اخر الروايات

رواية عيون الريان الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم نيللي العطار

رواية عيون الريان الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم نيللي العطار




أنا ممتلئ بالموسيقى ، وأنتِ ..

+


أنتِ امرأة تجيدين العزف (اعزفيني)

+


-سديم المناصير-

+


*****************

+


استدارت تواجهه متسائلة بنَزَق (ناس؟! ، هم فين الناس دول؟!) 

+


تلفت حوله قائلاً (احنا فالشارع لو مش واخدة بالك) .. اقترب منها خطوة (انتِ زعلانة ليه؟) .. عقدت حاجبيها ولم ترد فحثّها على التحرّك وأضاف بمراوغة (الجواز فيه حاجات تانية غير الطبيخ) .. رمقته شزراً وقبل أن تتهور مجدداً وتبتعد تابع بيأس (الغسيل ، والمكوى ، وشغل البيت ، وكده يعني) 

+


وافقته الرأي (صح ، عندك حق..)

+


قاطعها حانقاً (جاك كسر حُقك، انتِ تشيلي أفكار الخدّامين دي من دماغك بدل ما اطلقك قبل ما اتجوزك) .. تابع سيره المُتمهل بجوارها بينما تحدثت هي بعبوس طفولي لذيذ (أميرة مرات اخويا دايماً تقولي أقصر طريق لقلب الراجل معدته)

+


وضع كفيه في جيوب معطفه قائلاً (كل راجل وله طريق لقلبه، فيه راجل بكرش زي اخوكِ همه على بطنه) .. لكزته في ذراعه بغيظ من تنمره على يوسف لكنه استطرد ضاحكاً (وفيه راجل أقصر طريق لقلبه الشخلعة) .. توقف يتأمل احمرار وجنتيها ناطقاً بهدوء (وفيه راجل أقصر طريق لقلبه عقله) 

+


سألته بصوت رقيق (وانت؟ ، ايه اقصر طريق لقلبك؟)

+


تأمل وجهها الجميل تحت ضوء القمر قائلاً (انتِ يامريم) ، ابتسم يغازلها (انتِ الطريق لقلبي) .. سكت هُنيهة ثم همس وعينيه ترسم تعابيرها العذبة بنبرة عاشقة (وقلبي) 

+


أسبلت أهدابها بخجل وكعادتها القديمة انعقد لسانها أمام حُلو كلامه ، أما هو فظل يطالعها بدهشة عاشق يطحنه شعور بألا يَلقى لأنفاسه صدى داخل رئتيها ، يتفجر قلبه المُضرج بالشوق ولا يستقر في غيابات جسده ، وتُحيل حرارة النظرة برودة شتاء آواخر ديسمبر لرَمْضَاء صيف منتصف أغسطس ، وعينيها مُتيِّمتيه ، عدوتي سلامه ضغطت سنوات الفراق داخل مشهد حبّ واحد ، يُلخص عذابات الهوى التي قضياها لحظة وراء لحظة ، يتقاسمان الأُفُول ، فوق أرض الشَقَاء....

+


_(والنبي ياعمو هات جنيه اشتري أكل ليا ولأختي) ... جملة قصيرة نطقها طفل صغير يقف على مقربة منهما ، يفرك كفيه وينفث فيهما ليدفئهما.. انتبها إليه باستغراب لوجود أطفال بالشارع في مثل هذا الوقت المتأخر وسأله ريان مبتسماً (إسمك إيه؟)

+


رد عليه بتهذيب آثار ريبته (مصطفى).. ثم أشار للطرف الآخر من الرصيف نحو طفلة تفترش الأرض وترتجف من البرد متابعاً (ودي ريتاچ أختي) ... والسؤال تلك المرة كان لمريم التي أحست بشئ غريب تجاهه (باباكم ومامتكم فين؟)

+


أجابها بحزن قبل أن يتبيّن ملامحها جيداً (مش عندنا بابا وماما) ..وفجأة صاح بمفاجأة مُختلطة بفرحة عارمة (ميس مريم!) .. تشبث بملابسها باكياً (وحشتيني أوي ياميس)

+




                
وزّعت مريم بصرها بينه وبين ريان وانحنت على عقبيها لتصل لمستوى طوله تمسك كتفيه مُستفهمة بذهول (انت تعرفني؟)

+


عانقها الولد تلقائياً ينتحب بقهر (سيبتونا ليه ياميس؟! ، ماما وسيلة فين؟!) .. فغرت فاهها عندما أدركت أنه من أبناء الدار وبدون تردد أحاطته بذراعيها قائلة ودموعها تسبق حروفها (ماما وسيلة بتدور عليكم) .. أبعدته عنها قليلاً تتفحص ملابسه الرثّة وهيئته المُغبرة وقالت بصدمة (إيه اللي عمل فيك كده؟) .. قوّس شفتيه بحزن ويبدو أن ماتعرض له أكبر من قدرته على شرحه وتولى ريان المُبادرة بالاستفسار (معاك حد تاني من اخواتك فالدار غير ريتاچ؟)

+


حرّك رأسه يجيبه بنفي (لا، أنا وهي بس)
لاحظ ريان ارتجافة جسد الصغير فخلع معطفه ثم ألبسه له وحمله ليحتويه بين أحضانه ويدفئه بحنو بالغ ، وحفّز مريم كي يتحركا معاً نحو الطفلة الجالسة في الجهة المُقابلة .. والتي ما أن رأت مُعلّمتها حتى عرفتها فوراً مُتهللة بشدة ، قفزت بسعادة تهتف بإسمها فمالت عليها مريم لتتعلق بعنقها في مشهد مؤثر كمن وجدت أمها .. رَفَعَتها تضمها إليها فتَهَنَّفَت الصغيرة على صدرها ، حاولت تهدئتها تمسد ظهرها وخصلاتها المُشعثة باكية بحُرقة بينما قاطع ريان حالتهم المُفجعة بألم (الولاد جعانين، هاروح اجيب لهم أكل) .. أيدته بموافقة خاصةً أن الولد كان يطلب نقود ليبتاع طعام .. قام بتوصيلهم للسيارة ثم ذهب لشراء شطائر ومشروبات للصغار من أقرب مكان ، اتخذوا جميعهم المقعد الخلفي وظلت مريم برفقتهما تدثرهما بمعطف ريان الذي استوعب جسديهما النحيلين ، المُرتعشين بفعل البرد والجوع ، وبالفعل لم يتأخر وفي غضون دقائق كان يجلس ناحية مصطفى.. فتح الأكياس سريعاً وأخرج منها المأكولات ووزعها عليهما بالتساوي .. شرعا في الأكل بنَهَم وكأنهما لم يأكلا لشهور ، وأثناء متابعته لهما ، لاحظ علامات جروح غائرة وبعض آثار حروق تغطي كفيهما ، تفحص ذراع الولد باهتمام ممزوج بالخوف .. ومثلما فعل فعلت مريم مع البنت فهالهما ما رَأيَا ، الصغيرين تعرضا للضرب والتعذيب ويبدو أن العالم كان قاسياً خارج الدار بما يكفي ، ومن حُسن الحظ والصدفة أنهما التقيا بهما ، وبالتأكيد لن يتركاهما مرة أخرى ، وبعدما انتهيا من الأكل والشرب غلبهما النُعاس وناما مكانهما مُلفوفين بدفأ المعطف وأمان وجودهما بين ريان ومريم .. ظل الوضع مشحوناً بوجع مهيب وحسرة تفتت العظام ، وفي لحظة تجددت اللَوْعَة والذكريات العصية على النسيان .. صمت مُعبأ بتنهدات مُحترقة قطعه شهقات بكاء خافتة مصدرها مريم ، وقلبها يدعو على من تسبب في تشريد هؤلاء الأبرياء أن يذوقوا العذاب أضعافاً دُنيا وآخرة ، فلا رحمهم الله ولا سامحهم أبداً ..

+


-(انت عارف مكان ماما وسيلة فين؟) .. سؤال محزون وجهته لريان 

+


أومأ إيجاباً وهو يمسح دموعها (عارف ياحبيبي ، بكره الصبح هاخدكم ونروح لها) .. ابتهجت قليلاً رغم كآبتها فأردف وهو يترجل ليجلس خلف المقود ويشجعها لتتخذ مقعدها بجواره (يلا نرجع البيت ، الوقت اتأخر)

+



        

          

                
أطاعته باستسلام وحِرص كي لا تقلق نومة الصغار الهادئة .. وقبل انطلاقه بالسيارة احتوى كفها بحركة عفوية فانتبهت لبرودة كفه وقالت (إيدك ساقعة أوي)

+


أدار المُحرّك يجيبها ببسمة لطيفة (الإيد الساقعة صاحبها قلبه دافي)

+


رفعت كفه عند شفتيها تدفئه بأنفاسها قائلة بقلق (انت بتهزر؟! ، هتاخد برد كده)

+


وبنفس الكف التي تلفحها بحرارة زفيرها أحاط جانب وجهها ، ثم جذب رأسها برفق ليضمها إليه ، وأُوَام روحه المُشتهية قُربها يستمر في الازدياد .. استقرت أسفل عنقه مُغمضة عينيها براحة ، وآذانها تلتقط إيقاع نبضاته ، وضلعه الأعوج حيث خُلقت في تكوينها الأول يشتاقها

+


-(بحبك).. نطقها بنغم مُموسق كمن ينشد تُراث العتابا والميجانا وقلبه يخفق ويناديها بلهفة (أيا مريم! ، في عشقك "يا ما جانا" ، وما أكثر ما أصابنا) .. وبرَوَية تامة سلك مسافة العودة إلى منزل الحاج زين "جديهما" ، يوزع رؤيته بينها وبين الطريق .. غفت مليحته رغماً عنها وخصلاتها الناعمة منثورة فوق صدره ، والسماء تجود على الشوارع بالمطر فتفتح جلد الأرصفة برتقال وياسمين ، وصوت سفيرة النجوم يُرَنِّم شطر من إحدى روائعها الخالدة (يا حبيبي الهوى غلاب ، عَجِّل و تَعىٰ السنة ورا الباب ، شتويي و ضچر و ليل ، وانا عم بنطر على الباب ، ولو فيي يا عينيي ، خبيك بعينيي ، رِجعت الشَتويي) .. وأخيراً وبعد وقت ليس بقليل وصل بالسيارة أمام البيت الكبير .. أيقظها يداعب وجنتيها الرقيقتين بمُلاطَفَة ففرّجت جفنيها تسأله هامسة (الولاد لسه نايمين؟)

+


بالكاد تحكّم في نفسه وأجابها مبتسماً (هم وانتِ نمتوا طول الطريق) .. تراجعت قليلاً لتعتدل في جلستها باستحياء فتنهّد كابحاً مشاعره وأردف وهو يفتح الباب المجاور له (الدنيا بتشتي، والجو برد عليهم هنا) .. ثم نزل ليتفقد الصغيرين بحذر وجدهما مازالا نائمان بعمق شديد ، لحقت به وبادرت بخلع معطفها لتغطي به ريتاچ وحملتها بتَأَنٍّ ، بينما حمل ريان مصطفى يشدان خطوهما سريعاً نحو الداخل ومنه لأعلى حيث الغرف الدافئة .... توقف كلاً منهما أمام غُرفته مُحتارين أي باب يطرقا ، والاختيار كان لغرفة ريان تحسُباً لنوم ريهام في غرفة مريم وعدم صحة اقتحام خصوصيتها 

+


-(خلاص وصلوا) .. قالها كريم الذي مازال مُستيقظاً بقلق لخطيبته عبر الهاتف ، وتوجه بالسؤال لصديقه (كنتم فين يابني من الصبح؟)

+


وضع ريان الولد النائم على الفراش ثم تناول البنت من مريم لتجاوره قائلاً (كنا بنتعشى بره) 

+


أشار كريم للأطفال بتعجب (بتتعشوا ولا بتخطفوا عيال صغيرة؟) .. حكّ مؤخرة رأسه مُستكملاً ببَلاهة (ايه السرعة دي؟! ، انتم لحقتوا تخلفوا؟) .. تذكّر أنهما لم يتزوجا بعد وهتف باستنكار (مين دول؟)

+


مسح ريان وجهه براحتيه صاعداً بهما لرأسه وجاوبه بيأس (ابلع ريقك ياكريم ، وانا هافهمك كل حاجة) .. استأذنت مريم تاركة إياهما وانصرفت لتخبر ريهام بأمر الصغار ، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى عادت معها مجدداً .. وبحدقتين مُتسعتين تفحصّت الأخيرة الطفلين وبنظرة واحدة لوجهيهما عرفتهما إنهما " مصطفى وريتاچ" بُرعمين أخضرين من براعم وأبناء دار وسيلة.. لم تتمالك ريهام دموعها فجلست بجوارهما باكية بكَمَد (ياحبايبي ، دول متبهدلين خالص) 

+



        
          

                
قال ريان مُتأثراً (واضح انهم كانوا بيتعرضوا للعنف، فيه آثار حروق وجروح كتير فإيديهم ودراعاتهم)

+


رفعت ريهام كف مصطفى تدقق النظر به فانصدمت من المنظر وقالت وهي تقبله بحنان ممزوج بالحسرة (ان شالله ينضرب فقلبه اللي عمل فيهم كده) 

+


جاورتها مريم من ناحية ريتاچ ولم تكن أقل توجعاً منها قائلة وهي تمسد رأس الصغيرة النائمة (بكره ريان هاياخدنا يودينا لماما وسيلة)

+


انفرجت أسارير ريهام بشدة متسائلة (بجد ياريان؟)

+


أومأ لها إيجاباً (بجد ، بس لازم الولاد يستحموا ويغيروا هدومهم عشان يناموا مرتاحين)

+


تحدثت ريهام بحيرة (هانجيب لهم هدوم نضيفة منين دلوقتي؟)

+


تولّى كريم الرد (يلبسوا أي حاجة من عندي ولا من عند ريان) .. أنهى كلماته بابتسامة مُشجعة وشرع في البحث مع صديقه داخل خزانته عن بعض الملابس التي تناسب برودة الجو دون الإكتراث لفرق المقاسات الشاسع ، وبعد محاولات كثيرة استيقظ الصغار وما أن رَأَياها حتى تهللا بشدة ، ارتميا بين أحضانها وأشبعاها عناقاً وتقبيلاً ، غير مُصدقين أنها أمامهما ، ولطالما كانت ريهام لأطفال الدار أختاً كبرى وأقرب للأم وأكثر من كونها مُعلمة .. حثّتهما ليتحركا بمرح تصطحبهما نحو غرفتها هي ومريم استعداداً لأخذ حمام دافئ ، وتنظيف آثار تواجدهما بالشارع ، وأيضاً لفهم ما حدث معهما.. أطاعاها بتهذيب كما اعتادا قبل فاجعة دارهم ، واستطاعت انهاء المهمة على أكمل وجه بمساعدة مريم التي اغتسلت أيضاً من آثار السفر وبدلّت ثيابها مضطرة بطقم بيتي يخص ريان ، لأنها لم تجلب معها أي أغراض من السويس .. واستلقوا جميعاً فوق الفراش الوثير متدثرين بالأغطية الثقيلة ، مصطفى ينام على ذراعها وتحاوطه بالآخر ، وريتاچ تختبئ بين أحضان ريهام مستمتعة بمداعبتها لخصلاتها 

+


-(ممكن اعرف ولاد شاطرين زيكم كانوا بيعملوا ايه فالشارع بالليل كده؟!).. سؤالاً أصبغته ريهام باللُطف وجهته لهما والإجابة كانت من ريتاچ ببراءة تناسب صغر سنها الذي لم يتخطى الثمان سنوات (احنا هربنا من الدار عشان الست الوحشة بتضربنا وبتحرقنا) .. انفرجت شفتيها بهلع بينما شهقت مريم مصعوقة مما سمعته على لسان الصغيرة لكنها تداركت الأمر سريعاً 
قائلة (خلاص ياحبايبي ، مفيش ست وحشة تاني ، وهانروح كلنا بكرة عند ماما وسيلة) .. صاح الطفلين بسعادة غامرة فتابعت بطريقة طفولية (يلا نغمض عينينا وننام ، ونصحى بدري ، ونروح لماما بسرعة) .. 
أطاعاها بحماس وأطبقا جفنيهما وبالفعل غلبهما النعاس وخلدا إلى النوم في غضون دقائق .. نهضت بحذر كي لا تقلق نومتهما الهادئة لتخرج من الغرفة تاركة صديقتها برفقتهما .. وبالصدفة تزامن خروجها مع خروج ريان من غرفته بعدما بدّل ملابسه بملابس بيتية أكثر ثقلاً وراحة .. تسمّرت أنظاره عليها وفي تلك اللحظة لايملك سوى أن ينظر إليها مُنبهراً بصمت ، مكتفياً بمعجزة وجهها التي تقلب حياته رأساً على عقب كما قارب في إعصار .. اقترب منها يسألها بنبرة تهيم بها عشقاً (الحلو حبيبي رايح فين؟).. أخفضت بصرها بحزن ولم تجد إجابة ولا وصف لما يختلج صدرها من ألم ، رفع ذقنها بأطراف أنامله يتطلَّع لعينيها عزيزتيه ، والدموع المُتجمعة داخل محجريهما أخبرته بما لا تسطيع البوح به، مرّر إبهاميه عليهما فأغمضتهما وقال بعدما أدرك سر كآبتها دون أن تنطق (هايبقوا كويسين بإذن الله)

+



        
          

                
تحدثت مريم بصوت أقرب للبكاء (هربوا من المكان اللي راحوه بعد حريق الدار عشان كانوا بيضربوهم ويعذبوهم ، أنا مش مصدقة إن فيه ناس قلوبها حجر بالشكل ده) .. سكتت هُنيهة تقاوم غصة مسننة مزّقت جوفها (وياعالم ايه اللي حصل مع باقي الولاد)

+


احتوى ريان كفيها بين راحتيه قائلاً (معظم دور الأيتام فيها انتهاكات للأطفال أصعب من كده بمراحل ، دار وسيلة نموذج نادر واستثنائي وسطهم)

+


دعوة مقهورة خرجت من أعماقها (الله لا يسامح ولايرحم اللي كان السبب في تشريدهم) .. 

+


ردد وراءها مؤَمِنّاً وساد صمتاً مشحوناً بالحسرة بينهما لثواني قطعه هو بمزاح مُحاولاً تخفيف الأمر عنها (شكلك مسكَّر أوي وانتِ غطسانة جوه التي شيرت بتاعي)

+


بَسَطت ذراعيها أمام وجهها وأكمام السُترة الواسعة تغطي أصابعها وتصل لما بعدها بكثير قائلة (عاجبك منظري وانا عبيطة كده؟)

+


ضحك قائلاً (انا مابيعجبنيش فيكِ غير عبطك أصلاً) .. 

+


عبست تزم شفتيها بطريقة لذيذة جعلتها صالحة للأكل مُعترضة (هو ده بس اللي عاجبك فيا؟، ماشي ياسيدي شكراً)

+


جذبها من طوق ملابسها ببطء ليختصر المسافة بينهما قائلاً بتعابير يتقاطر منها الحب وأشياء أخرى (كُلّك عاجبني ياوَلا) .. أهدته ابتسامة حُلوة وتقاسيمها الطفولية المُختلطة بالأنوثة تتعب شبابه الأخضر ، ويشعر بأنه يحتضر أشد أنواع الإحتضار أمام سطوة فِتنتها فتأوه بخفة مُستطرداً (الإنسان ماسك نفسه بالعافية وعايز يتجوزك حالاً)

+


أسبلت هُدبيها بخجل ووجنتيها أصبحتا حمراوتين كثمرتي رُمان شهيتين قائلة (روح نام ياريان ، الفجر قرب يأذن)

+


رد عليها بثبات زائف (هاصليه وانام)

+


فركت أصابعها بتوتر قائلة (تقبل الله مُقدماً)

+


-(عقبال ما اصلي بيكِ إمام يوم فرحنا) .. قالها ببسمة مُتأنية بادلته إياها بأخرى أكثر براءة قائلة (اللهم آمين) .. تناءت عنه خطوتين ميممة مقصدها نحو غرفتها مجدداً وقالت ببَشاشة (تصبح على خير ياكتكوتي)

+


ثانية واحدة فقط استغرقها ليستوعب أنها تدلله فعَرُضَت ابتسامته أكثر قائلاً (وانتِ من أهل كتكوتك ، ياعيون كتكوتك) .. وقف مكانه مُتسمراً يراقب دخولها إلى الغرفة ، وطنين نبضه الخافت يدفئ ليل شتائه البارد ، يكاد يجزم الآن أن قلبه سيموت أثر الاشتياق و.... والاشتهاء إذا ما عَجّل زواجهما واجتمع بها تحت سقف واحد في الحلال بأقصى سرعة ، انتظر حتى توارت تماماً عن أنظاره وأغلقت الباب ثم تحرّك وثغره ينفرج شيئاً فشيئاً يشعر بسعادة ممزوجة ببلاهة ليست من صفاته وكلمة (كتكوتي) تتردد في آذانه ، ريان! .. المهندس ريان زين الدين! .. صاحب الثمانية وعشرون عاماً صار كتكوتاً ، وما أجمل أن يحولك الحب بكامل إرداتك من إنسان كبير ، عاقل ، مُتزن ، على مشارف عبور العقد الثالث من عمرك إلى كتكوت أحدهم ، ويجعلك تقفز فرحاً وتبتسم باتساع من الأذن للأذن لكونك أصبحت كتكوتها .. " كتكوت مريم"...

+



        
          

                
*****************

+


في السويس /

+


خرجت أميرة من حمام غرفة نومها ممسكة بشئ صغير ، مرسوم فوقه خطين باللون الأحمر يؤكدان شكوكها التي راودتها منذ أيام ، وقفت أمام المرآة تتأمل هيئتها الجميلة ، تُعدّل من هندامها الأنيق وتنظر لقوامها الملفوف بقميص أبيض حريري يحبه يوسف كثيراً ودائماً يطلب منها ارتدائه ، ثم خرجت لتتفقده وجدته نائم بجوار ولدهما ويحيطه بذراعيه بينما تستقر كف الصغير على وجه أبيه.. حاولت إيقاظه بحذر كي لا تقلق "عبدالرحمٰن" فانقلب على جانبه الآخر وجذبها سريعاً لتستقر بين أحضانه 

+


-(بالراحة هاتصحي الولد) .. همستها بصوت خفيض فقربها منه أكثر ينثر قبلات رقيقة أسفل عنقها مروراً بكتفها قائلاً بنبرة ناعسة (وحشتيني) 

+


استدارت لتقابل وجهه المَليح بعينيها العاشقتين قائلة بحنوها المُعتاد (العشا جاهز)

+


-(مش جعان)

+


-(انت ما اتغدتش أصلاً)

+


-(عايز انام)

+


-(بطل دلع) .. قالتها مصبغة كلماتها بجدية زائفة ، تمارس أمومتها عليه وقت اللزوم ، وتكن له صاحبة وأخت ورفيقة درب حينما يحتاج لدليل يرشده لمعرفة الصواب من الخطأ ، وفي فراشه تتقن لعب دور العشيقة وتخلع ثوب الطبيبة الوقورة عنها لترضيه وتشبعه حد الامتلاء ، باختصار أميرة زوجة مُحبة ، مُهتمة ، مُراعية ، وصالحة .. صالحة جداً كما قال الكتاب .. أطاعها بتذمر طفيف ونهض من نومته بإرهاق شديد جرّاء السفر ليغسل وجهه طلباً للاستفاقة ، وفي غضون دقائق كان يجلس معها على طاولة الطعام .. لكنها لاحظت انشغال باله وكأنه يحمل هماً جديداً لا تتبين كُنهه فسألته بتوجس (بتفكر فإيه ياحبيبي؟)

+


أجابها بشرود (الحاج زين ، جد مريم عايزنا ننقل حياتنا القاهرة)

+


أمسكت كفه تقول بابتسامة هادئة (مفيش مشكلة ، لو ده هايكون في مصلحة مريم)

+


تطلّع إليها مندهشاً (انتِ موافقة؟)

+


قالت بحب كبير (أي حاجة هاتريحك وتخليك مبسوط أنا موافقة عليها)

+


سكت لثواني يحاول استيعاب عظمة تلك المرأة ، يتسائل أي خير فعله في حياته ليرزقه ربه بها؟! ، وبهدوء قام من مكانه وسحبها ثم جلس على الأريكة وأجلسها على حجره يحتضنها ويختبئ بين ذراعيها الحانيتين .. هُنا أمانه وطمأنينته.. سكونه وسكينته.. هنا تتجمع كل المودة والرحمة التي خلقها الله بين الذكر والأنثى .. هُنا يُقام جدار روحه ولا يُهدَم ولايُهزَم أبداً ..

+


-(أنا خايف) .. قالها يوسف مُطبقاً جفنيه فاستفسرت باستغراب (من إيه؟)

+


أجابها مُتشبثاً بها أكثر (خايف أكون بظلمك معايا)

+


طبعت قُبلة عميقة فوق خصلاته قائلة (أنا اشتكيت من حاجة؟)

+


أبعدها عنه قليلاً واستقر برأسه على صدرها كما يفعل صغيرهما وقال (مش لازم أستناكِ تشتكي ، انتِ وقفتي جنبي فأصعب أوقات حياتي ، وقبلتي تتجوزيني بكل همومي ومشاكلي ، ومابتسيبيش حاجة حلوة فالدنيا إلا وبتعمليها عشاني ، أي تضحية تانية منك هاتحسسني إني أناني)

+



        
          

                
مسدت شعره قائلة (وانا ياسيدي مبسوطة وراضية ، ومستعدة أفديك بروحي كمان) .. استقامت في جلستها محاولة اظهار بعض الجدية في حديثها (بص بقى ، احنا لازم ندور على شقتين فالقاهرة)

+


تسائل بحيرة (شقتين؟! ، ليه؟!)

+


جاوبت بسعادة (واحدة نعيش فيها ، والتانية نفتحها عيادة ، ولا انت مش عايز تشاركني يادكتور؟)

+


رد يوسف مبتسماً (هو انا بعرف أشتغل إلا ونَفسِك معايا فالعيادة ياعمري؟)

+


بادلته ابتسامته بأخرى مُتحمسة (خلاص بكره نتوكل على الله ونقدم استقالتنا من المستشفى)

+


تحدث مُستفهماً (ومامتك؟ ، هاتوافق تيجي معانا؟)

+


-(ماما هاتفرح جداً ، وماهتصدق تسيب السويس، انت عارف بعد موت بابا عماتي واعمامي كرهوها فالبلد واللي فيها ، ويمكن لما تغير جو صحتها تتحسن)

+


-(وبالنسبة للماديات؟)

+


-(هاتتدبر ماتقلقش)

+


-(ماتنسيش جهاز ريهام) .. صمت لبُرهة وأضاف ماطاً شفتيه بتبرّم لتأكده من نية ريان على الزواج من شقيقته آجلاً أم عاجلاً (ومريم)

+


ضحكت قائلة (ماتشيلش هم يا ابو البنات ، عندنا اللي يكفي وزيادة)

+


شاركها الضحك قائلاً (تخيلي ابقى رايح اجيب حق اختي واخرب بيت اللي آذاها ، فاسيبها معاه في نفس البيت اللي كنت رايح اخربه ، انا فالسن ده يتنصب عليا؟) .. تعالت ضحكاتها بشكل أذهب عقله ولطالما كانت ضحكتها نقطة ضعفه فضمها إليه قائلاً بنبرة ذات مغزى (ماتيجي نخاوي عبدالرحمٰن؟)

+


عضت شفتها السُفلى قائلة من خلفه (أنا حامل)

+


تسمّر للحظات ثم قال بعدم استيعاب (انتِ بتحملي عالسيرة؟!)

+


خبطته بخفة على كتفه قائلة بحنق لاستغبائه (انا حامل بجد).. استقامت واقفة تقول بخجل فطري (في شهر وإسبوع) .. تبعها مُبتهجاً بشدة وسحبها لحُضنه مرة أخرى قائلاً بفرحة عارمة (الله ، ايه الخبر الحلو ده؟)

+


رفعت أنظارها تطالعه بهُيام قائلة (عيلتنا بتكبر يا يوسف)

+


نظر إليها بلهفة كمن ينظر لأول دُنياه ومنتهاها قائلاً (عيلتنا بتكبر بيكِ ياست البنات ، ربنا يبارك فيكِ ويقومك لنا بألف سلامة يارب)

+


طوقت عنقه بدلال (عايز بنت ولا ولد؟)

+


أجابها مُداعباً وجنتها الرقيقة (عايزك بخير ، وبعد كده أي حاجة مش مهم) .. انتبه لما ترتديه فالتمعت عينيه ببريق إعجاب واضح غامزاً (انتِ عرفتِ إنك حامل قبل ماتلبسي القميص ده ولا بعد مالبستيه؟)

+


جاوبت بضحكة خافتة (قبل ما البسه) .. 

+


أحاط جانب وجهها بكفه والآخر يتراقص على خصرها النحيل قائلاً (أهي دي فايدة ان الواحد يتجوز دكتورة) .. أنهى جملته بزفرة ساخنة تبعها احتواء لشفتيها الرقيقتين بقبلة تداخلت فيها أنفاسهما ، يتمايل بها كفراشة خفيفة ، قاطعاً المسافة من صالة المنزل الواسعة إلى غرفة نومهما نحو شرنقتهما الخاصة الأوسع من العالم أجمع ... 

+



        
          

                
*****************

+


صباح اليوم التالي/

+


أشرقت الشمس برّاقة أكثر من أي يوم مضى ، لتضئ صدر النهار الخمري بجدائلها الذهبية ، وأشعتها تنثر حُنوها الدافئ في الأرجاء مُعلنة عن قرب انتهاء آخر أيام الشتوية .. تعمد ريان الاستيقاظ مُبكراً رغم نومه البارحة في وقت مُتأخر ، أنهى روتينه المألوف ثم خرج من غرفته وعينيه مُعلّقة بباب غرفتها ، وعقله يحاول تصديق أنها هُنا .. "مريم" نائمة هُنا ولايفصل بينهما سوى جدار ، ارتسمت بسمة والهة فوق ملامحه ولسان حاله يهمس بين أضلعه (العُقبى لننام ولا يفصل بيننا إلا أنفاسي والغطاء ياعيون ريان) .. هبط الدرج بخطوات مُتمهلة يضبط ياقة قميصه أسفل سُترته الصوفية الثقيلة ، منتشياً برائحة المخبوزات اللذيذة التي تُعدها نجاة ، ولأول مرة منذ قرابة العامين يشعر بشهيته مفتوحة للطعام ، ورغبة في تناول كوب شاي مُعطر بنبتة النعناع رغم حُبه الأبدي للقهوة..اتجه مباشرةً شَطر المطبخ ظناً منه أن مربيته الغالية بمفردها لكنه وجد العائلة مُجتمعة ومعهم هيثم حول الطاولة المتموضعة في المنتصف ، يتبادلون الأحاديث الطيبة أثناء تناولهم فطورهم الصباحي .. قرأ السلام عليهم بنبرة رخيمة ثم دنا من جده يقبّل رأسه وكفيه مستفسراً عن صحته فطمئنه بحبور وابتسامة هادئة ثم اتخذ مقعداً بجوار والده قائلاً بمرح (متجمعين عند النبي)

+


تولت جدته الرد عليه مبتسمة (ونكون صُحبة ياحبيبي بإذن الله) .. 

+


ناولته نجاة طبق أعدته من أجله مُسبقاً قائلة بمشاكسة مُحببة (الجميل صاحي بدري ليه؟)

+


أجابها بهدوء وهو يأخذ الطبق منها (عندي مشاوير مهمة انهاردة)

+


سأله هيثم بحنق طفيف بعدما ارتشف بضع قطرات من فنجان قهوته (هاتيجوا مقر الشركة الجديد انهاردة انت والبيه اللي لسه نايم؟ ، ولا هاتسيبوني لوحدي زي امبارح؟)

+


رد عليه ريان بضحكة لطيفة (انا عن نفسي هاسيبك ، شوف كريم بقا ظروفه ايه)

+


تدخل سعد في الحديث (على فكرة الشغل على بعضه فالشركة القديمة)

+


شرع ريان في الأكل يقول (ليه؟، البشمهندس الكبير كان بيعمل ايه وانا مش موجود؟)

+


قال سعد بتبرير (هو انا كان فيا دماغ للشغل؟)

+


وجّه ريان طلباً لنجاة (اعمليلي كوباية شاي بالنعناع يانوجا ، عشان افوق للمرازية اللي عالصبح دي) .. امتثلت مُربيته لمطلبه بترحيب بينما أضاف هو بتوجس (بالمناسبة احنا عندنا ضيوف مع مريم وريهام فأوضتهم) .. انتبه الجميع له فبدء بسرد أحداث الليلة الماضية وخروجه برفقة مريم وصدفة لقائهما بالصغيرين "مصطفى وريتاچ" .. شارحاً حالتهما المُزرية وتعرض الطفلين ، اليتيمين للاعتداء بالضرب والحرق داخل الدار التي تم نقلهما إليها عقب كارثة دارهما..

+


-(لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم) .. رددها الحاج زين بحزن كبير مستطرداً (ده ربنا بيقول 
"فأما اليتيم فلا تقهر" حسبنا الله ونعم الوكيل في كل من آذاهم) .. 

+



        
          

                
-(الله الله في الأيتام، فلا تُغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم) .. وصية من وصايا سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه نطقها سعد بتأثر واستكمل (إياك وكسر قلب اليتيم)

+


أكمل الحاج زين القول المأثور (فإذا فعلت ، فأبشر بالفقر وميتة السوء) .. سكت لثواني ثم أردف (وأكبر مثال ، چيسي ، ماتت ميتة سوء لأنها أذنبت في حق أيتام) .. وزّع بصره بين الكُل موضحاً (القصاص فالدنيا يُسقط العقوبة فالآخرة ، وهي ربنا حقق فيها وعده ، وسلّط عليها نفس الشيطان اللي وَزّها ترتكب جريمتها ، وقتلت روحها عشان تموت شايلة الذنب) .. وعلى ذكرها اختفت ابتسامة هيثم ويبدو أن كلام الشيخ العجوز أصاب بؤرة مشاعر موبوئة ، مازال يحاول التخلص من آثارها بداخله وبتهذيب تام استأذن بالانصراف متعللاً بضرورة متابعة الأعمال المُتراكمة في مقر الشركة الجديدة منذ أمس .. رافقه ريان عندما أحس بضيقه رغم ادعائه الظاهري باعتيادية الأمر 

+


-(ماتزعلش من جدو، هو مش قصده يضايقك) .. قالها ريان بأسف طفيف أثناء مرورهما بالحديقة ومنها إلى الخارج 

+


رد عليه هيثم مُبتسماً بشئ من الألم (عارف ياريان ، بس حاسس بالذنب)

+


توقف ريان أمام سيارته يبادله ابتسامته بأخرى تحمل الكثير من الأمل (لسه عندك فرصة تصلح غلطك ، طول ما ربنا مادد في عمرك ومسخر الوقت ليك عشان تكفر عن ذنبك)

+


فكّر هيثم لبُرهة ثم سأله (انت رايح فين؟)

+


جاوبه (هاشتري لبس جديد لمصطفى وريتاچ ، تيجي معايا؟)

+


وافقة بترحيب شديد (ياريت)

+


ابتهج ريان كثيراً وأحس أنه يود التشبث بيد تسحبه من غيابات نفسه الغارقة في الشعور بالتقصير ، ويحاول قدر استطاعته أن يكون له تلك اليد ليخرج به نحو بر آمن .. استقلا السيارة معاً هو خلف المقود ورفيق الدرب الجديد بجواره ، وانطلقا سوياً قاصدين أحد المولات الكبيرة ، وأثناء متابعته للطريق لاحظ ضحكة خافتة مصدرها هيثم فاستفسر باسترابة (بتضحك على ايه؟)

+


أجاب هيثم مستمراً في الضحك (تخيلت شكل كريم لما شاف ريهام) ..

+


تعالت ضحكات ريان قائلاً (كريم ده مصيبة على بلد أقسم بالله)

+


تسائل هيثم بمرح (تفتكر عمل اللي كان بيقول عليه)

+


قال ريان (أكيد عمل ، انا عارف دماغه)

+


غمز هيثم بمشاكسة (وانت؟)

+


زفر ريان (لا، بس نِفسي)

+


قهقه هيثم بشدة حتى أدمعت عيناه فتابع هو بغيظ متوقفاً بالسيارة أمام المبنى التجاري المقصود (انزل ياهيثم ، انزل منكم لله كلكم)

+


ترجل هيثم يقول بحنق (وانا مالي ياعم ، انت اللي نحس)

+


تبعه ريان قائلاً بيأس (مش نحس ، انا فيه حد عاملي سحر إسود).. 

+



        
          

                
حثه هيثم على التحرك ليدخلا أحد المحلات المتخصصة في بيع ملابس وأغراض الأطفال مازحاً (عندك حق والله ، دي مش حياة انسان طبيعي أبداً) .. 

+


تواصلت حالة الشد والجذب الخفيفة بينهما أثناء جولتهما بين المحال التجارية التي استغرقت وقت ليس بقليل ، ثم رجعا للسيارة ليسلكا طريق العودة إلى المنزل مجدداً بعدما ابتاعا الكثير من الملابس والألعاب والأشياء اللطيفة .. وعلى صعيد آخر استيقظت مريم لكنها فضلت المكوث بغرفتها ، خجلاً من منظرها الغير مُرتب وهي ترتدي ملابس ريان .. وللأسف لم تستطع تبديلها لأن ملابسها ابتلت أثناء تحميمها للصغيرين اللذان مازالا نائمان بعمق بين أحضان ريهام ... وبينما كانت تجلس بحالة مُرتبكة، حائرة ، تفكر كيف ستتصرف في تلك المُعضلة استرعى انتباهها صوت طرقات رتيبة على الباب ، نهضت بتثاقل لتستكشف هوية الطارق الداعي فإذا به يقف أمامه بكامل بهائه ووسامته ، وابتسامة حُلوة تليق بملامحه الشبيهة بنسيم الصُبح العليل ، ألقى التحية بنبرة عذبة فأجابته بنظرات مُنبهرة ، مُعلقة بوجهه 

+


(انا جيبت الحاجات دي للولاد) .. قالها ريان وهو يمد يده إليها بالحقائب المملوئة بالأغراض..تناولتها ثم شكرته باستحياء ، لكنه أخرج حقيبة مُنفردة بها شئ اشتراه خصيصاً من أجلها ثم أعطاها لها قائلاً (ده عشانك) .. أخذتها منه وفضولها يظلل مُقلتيها فأضاف رافعاً حاجبيه بتعبير غاية في اللُطف (مش متعود اشوفك لابسة بنطلون ، الفساتين بتكون أحلى عليكِ)

+


أدركت مقصده وفَطِنت أنها اشترى لها فُستاناً فأحست براحة كبيرة لأنه حَلّ لها المشكلة التي كانت تواجهها منذ قليل وقالت بسعادة (شكراً ياحبيبي)

+


اقترب منها يتلفت يميناً ويساراً هامساً (كتكوتي ، قوليلي ياكتكوتي) .. ضحكت فأردف يحذرها بخفوت (بالراحة هايسمعونا) .. 

+


أهدته ابتسامة مليحة قائلة (شكراً ياكتكوتي)

+


بادلها ابتسامتها بأخرى أكثر ولهاً (البسي ولبسي العيال بسرعة يانن عين كتكوتك) .. امتثلت لأمره اللذيذ وعاودت الدخول للغرفة مُغلقة الباب خلفها بضحكات متعالية ، فجملته توحي كأنهما زوجان بالفعل ولديهما أطفال ، أما هو اتجه نحو الحديقة حيث أفراد العائلة جالسين ، استقبله كريم الذي استيقظ منذ قليل بالصياح الحانق (انت ازاي تسيبني نايم لحد دلوقتي؟)

+


رمقه ريان باستنكار قائلاً (ما اسيبك عادي ، هو انا مراتك؟) .. 

+


اتخذ مقعداً بجوار والده فقذفه كريم بميدالية المفاتيح يقول بغيظ (يعني كنت هاتتشل لو صحيتني معاك؟) .. 

+


خبط ريان بأطراف أصابعه بخفة على مقدمة رأسه قائلاً (ولااا ، انت مش خطبت؟ ، اطلع من دماغي وخلي خطيبتك تصحيك)

+


تدخل هيثم قائلاً بيأس (اظبط منبهك ياكريم وماتصدعناش عالصبح)

+


أيده ريان يقول لصديقه بسماجة قاصداً إغاظته (سمعت، ابقى اظبطه بدل ما اظبطك انا)

+



        
          

                
تسائلت الجدة فاطمة (مالكم ياولاد؟ ، شادين حيلكم عليه كده ليه؟)

+


أجابها ريان بامتعاض (أصلك ماشوفتيهوش امبارح وهو قاعد قصاد يوسف زي البت البايرة ، وسايبه ياخده غسيل ومكوة)

+


تحدث كريم مدافعاً عن نفسه (كنت عايزني اعمله ايه؟ ، ثم إني شاري ريهام ، والشاري مابيدورش يا ابن الأصول) .. 

+


نظر له ريان شزراً يشعر بالغيرة على صديق العمر الذي ستسرقه منه ساحرة شمطاء تُدعى ريهام (تمام ، خليها تنفعك)

+


رفع كريم حاجبه متزامناً مع شفته العلوية قائلاً (وده من ايه ان شاء الله) .. 

+


غمز له سعد قائلاً لريان بمرح (ماتقلقش ، كركورك هاينظم وقته مابينك وبين خطيبته)

+


لوح ريان بذراعيه فالهواء قائلاً (خلاص ، من انهاردة مابقاش كركوري ، بقا كركورها)

+


نهض كريم من مكانه ثم اقترب منه يدغدغه مازحاً (انتِ حمارة غيرانة على كركورك) .. أزاح ريان يده بملامح ممتقعة ولم يرد بينما انتبه جميعهم لقدوم مريم ويتبعها ريهام والصغيرين .. تعلّقت أحداقه بوجهها النَضِير و إطلالتها المُؤنقة، والثوب الذي أهداه إليها يلف عودها كالغُصن ويشده فاقتلع روحه من موطنها ، شرد فيها قليلاً وكُلّه لكُلّها مُشتاقُ، وكأنه صائم طيلة شهر مبارك يشتهي ليلةُ العيد .. أقبلت عليه باستحياء وبصوت هادئ ، رقيق ألقت التحية ، فخرجت (صباح الخير) من شفتيها منغومة ..

+


-(صباح الورد) .. قالها ريان بعذوبة وأهدابه تنْقُلُ الخَطْوَ على ما يُرْسَمُ من تقاسيمها بعينيه عاشقتيها .. .. استقبلها الجد زين فارداً ذراعيه لتستقر بينهما كما كان يفعل مع والدتها رحمها الله قائلاً بسعادة (يسعد صباحك يا غالية يابنت الغالية)

+


عانقته مريم لثواني مبتسمة دون حديث ، ثم ابتعدت عنه برفق ، فجذبتها جدتها لتحتضنها قائلة (اسم الله عليكِ ياضنايا ، زي البدر المنور) .. 

+


تحدث سعد وهو يتأملها بحنان ممزوج بالتعجب للشبه القوي بينها وبين شقيقته الراحلة (سبحان الله ، انتِ فولة واتقسمت نصين من ليلىٰ الله يرحمها يامريم)

+


تَرَحَّمَت مريم على أمها بتهذيب يشوبه حزن خفي وهي تستقيم بوقفتها مُتنائية عن حُضن جدتها (الله يرحمها) .. بينما رَحّب الحاج زين الدين بريهام التي تلقت المُباركات الودودة على خطبتها ثم انتقل الترحيب والمُلاطفة للصغيرين المُلاصقين لمعلمتهما بخجل وخوف .. 

+


بادر كريم بمشاكستها قائلاً (مفيش صباح الخير ياخطيبي؟)

+


ردت ريهام بخَفَر شديد (صباح الخير)

+


أمسك كفها يجذبها لتقف بجواره قائلاً بنظرات مُسلطة على ريان (تعالي جنبي ياخطيبتي ، ياحبيبة قلبي)

+


سألته بتعجب من طريقته المبالغ فيها (مالك ياكريم ، انت عيان؟)

+


تولّى ريان إجابتها مُحدجاً إياه بشماتة (معلش ، هو ملزق شوية بس هاتتعودي ان شاء الله)

+



        
          

                
لكزها كريم في كتفها قائلاً بحنق (عاجبك كده؟)

+


ردت له الخبطة تصك أسنانها هامسة (الناس قاعدة) .. قاطعت الجدة فاطمة حالتهما المُسلية ضاحكة وهي تنهض من مكانها (تعالوا ياولاد عشان تفطروا) ... لكن هيثم استوقفها مُتطلعاً نحو الطفلين بمشاعر يملؤها التعاطف والحنو (خليكِ مرتاحة ياتيتا ، أنا هافطر الحلوين دول) .. استقام ليقف أمامهما ثم انحنى على عقبيه قائلاً للولد بلِين (إسمك ايه ياحبيبي؟)

+


أجابه الصغير بخفوت (مصطفى) .. وأضاف مشيراً لرفيقته (ودي ريتاچ)

+


داعب وجنتيهما بمرح قائلاً (الله! ، أساميكم جميلة اوي) .. اعتدل في وقفته ممسكاً بكفيهما متابعاً (يلا بينا نفطر ..)

+


قاطعته ريتاچ (عايزين نروح لماما وسيلة)

+


قال هيثم مبتسماً (هانروح ، بس لازم ناكل كويس الأول)

+


أطاعاه الطفلين بحماس وسألته ريتاچ بطريقة طفولية مُحببة (انت إسمك إيه؟)

+


حملها يقول بسعادة لم يشعر بها منذ وقت طويل (إسمي هيثم)

+


تحدث مصطفى وهو يسير بجانبهما (بس انت كبير ، وميس ريهام قالتلنا أي حد كبير مش نقوله بإسمه عشان عيب)

+


التفت هيثم إليه قائلاً باستحسان لتربيته السليمة رغم ظروفه الاستثنائية (صح، براڤو عليك)

+


-(انا هاقولك يابابا) .. قالتها ريتاچ بعفوية مُتعلقة بعنقه فأحاط جسدها الصغير تلقائياً والكلمة ترّن رنين الأجراس داخل قلبه وعقله 

+


-(بابا ايه ياعبيطة؟! ، احنا مش عندنا بابا) .. رد مصطفى عليها مُتذمراً لبلاهتها كما يعتقد .. أجلس هيثم ريتاچ فوق المنضدة الموجودة بالمطبخ ورفعه أيضاً ليجاورها قائلاً (أنا كمان مش عندي بابا)

+


سألته ريتاچ ببراءة (بابا بتاعك مات؟)

+


اتخذ مقعداً قبالتهما يقول (لا ، بابا بتاعي عايش ، بس مسافر بعيد)

+


تلاعبت الصغيرة بطرف ثوبها الجديد بينما قال مصطفى بحيرة (يعني احنا نقولك ايه دلوقتي؟)

+


هتفت ريتاچ (بابا)

+


ضحك هيثم مِلأ فمه (وانا موافق) .. قال لمصطفى الذي يبدو عليه عدم الرضا من سذاجة صديقته (اتفقنا يادرش؟) ..أومأ الصغير إيجاباً دون حديث فوجه طلباً لنجاة التي تراقب المشهد مُتوسمة الخير فيه (بعد إذنك ، ممكن تحضري فطار للولاد؟)

+


سارعت نجاة لتلبية طلبه تقول بابتسامة حانية (من عينيا ياحبيبي) .. بادلها ابتسامتها بأخرى ممتنة ، يوزع نظراته بين الصغيرين .. يرى بهما إختلاف أطوار الحياة ، طفولتهما تلزم أحلام صباه بالصحو ، وبراءتهما مرّت مرور غيث على أرض شَقَّقها طول انقطاع المطر ، وكلمة "بابا" التي سمعها لأول مرة منهما أنارت دواخل ظنها أظلمت بقلبه تاركة أثراً سعيداً ... سعيداً للغاية .. وعقب دقائق قليلة تبعهم كلاً من ريهام ومريم بعد إصرار شديد من الجدة فاطمة ألا يغادر أحد قبل تناول وجبة الإفطار...

+



        
          

                
************

+


مابين مُعترك ماضيها ومُؤْقُ عَيْنِيها التي لم تجف منها العَبرات ، تجلس في مكانها المُفضل أمام نافذة غُرفتها الواسعة ، تقيم مراسم تشييع أوراقها المُتساقطة ، منتظرة انتهاء هذا الخريف الذي لوّن أرض عمرها بكآبة اصفرار رياحه ، هكذا كانت أيامها تمضي منذ عودتها ، اختناق يقتل الصمت ، وصمتها موحش بقدر حلاوة ذكرياتها ، صمت يتخلله موسيقى بيانو مريم ، وصوت ضحكات ريهام ، ووجوه أحبابها الصغار ، وروائحهم ، وحركات أيديهم التي نحتت أمومتها العظيمة .. وآه من أن تتعايش مع مكتبة كاملة من الصور داخل جمجمتك ، وأن يصبح عمرك عبارة عن أرشيف سنوات تستحضر فيه كل شيء يقتلك ، وتعد كم يوسف فقدت وأنت لا تمتلك من أمل يعقوب إلا ابيضاض عيناه ، ثم تستسلم وتضع رأسك عند زجاج النافذة ، وحيداً تماماً كما يليق بمُحارب فقد سيفه أثناء المعركة ويعيش مُهملاً في غِمده .. "وسيلة" .. "السيدة وسيلة" .. الأم ، الوسيلة ، الحُظْوَة ، الحُجَّة ، خير قُدوة أنهكها الفُراق والحزن و... الوحدة ، وتفكر جدياً في هجرة بلا رَجعة ، ولا تعلم أن القدر يسوق لها هديته ملفوفة بسلوفان الاشتياق ... وأثناء مكوثها بغرفتها تقرأ وردها اليومي من الذِكر الحكيم ، دخلت عليها "كريمة" الفتاة التي تساعدها في أعمال المنزل ، والتي تستأنس بوجودها خلال ساعات النهار الطويلة تقول بابتسامة بشوشة وتهذيب (في ناس برة ، عايزين يقابلوا حضرتك يا أستاذة)

+


خلعت السيدة وسيلة نظارة القراءة الخاصة بها متسائلة بتعجب (مين؟)

+


أجابت كريمة (بنتين كبار ومعاهم شاب ، وطفلين صغيرين) .. أسندتها عندما حاولت النهوض متابعة (أنا دخلتهم الصالون)

+


-(خير ما عملتِ يابنتي) .. قالتها وسيلة وهي تتحرك معها نحو غرفة الضيافة ، وما أن أطلت من دُفتي الباب ووقعت أنظارها على الزائرين حتى أحست بساقيها تهتزان ..وقلبها يرتجف ويركض ليعانقهم ، والمبادرة بالاقتراب كانت لهم ودموعهم تسبق الكلمات ، وبدون مقدمات تشبثوا بأحضانها الواسعة بحثاً عن أمهم المفقودة .. عن وطن .. عن بيتٍ وصديقٍ ، فتركتُ العُكاز يسقط ووزّعت قُبلاتها وأحزانها وآلامها على وجوههم وأجسادهم الصغيرة .. 
-(ياحبايبي ، وحشتوني، كنتم فين كل ده؟) .. همستها وسيلة باكية بخفوت والرد الأول كان لمريم (وحشتيني ياماما ، وحشتيني اوي)

+


ضمتها وسيلة إليها أكثر تقبل رأسها قائلة (ياقلب ماما، ونور عينيها) .. بينما نطقت ريهام دافنة رأسها في صدرها الحنون (سامحينا ياماما ، والله احنا كان نفسنا نيجي لحضرتك بس الظروف منعتنا)

+


شددت وسيلة عناقها طابعة قبلة عميقة ، مُشتاقة فوق وجنتها (مش مهم ، المهم إنكم بخير ، وشايفاكم قصادي كويسين).. انتبهت لوجود الصغيرين الواقفين قِبالتها فانحنت تحملهما واحداً تلو الآخر لتتأكد من هويتهما فعرفتهما فوراً قائلة بذهول (مصطفى وريتاچ!) ..ثم احتوتهما بشوق كبير مستطردة (ياحبايب قلبي) .. استفسرت من الفتاتين (هم كانوا معاكم؟)

+


جاوبتها مريم بنظرات يملؤها الحنين ، تحاول استيعاب جمال تلك السيدة وعذوبة مُحيّاها (لا، قابلناهم صدفة امبارح)

+


بادلتها وسيلة نظراتها بأخرى مندهشة وسألت (انتِ بتشوفي يامريم؟)

+


أومأت مريم إيجاباً قائلة (دي حكاية طويلة أوي ، هانقعد ونتكلم فيها كلها مع بعض)

+


قاطعهم ريان يعاتب السيدة وسيلة بلُطف (مش هاتسلمي عليا يا أستاذة؟، ولا من لقى أحبابه نسى أصحابه؟)

+


فغرت وسيلة فاهها عندما أدركت حضوره تدعوه ليدنو منها قائلة بابتسامة فَرِحة (تعالى ياولا ، أستاذة ايه؟ ، قولي ياماما) .. استقبلته بذراعين مفتوحين على اتساعهما لتعانقه عناقاً ، طويلاً ، ممتناً وتابعت (أصيل وابن أصول ياريان)

+


ابتعد عنها قليلاً يقول ضاحكاً (وابن خال مريم كمان) .. 

+


-(انا مش فاهمة حاجة) .. قالتها السيدة وسيلة بحيرة بالغة فأردف ريان مُتفحصاً ساعة يده (البنات هايفهموا حضرتك ، للأسف مضطر استأذن عشان شغلي) .. التفت يقول لمريم (انا هاروح شركة بابا ، لو احتاجتي أي حاجة كلميني) ... أنهى كلماته بهدوء لينصرف كلياً ، مُتجهاً نحو شركة والده على وعد بلقاء صديقيه اللذان سبقاه إلى مقر شركتهم الجديدة لمتابعة التحضيرات ، تاركاً مليحته برفقة صديقتها المُقربة مع أمهما ، ومربيتهما ، ومعلمتهما الأولى ، ليسترجعن ذكريات ماضيهن القريب ، في جلسة مُطولة سيتم فيها سرد تفاصيل عامين كاملين من المُفاجآت والصدف الغير مُتوقعة ، كان هو بطلها الأول والأوحد والصُدفة الكُبرى للحكاية ....

+


****************

+



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close