

+


كانت مريم تجلس فوق الفراش ضامة ركبتيها إلى صدرها وتلف ذراعيها حولهما ، مستندة بذقنها عليهما وتحدق في الفراغ بنظرات حزينة ، بعدما بدلت الفُستان الأنيق الذي اشتراه لها هذا الصباح بملابسه البيتية ، وكأنها ترتديه وتتدثر بأحضانه ورائحته ، وصدفة لقائهما تلوح لها في أفق بعيد ، تتذكر أول تلميح بالحب سمعته منه حيث غنّى معها قصيدة تراثية ، درويشية النكهة تعشقها مثلما تعشقه وقال (أمرّ باسمك إذ أخلو إلى نفس ، كما يمرّ دمشقي بأندلسي) ، فأضاء لها دروبها الحالكة بليمون صوته الدافئ ، وأحال مِلح اليُتم إلى سُكر ، وعلى صدر حنانه وقعت ريحها عن فرس ظُلمة أيامها .. بداية قصتهما من أجمل وأرق بدايات الحب ، أنبتت لهما أجنحةً شفافة ، جعلت جسديهما غير قادرين على الثبات كما ريشتين لفرط خفتهما ورقة مشاعرهما .. حتى اصطدما ببركان من الأحزان والآلام ، فسقطا داخل فوهته لمدة عامين كاملين ، قضتهما هي بعيداً عنه كغُصن مقطوع من شجرته ، لا يستطيع تغيير مكانه لكنه تكيف مع شتاء غيابه وذبلت أوراقه باستسلام ، وعندما عاد الفرع إلى أصله وجدته صنع من خشب ضلعها المُتعب عود ثقاب أشعلُ محرقتها.. 
قاطع خُلوتها المتوجعة رنين هاتفها بمكالمة من ريهام تبلغها أنها ستمكث الليلة في بيت أمهما وسيلة برفقة الصغيرين "مصطفى وريتاچ".. وعندما استشعرت صديقتها من اهتزاز نبرتها حدوث خطب ما ، تعللت بالإرهاق وحاجتها للنوم ثم أغلقت الخط ، وشعورها بالكآبة يتفاقم .. تريد يوسف الآن وتشتاقه ، وتشتاق أميرة وعبدالرحمٰن كثيراً ، وتستوحش المكان بدونهم .. لم تتردد لحظة في الإتصال به فهطل صوته العذب على قلبها هطول غيث سقىٰ وحدتها بالأنس ..

+



        
          

                
-(وحشتني أوي يايوسف) .. قالتها مريم فاقدة السيطرة على دموعها فأجابها شقيقها (وانتِ كمان وحشتيني ياحبيبتي) .. التقطت آذانه شهقاتها المُتقطعة فاختض متسائلاً (مريم! ، انتِ بتعيطي؟)

+


ردت عليه مُحاولة استجماع شتاتها الضائع (مابعيطش ولا حاجة ، أنا بس مخنوقة عشان انت مش جنبي)

+


لم تنطلي عليه تبريراتها المُختلطة بارتجاف كلماتها واستفسر بخوف (حد زعلك؟)

+


جاوبته بحُزن (مزعلني غيابك عني ، هاتيجي تاخدني إمتى؟)

+


طريقتها لا تطمئن أبداً فنهض من مكانه ذارعاً الأرض تحت أقدامه (هاجيلك حالاً بس اهدي)

+


طالعت الوقت خلال الساعة المُعلقة على الحائط المُقابل للسرير قائلة (الوقت اتأخر ، هاخاف عليك لو سافرت بالليل ، تعالى الصُبح) 

+


-(كلمها ڤيديو كول يا يوسف) .. اقتراح من أميرة التي كانت تستمع للمكالمة بقلق لا يقل عن قلق زوجها 

+


جلس يوسف مجدداً يقول (اقفلي وانا هاكلمك ڤيديو) .. أطاعته بترحيب وأغلقت الخط ولم تمر سوى ثواني قليلة حتى اتصل بها مجدداً صوت وصورة عبر تطبيق الماسنچر .. فتحت الكاميرا سريعاً فأضاءت الشاشة بوجهه الجميل ، وتجاوره أميرة حاملة عبدالرحمٰن .. 

+


-(وحشتوني أوي) .. قالتها مريم باكية عندما رأتهم ورغبتها في السفر إليهم ومعانقتهم تغتال قلبها .. 

+


تأثرت أميرة لمنظرها الحزين قائلة (وانتِ كمان وحشتينا ، البيت مضلم من غيرك) .. لوحت بكف صغيرها تقول بلُطف (قول باي لعمتو يابودي) ..

+


رفعت مريم الهاتف تُقبله قائلة (ياروح قلب عمتو وحشتني قد الدنيا) .. بينما قال يوسف باشتياق (لو اعرف اني هاوحشك وهاتوحشيني كده ماكنتش سيبتك)

+


مسحت مريم دموعها بجانب راحتيها قائلة بوجه مُحمر أثراً للبكاء (أنا محتاجة حضنك أوي دلوقتي)

+


هَمّ بالنهوض قائلاً (هالبس واجيلك حالاً والله)

+


استوقفته بمعارضة (لا عشان خاطري استنى للصبح ، خلاص هانت كلها كام ساعة)

+


تسائلت أميرة بفضول (هي ريهام فين؟)

+


أجابت مريم (هاتبات مع ماما وسيلة انهاردة)

+


أهداها يوسف ابتسامة حُلوة قائلاً (عندي ليكِ مفاجأة هاتفرحك)

+


بادلته ابتسامته بأخرى (خير ياحبيبي)

+


قال بسعادة (أميرة حامل)

+


انفرج ثغرها مُتهللة بشدة ثم وقفت لتظهر كامل ملابسها وقفزت فرحاً على السرير هاتفة (هيييه ، هابقى عمتو تاني)

+


ضحك أخيها وزوجته على ردة فعلها اللذيذة وقالت أميرة من وسط ضحكاتها (ايه اللي انتِ لابساه ده؟)

+


تفحصت مريم هيئتها بخجل ممزوج بالحرج (دي هدوم ريان)

+


مط يوسف شفتيه بتبرّم (وحشة ، مخلياكِ زي حرامية الفراخ) 

+



        
          

                
عاودت الجلوس مجدداً قائلة بضيق (صح ، هي وحشة فعلاً ، بكرة وانتم جايين هاتوا هدومي وحاجاتي معاكم)

+


تذكرت زوجة أخيها شيئاً مُهما قائلة (صحيح يامريم ، انتِ كان عندك متابعة قرنية انهاردة ، حسام فكّرني ومتضايق جداً عشان فوّتي المعاد)

+


خبطت على مقدمة رأسها بأصابعها قائلة (ياخبر ، انا نسيت خالص)

+


تدخل يوسف (ماتقلقيش ، لما آجي بكره هاخدك ونروح نعمل المُتابعة فأي مُستشفى عيون)

+


استفهمت بحيرة (هاينفع من غير الدكتور المُتابع للحالة؟)

+


جاوبها بتأكيد (آه ينفع ، وبعدين الدكتور المُتابع جاي معانا أصلاً)

+


سألت بعدم فهم (ليه؟)

+


اختلق حجة غير حقيقية كي لا يخبرها بأمر تحضيرهم للإنتقال إلى القاهرة مُفضلاً أن يجعلها مفاجأة لها قائلاً (عنده ندوة في جامعة عين شمس)

+


التمعت في ذهنها فكرة قائلة (كويس ، وبالمرة يحضر كتب كتاب ريهام)

+


أومأ يوسف مؤيداً كلامها (أكيد هايحضر ، أنا عزمته مع إنه مش محتاج عزومة)

+


التوت زاوية فمها بابتسامة عابثة (آه طبعاً حسام مش غريب) .. أمسكت بطرف الغطاء تسحبه لأعلى مُتابعة (روحوا ناموا عشان تصحوا بدري وتيجوا بسرعة)

+


أرسل لها يوسف قبلة فالهواء قائلة (ماشي ياحبيبتي ، خدي بالك من نفسك ، تصبحي على ألف خير)

+


ردت عليه قبل أن تنهي الإتصال (وانتم من أهله) .. أغلقت الخط ووضعت الهاتف بجانبها ثم استلقت لتختفي تحت الأغطية الثقيلة وبدون وعي منها لامست برؤوس أناملها سُترته التي ترتديها، تعترف بكذبتها حينما وافقت يوسف الرأي وقالت عنها سيئة ، إنها أجمل شئ ارتدته على الإطلاق ، ارتعشت ملامحها وشعور سعادتها ينسرق منها وينهبه آخر موحش يصيب قلبها بالعُضال ، وكأن الغيرة والحب تزوجا داخل صدرها وأنجبا عذاباً جديداً حاولت تجاهله قدر المُستطاع ، أغمضت عينيها تكبح غلالة دموع وخزت جفنيها ولم تفلح فانقلبت على جانبها الأيمن متوسدة كفها تبكي هذا الأحمق الذي لم يكلف نفسه اتصالاً ليرى ماخلفه بُركان إهماله من أثر بالغ الاحتراق 

+


******************

+


بعد عدة ساعات /

+


مرّ اليوم ثقيلاً ، ومُتعباً ، وصاخباً على ريان وأخيراً استطاع العودة إلى المنزل بعدما اطمأن على أمه وخالته وأوصلهما نحو شقة المَنيل عقب انتهاء مراسم الجنازة والدفن التي لم تخلُ من العثرات والمشاكل وكأن محمود يبعث رسالة من العالم الآخر ليبلغهم بعذابه ، لا رحمه الله كان مؤذياً ، حياً وميتاً .. الهدوء يغلف الأجواء ، والجميع نيام ، والساعة تعدت الواحدة صباحاً .. وهو مُرهق و جائع و ... مُشتاق لرؤية القمر .. بالكاد استطاع الوصول لغرفته ، يشعر برغبة عارمة في أخذ حمام دافئ وتبديل ملابسه المُغبرة بتراب المقابر ثم الخلود إلى النوم .. وبالفعل أقرن التفكير بالتنفيذ مُتناولاً ملابسه من الخزانة ميمماً مقصده شَطر دورة المياه ليغتسل ويمحو آثار التعب عن جسده .. وبعد وقت ليس بقليل خرج يجفف شعره بالمنشفة ، مُدلكاً رأسه بأصابعه لعلّه يخفف ألم الشقيقة الذي يفتت عظام جمجمته .. وبإنهاك شديد استلقى فوق فراشه بجانب كريم النائم بعمق لدرجة أنه لم يشعر بوصوله .. وقبل إغلاق عينيه أمسك هاتفه وقام بإرسال رسالة لمريم عبر تطبيق الواتساب 

+



        
          

                
(وحشتيني) وقلب أحمر ..

+


تبعها بأخرى (جيت متأخر ولقيتك نايمة) ..

+


لاحقها بثالثة (أنا ميت من التعب والجوع)..

+


ثم رابعة (هنام تعبان وجعان ووحشاني) أرفقها برمز تعبيري على هيئة وجه يبكي ..

+


والأخيرة (لما تصحي وتشوفي الرسايل كلميني ، تصبحي على خير ياحبيب عمري) .. 

+


.. وضع الهاتف على طاولة الكومود المجاورة للسرير مُستسلماً للنعاس بكل سهولة.. ولم ينتبه لتحول علامتي الصواب في المحادثة المفتوحة بينه وبينها إلى اللون الأزرق وهذا يعني أنها قرأت رسائله .. ابتلعت كُربة حادة تستقر بجوفها وبشق الأنفس نامت .. اجتاز الليل ظُلمته وتجردت الساعات من شهوة سكونه وأطل النهار وعاد بريقه كما يعود المُسافر لوطنه نافضاً الكسل عن أجفان أهل البيت الكِرام ، وكعادتهم التي لا تتغير استيقظوا مُبكراً عدا مريم التي مازالت نائمة بغرفتها أو كما يظنون .. التفوا حول مائدة الإفطار في الحديقة مستمتعين ببداية اعتدال الطقس ، يتجاذبون أطراف الحديث وريان مُنشغل البال بها .. يتفحص ساعة يده بين الحين والآخر يتسائل (لماذا تأخرت؟ ، ولماذا تجاهلت رسائله وتعمدت عدم الرد؟) .. أما هي فصحوها كان قبلهم جميعاً .. ولم تنم إلا قليلاً وبشكل مُتقطع لكنها تجهزت وارتدت ملابسها التي جاءت بها من السويس مُعرضة عن ارتداء الفستان "هديته" وآثرت البقاء بغرفتها تجنباً لمواجهته حتى وصول شقيقها .. تطمأن نفسها أنها ستكون بخير عندما تراه وترمي ثقل همها على صدره الواسع ، وأثناء جلوسها المُترقب استرعى انتباهها طرق رتيب على الباب.. فنهضت بتثاقل لترى من الطارق تدعو الله ألا يكون هو .. أدارت المقبض لتفتح وجدته يقف أمامها بملامح قَلِقة سُرعان ما انتقلت للاستغراب متسائلاً (انتِ صاحية؟)

+


أجابته ساخرة (لا بمشي وانا نايمة)

+


رفع حاجبه مُتزامناً مع شفته العلوية قائلاً باستنكار (ياسُكر!) .. حدجته بعبوس ولم تجبه فتابع بعتاب وهو يتأمل هيئتها (مش لابسة الفستان ليه؟)

+


ردت ببرود قصدته (ما ارتحتش فيه)

+


حاول ممارسة أقصى درجات ضبط النفس قائلاً (ومابترديش على رسايلي؟) 

+


قالت بهدوء استفزه (مافضيتش ارد) 

+


عقد ذراعيه قائلاً بغيظ (ليه؟ ، الهانم كان وراها إيه؟)

+


قلدت حركته مُدعية عدم الاكتراث (عادي ، كنت مشغولة شوية)

+


زفر قائلاً بحنق (مريم! ، اصطبحي وقولي ياصبح)

+


أغمضت عينيها وفتحتهما ببطأ قائلة بتعبير سخيف (بقولك ايه ، انا مش فاضيالك بجد ، روح اقرالك رُبع على روح المرحوم وبنته وسيبني فحالي) .. فغر فاهه قليلاً مندهشاً من طريقتها لكنها لم تعطه فرصة للحديث ودخلت لتجلب ملابسه ثم ناولته إياهم مستكملة (وخد دول كمان ، شكراً ، مابقيتش محتاجاهم) .. اتسعت حدقتيه وقبل أن يهمّ بالرد ارتفع رنين هاتفها.. أجابت بأسارير مُنفرجة وفرحة تناقض حالتها معه (أيوة ياحبيبي ، وصلتوا؟) .. 
استمرت في التحدث مع الطرف الآخر (أنا جاهزة من بدري ومستنياكم) ... سكتت لبُرهة وأضافت (حاضر هاقول لجدو ، وهاطلع لك على طول ، سلام) .. أنهت كلماتها مُبتسمة واستعدت للانصراف فاعترض طريقها مستفسراً بعصبية (كنتِ بتكلمي مين؟)

+


جاوبته ببساطة (يوسف)

+


تسائل بعدم فهم (هو جه من السويس؟)

+


-(آه ، انا كلمته امبارح وقولتله ييجي ياخدني)

+


-(ياخدك فين؟)

+


-(معاه ، وعن إذنك عشان ورانا مشوار مهم) .. تجاوزته بسهولة كالهواء لتهبط الدرج بخفة وخطوات أقرب للركض وسط أنظاره المصدومة ، تركته مُتسمراً بمكانه يحاول استيعاب تصرفاتها العدائية ، المُنافية لطبيعتها الهادئة ، الرقيقة.. نظر لنفسه ولوقفته وللملابس التي قذفتها في وجهه وسُرعان ما خرج من حالته مُلقياً ما بيده أرضاً وتبعها إلى الحديقة حيث اجتماع العائلة وجدها تتجه نحو الخارج وبدون تردد لاحقها فإذا بيوسف يترجل من سيارته ويستقبلها فاتحاً ذراعيه على اتساعهما فتعلقت برقبته ، تحتضنه وكأنها فارقته دهراً ، ابتعدت عنه برفق تتحسس وجهه وابتسامتها من الأذن للأذن وشفتيها تنطق بكل عبارات الاشتياق .. حثها أخيها لتستقل السيارة في الخلف بجوار امرأة ما تحمل طفلاً صغيراً ، مُشيراً لشاب يحتل المقعد الأمامي ، فأطاعته مُرحبة بحماس ثم انطلق إذاء وجهة مجهولة في لقطة عبثية غريبة مُتناسية وجوده مثلما ينسى المُهاجر وجع حنينه الأول ويألف الفراق ...

+



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close