رواية عيون الريان الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم نيللي العطار
لا أنت بعيدٌ فأنتظرك
+
ولا أنت قريب فألقاك
+
ولا أنت لي فيطمئن قلبي
+
ولا أنا محرومٌ منك لأنساك
+
أنت في منتصف كل شيء
+
- محمود درويش -
+
***************
+
ظل واقفاً مكانه يشاهد اختفاء السيارة وسط غُبار أطُرها بصمت مطعون ، يشعر بالهواء ينسحب من رئتيه شيئاً فشيئاً .. مُختنق والألم يظلل مُقلتيه كغيمة ثقيلة وكأنه يحمل روحه داخل عينيه .. ويتسائل ; إذا كان مُذنب فماتُهمته؟ ، وماذا بوسعه أن يفعل بعدما سَخّر كامل كيانه ليذوب فيها؟.. هل أفرط في منحها الحُب دون مقدار؟ ، أم أنه دللها بشكل زائد لدرجة جعلتها تضعه موضع عاصفة ، وأتقنت هي دور الباب الذي صدها لتستريح؟.. وخز قوي اختلج شقه الأيسر ، فأطبق جفنيه ليخفف وطأته ثم دلف نحو الداخل قاصداً غُرفته يبحث عن دوائه موسّع الشرايين كي لا يُصاب بنوبة الذبحة مُجدداً ، ابتلع حَبّة "النيتروغليسرين" بشربة ماء بسيطة ، وأنفاسه الناهتة تتسارع لتتحرر من محبسها الضيق .. رفع كفه ضاغطاً على صدره ليمحو آثار التعب الذي لا نهاية له عَلّه يغادره دفعة واحدة كما جائه كغَائِلَة دون إنذار .. جلس ينظم شهيقه وزفيره ولحظات بسيطة استغرقها حتى بدء مفعول الدواء يسري بأوردته وهدء قليلاً .. استند بمرفقيه فوق ركبتيه مُنحنياً للأمام .. يحدق في الفراغ بشرود عاتباً على كل شئ يربطه فيها .. على روحه التي تعلقت بروحها .. على قلبه المُتعضل الذي أصبح مريض بحبها ، على ذاكرته ، ودمه ، وعمره القصير .. وعلى سلاح رحيلها الذي صوبته نحوه وأطلقت منه رصاصة طائشة أصابت وأدوشت ، والآن يعترف أنها تحاربه بالغياب ، والحقيقة الوحيدة ، الراسخة في تلك العلاقة أنه يعشقها وهي تعشق تعذيبه .. قاطع خُلوته الحزينة خبطات هادئة على الباب تبعها دخول حَذر لوالده .. اتخذ مقعداً بجواره يسأله بقلق (انت زعلان مع مريم ولا ايه؟)
+
أجابه بجمود (ماعرفش ، اسألها لما ترجع ، ده إذا رجعت)
+
عقد سعد حاجبيه باستغراب (هي قالت انها رايحة مع اخوها ومراته والدكتور بتاعها تعمل متابعة للقرنية، تقريباً دي حاجة خاصة بعمليتها ، وهايرجعوا كلهم على هنا بعد مايخلصوا) ..
+
تغريبة أخرى قصدتها بمِلأ إرادتها ، وحقيقة ثانية أرسخ من الأولى تكشفت أمامه كالشمس في وَضَح النهار .. مريم تتعمد إيلامه بإرادة قوية ، وتتفنن في شق قلبه نصفين بإتقان .. ضحكة خافتة ، مُتوجعة ، خائبة الأمل كانت أبلغ من أي حديث سيتفوه به .. وأقسم في سره بالذي خلقهما وخلق الخلق أجمع أنه سيحاسبها على مافات وما أتى ، وسترى منه وجه مُختلف تماماً عن الأحمق الذي يحبها أكثر من نفسه
+
-(هيثم تحت ولا مشي؟).. سؤال غير متوقع وَجَهّه لأبيه بوجوم
+
جاوبه سعد بتعجب (مشي مع كريم من شوية) .. استقام ريان واقفاً بهدوء ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله ليجري اتصالاً بصديقه المَعني بالذكر ، جائه الرد سريعاً فعاجله سائلاً ..
+
-(تسجيلات چيسي لسه معاك؟) .. سكت لبُرهة يستمع للإجابة وأردف (تمام ، إبعتها لي كلها) .. استفهم هيثم عن السبب بفضول ، فالتوت زاوية فمه بابتسامة ساخرة (هاعملها ألبوم رحمة ونور على روحها) .. أنهى المكالمة بثبات تام وبعد ثواني وصله ماطلبه عبر تطبيق الواتساب .. وبدون تفكير قام بإعادة توجيه التسجيلات الصوتية الخاصة بابنة خالته المُتوفاة "سبب المُشكلة" إلى مريم مُرفقة برسالة شديدة اللهجة (أنا قولتلك بلاش نتكلم في موضوع چيسي ، وانتِ مُصرّة تفتحي جرح هايوجعك قبل مايوجعني ، اسمعي الڤويسات اللي بعتهالك ، عالأقل تلاقي سبب منطقي عشان نسيب بعض وكل واحد يروح لحاله) .. تأكد من وصول الرسائل ولم ينتظر رؤيتها لها ثم أطفأ الشاشة وأعاد الهاتف مكانه يستعد للمغادرة (أنا رايح الشركة)
+
-(مش هاتستنى مريم لما تيجي؟) .. قالها سعد متوجساً
+
قال بغضب قبل انصرافه كلياً (عنها ماجات) .. ثم اندفع إلى الخارج صافقاً الباب خلفه بعنف مُتجهاً لعمله .. يحترق ، ويعتصر ، ويكاد يبكي ، ويقود سيارته بسرعة جنونية كمن يتسابق مع الموت نحو هاوية مُظلمة لا رجوع منها ولا نجاة ، يود لو يسقط بداخلها ويخرّ صريعاً لعاطفته الزائدة حد البلاهة ، ويتركها ويترك العالم بأسره ويرتاح ويموت بسلام ...
1
************
+
على صعيد آخر /
+
لم يستلزم فحص القرنية وقتاً طويلاً، واستقلت مريم سيارة أخيها مجدداً بجوار أميرة ثم تناولت عبدالرحمٰن الصغير لتحمله بدلاً عنها ، أحاطته بذراعيها تستمد من براءة حُضنه راحة افتقدتها منذ ليلة أمس .. استندت برأسها على زجاج النافذة تشعر بأنها مُتعبة... مُتعبة جدًا حد الغرق في فراغ عدم وجوده الآن ، وتنهمر تفاصيله كُلها دُفعة واحدة داخل عقلها .. صوته ، رائحته ، كلامه ، نظراته الدافئة ، وقلبها الذي قرر تجاهله البارحة وتبادل مع عقلها الشتائم لتقسو عليه كي يعترف بخطأه ، يشتاقه اليوم بشدة ..
+
-(مالك يامريومة؟) .. همست بها زوجة شقيقها عندما لاحظت حالتها الحزينة فأجابتها بابتسامة غير مُتزنة (مفيش ياحبيبتي ، أنا كويسة ماتقلقيش)
+
هَمّت بأخذ طفلها منها قائلة (هاتي عبدالرحمٰن لو مضايقك)
+
رفضت مُربتة على ظهر الصغير بحنان قائلة (مش مضايقني ، بالعكس انا مرتاحة وهو في حُضني) .. ثم طبعت قُبلة رقيقة على وجنته الناعمة مُتابعة (قلب عمتو ، وحشني أوي)
+
نظر يوسف إليها من خلال المرآة الأمامية متسائلاً (هانعدي نجيب ريهام في طريقنا من عند أستاذة وسيلة؟)
+
أومأت إيجاباً (آه ، هي كلمتني من شوية وقالت انها جاهزة ، وعايزة تنزل تشتري شوية طلبات عشان كتب الكتاب)
+
قاطعهما حُسام يقول بُحزن خفي (عقبالك يامريم)
+
ردت عليه مريم بمجاملة (في حياتك ان شاءالله ، وعقبالك انت كمان)
+
تدخل يوسف قائلاً بمرح (ماهو عقباله فعلاً ، البيه قرا فاتحته امبارح على إيمان الأسيستانت بتاعته)
+
تهللت مريم كثيراً قائلة بفرحة (بجد؟ ، ألف مبروك ، إيمان بنت كويسة وتستاهل كل خير)
+
غمز يوسف لصديقه قائلاً (وبتحبه من زمان ، بس كان عامل نفسه من بنها)
+
تطلع إليه حسام قائلاً (أو يمكن كان عندي أمل في حد تاني)
+
أحست مريم بحرج بالغ من تلميحه فآثرت الصمت وتولت أميرة الحديث قائلة بتعقُّل (كل شئ نصيب ياحسام ، بس نصيحة مني لو مابتحبش إيمان بلاش ترتبط بيها وتكسر قلبها)
+
أجابها بعملية (عادي يا أميرة ، المثل بيقول خد اللي تحبك ، وماتاخدش اللي بتحبها ، وطالما ماعرفتش أسعد نفسي يبقى أسعد غيري أحسن)
+
وجّه يوسف كلماته له يمازحه (جو سعيد ابن الحاج متولي ده ماينفعش غير فالمسلسلات ، العلاقات فالواقع أعقد من كده بكتير ، يعني يا بتحبها ، يا مابتحبهاش ، وأصلاً في كل الأحوال هي عرفت توقعك خلاص ولبستها)
+
ضحك حُسام قائلاً (والله مش هاكدب عليك لو قولت إنها مش عاجباني، بس لسه ماوصلتش معاها لدرجة الحب)
+
شاركه يوسف الضحك قائلاً (طب ياخويا توصل بالسلامة)
+
تنحنحت مريم قائلة (على فكرة احنا وصلنا) .. ثم أشارت نحو البناية التي تقطن بها السيدة وسيلة (العمارة هناك اهي)
+
أوقف يوسف السيارة حيث أشارت قائلاً (اتصلي عليها خليها تنزل)
+
ناولت مريم الصغير لأمه قائلة (معلش، هاطلع بس اسلم على ماما واغير هدومي) .. أقرنت قولها بالفعل وأخذت حقيبة صغيرة تحتوي على أغراضها الشخصية التي جلبتها لها أميرة كما أوصتها ، غافلة عن هاتفها الذي تركته بغير قصد ، وبمجرد ترجلها أصدر رنيناً خفيفاً يعلن عن وصول إشعارات برسائل كثيرة من ريان عبر تطبيق الواتساب .. دقائق قليلة استغرقتها حتى أنجزت ما صعدت لأجله وعادت مُجدداً إليهم برفقة صديقتها فقط ، لأن السيدة وسيلة أصرّت على بقاء مُصطفى وريتاچ معها ..
ألقت ريهام التحية بسعادة لرؤية جمعهم المحمود وعانقت أميرة ثم جلست بجانبها من الطرف الآخر وتناولت عبدالرحمٰن مُنهالة على وجهه بالقبلات .. بينما اتخذت مريم مقعدها والهاتف مازال منسياً داخل حقيبتها الخاصة..
+
****************
+
عودة إلى منزل الحاج زين/
+
بقي الوضع كما هو عليه الشباب الثلاثة غادروا كُلٍ إلى عمله، ومريم مازالت بالخارج ، والجدة فاطمة برفقة نجاة في المطبخ، أما الجد كان يجلس مع ولده الحائر كالمعتاد بالحديقة ، يتجاذبان أطراف الحديث حول ما حدث صباحاً ، والأجواء التي شُحِنَت بالغضب بين "ريان ومريم" .. يحاولان وضع تفسيرات وتكهُنات كثيرة ولم يجدا إلا سبباً واحداً أقرب للمنطقية ، وهو حضور ريان مراسم دفن وعزاء زوج خالته .. وأثناء جلستهما المُتوترة رنّ جرس الباب يُنبأهما بقدوم ضيوف فتولّى سعد تفقد الزائرين ، تنفس الصعداء حينما أطلت ابنة شقيقته عليه وخلفها صديقتها وشقيقها وزوجته وطفلهما و.. شاب غريب لا يعرفه .. إِسْتَضَافَهم بحفاوة كبيرة ثم دعاهم للدخول قائلاً بابتسامة مُرحبة (خطوة عزيزة ياولاد ، البيت نوّر) .. جلسوا جميعاً منتشرين على مقاعد الحديقة حول الحاج زين الذي استقبلهم ببَشاشته المُعتادة يقول ليوسف بعدما فَطِن هوية أميرة وعبدالرحمٰن (ماشاء الله يا يوسف ، مراتك وابنك زي القمر)
+
رد عليه يوسف باحترام (ربنا يبارك في صحتك ياجدو ، حضرتك الأحسن)
+
بينما وجّه سعد سؤاله لحُسام مُبتسماً (انت أكيد الدكتور اللي عمل لمريم العملية)
+
بادله حُسام ابتسامته بأخرى مُجاملة (لا ، أنا الدكتور المُتابع للحالة في مصر)
+
تدخل يوسف مُعرّفاً عن صديقه (دكتور حُسام صاحبي ، وأخويا ، وشريكنا في العيادة، وانا عزمته عشان يحضر كتب كتاب ريهام ، بعد إذنكم طبعاً)
+
قال الجد زين بعتاب طفيف (إذن إيه ياحبيبي؟! ، عيب الكلام ده ، البيت بيتك ، وضيوفك على راسنا)..
لاحظ الشيخ العجوز تجهم ملامح حفيدته وحُزنها المُرتسم فوق ملامحها فحدثها برفق دون التطرق لأمر خلافها مع ريان (خدي مرات اخوكِ ترتاح فأوضتك يامريم) .. ثم هتف على نجاة فجاءت سريعاً وأوصاها على ترتيب غرف إضافية للضيوف كي يستريحوا من عناء السفر والطريق ، بينما امتثلت مريم لأمر جدها وصعدت غرفتها برفقة أميرة وريهام ، اللتان لم تخفيا عليهما حالتها الغير مألوفة ، سألتها صديقتها بقلق (مريم! ، انتِ فيكِ حاجة؟) .. لم تجبها وجلست على الأريكة المقابلة للفراش مطأطأة رأسها فاقتربت لتجاورها تتابع استفساراتها بقلق (مالك ياحبيبتي؟، حد زعلك؟)
+
رفعت مريم أنظارها الدامعة ترد عليها بصوت مهزوز (ريان)
+
تدخلت أميرة باستغراب (انتم لحقتوا تزعلوا من بعض؟)
+
تحدثت مريم بنبرة متألمة (جوز خالته مات)
+
تكلمت ريهام باستنكار (هو اللي قتله ولا ايه؟)
+
نظرت إليها مريم بمقلتين غائمتين قائلة (الراجل ده يبقى أبو چيسي) سكتت هُنيهة تستجمع رباطة جأشها وأردفت (سبب المصايب والبلاوي اللي حصلت لنا كلها) .. حاولت قدر المُستطاع السيطرة على نفسها ألا تبكي مضيفة (وفالآخر الأستاذ اتحجج ان أمه وخالته لوحدهم ومحتاجين راجل معاهم ، وراح يحضر عزاه ودفنته)
+
حاورتها أميرة بتفكير مُتزن (ده مش سبب يزعلك منه ، بالعكس الإنسان اللي قادر يفصل بين خلافاته مع قرايبه ، وبين مسئوليته ناحيتهم إنسان مُحترم وبيفهم فالواجب)
+
شرحت مريم إحساسها (انا عايزاه يفهم مشاعري الأول ويقدّر غيرتي عليه ، مش يبقى عارف اني زعلانة ويسيبني اتفلق ، ولما يخلص اللي بيعمله يرجع يكلمني عادي ولا كأن حاجة حصلت)
+
تولّت ريهام سؤالها باسترابة (يقدّر غيرتك عليه من مين؟ ، من جوز خالته؟)
+
جاوبتها مريم بضيق (من الزفتة اللي كان هايخطبها)
+
رفعت ريهام حاجبها متزامناً مع شفتها العلوية قائلة بتهكم (الميتة؟ ، الزفتة الميتة؟)
+
قطبت أميرة جبينها قائلة بسخرية (انتِ عبيطة يامريم؟)
+
تطلّعت إليهما بضيق لكن ريهام لم تعطها فرصة للحديث قائلة (ريان اتمرمط كتير اوي ، ارحميه وماتنكديش عليه لأسباب تافهة وخارجة عن إرادته)
+
قالت مريم بحنق (خطوبته لبنت خالته كانت بمزاجه)
+
اتخذت أميرة مقعداً بجانبها من الطرف الآخر قائلة بغيظ (وماتت ، وغارت في داهية هي وأبوها)
+
عقدت مريم ذراعيها قائلة بمجادلة حمقاء (وافرضي بقا لو ماكانتش ماتت...)
+
قاطعتها ريهام بعدم رضا عن تفكيرها (بت! ، دي هرمونات ما قبل الـ pms ، انا عارفاها بتخلي الواحدة فينا مخها تعبان كده)
+
لكزتها مريم في كتفها قائلة (اتريقي على أحزاني كمان ياجبلة) ..
+
دلّكت ريهام مكان خبطتها متأوهة فقالت لها أميرة ضاحكة (ابعدي عنها ياريهام ، شكلها مجنونة دلوقتي)
+
نهضت مريم تبحث عن هاتفها قائلة (انا غلطانة اني قاعدة معاكم) .. تذكرت أن الهاتف مازال في الحقيبة ففتحت سحابها والتقطته منها ثم اتجهت نحو خارج الغرفة ، صافقة الباب خلفها بعصبية زائدة عن اللازم ، وقفت لبُرهة تفكر أين تذهب وعينيها المُغبشتين مُسلطتين على باب غرفته ، تود لو يخرج الآن ويضمها إليه ويعتذر اعتذاراً بسيطاً ويقول (أحبك) وسينتهي الأمر ، لكنه غير موجود وهي تائهة ، ومتخبطة ، و .. مشتاقة جداً ... مشتاقة فعلاً وقولاً ، وأفكارها الآن تنعق فوق رأسها كغربان سوداء مناقيرها جارحة ، وفي اللحظة ذاتها يُغرد الحب داخل قلبها ، مُنادياً طائر السنونو خاصتها ليعود إلى أنثاه .... وبعد تفكير دام لثواني قررت الجلوس على الدرج ، تشعر بخواء رهيب ، ورغبة عنيفة في سماع صوته والتكلم معه .. لكن كبريائها اللعين يمنعها ويلَجَّ بها إلى أرض الحيرة التي قطعتها بدمها ، ويجعلها تحرثها شبراً شبراً كي ينبت منها غيابه.. وأخيراً هداها عقلها لتهاتفه بذريعة الاطمئنان عليه ، ضغطت الزر الجانبي للهاتف بسبابتها فأضاءت الشاشة ، تسمّرت أنظارها على البريد الوارد عبر تطبيق الواتساب ، وبدون تردد فتحته لتجد رسائل صوتية كثيرة مُرفقة بواحدة مكتوبة بصيغة تهديد أخافها ، وفي تلك اللحظة أدركت أنها أوصلته لمرحلة سيئة من الغضب .. فضولها قادها لتسمع التسجيلات وبأصابع متوجسة شغلت الأول من أعلى القائمة الطويلة .. وصلها صوت المقيتة، الغائبة جسداً ، الحاضرة بشرّها "لاعفى الله عنها ولا غفر لها" .. تتحدث بكل فجور عن مستنقع خططها ، وتقر إقراراً سليماً بمظلوميته ووقوعه تحت وطأة أنيابها السامة غصباً وعُنوة وبلا إرادة .. وبوصولها لآخر تسجيل أحست بصفعات غادرة تتساقط فوق وجنتها كحجارةٍ من سجيل ، فأصبحت روحها كعصفٍ مأكول ، وتحولت نظراتها المُتحدية لأخرى خائفة ، ومرتبكة ، ومذعورة ، ووجهها المكسو بدموع الحسرة لوحة فنية بعنون (الندم في أنقى لحظاتِه وأبهى صوره) .. كفكفت وجنتيها المُبللتين براحتيها المُرتعشتين عاقدة النية على الاتصال به ، لتخبره أنها آسفة جداً .. وتحبه جداً .. وتريد احتضانه ليتلاشى كل شئ بغيض حدث له أثناء غيابها من ذاكرته ، وتصب الحياة بأوردتها بسماع نبرته الحنونة ، الدافئة..
+
-(الهاتف الذي طلبته ربما يكون مُغلقاً ، برجاء الإتصال في وقت لاحق) ... التنبيه الآلي المُسجل ، المُعتاد لشركات المحمول حينما يكون الهاتف مُغلقاً عن عمد أو لا يلتقط إشارة جيدة اخترق آذانها.. كررت الإتصال مرات عديدة ولا جديد ، فألجأها القلق لأخيها ومن موقعها اتصلت به لينجدها ويعطيها حلاً للورطة التي أوقعت نفسها فيها ، جاوبها متعجباً فأبلغته أنها تريد رؤيته فوراً ، ثواني تُعَد على أصابع اليد ولَبّى مطلبها ، وما أن لمحت طيفه يقترب حتى نهضت تعانقه مُنتحبة بشدة فسألها بخوف (ايه اللي حصل؟)
+
ردت بنشيج مرير (زعلته مني ، وهو مالوش ذنب ، أنا غبية يا يوسف ، غبية وما استاهلش حبه ليا)
+
شدد عناقها ممسداً شعرها قائلاً (اهدي بس وفهميني بالراحة)
+
ابتعدت عنه برفق تناوله هاتفها قائلة بشهقات مُتقطعة (انا .. سمعت .. كل .. حاجة) .. تفحص الهاتف بريبة وعدم استيعاب ثم أحاط كتفها بذراعه ليسحبها باتجاه غرفتها كي لا يراهما أهل البيت في تلك الحالة الغير مفهومة ، هرعتا كُلاً من ريهام وأميرة نحوها عندما وقع بصرهما على منظرها المُنهار ، طلب منهما يوسف أن يتركاهما بمفردهما ليدرك سبب وصولها إلى تلك المرحلة من البُكاء فامتثلتا لأمره بقلق تاركتين إياهما ليختليا ببعضهما البعض .. جلس أولاً ثم أجلسها جانبه يحتوي راحتيها الباردتين بين كفيه قائلاً (اتكلمي ياحبيبتي عشان خاطري ، ماتخوفينيش عليكِ)
+
أطرقت مريم برأسها لأسفل تحاول أن تتماسك ولو قليلاً (حذرني ما افتحش موضوع بنت خالته ، وانا ماسمعتش كلامه ، كنت مفكرة نفسي على حق ، اتاريني بجدد جرحه بإيدي) .. شهقت بوجع مستطردة (قاللي التفاصيل بتوجع وهاتزعلك ، حتى وهو موجوع كان خايف عليا اتوجع) .. بكت مرة أخرى تقول بألم بالغ (أنا إنسانة وحشة ، ريان يستاهل واحدة تحبه وتحافظ عليه أكتر مني)
+
تضايق يوسف من كلماتها الأخيرة فأكره ما على قلبه أن يستشعر تقليلها من نفسها قائلاً بنفاذ صبر (ريان لو لف الدنيا كلها مش هايلاقي ضُفرك)
+
أشارت للهاتف الذي بيده قائلة بحزن (افتح الواتس بتاعي واسمع الڤويسات اللي بعتهالي ، وانت تعرف أنا جرحته وساعدت في ظلمه ازاي).. .. أطاعها مُترقباً علّه يصل لشئ يُرضي فضوله.. وبدء في الاستماع لتسجيلات "چيسي" بالتناوب ومع كل كلمة وصلت لمسامعه كان تتسع أحداقه شيئاً فشيئاً ، لا يصدق أن تلك التصرفات المُشينة تصدر من فتاة .. وقول واحد صار يردده لسانه (لا حول ولا قوة إلا بالله) .. يتبعه بـ (إيه الجبروت والفُجر ده؟!) .. انتهى من آخر تسجيل ثم أطفأ شاشة الهاتف وظل صامتاً يفكر بشرود ، وأكثر شعور ينتابه ويسيطر عليه هو الشفقة والتعاطف مع ريان، هذا الشاب اليافع عاش أسوء تجربة يمكن أن يمر بها إنسان ، وتعرض لمؤامرة خسيسة جعلته يعاني مُعاناة بحجم الكون ، باعه أقرب الأقربين ولم يشتريه أحد ..حتى مريم .. وخاصةً مريم .. وبرغم ذلك حبه الصادق لها غلب جرحه منها واستقبل عودتها استقبال صائم استبد به الظمأ لقطرة ماء ، وهي بدلاً من أن ترويه جففت حلقه بحماقتها، وغيرتها الخالية من المنطق والعقل .. وبعد دقائق سادها صمتاً خانقاً قرر قطعه مُتحدثاً بلوم (انتِ غلطانة يامريم ، والغلط راكبك من ساسك لراسك) .. نظر إليها مُستمراً في معاتبتها (ليه ماسمعتيش كلامه لما حذرك من فتح الموضوع ، واتعمدتي تفكريه بجرح انتِ شاركتي فيه بطريقة غير مباشرة؟ ، عايزة تخسريه؟ ، ولا عايزة تكسريه أكتر ماكسرتيه؟، انا عارف إنك مش غبية ، وعارف برضه إنك بتحبيه)
+
ابتلعت غُصة مريرة عبأت جوفها بطعم صَدِأ وقالت (مجرد ما تخيلته مع البت دي ، الغيرة كلت في قلبي....)
+
بَتَر جُملتها يقول بحدة (انتِ هبلة؟ ، غيرانة من واحدة ميتة؟، وماكانش بيحبها أصلاً؟ ، ده ايه الخيبة اللي جاتلك في دماغك دي؟!) .. سكت لثواني يستقرأ معالم الندم البادية على تعابيرها وأضاف (لما بسمة خطيبتي ماتت ، حسيت اني مش هاقدر اعيش بعدها ، ولا هاحب تاني غيرها ، ولما اتلهيت في قصتك ولفي عليكِ ، نسيتها وحبيت أميرة واتعلقت بيها أكتر) .. تأمل ملامحها عتيقة الحُزن وأردف بابتسامة هادئة (ريان رغم كل وجعه وتعبه مفيش حاجة قدرت تخليه ينساكِ ، بيحبك حب نادر عامل زي الأحجار الكريمة ، حب مابيتكررش فالعمر مرتين ، ماتبقيش حُمارة وتضيعيه منك) ..
+
قوّست شفتيها لأسفل قائلة (انا عاملته الصبح بطريقة قليلة الذوق أوي ، وخرج وهو زعلان مني، وبتصل بيه تليفونه مقفول ، اعمل ايه عشان اصالحه؟)
+
جذبها لتتوسد كتفه يدمغ جبهتها بقبلة عميقة قائلاً (سيبيه لحد مايهدى شوية ، انتِ مش هاتهوني عليه)
+
-(انت بتدافع عنه عشان راجل زيه؟)
+
-(انا بقول كلمة حق ، الواد بيموت فيكِ)
+
-(افهم من كده انك هاتبقى في صفه فأي مشكلة تحصل مابينا؟)
+
-(افهم انا من كده إنك هاتكوني غلطانة في كل مشكلة تحصل مابينكم؟)
+
-(والله على حسب)
+
قرص يوسف وجنتها قائلاً بغيظ (انتِ بومة ياحبيب قلب أخوك ، بومة ونكد وبتعشقي الغم ، وحقيقي ربنا يكون في عونه) ... ضحكت على دُعابته فاستكمل هو (قومي اغسلي وشك ، وماتعيطيش تاني عشان عينيكِ ، ولما ييجي اعتذري من غير مقاوحة) .. انصاعت لكلامه بهدوء .. مُسلِّمة الأمر لله ، تدعوه أن يكتب له الخير أينما حلّ ، هو الذي بيده ملكوت كل شيء وقادر على أن يسوقه إليها لتعترف بخطأها وتعتذر بصدق وتعده ألا تكرر ما اقترفت مُجدداً.....
+
**************
+
الواحدة بعد منتصف الليل/
+
مُتعَب ، وغاضب ، ومخذول .. مخذول جداً ، وتعيس تعاسة لحن فارسي حزين ، لا يتناسب مضمون كلماته الساخرة مع حُزن نغماته ، أنهى أعماله منذ وقت طويل وخرج من شركة والده وحيداً ليستقل سيارته ، ويغادر بلا وجهة متعمّداً إغلاق هاتفه رغبةً في أخذ استراحةٍ قصيرة من التفكير بها ، رغم يقينه أنه لا راحة ، ولا فرار من قمر يسكن فضاء قلبه ، كل مابه يشتاقها، روحه العليلة بعشقها تصرخ صراخاً مكتوماً وتردد إسمها ، وطيفها المُرتسم في ظلال أحداقه لا يرحمه ويجبره على ممارسة حيلة الإغماض ليرى سيرها المُتمهل بعناد بين الجفن والمَحجر ، ومظهره الثابت في علاقة عكسية مع فرط الخواء الذي يضرب أحشائه أثناء مغيبها عنه ، من ينظر إليه يظنه بخير لكنه ليس كذلك أبداً ، يشعر أن عقله يقف على حافة الجنون ولا يُبالغ .. يشعر أنه ضل الطريق إلى نفسه ولا يُبالغ .. يشعر أن البرد يفتت عظامه ولا يُبالغ.. يشعر بالجوع والحنين لحُضن والدته ولا يُبالغ .. قدرته على التفكير تتبخر وتتلاشى مع بخار الماء المُتصاعد من فمه .. والمنطق يضرب رأسه بعرضِ الحائط ، فقرر خلع ثوب الرجولة الذي ارتداه مُبكراً ليعود مجرد طفل بَرْدَان يود التلحف بذراعي أمه الدافئين
+
-(ريان!) .. قالتها رويدا شاهقة بخضة ممزوجة بمفاجئة فَرِحة عندما فتحت الباب ووجدته شاخصاً أمام ناظريها بكامل بهائه .. وإرهاقه .. ابتسامة صامتة، مُرتعشة ، واهنة "تشبهه" كانت إجابته فبادلته إياها بأخرى غير مُصدقة .. دَعَته ليدخل سريعاً وأغلقت الباب لتصد صقيع هواء ليل آواخر الشتاء.. استوقفها برفق يتأمل هيئتها ووجهها المَليح ، البسيط ، الخالي من مساحيق التجميل ، وعباءتها البيتية ، المُخملية، نبيذية اللون، وشالها الصوفي الذي تتدثر به، لأول مرة في حياته يراها أم بدون أي مُنكهات تُفسد مذاقها الفطري ، الأصيل.. تنقل ببصره يطالع المكان حوله .. الشقة نظيفة ، ومُرتبة ، وهادئة ، ودافئة ، تعبأها رائحة القهوة وشواء حبوب الكَستناء اللذيذة ، وشاشة التلفاز الكبيرة المُقابلة لأريكة مُتموضعة في ركن من أركان صالة الاستقبال الواسعة مُشغلة على أحد المُسلسلات .. وذكرى ماقبل هجرة والديه تلوح له من بعيد.. يتخيل كيف كانت ستبدو حياته وسطهما إذا ما هاجرا وتركوه نُهبة للوحشة والافتقاد .. ليصطدم بحقيقة لايستطيع إنكارها وهي أنهما لم يهاجرا ، بل هَجَروه وهَجَّروه .. أبوه وأمه غرّباه ولم يغتربا ..
+
-(أحضرلك العشا؟) .. سؤال حنون وجهته رويدا إليه لتقطع السكون المُخيم على الأجواء فأومأ لها نفياً وقال بخفوت (مش جعان)
+
جذبته من ذراعه ليجلس معها على الأريكة، وظلا في حالة صمت مَهيب لدقائق إلى أن استلقى على جانبه يرفع ساقيه ليضمهما نحو صدره ، واضعاً رأسه المُثقل بالتفكير في حِجرها وأغمض عينيه ونام بهدوء ليثبت أن تلك النومة المُستكينة ، الآمنة هي أعظم انتصار قد يحققه رجل هزمته الحياة...أما هي لا تجد من الكلمات مايصف شعورها الآن.. "ريان" هنا .. ولدها الوحيد وروحها الغائبة عنها نائم هنا ، ويتخذ من ساقها وسادة .. نبض قلبها قريب .. قريب للدرجة التي تسمح لها بتمسيد خصلاته ، والمسح على ظهره بكفيها المُتعبين من مسح دموعها أثناء الخِصام والإعراض .. انفرج ثغرها بابتسامة عريضة ، شاكرة لله أنه مَنّ عليها بتلك المِنّة العظيمة وتذكرت حديث "السيدة وسيلة" حينما قالت (ريان عمره ماهايردك لو مشيتي ناحيته خطوة ، بالعكس هايمدلك إيده ويمشيلك قصاد خطوتك عشرة) .. وصفت بدقة وصدقت وأجادت الوصف ، "ريان" لا يرد عزيز ويسير الخطوة بعشرة أمثالها ، وأمه كانت ومازالت وستظل عزيزته مهما أخطأت.. انحنت لتطبع قبلة مُتلهفة فوق جبينه ، وتأكدت من انتظام أنفاسه في النوم ثم تناولت غطاء خفيف موضوع على ظهر الأريكة لتدثره جيداً .. ارتكنت برأسها للخلف قليلاً وأغمضت عينيها مُستسلمة للنُعاس .. مرّت ساعة ، تَلَتها أخرى ، والأخرى شدّت الثالثة من عقرب ثوانيها ، والثالثة احتفلت بقدوم الرابعة حتى صدح آذان الفجر في الأرجاء.. صَدحاً مُباركاً استيقظ على أثره ريان ، فرّق جفنيه ببطأ وعدستيه تستوعب النور رويداً رويداً لتتضح الرؤية ، ابتسم عندما استشعر كف والدته المُستقر فوق شعره ، فأمسكه يُقبل ظاهره بحُب كبير لا يستطيع إنكاره..حاول الاعتدال ليستقيم في جلسته دون أن يقلقها لكنه لم يفلح
+
-(الفجر أذن؟) .. سألته رويدا بصوت مُتحشرج بعض الشئ فأومأ إيجاباً وقال مُبتسماً (نمت ماحسيتش بالوقت ، انتِ راشة ايه فالجو ياست الكل؟)
+
بادلته ابتسامته قائلة (ولا حاجة ، هو بيت الأم دايماً بيكون مُريح)
+
تمطا بذراعيه متأوهاً بخفة (أنا هاقوم اتوضا واصلي)
+
سألته بنبرة راجية (هتبات معايا انهاردة؟)
+
أجاب سؤالها بسؤال لطيف للغاية (ليا مكان؟)..
+
تهللت أساريرها وانفرج فمها بعدم تصديق وبلا تردد أمسكت ذراعه لتسحبه سريعاً إذاء غرفة مُجاورة لغرفتها ، فتحت بابها ثم زر الإنارة ودخلت وأدخلته قائلة (دي كانت أوضتك وانت صغير) .. سكتت لبُرهة وأردفت بألم دفين لم تبرأ منه (قبل ما ياخدوك مني)
+
نظر إليها بإشفاق وألم يساوي ألمها ، وسؤال محزون يحتدم بين دواخله (إذا أعادت له المكان؟ ، هل ستستطيع إعادة سنوات طفولته ليعيشها بين أركانه وزواياه ويصنع ذكريات يؤرخ بها حنينه؟) ..
+
-(فيه هدوم ليك فالدولاب ، لو حابب تاخد دوش وتغير هدومك) .. قالتها رويدا وهي تفتح الخزانة ، لمحت تعبيراً متسائلاً يرتسم على ملامحه فأضافت (انا اشتريتهم بعد ما قررت اعيش هنا ، كنت عايزة احس إنك جنبي)
+
اقترب منها بخطوات ظاهرها هادئ ، باطنها مُرتجف يحتوي وجهها بين راحتيه قائلاً (حقك عليا) .. ضمها إلى صدره لثواني وتابع (انا جنبك ، واوعدك اني مش هابعد عنك تاني) ..
+
تناءت عنه برفق قائلة بابتسامة حانية (قلبي وربي راضيين عليك ياريان ، ربنا يكرمك يابني زي ما بتكرم كل اللي حواليك) ..
+
دعوتها الصادقة أثلجت روحه كثيراً وقال بحبور (كفاية عندي الكلمتين الحلوين دول والله ، مش محتاج في حياتي أكتر منهم) ..
+
ربتت على كتفه قائلة (غير هدومك وصلي، وانا هاحضرلك العشا)
+
تفحص الوقت من خلال ساعة يده قائلاً (عشا ايه دلوقتي؟ ، النهار قرّب يطلع ، انا يادوب الحق انام ساعتين قبل ما اروح الشغل)
+
تحدثت بطريقة طفولية لذيذة (مفيش شغل بكرة ، انت هاتقضي اليوم معايا)
+
رفع حاجبيه يمازحها (كده سعودي هايزعل مننا)
+
زمت شفتيها قائلة بحنق (يتفلق)
+
ضحك قائلاً (ما هو لو اتفلق ، هايفلقني انا نصين)
+
استعدت للإنصراف كُلياً لتتركه يأخذ قسطاً إضافياً من الراحة تُلوح مُدعية عدم الاهتمام (سيبك منه)
+
************
+
ركض الليل ذلك الحصان الأسود الجامح مُبتعداً ، ليحل محله فَرَس الصُبح ناصعة البياض ، والنوم يجافي أعين مريم ، والخوف يتمدد داخل قلبها مثل وحش مُفترس يقتلع روحها من جذورها كضرس منخور حتى العصب .. هاتفه مازال مُغلق ولا تستطيع الوصول إليه وهو لم يعد .. وأهل البيت نيام وتتعجب من تعاملهم مع غيابه وتأخره بأريحية تامة وكأنهم معتادين على الأمر ، لا تعلم أنه طمأن والده قبل إغلاقه للهاتف ، وأخبره بانعدام رغبته في العودة للمنزل تجنباً لمواجهتها ورؤيتها .. .. قضت الوقت بين الغرفة والحديقة وإبرة الانتظار توخز صدرها ، وهواء الشتاء البارد يلفح بشرتها ويجمد الدم في عروقها .. جلست على أقرب مقعد للباب وحلقها يؤلمها وعينيها المُخورتين تحرقانها أثراً للسهر والبكاء ، تقرض أظافر يديها ، وتعض على نواجزها لشدة ندمها عَلّه يأتي .. فقط يأتي وتراه سالماً ، وتعانقه ، وتطمئن أنه بخير ، وعندما فقدت الأمل انسحبت نحو غرفتها مُجدداً ، وفؤادها المكلوم يصرخ (ياوجع الحال ، في غيابك يا ابن الخال)
+
.. على الطرف الموازي كان ريان مازال نائماً ، والهدوء يغلف الأجواء حوله ، رائحة أطعمة لذيذة اخترقت حواسه فأنبهت عقله وأيقظته .. تثائب بتثاقل وأزاح الغطاء الثقيل لينهض وينفض غُبار الكسل عن جسده ، دلف إلى الحمام المُلحق بالغرفة حتى يغسل وجهه ويستفيق بشكل كامل ثم خرج ينادي أمه
+
-(تعالى ياريان ، أنا فالمطبخ) .. هتفت بها رويدا تلبيةً لنداءه.. أطاعها كي يستكشف ماذا تفعل ، وجدها تحضر الإفطار وترص الطعام في الأطباق بأناقة ورقي متأصل في طباعها .. ألقى تحية الصباح بصوت مازال عالقاً به آثار النوم وتابع مُبتسماً أعذب ابتساماته (ايه الجمال ده عالصبح؟)
+
أشارت لأحد المقاعد المقابلة للطاولة المُستديرة المتموضعة في المنتصف قائلة (اقعد عشان تفطر)
+
امتثل لأمرها بترحيب ومنظر المائدة المُرتب فتح شهيته قائلاً (تسلم إيدك ، الأكل شكله حلو أوي)
+
وضعت آخر طبق أمامه وجلست قائلة بمرح (مش أحلى من صباحك ياحلو أمك)
+
اتسعت حدقتيه قائلاً بثغر منفرج (انتِ بتدلعيني يارورو؟)
+
قرصت وجنته بخفة قائلة (ادلعك وادلع اللي يتشددلك)
+
ضحك قائلاً (تعيشي وتدلعيني ، وتدلعي أبويا كمان)
+
قالت بتعابير مُتجعدة قليلاً (ادلعك انت آه ، أبوك لا)
+
شرع في الأكل قائلاً (لمي الدور يارويدا هانم ، بدل ما تلاقيه داخل عليكِ بعروسة صغيرة من دور عياله وعاملك فيها شوجر دادي)
+
قطبت جبينها قائلة (ولا يفرق معايا)
+
رفع حاجبه غامزا (من قلبك؟)
+
ردت عليه مُتأنفة (من أعماقه)
+
مط شفتيه قائلاً (ويرضيكِ يجيبلي مرات أب وانا فالسن ده؟)
+
حركت سبابتها بشكل دائري قائلة بغيظ (لعلمك أبوك لو لف الدنيا كعب داير كده ، عمره ما هايجيب ست زيي)
+
رمقها بنظرة جانبية قائلاً وهو يلتقط قطعة خيار ليضعها في فمه (وهو هايطلقك عشان يجيب زيك ليه؟)
+
كتفت ذراعيها قائلة بغرور وثقة في نفسها (مش هايلاقي أصلاً)
+
غمغم مُردداً (الحمدلله)
+
سألته مضيقة نظراتها بعدما فهمت مقصده (الحمد لله على إيه؟)
+
أجابها ببراءة مُصطنعة (عالأكل ، الحمدلله شبعت)
+
استقامت واقفة تتجه شطر الموقد قائلة بحماس (هاعملك كوباية شاي تركي بالعطرشان هاتحلف بيها)
+
استفهم باسترابة (عطرشان؟! ، النعناع قصر معاكِ في حاجة؟)
+
تحدثت وهي تقطف أوراق النبات الأخضر الذي تزرعه داخل أُصص صغيرة مُلونة تعلقها بطريقة لطيفة أعلى نافذة المطبخ (دي وصفة اتعلمتها من نينتك فريدة الله يرحمها ، كانت دايماً تعملها لجدك عشان تحسن من صحة قلبه) .. ناولته كوب الشاي المُنَكَّه وعادت لجلستها قائلة بحنين لوالديها الراحلين (عارف ياريان؟ ، بابي ومامي كانوا حلوين أوي)
+
ارتشف قطرات من الشاي مُستمتعاً بمذاقه المُختلف متسائلاً (جدو عيسىٰ كان أصله تركي؟)
+
أومأت بفخر واعتزاز (تركي حتى النخاع ، والدته من مانيسا ، ووالده من أزمير)
+
مازحها باستغراب طفيف (وجه اتجوز من مصر؟ ، هو كان عيان ياماما ولا ايه؟)
+
ضحكت على دعابته قائلة (ده كان بيموت في جدتك ، لدرجة إنه ساب بلده وأهله ودفع دم قلبه عشان ياخد الجنسية المصرية ويتجوزها) .. تذكرت حكايا أمها عن عشق والدها النادر واستكملت مُبتسمة بحالمية (قصة حبهم تتكتب في رواية من حلاوتها) .. ربتت على كفه المستقر فوق الطاولة واستطردت (انت زيه بالظبط ، حتى فالشكل شبهه جداً)
+
دعا ريان بصدق (الله يرحمه) .. تنهدت مؤمنة على دعاؤه ، وران عليهما صمتاً مُستكيناً لثواني قطعته مستفهمة (انت زعلان مع مريم؟) .. حاول التهرّب من الإجابة أو بمعنى أصح يتهرّب من اشتياقه إليها لكنها مُدركة للخلاف بينهما وسببه قائلة (عندها حق على فكرة ، حضورك لدفنة وعزا محمود يجرحها ياريان ، مش بس عشان أبو چيسي ، الراجل ده اتسبب في أذيتها كتير اوي ، وانت كان واجب عليك تراعي مشاعرها)
+
قاطعها ريان مُنفساً عن غضبه (حتى لو عندها حق زي مابتقولي ، هي ضيعته بطريقتها الغبية) .. أنهى كلماته بعصبية ليست من صفاته ، ولا يحبها مُطلقاً ثم وَقَف ليخرج من المطبخ مُيمماً مقصده شَطر الشُرفة الواسعة ذات الإطلالة النيلية الهادئة .. استند بكفيه على السور يطالع المنظر أمامه بشرود وحُزن لا يخف ولا تجف منابعه ، وعقله يعود به للوراء مسافة عامين كاملين .. عامين سرقهما غيابها المُتعمد من عمره ومرّا عليه مرور مِلح فوق جرح طازج ، عامين لم يكن بخير فيهما ولو لدقيقة واحدة ، عامين حطماه تمامًا وحولاه لشخص آخر يبكي حد الصراخ في كل زاوية من زوايا الليل .. شخص غيبه وجعه عن حقيقته النقية ، وألجأه قهره للسجائر والملاهي الليلية و .. لچيسي .. فبأي حق تعاتبه اليوم؟! ، أمعتوهة هي؟! ،
+
-(عملتلك فنجان قهوة هايروق مزاجك) .. قالتها رويدا من خلفه فالتفت ينظر إليها بمقلتين تظللهما غيمة ألم حار تلسع أجفانه ، اقتربت منه تناوله فنجانه مُستطردة (البن ده أنا بعمله بإيدي ، دوق وقولي رأيك)
+
رفع الفنجان عند شفتيه يرتشف قطرات صغيرة من مشروبه المُفضل ، ولأول مرة يتذوق قهوة بتلك اللذة والطعم المُميز قائلاً (الله ، جميلة أوي)
+
شربت أيضاً من خاصتها مُتلذذة بالمذاق قائلة (تحويجة تيتا ديدا) .. أردفت باشتياق لأمها (كانت دايماً تقول أنا مستحيل أسلم مزاجي فالقهوة لحد) ..
+
ابتسم ريان قائلاً (تيتا دماغها كانت متكلفة)
+
بادلته ابتسامته بأخرى مؤكدة (جداً ، إلا القهوة عندها ، كانت عاملة دولاب فضية فأوضتها مخصوص ليها)
+
تأملها ريان للحظات وقال باستغراب (أنا ليه حاسك مُختلفة هنا كأني أول مرة أشوفك؟)
+
جاوبته بنظرات مكسورة (انت عمرك ماشوفت غير الجانب المُشوه من حياتي ، ماجاتش فرصة تتعرف عليا صح)
+
-(خليكِ كده دايماً ، انتِ حقيقتك حلوة)
+
-(وانت ماتقسيش قلبك على مريم)
+
-(مريم وجعتني)
+
-(أكيد مش قاصدة)
+
-(لا قاصدة ، وعارفة كويس بتعمل ايه ، والمرة دي ياتتعلم من غلطها ، ياتسيبني في حالي)
+
-(ريان! ، انت روحك فيها وبتحبها ، بلاش تكبر الموضوع)
+
-(انا ماكبرتش حاجة ، هي اللي عملت حوار عالفاضي)
+
-(احتويها ياحبيبي ، وخدها فحضنك ، البنت يتيمة ومالهاش غيرك)
+
رد عليها بنبرة مُتهكمة (ليه؟ ، وأخوها بسلامته راح فين؟)..
+
حاورته رويدا بتعقل (أخوها مستحيل يعوض مكانك عندها ، هو الحماية ، وانت الحب ، فهمتني؟)
+
جاوبها باعتراض (انا كنت زمان الاتنين ، وبحاول اتقبل التقسيم ده دلوقتي عشان خاطرها)
+
لكزته بكتفها في كتفه غامزة بمرح (اتجوزها وانت تبقى الاتنين تاني)
+
تحدث ريان بحنق (البت من ساعة ما رجعت وهي مفيش على لسانها غير يوسف ، تقوليش يوسف الشريف بروح امه ، تخيلي الزن اللي هاعيش فيه لما اتجوزها)
+
قهقهت رويدا بشدة حتى أدمعت عيناها قائلة (لاجل الورد ينسقي العُليق)
+
لوح بذراعيه يخبط كفيه ببعضهما قائلاً (أنا لا عايز ورد ، ولا عايز عُليق ، أنا بفكر أسافر أي مكان فيه صحرا ، واربي معزتين وجمل واعيش بهدوء ، بلا حب بلا قرف)
+
تعالت ضحكات رويدا قائلة وهي تسحبه من يده ليتجها معاً نحو صالة الاستقبال (تعالى نتفرج عالمسلسل بتاع جلجل وستو أنا ، هايعجبك وهايغير مودك الكئيب ده) .. انصاع لاقتراحها اللطيف وجلسا سوياً على الأريكة المُقابلة لشاشة التلفاز ، قامت بتشغيله عبر جهاز استقبال يدعم مشاهدة المسلسلات كاملة عن طريق الإنترنت ، لتتوالى الحلقات الكوميدية الخفيفة واحدة تلو الأخرى ويمر الوقت كالنسيم دون الشعور به مُطلقاً ، ويحل المساء ويبقى الوضع كما هو عليه منذ صباح أمس ، ورسالة المُجيب الآلي (الهاتف الذي طلبته ربما يكون مُغلقاً ، برجاء الإتصال في وقت لاحق) مازالت تصل لمريم الماكثة على الطرف الموازي وحيدة داخل غرفتها ، تستلقي فوق فراشها متدثرة بغطاء ثقيل يخفف وطأة ارتعاشة جسدها الضعيف ، أنفها مُحمَر ، وعينيها ذابلتين أثراً للبكاء ، وحرارتها مُرتفعة بسبب إصابتها بڤيروس الإنفلونزا نتيجة جلوسها بالحديقة ولفح الهواء البارد لعظامها طيلة الليل ..ولولا معرفتها من خالها أنه حدثه وطمأنه لجُنَت من فرط قلقها وخوفها عليه، بالكاد أقنعها يوسف بتناول أقراص خافضة للسخونية ، ومُضاد حيوي كي تتعافى، وتركها نائمة أو تدعي النوم نزولاً لرغبتها..
+
**************
+
الحادية عشر والنصف مساءً /
+
بعد قضاء يوم مُمتع ، دافئ ، سعيد مليئ بالكثير من الأحاديث الهادئة ، والطعام الشهي ، وفناجين القهوة المُحوجة بوصفة "تيتا ديدا" ، استأذن ريان ليودع والدته ويعود إلى منزل جده على وعدٍ بتكرار الزيارة وجعلها لمدة أطول .. استقل سيارته ثم انطلق بها واشتياقه لرؤيتها يوتر الهواء حوله ، تفاصيلها الصغيرة ذائبة داخل مُقلتيه .. الفستان الذي أهداها إياه ورسم قوامها كالغزالة .. انفراجة ثغرها بفرح عندما تبتسم .. نظراتها المُنبهرة كلما تطلعت لوجهه .. كُلها تحتل كيانه المُتعب بها .. "مريم" معجزته التي لا حدود لها ، وحبه الكثير الذي لا يفسره مجاز ولا ينصفه وصف ، "مريم" دهشته ، وشهوته، وفتنته ، وحَزنه الدائم ، و... امرأته جداً .. وعليها تقدير ذلك جداً .. والسعي لتعوضه جداً عن ظلمها له .. تعوضه جداً ، قولاً وفعلاً .. اتخذت المسافة بين المَنيل وبيت الحاج زين وقتها المُستحق وأخيراً وصل أمام الباب ، ترجل بخطوات ثابتة متجهاً نحو الداخل .. وأثناء مروره بالحديقة وجد يوسف جالساً برفقة ريهام ، وفتاة أخرى لا يعرفها تحمل طفلاً صغيراً من الواضح أنهما زوجته وإبنه ، ألقى التحية بتعابير غير مقروءة ومضى في طريقه إلى غرفته..
+
-(استنى ياريان لو سمحت) .. قالها يوسف ناهضاً من مكانه ليستوقفه
+
وعلى مضض أجابه (خير؟)
+
أمسك يوسف ذراعه متسائلاً باهتمام (انت كويس؟)
+
نظر إليه ريان بتعجب قائلاً (أنا تمام، انت اللي كويس؟)
+
ابتسم يوسف قائلاً (أنا تمام) .. سكت هُنيهة يستجمع رباطة جأشه وأردف بهدوء (ماتزعلش من مريم ، هي حمارة بس بتحبك اوي والله)
+
مال ريان برأسه قليلاً لا يصدق أن الماثل أمامه ويتحدث معه بلُطف "يوسف" أو "الخازوق ذو النظارة الطبية" كما يسميه ويستشعر دوره في حياته
قائلاً باسترابة (انت كويس بجد؟)
+
تخصّر يوسف قائلاً بغيظ (انا كويس، مريم اللي مش كويسة ، ونايمة تعبانة فأوضتها)
+
تحولت ملامحه من التظاهر بالتجاهل لقلق حقيقي يستفسر بخوف (تعبانة ازاي؟)
+
جاوبه يوسف بزفرة مهمومة (خدت دور برد بسبب قعدتها طول الليل فالجنينة مسنية حضرتك) ..
+
هَمّ بالانصراف ليطمئن عليها لكن قدوم شاب غريب من الداخل قاطع اقتران تفكيره بالتنفيذ ، وما أثار فضوله و.. مشاعر أخرى سؤاله ليوسف بكل بساطة (مريم لسه مش عايزة تاكل؟)
+
جاوبه يوسف بيأس (لا ماكلتش)
+
قال حُسام باعتراض (ماينفعش كده ، المضاد الحيوي مابيتاخدش من غير أكل، هو انت مش دكتور وعارف الكلام ده يابني؟)
+
تكلم يوسف بضيق (انا لساني نشف معاها ، ومارضيتش تحط لقمة في بوقها)
+
قطب حُسام جبينه قائلاً بجدية (لو ماكلتش حاجة لحد الصبح انا هاعلق لها محاليل) ... وأثناء مُجادلتهما الاعتيادية بالنسبة لكونهما طبيبين كان ريان واقفاً بينهما بذراعين معقودين ، يوزع نظراته عليهما ثم بَتَر نقاشهما فجأة مُستفسراً بفضول وتعابير ممتقعة بعض الشئ مُشيراً لحسام (مين ده؟)
+
***********
+
