رواية عيون الريان الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نيللي العطار
وَكُلُّ سَعيٍ سَيَجزي اللّهُ ساعِيَهُ
هَيهاتَ يَذهَبُ سَعيُ المُحسِنينَ هَباء
+
— أحمد شوقي —
+
****************
+
-(ذبحة صدرية ولازم يتنقل المستشفى حالاً) .. جملة مُرتعبة قالها الطبيب المُستدعى من الفندق بعدما أبعد الجميع عنه ليفحصه جيداً ، محاولاً إغاثته بوضع قرص "نتروجليسرين" تحت لسانه ليوسّع شرايينه ، لكن ذلك الدواء قصير المفعول رغم سرعة تأثيره ويجب نقله إلى المستشفى فوراً خاصةً أنه دخل في غيبوبة ، وهذا مؤشر خطر قد يودي بحياته إذا لم يتم التحرك بشكل عاجل لإنقاذه .. وبسرعة فائقة وصلت عربة الإسعاف وخرج من قاعة الزفاف محمولاً على ناقلة ، غائباً عن الوعي ، وسط بكاء الأهل وانهيار الأحباب ، ولافتة بيضاء تظهر من السماء أمام أعينهم مكتوب عليها بلون الدم (إحذر! ، مطب رحيل) .. وعلى الطرف الآخر وأثناء مغادرتهم للمكان الذي شهد الفضيحة المدوية وبالتوازي مع ابتعاد سيارة الإسعاف التي شقت الطريق كشعاع البرق ، وصلت السلطات الأمنية وبموجب بلاغ قدّمه هيثم للنائب العام ، مُرفق به جميع الأدلة التي تثبت الشبهة الجنائية وراء حريق دار وسيلة علوي ، وتورط محمود الصرّاف وابنته باعتراف الأخيرة خلال تسجيلات صوتية ومقطع مُصور تم القبض عليهما لينفتح ملف أُغلِق عنوة ويأخذ كل ذي حقٍ حقه ، وقبل ركوبها عربة الشرطة مُقيدة بالأساور الحديدية استوقفتها دينا تقول بشماتة (خدي بالك من نفسك يابيبي ، أصل السجن فيه حاجات وحشة أوي) ..
+
حاولت التملص من قبضة الشرطي الممسك بها تتهجم عليها صائحة (بتبيعيني ياكلبة يابنت الكلاب؟)
+
رفعت دينا سبابتها أمام وجهها تقول باستهانة (ده سب وقذف على فكرة) .. ثم خبطت بكفها على جبهتها تقول بشهقة زائفة (كنت هانسى أقولك صحيح ، الدكتور بتاع العملية إياها غلط غلطة صغنونة وعملك ربط) .. مطت شفتيها مستكملة بتشفي (وللأسف مفيش أمل إنك تخلفي، وهاتعيشي الكام يوم اللي فاضلين من عمرك ناقصة)
+
زمجرت چيسي بعدائية تهددها (هاقتلك يادينا)
+
ضحكت دينا قائلة باستخفاف (مش هاتلحقي ، حبل المشنقة اللي هايتلف حوالين رقبتك هايكون أسرع منك)
+
ردت عليها چيسي باهتياج بالغ (هاقتلك) .... جذبها الضابط بعيداً لينهي تلك المهزلة وتستقل عربة الشرطة ذات الصندوق الكبير وهي تصرخ بكلمة واحدة ، متوعدة (هاقتلك ، هاقتلك) .. أما دينا فوقفت تتابع تحرّك الموكب الأمني وصوت صافرات الإنذار يخترق الآذان ، عاقدة ذراعيها .. مبتسمة ابتسامة عريضة ، وأعينها مُغتبطة اغتباطاً شديداً ببليتها التي لن تخرج منها إلا جثة متأرجحة على حبل المشنقة ... بينما اقترب هيثم منها ليقف قبالتها متخصراً ، يرمقها بنظرات متفحصة من أعلى لأسفل وقال (ممكن أسألك سؤال؟)
+
أومأت له بموافقة (اتفضل)
+
-(انتِ عملتي فيها كده ليه؟)
+
-(عشان تستاهل)
+
-(ما انتم مخططين لكل حاجة مع بعض ، عايزة تفهميني إن ضميرك صحي فجأة؟)
+
-(أنا ساعدتها تبعد مريم عن ريان ، لكن ماخططتش لقتل حد)
+
-(برضه مش فاهم ايه مصلحتك من ده كله؟)
+
سكتت هُنيهة تستجمع رباطة جأشها ثم دَنَت منه خطوتين وتحدثت بصراحة (كنت عايزاها تختفي من حياتك بأي طريقة) .. لم يرد ، ولم يُصدم ، ولم يتفاجئ ، فالمرء على دين خليله ، وچيسي ودينا جليستي سوء تنطبق عليهما جملة (ونافخ الكِيرِ إِمَّا أَن يحرقَ ثِيابكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنه رِيحًا مُنتنَةً) .. فاستطردت ممسكة بمرفقه ومشاعرها تغالبها (أنا بحبك ، بحبك وبتمنى أعيش العمر كله تحت رجلك) ..
+
نفض ذراعها قائلاً بتعابير مشمئزة (انتِ رخيصة زيها بالظبط ، والشهادة لله يمكن أكتر منها شوية ، عالأقل مريم ماكنتش صاحبتها)
+
اغرورقت مقلتيها بالدموع هامسة (هيثم! ، اديني فرصة...)
+
قاطعها بملامح مُحتقِرة (ماتقلليش من نفسك ، وابعدي عني بهدوء ، لأني هاعورك ، وهاعورك جامد) .. أنهى كلماته بحزم وقوة ، ونبرة يشوبها تهديد لم يُخفى عليها .. وتَنَاءى بخطواته بعيداً عنها... يسير بمظهر رجل حَداثة مُتحضر ، وبداخله عربيد كهف جزار ، قلبه استحال ساطوراً حاداً ، يكسر العظام ويفرم اللحم .. زِنْدِيق الحكاية ، المُدنس بالخطايا ، أصبح زاهِد ولا يود إلا استراحة يستحضر فيها طيف نفسه ليقوّمها ويحصنها من شرور بنات حواء وإغوائهن ..
+
**************
+
فوق أرضية باردة ، موحلة بالطين أثراً لمطر كثيف كان يجثو منشغلاً بجمع أجزائه، يبحث عن قطعة ناقصة ، ربما فقدها أثناء ركضه هرباً من أفعى كبيرة هاجمته ونشبت أنيابها السامة في صدره .. تلك القطعة كانت قلبه.. ومن بعيد حيث بقعة نور انبجست من نافذة مفتوحة في السماء وصله صوت مُنغم يعرفه حق المعرفة ، يختلط بضحكات رائقة لصغار يلعبون ويتهامسون كالملائكة.. استقام واقفاً والمكان الخالي لقطعته الناقصة مازال ينزف ويبلل قميصه بالدم.. لم يستطع مقاومة إغراء النظر لأعلى فسحبه الضوء وتغير المشهد تماماً لجنّة جهاتها الأربعة مُسيجة برياض مُزهرّة كالبنان ، شمالها أشجار كروم وبيلسان ، وجنوبها خُزامى وزعفران ، وشرقها رفيف وريحان ، وغربها أوركيد وأقحوان .. وهي تجلس خلف البِيان بفستانها الأبيض الذي رآها به في لقائهما الأول، تعزف بأصابع كالبلور وتشدو منتشية والصغار حولها مثل الألماس المضئ يتقافزون فرحاً .. لمحته فابتسمت وغنّت
+
(ياطيرة طيري يا حمامة، روحي على بر السلامة) ..
+
فردد الأطفال خلفها بصوت واحد نفس الجملة مصفقين بكُفوفٍ مغزولة بالريش .. همسة خافتة بإسمها خرجت من بين شفتيه ، حملتها نسمة هواء طيبة لمسامعها فنهضت لتتقدّم منه وغنائها لم ينقطع
+
(ياطيرة طيري يا حمامة، روحي على بر السلامة) ..
+
أمسكت كفه فاحتضنها دافناً رأسه بين عنقها وترقوتها .. مسحت على ظهره تقول مطبقة جفنيها (روح على بر السلامة ياريان)
+
رد عليها بهدوء واستكانة (عايز اجيلك يامريم)
+
أبعدته عنها تحتوي وجهه بين راحتيها قائلة (هاجيلك أنا)
+
تحدث واضعاً يده على شقه الأيسر (مش لاقي قلبي ، وقع غصب عني)
+
سحبته لأحضانها مجدداً تلامس موضع قلبه الفارغ بكفها قائلة (قلبك الأخضر معايا ، اللي ضاع منك ده قلب تاني ماتدورش عليه)
+
دَفَعها برفق إزاء إحدى شجيرات البيلسان ليسندها عليها يقول بزفرة محمومة (غيابك موتني يانور عيني) .. وعندما همّ باقتطاف مبسمها ليقبلها منعته واضعة سبابتها على فمه قائلة (بلاش)
+
سألها بحيرة (ليه؟)
+
أجابته بفيضٍ من حب (البوسة في المنام فراق ، وكل ما بتبوسني بنتفارق أكتر)
+
-(ريان! ، تعالى هنا).. هتاف جاءهم من بعيد فانتبها إليه فإذا بصباح تقف حاملة الصغيرة سلمى ، ومْحاطة بهالة بيضاء صافية ، تلوح له مبتسمة، وتدعوه للذهاب برفقتها .. انتفضت مريم لتحجبه عنها قائلة بفزع (لا ، لسه بدري) ..
+
جاوبتها بوجهها النقي (سيبيه يرتاح يامريم) ... بينما أحس ريان برغبة في تلبية دعوة صباح ، وأن هناك على الطرف الآخر شيئاً جميلاً ينتظره ، وعندما حاول الحركة نحوها مُرحباً زجرته مريم وجذبته بقوة تصرخ به (ماتمشيش ياريان ، ماتسمعش كلامها) .. لم يستمع لها ونفض ذراعه من يدها .. وسار إزاء صباح بعقل مُطلسم كالمسحور ، وعندما وصل لمكانها مسحت بيدها على شقه الأيسر قائلة (لسه بدري؟)
+
أومأ نفياً مهمهماً (خلص ياصباح)
+
-(حسبتك غلط، فيه بقية)
+
-(مش عايزها)
+
-(ده قدر)
+
-(تعبني)
+
-(له حكمة)
+
-(مش فاهمها)
+
-(عدم فهمك رحمة)
+
-(هايرحمني؟)
+
-(رحمته وسعت كل شئ)
+
-(ماوَسعتنيش)
+
-(بيكتبها للمتقين الراضيين بقضائه ، ارضى ياحبيبي وهو هايجبرك ويرحمك)
+
-(خديني معاكم ، عايز أقابله)
+
-(لسه بدري)
+
-(ندهتيني ليه؟)
+
-(معايا أمانة ليك) .. ثم انحنت تحمل طفلة أخرى غير سلمى وأعطته إياها متابعة بتقاسيم هادئة (حافظ عليها)
+
تناول الصغيرة منها يُمعن التأمل في ملامحها الجميلة متسائلاً (اسمها إيه؟)
+
جاوبته وهي تستعد للانصراف مع أطفالها (ليلىٰ) ..
+
بعقل يترنح بين الرُؤًى ، والوعي ، وفقدانه كان ريان محتجزاً بأمر مُشدد من الأطباء داخل وحدة العناية التاجية الخاصة بمرضى الذبحة الصدرية ، يتدلى من جسده صمامات موصولة بجهاز تخطيط كهربائية القلب والذي يقيس إيقاع النبضات عن بعد ، وقناع التنفس يغطي وجهه المُتعب ويزود رئتيه بالأوكسچين .. والجميع ينتظرون إفاقته أمام الغرفة بصبر فارغ لكنه تأخر .. لا أحد يعلم أنه غارقاً بدون قشّة يتعلق بها لتنقذه ، يكاد يرى الموت يرتدي عباءته السوداء ، يطوف في الأركان والزاويا ، يترصّد بشغف الأمر الإلهي لقطاف روحه .. وبقائه على قيد الحياة حرباً غير مضمونة المكسب إذا لم يتجاوز مرحلة الخطر بإرادة قوية ..
+
ومع مرور الوقت لم يستطع كريم تحمل مراقبته من خلال الزجاج الشفاف.. وتوسل للممرضة كي تسمح له بالدخول ليجلس بجواره ، فامتثلت لطلبه بإشفاق على منظره المنهار ودموعه التي لا تتوقف بعدما أوصته ألا يطيل جلسته حتى لا تتأذى في عملها .. رهبة شديدة اجتاحته عندما اقترب من رفيق العمر وهو مستلقي لا يُحرّك ساكناً ، مُجرد بضعة أنفاس متألمة تخرج وتدخل لصدره المذبوح .. اتخذ مقعداً واِحْتَجَبَ جانبه ، يحتوي كفه البارد بين راحتيه..
+
-(أنا خايف ياريان، أول مرة من يوم ما عرفتك أخاف كده) .. انحنى ليستند بجبهته على طرف الفراش متابعاً برجفة ارتعاب تختلج كيانه (عشان خاطري قوم) .. صوت شهقاته المتقطعة اختلطت بذبذبات جهاز قياس النبض (لو بتحبني ماتسبنيش لوحدي ، ضهري هايتكسر ، أنا ماليش غيرك) .. كلماته تعبيراً حرفياً عن حقيقة يعيش بها وعليها.. ريان لكريم ظهر يقيه عراء حياته.. أب قبل أخ.. وأخ قبل صديق .. ورفيق درب طيب المَعشر .. ريان يقتبس ضوء النجوم من أجل كريم ، ويعطيه عينيه إذا طلب.. ويحبه حباً خالصاً ودعائه الدائم أن يرزقهما الله الصُحبة دنيا وجنّة .. وبينما كان يغالب قهره انتبه لأصابعه تتحرك حركة ضعيفة .. ضعيفة جداً لكنها حركة وهذا مؤشر مقبول .. تهلل كريم وابتسم.. إنه يقاوم.. ريان يقاوم .. ريان سيعود .. كان يعرف أنه لن يهون عليه .. ووالله لم يهُن كريم على ريان قط ولا يهون ..
+
-(ريان! ، انت سامعني؟) .. سؤالاً فرحاً كان رده إيماءة بسيطة بعينين نصف مفتوحتين فَخَرّ ساجداً ولسانه يلهج (الحمدلله يارب ، الحمدلله) ...
+
قاطع حالته دخول الممرضة تستعجله ليخرج من الغرفة قبل انتباه الطبيب المُعالج لوجوده فقال لها بفرحة عارمة (ريان فاق ، كلمته رد عليا) .. تجاوزته لتتأكد من صحة حديثه وبفحص بسيط عرفت أن المريض يحاول استعادة وعيه فدَنَت منه تقول بصوت خافت (بشمهندس ريان! .. انت سامعنا؟) .. إجابته تلك المرة أيضاً كانت صامتة لكنها مصحوبة بشبه ابتسامة .. ابتهجت كثيراً ثم شجعت كريم على الخروج معها لتنادي الطبيب .. استوقفهما سعد مخضوضاً خشية أن يكون أصاب ولده مكروه (ريان جراله حاجة ياكريم؟)
+
احتضنه كريم لا إرادياً يقول بسعادة (فاق ياعمي.. ريان فاق ورد عليا)
+
أطبق سعد جفنيه يقول براحة نسبية (اللهم لك الحمد والشكر يارب).. بينما تدخل الجد زين يقول برعشة طفيفة (خد مراتك وامشوا ياسعد ، وجودكم هنا هيأذيه)
+
والمبادرة بالرد كانت لرويدا التي لم تكف عن البكاء (انا مش هامشي غير لما اطمن على ابني)
+
تجاهلها الجد مُكرراً جملته بطريقة أكثر حزماً (خد مراتك وامشوا ياسعد ، مش عايز كلام كتير) .. نظر لوالده نظرة متوسلة فقابلها الحاج زين الدين بأخرى مُحذرة ولم يجد مفراً من إطاعته والإذعان لأمره.. التفت يقول لزوجته بمقلتين غائمتين (يلا يارويدا)
+
حرّكت رأسها نفياً تقول بعدم اتزان (مش هامشي واسيب ابني ، مش هاسيبه ياسعد ، مش هاسيبه) .. أحاط كتفها بذراعه يحثها على التحرك معه بصمت لكنها تشبثت بالأرض تقول بنحيب متوسل (أبوس إيدك ما تاخدش ريان مني تاني، والنبي ياسعد ، عشان خاطر ربنا) .. هكذا كانت تتوسله عندما تنتهي أجازتهما السنوية ويجبرها على السفر بدونه .. رويدا الظالمة، المُتجبرة ، المُتسلطة صنيعة زوجها .. قشرتها القاسية صنيعة زوجها .. أخطائها وكُرهها صنيعة زوجها.. حتى انتقامها من الجميع في ابنة ليلى صنيعة زوجها.. زوجها الذي ارتكب أبشع جريمة بحق أمومتها منذ أكثر من خمسة وعشرون عاماً والآن يجبرها أيضاً على تركه وهو مريض ويصارع الموت ..
+
وأخيراً استطاع النزول بها لحديقة المستشفى ، وإشفاقاً عليها وعلى نفسه قرر البقاء بالأسفل وعدم المغادرة كلياً ليطمئن قلبه ويراه واقفاً أمامه بكامل صحته مجدداً .. اختار مقعداً متوارياً عن الأنظار وجلس ثم أجلسها بجواره يضم رأسها لصدره ، اليوم هما بلا سند ، ولا هوية .. تائهين ، خائفين ، ناقصين ، عاجزين.. والصدع الكبير الذي شق جدار الرابط بينهما وبين ولدهما الوحيد لن يُرأب بسهولة وربما سيتسع أكثر .. صمت مقتول بالندم خيّم عليهما لدقائق قطعه سعد قائلاً بعتاب (أنا زعلان منك يارويدا ، انتِ قولتي انك هاتتكلمي مع مريم بهدوء ، ليه خدتي چيسي معاكِ؟)
+
ابتعدت عنه تجيبه بتوتر (عشان هي اللي عرفت بعلاقتها مع ريان)
+
استمر سعد في لومها (ده مبرر إنك تسيبيها تبهدل البنت كده؟ ، ويوصل بيها الجبروت إنها تقتلها؟)
+
تحدثت رويدا بحزن عميق (چيسي خططت لكل حاجة من ورا ضهري ، ولما حاولت أبعدها عن ريان هددتني تفضحنا وتقوله عاللي عملناه وهو مسافر)
+
تنهد سعد بمرارة (واهو عرف وخسرناه ، واللي كنت خايف منه حصل) .. سكت لبرهة ثم أردف بتحسر (ادعي بس يقوم بالسلامة لشبابه ، وبعد كده أي شئ يهون) ... وعلى صعيد آخر استدعت الممرضة الطبيب المُتابع لحالة ريان بعدما أعطى إشارة حسية لبدء إفاقته ، وعادةً الذبحة الصدرية لا تسبب غيبوبة طويل الأجل ، إلا إذا كانت هناك عوارض مصاحبة لها كالجلطة القلبية ، وفي كل الأحوال المرض خطير ويجب اتباع التعليمات الطبية لتجنب مضاعفاته
+
-(حمدالله عالسلامة يابشمهندس)..قالها الطبيب مبتسماً أثناء فحصه لرسم نبضات القلب والتأكد من استقرارها فرد عليه ريان بصوت خفيض (الله يسلمك)
+
تابع الطبيب فحوصاته قائلاً بآلية تامة (الموضوع بسيط الحمدلله)
+
تدخل كريم متسائلاً باهتمام (هو هايقعد كتير فالمستشفى؟)
+
عدّل الطبيب من وضعية نظارته فوق أنفه وأجابه أثناء قراءته لتقرير الحالة النهائي (لا، النوبة القلبية خفيفة ، ويقدر يخرج وقت مايحس إنه كويس، بس ياخد علاجه بانتظام ويبعد عن التدخين والتوتر تماماً) ...
+
أنهى كلماته برسمية مُعتادة وأخرج دفتر روشيتاته الخاص ليكتب أسماء الأدوية المطلوبة والإرشادات التي يجب تنفيذها تجنباً لتعرضه إلى تلك النوبة مجدداً ثم أعطاها لكريم موجهاً حديثه لريان (حمدالله عالسلامة مرة تانية يابشمهندس) ..
+
انصرف كلياً برفقة الممرضة المُساعدة فتسائل ريان بتعب واضح (بابا فين؟)
+
جاوبه كريم (جدك مشاه هو وامك)
+
قال ريان بأنفاس ثقيلة نوعاً ما (أحسن)
+
رد عليه كريم بقلق (ريان! ، اهدى شوية بالله عليك ، انت سمعت كلام الدكتور)
+
استند بكفه على الفراش ليعتدل جالساً وتابع استفساراته (هيثم عمل ايه؟)
+
أجابه كريم وهو يساعده (خلص كل حاجة ، ومحمود وبنته اتقبض عليهم)
+
أومأ ريان باستحسان وقال (أنا عايز اخرج من هنا)
+
اتخذ كريم مقعداً بجواره قائلاً (خليك انهاردة زيادة اطمئنان ، ونمشي الصبح )
+
ابتسم ريان قائلاً (أنا كويس والله ماتقلقش)
+
تنهد كريم باستسلام واستقام واقفاً يقول (هاروح احاسب المستشفى ، واقول للدكتور يكتب تصريح الخروج) .. وما أن فتح باب الغرفة حتى دخل الجد زين والجدة ونجاة ومعهم هيثم بلهفة بالغة والمبادرة بالاحتضان والحديث كان لمربيته الغالية (ألف حمدالله على سلامتك ياقلب أمك) .. أبعدته عنها قليلاً تتفحص وجهه وجسده وأضافت ببكاء (كان مستخبيلك ده كله فين ياحبيبي)
+
ضم ريان رأسها لصدره يقبل أعلاه قائلاً بمرح ليخفف عنها (ماتخافيش عليا ، أنا زي القرد وهاقوم اتنطط دلوقتي)
+
بينما اقتربت منه جدته تعانقه قائلة بنبرة مهزوزة (كده ياريان تخضنا الخضة دي؟)
+
شدد عناقها قائلاً باشتياق لها ولرائحتها وكل تفاصيلها (وحشتيني يابطة)
+
مسدت شعره بحنوها المألوف قائلة (وانت كمان وحشتني اوي ياروح بطة) .. وقاطعهما الجد زين ينظر لحفيده بارتياح لرؤيته بخير قائلاً بهدوء يشوبه بعض اللوم (الدكتور قال تبطل السجاير عشان صحتك)
+
وافقه الرأي قائلاً (هابطلها بإذن الله) ..
+
تحدث هيثم مبتسماً (حمدالله على سلامتك)
+
بادله ابتسامته بأخرى ممتنة فاتحاً ذراعيه (تعالى) .. أطاعه مُرحباً واحتضنه حُضناً طويلاً دون حديث لثواني ... (شكراً على كل حاجة ، لولاك كان زماني مورط نفسي أكتر من كده) قالها مُربتاً على ظهره فابتعد هيثم برفق عنه يقول (ده واجبي ياريان ، ماتشكرنيش) ... انتبه الجميع لعودة كريم ومعه إذن موقع من الطبيب يسمح لريان بمغادرة المستشفى وبالفعل بدّل ملابسه وفي غضون دقائق كان مُستعد تماماً للعودة إلى بيت جده وأثناء خروجه من الباب الرئيسي لمح والديه يجلسان في الحديقة.. حاول تجاهلهما لكن قلبه لم يطاوعه.. عينيه خانته وأطالت النظر إليهما ، وحزَّ في نفسه رؤية أبيه مكسوراً هكذا .. وخاصةً أبيه .. وإلا أبيه.. الدنيا كلها في كفة ، وأبيه وحده في ميزان .. وإذا غض الطرف الآن وهجر دون إلقاء سلام سيظل مُعلقاً من عرقوب حنينه حتى ينذبح صدره مجدداً .. استقل الجميع سياراتهم برتابة وتفاجئوا به يسير نحوهما بخطوات يغالبها التعب .. وقف أمامهما مباشرةً فأفسحت له رويدا المجال ليجلس قائلة بتلهُف وسعادة (حمدالله عالسلامة ياحبيبي)
+
جلس بينها وبين أبيه عاقداً ذراعيه وأجابها بهدوء (الله يسلمك)
+
بينما سأله سعد متحاشياً التقاء أعينهما (أحسن دلوقتي؟) .. أومأ ريان ايجاباً دون حديث مؤثراً الصمت لبضع ثواني يستجمع فيها رباطة جأشه ثم قال مازحاً ليخفف التوتر المسيطر على الأجواء (بوفيه الفرح كان وحش أوي ، حد يعمل محشي فالفور سيزون؟) .. ضحك بخفة وأضاف (محمود ده راجل معفن ، يلا الله يحرقه مطرح ما راح هو وبنته الصفرا) .. لم تستطع رويدا منع نفسها من الضحك وأدارت وجهها للناحية الأخرى بينما تحدث ريان بجدية (أنا مش عايزكم تزعلوا عشان ماشي ، اعتبروا نفسكم لسه مسافرين) .. سكت هُنيهة وأردف بحزن (انتم أصلاً متعودين من زمان على عدم وجودي ، متهيألي الموضوع هايكون سهل) .. ربت على كتف والده قائلاً (بابا! ، عشان خاطري خد بالك من نفسك وماتضايقش ، الموظفين في الشركة كتير وكلهم شاطرين) .. نهض بتثاقل استعداداً للرحيل واستطرد (استقالتي أنا وكريم جاهزة على مكتبك من امبارح)
+
سأله سعد بتعجب (كريم هايسيب الشغل؟)
+
أجابه مبتسماً (كريم يسيب الدنيا كلها لو انا مش موجود فيها) .. نقل بصره إزاء والدته مستكملاً (على فكرة هو كمان حبيبته ماتت مع مريم في حريق الدار) .. ابتلع غصة مؤلمة احتقن بها حلقه وقال متنهداً بتحسر (اتظلم معايا من غير ذنب) .. وقبل أن يهمّ بتركهما ودّعهما مخفياً تأثره بدموعهما الصامتة (أشوف وشكم بخير) .. استدار يوليهما ظهره وابتعد بالقدر الذي سمح له بالتنفس براحة .. لا يُلام على هجرهما فلم يكن هناك اختياراً سواه ، كثرة الغياب تجعل من الفراق شيئاً سهلاً ، ليناً تعصره ينز جفاءً أبدياً وهما اعتادا غيابه منذ كان طفلاً .. فلِمَ الحزن الآن؟! .. رُبما العِلةً في وجوده معهما .. لعلّهما ينصلحا بعد القطيعة وينضجا ويصبحا أبوين مسئولين ...
+
******************
+
بيت الحاج زين الدين .. المثال الحي لكلمة "بعض الأماكن جدرانها أحضان" .. مازال يقف شامخاً ، وضّاء ، مُحاطاً بالملائكة وكأنه بيت من بيوت الله تُقام به الصلوات ليلاً نهاراً .. باقٍ على عهده مع الصغير الذي شَبّ طولاً وشاب قلباً وروحاًً ، وينتظر عودته فاتحاً ذراعيه على اتساعهما ، فَوَرَبُ الكعبة الأماكن أيضاً تشتاق لأصحابها .. وها هو عاد عودة نهائية وسفينته المُسافرة لم تجد مرساةٌ أدفأ من منزل جده الحبيب .. وفي الحديقة اجتمع الحاج زين بحفيده الغالي وصديقيه كريم و... وهيثم! .. ثلاثة شباب مثل باقة زهور .. لكل زهرة لون ورائحة .."ريان" أوركيدة ذهبية ، برّاقة ، شديدة النُدرة ، قديمة الوجود ، يُستخلص منها عطر الملوك ... و"كريم" ياسمينة بيضاء ، خفيفة الروح ، رائحتها تهزم الحُزن ، وتحارب الإكتئاب ببتلاتها الشبيهة بالنجوم .. أما "هيثم" جلنارة حمراء ، زُرِعت في خْميلة ملتفة الأشجار ، فنبتت بأرض غير أرضها وفقدت هويتها..
+
-(هانعمل ايه دلوقتي؟) .. سؤال يائساً وجهه كريم لهم وهو يحدق في الفراغ بلا هدف فتحدث ريان المُستند برأسه على كتفه بهدوء (بفكر اربي كلب)
+
ضحكة مكتومة حاولت نجاة الجالسة بجوار الجدة فاطمة مداراتها ونظراتها مُصوبة نحو كريم ففطن للرد الذي تلجمه بشق الأنفس وقال بغيظ (ماتجريش شَكَلي يانجاة)
+
خبطت نجاة كفيها ببعضهما قائلة ببراءة مصطنعة (أنا جيت جنبك ياواد انت) ..
+
تدخل ريان قاصداً إثارة حنق صديقه ممازحاً (هي أكيد مش قصدها تقول تربي كلب ليه وكريم موجود؟، مش كده يانوجا؟)
+
مطت نجاة شفتيها قائلة بعتاب زائف (يالهوي ، انا اقدر؟ ، ده إلا كريم) .. ثم غمزت له ضاحكة وأضافت (دخلته علينا بألف كلب والله) ..
+
تعالت قهقهات الجميع على دعابتها فزمجر كريم دافعاً ريان بعيداً عنه فأحاط الأخير رقبته بذراعه يشعث شعره قائلاً بملاطفة (انتِ كلبوبة بتزعلي من الهزار؟)
+
تولت الجدة فاطمة المدافعة عنه بحماية (بس ياولا انت وهي) .. ومدت كفها الطيب لكريم مردفة بحنان (تعالى ياحبيبي ، اقعد جنبي ماتزعلش) ..
+
امتثل لطلبها سريعاً ونهض ليجلس أرضاً تحت أقدامها بسعادة يراقص حاجبيه وكتفيه ليكايد ريان الذي يغار كالأطفال على جدته فقذفه بميدالية المفاتيح يقول بملامح ممتعضة (على فكرة انا حفيدك مش هو)
+
داعبت الجدة خصلات كريم قائلة (انتم الاتنين نور عينيا) .. بينما لاحظ الجد سكون هيثم وصمته الحزين فسأله بإشفاق (وانت ناوي على ايه ياهيثم؟)
+
رد عليه بابتسامة مهمومة (هاسافر لأهلي ، أنا ماليش حد هنا)
+
قال له ريان بتشجيع على البقاء وعدم السفر (خليك معانا، ماتمشيش)
+
تنهد هيثم بألم (اخاف عليكم مني ، انتم ناس محترمين ، وانا زي ما انت شايف ، عيل بايظ حياته كلها حرام في حرام)
+
تحدث الجد زين بلسان حكيم (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .. واستطرد بلهجة مُتعقلة (جربت تتوب قبل كده ياهيثم؟)
+
أومأ نفياً بتيهٍ شديد فاستكمل الجد (سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام قال" التوبة تهدم ما كان قبلها" ، انوي واخلص النية لله واستعين بيه وهو هايقبل توبتك، إن الله يحب التوابين والمتطهرين)
+
أجاب هيثم بصوت مهزوز (انا غرقان في ذنوبي ، ماسيبتش حاجة غلط ممكن تتعمل إلا وعملتها)
+
حديث شريف آخر كان رد الجد (والذي نفسي بيدِهِ، لو لم تُذنِبُوا لذَهَبَ اللهُ بكم، ولَجَاءَ بقُومٍ يُذنِبون فيستغفِرون اللهَ، فيغْفِر لهم)
+
بكى هيثم قائلاً (أنا مكسوف منه ، وخايف، وتايه)
+
واصل الجد القاء أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام على مسامعه (كُلُّ ابن آدَمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخطائين التَّوَّابون)
+
-(هايقبلني؟)
+
-(وِاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
+
أشار له أن يدنو منه فأطاعه جاثياً أمامه مطأطأ الرأس فنزلت كلمات الجد عليه كماء طهور تغسله وتنقيه (ربنا جعل الذنوب فرض على جميع عباده ، لكن الذنب الحقيقي إنك ما تحاولش تتوب وترجع له ، وانت لسه في عز شبابك والطريق مفتوح قدامك) .. ربت على وجنته يزيل دموعه الصادقة بأطراف أنامله (ماتسافرش ، اقعد معانا هنا.. انا كان عندي حفيد واحد ، وكريم خلاهم اتنين ، وبيك هايبقوا تلاتة) .. رفع أنظاره الغائمة يتلفت حوله فوجد الجميع مبتسمين خاصةً ريان الذي قال بحفاوة (البيت كبير ويساع من الحبايب ألف) .. بينما ضحك كريم يقول بخفة ظله المعتادة (اتلقح جنبنا ياعم ، المشرحة ناقصة قتلا) .. أما الجدة فنهضت تحفز نجاة على التحرك بأسارير مبتهجة (حيث كده بقا، احنا هانقوم نجهز أوضكم) .. وقبل أن تنصرف كلياً لكزت كريم في كتفه بخفة (وانت ياصايع روح هات حاجتك ، مفيش قعاد لوحدك تاني) ..
+
غمغم بحنق طفولي (إيدك تقيلة زي ابن ابنك) .. فضربته نجاة على الجهة الأخرى (اسمع الكلام بدل ما تجرب شبشبها) ..لحقت بها تاركة إياه يتأوه فاستقام هيثم ليعتدل في جلسته بجوار ريان قائلاً بمزاح (بيحبوك أوي) ..
+
-(هو احنا لينا بركة إلا كريم؟) .. قالها ريان ضاحكاً على منظر صديقه المُغتاظ فكتف الأخير ذراعيه متحدثًا بجبين متغضن (برضه ماحدش جاوبني على سؤالي، هانعمل ايه؟)
+
استفهم ريان بفضول (فإيه؟)
+
جاوبه كريم بنفاذ صبر (فالشغل)
+
زفر ريان بقلة حيلة (مش عارف)
+
نهض كريم من مكانه ليجلس قبالته شارحاً (ندور ،ان شالله ننزل نلف عالشركات ...)
+
قاطعه ريان باستبعاد للفكرة (لا ياكريم ، انا مستحيل أصغر ابويا قصاد أصحاب الشركات التانية ، لو هافضل من غير شغل خالص)
+
أيده جده قائلاً (ريان كلامه صح ، مايصحش تحاربوه فالشغل بعد ماكنتم شغالين معاه ف شركته)
+
تسائل كريم بقلة حيلة (والعمل ياجدو؟)
+
-(أسسوا شغلكم الخاص) .. اقتراح من هيثم يبدو أنه لاقى استحسان لديهم فأردف بإقناع (افتحوا شركة واشتغلوا عند نفسكم ، انتم مهندسين شاطرين وسيرتكم حلوة فالسوق)
+
حاوره ريان بتفكُّر (بس الموضوع ده محتاج إمكانيات ورأس مال كبير)
+
تكلّم الجد زين بحماس (أنا معاكم برأس المال وانتم بالمجهود)
+
فغر كريم فاهه بعدم تصديق (حضرتك بتتكلم بجد؟)
+
نطق الجد بتأكيد (اختاروا موقع مميز ، و إبدأوا على بركة الله)
+
تطلّع ريان لجده قائلاً بامتنان وحب حقيقي (بس كده كتير ياجدو)
+
عاتبه الجد بلُطف (عيب ياواد يا اهبل انت ، ده حقك ياحبيبي)
+
غمز كريم لهيثم يسأله بطريقة مرحة (وانت مش هاتساهم فالمشروع؟ ، ولا البيه بيقدم اقتراحات بس؟)
+
أخبره هيثم (أنا عندي مكتب تسويق وإعلانات)
+
عقّب ريان بثقة (انت معانا في كل الأحوال) ..
+
سكت هيثم يتأملهم جميعاً .. ويتسائل في نفسه كيف لأناس مثلهم تقبله بكل هذا اليُسر واللين؟.. أي حُسن حظ وضعهم في طريقة المفروش بشوك الخطيئة؟..أيحبه الله لدرجة أن يرزقه صُحبتهم الصالحة في أشد مراحل حياته ظلاماً؟.. يارب ياكريم.. كرمك ورزقك واسع .. أنت اللطيف بعبادك .. وبعد مداولات ومناقشات امتدت بينهم لساعات طويلة، أحس ريان بإجهاد طفيف فاستأذن ليأخذ قسطاً كافياً من الراحة .. اتجه نحو غرفته ثم بدّل ملابسه وجلس على فراشه مُحدقاً أمامه بخَواء .. كم عاماً سيحتاج لينساها؟، وكم طعنة سيتلقاها صدره ليموت حزناً على فراقها؟، وكم مرة سيبحث عنها بين صُحف ذكرياته ويجدها غائبة خلف الهوامش؟ .. يُفتش كالمجنون و لا يجدها ولا يجد نفسه .. ويشتاقها بكل أعضائه التي تشتاق .. ويشتهيها بكل أعضائه التي تشتهي .. ويرغبها بكل أعضائه التي ترغب .. يحنُ ويصبو .. ولايملك لها إلا تجسيداً في خياله يبادله الُقبلات ويشَافهه زارعاً آهاته بين الصدر والعنق (إني مشتاق يامريم، والله مشتاق ، ولله أمري من قبل ومن بعد)
+
**************
+
خلف البيانو كانت تجلس بوجه شاحب يتناسب مع برودة الشتاء ، حزنها الصامت يهطل مع المطر وتنهداتها المتألمة تهرب من بين شفتيها، نظيفة، هادئة، باحثة عن حب طرق بابها كقطرة الندى، وتركها وحيدة وسط الرياح والعواصف .. "مريم" تلك الصبية المُتبخرة من دفء الشمس .. تطوف حول جدران قلبها المُتهدم وتطفر من قهر لحسرة مثل شاعر جاهلي يبكي عِلَّة الفراق غيرَ عابئٍ بالحقائق والزمن ، وأثناء جلستها الخامِدة متدثرة بشال صوفي رمادي مثل أيامها دخلت عليها ريهام تصرخ بهلع (الحريق كان بفعل فاعل يامريم)
+
فزعت مريم وانتفضت من مكانها تسألها (انتِ بتقولي إيه؟)
+
تهاوت ريهام عالأرض تضرب خديها بانهيار شديد (مرات ريان وابوها هم اللي ولعوا فالدار)
+
شهقت مريم واضعة كفيها فوق فمها متراجعة للخلف بحدقتين متسعتين .. تكاد تشعر بجلدها يذوب .. والصدمة تخترق لحمها كرُمح مسنون وتسري مثل السم في دمها .. سقطت على ركبتيها بجوار رفيقة العمر المُحترق وطعم العذاب ينكأ جراحاً تستعصي على الرتق.. لقد وقعت النائبة ولا فرار ، واستشهد الأبرياء فداءً لها .. قُتِلوا بذنبها ، والمقصودة لم تمت.. وقلبها المكلوم يردد (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) .. حرّكت شفتيها الباهتتين بضعف (ماتوا بسببي) .. استمرت في نَحر ذاتها تقول بنشيج مرير (صباح والولاد ماتوا بسببي ياريهام ، ماتوا عشان اعيش) .. كانت تبكي بجسد مُرتجف ، تستجدي حُضناً ليتلقفها ويحميها من عراء الحقيقة.. فارت دموعها كالتنور وفاض الفؤاد بصرخات شقت السكون، فهرع يوسف وأميرة من عيادتهما على صوتها ، وكان أخيها أول من وصل إليها يتفحصها بأعين قلقة متسائلاً (مالك ياحبيبتي؟ ، حصل ايه؟) .. عانقته تختبئ بين ذراعيه باكية ولم ترد بينما جثت أميرة أمام ريهام تستفهم منها بخوف (حد جراله حاجة؟) ..
+
رفعت ريهام هاتفها المفتوح على الخبر المنتشر عبر وسائل التواصل الإجتماعي تناوله إياها وعبراتها المُلتهبة تكوي وجنتيها، فغرت أميرة فاهها برعب عندما قرأت المكتوب ، وانعقد لسانها عن الكلام فأخذ يوسف الهاتف منها ليستكشف الفاجعة التي جعلتهن يصارعن الموت كَمَداً بهذا الشكل .. هاله ما رأى والخبر نزل فوق رأسه كالصاعقة ولم يكن أقل منهن صدمة لكن هناك شئ آخر استوقفه .. الأسامي المذكورة في بيان وزارة الداخلية يعرفها حق المعرفة خاصةً "ريان زين الدين" ابن "سعد زين الدين" شقيق زوجة أبيه المتوفاة "ليلىٰ" رحمها الله.. حتى إسم " محمود الصرّاف" يتذكره جيداً .. ذلك الرجل الذي رفض والده العمل معه بسبب سيرته المشبوهة ، صهر زوجة سعد "خال مريم" .. وللأسف عقله لا يستطيع ربط الأحداث ببعضها، ربما تكون صدفة .. وربما لا
+
-(انا السبب ، أنا اللي قتلت الولاد وصباح لما دخلته حياتي) .. جملة لم يفهمها نطقتها مريم ببكاء مقهور فسألها بتوجس وهي مازالت في حُضنه (مين ده؟)
+
أجابته بشهقات متقطعة (ريان ، الإنسان الوحيد اللي حبيته وآمنتله ، دمر حياتي وحرق قلبي)
+
وكأن ضربة عصا غليظة أخذته على حين غُرة فقال بأنفاس بدأت في التسارع يدعو الله أن يكون إحساسه خاطئ (اهدي يامريم عشان خاطري ، وفهميني كل حاجة بالراحة)
+
حذرته أميرة بنظراتها ألا يضغط عليها قائلة وهي تسند ريهام التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من فقدان الوعي (مش وقته يا يوسف، البنات منهارين) .. ثم استقامت واقفة تجذب ريهام لتنهض كي توصلها نحو غرفتها لترتاح ، وأشارت لزوجها أن يفعل نفس الأمر مع مريم فأطاعها بتردد .. واضطرا لحقنهما بمهدئ للأعصاب حتى تتوقفان عن البكاء وتخلدان إلى النوم ولو قليلاً .. وفي صالة الإستقبال جلس يوسف والحيرة تفتت عظام جمجمته .. جاورته أميرة تمسك كفه قائلة بهدوء محزون (مريم دي جبل والله ، ربنا يعينها على حالها ويصبرها)
+
ابتلع يوسف غصة متورمة احتقن بها حلقه قائلاً (أنا شاكك في حاجة ويارب يخلف ظني)
+
سألته زوجته بعدم إدراك (حاجة إيه؟)
+
أجابها بتعابير مرتبكة (محمود الصرّاف ده يبقى جوز اخت رويدا، مرات سعد خال مريم)
+
قطبت أميرة حاجبيها متسائلة (خال مريم اسمه سعد زين الدين؟) .. أومأ لها إيجاباً فاستفسرت أكثر (وابنه اسمه ريان؟) .. همهم بموافقة ليؤكد لها شكها باليقين، فانتفضت كمن مسّها نزغ من الشيطان تهتف بأوصال مُرتعدة (يادي المصيبة) ..
+
أمسك يوسف مرفقها يديرها إليه ليطالع ملامحها المبهوتة بذهول قائلاً (مصيبة ايه، ماتخوفنيش)
+
حثته على الجلوس مرة أخرى قائلة بتَثَأْثُؤ (انا هاحكيلك، بس وحياة مريم وغلاوتها عندك فكر بهدوء ، أختك مش ناقصة صدمات) .....
+
***************
+
عامين كاملين من الوحدة التامة ، الخالصة لوجه الحُزن .. وارت حياتها مثواها الأخير ، ودفنت ملائكتها الصغار بيديها وانعزلت.. ورفضت رفضاً نهائياً حضور العزاء الذي أقامه المُتضامنون مع النَكبة.. كانت تعلم علماً قاطعاً أن ما حل بدارها جريمة مُدبرة ، فبأي وجه يتضامنون وهم مُدلسون؟.. وبأي حق يعزّونها ودم أطفالها يأن في القبور مطالباً بالقصاص؟ .. وإذعاناً لطلب شقيقتها سافرت برفقتها إلى إحدى الدول العربية ، للتداوي من جلطة أصابتها وأثرت بشكل كبير على حركتها ونطقها .. وقررت عدم العودة لأرض الوطن مجدداً .. وبينما كانت تجلس في غرفتها ليلاً عاكفة على قراءة القرآن والصلاة بعدما استعادت بعضاً من عافيتها.. انتبهت وسيلة لخبر مكتوب بالخط العريض على شاشة التلفاز أثناء إذاعة نشرة الأخبار عبر إحدى المحطات الفضائية المصرية ؛ (القبض على رجل الأعمال المعروف محمود الصرّاف وابنته چيسي الصرّاف بتهمة التورط في إحراق دار وسيلة علوي لرعاية الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة) .. وصوت المذيع المُندد يتابع (النائب العام أمر بإعادة فتح التحقيقات بعد ظهور أدلة جنائية تفيد بأن الحريق تم عن عمد وبفعل فاعل) .. لم تشعر بنفسها إلا وهي ساجدة شكراً لله.. تبكي فرحةً ولوعة، ولسانها يردد (الحمدلله، ألف حمد وشكر ليك يارب) .. ظلت على تلك الحالة لوقت ليس بقليل..كلما قلّبت بين قنوات التلفاز لا تجد لهم سيرة إلا قضيتها التي شغلت الرأي العام ومنظمات حقوق الإنسان في غضون ساعات معدودة .. تكاد ترى أطياف الصغار تتقافز حولها بأسارير مُبتهجة مُهللين (حقنا راجع يا ماما، حقنا راجع) .. ووجه صباح رفيقة الدرب ينبجس من النافذة ويشق جُنح الليل بنوره هاتفة (حقنا راجع يا أستاذة) .. فتحرّكت تضم قبضتيها لصدرها تنظر للسماء باكية بأنين ونبرتها المُرتجفة تتصاعد (حقكم راجع ياحبايبي، حقكم راجع) .. أزالت دموعها بجانب راحتيها وقرار عودتها للبلاد أصبح فرضاً ، فالدار دارها ، والمقتولين غدراً أبنائها وهذا اليوم انتظرته طويلاً .. يوم ستشاهد القاتل داخل قفص الاتهام ذليلاً يترصّد لحظة إصدار الحكم بإعدامه.. وبموجب تأييد قرار النيابة العامة وإتماماً للإجراءات تم البحث والتحري عن مُرتكبي الجريمة ، وأرسلت السلطات الأمنية قوات مُشددة لتفتيش ممتلكاتهم من ڤيلل وشركات وخزائن خاصة ، فعثروا على ملفات خطيرة موثق بها جميع جرائم محمود وصفقاته المشبوهة على مدار سنوات طويلة يعيشها مختبئاً تحت غطاء النفوذ وسيطرة المال.. واستناداً للبراهين والحُجج المُثبتة بعد استقصاء الحقائق حُدِدت جلسة المُحاكمة النهائية.. قاعة كبيرة تضج بالناس ، خارجها مُزدحم أكثر من داخلها .. مراسلين القنوات الإخبارية والبرامج التليفزيونية ، وجميع المهتمين بحقوق الإنسان والطفل حرصوا على القدوم من كل حدب وصوب لحضور هذا اليوم المهم ، وفي الصفوف الأولى كان يجلس ريان ومعه كريم وهيثم ، وعلى جانب المُدعى عليهم خالته تبكي ابنتها وزوجها وتنتظر مثل الجميع بدأ مقاضاتهم.. وفجأة وقبل دخول القضاة والمتهمين وَلِجَت السيدة وسيلة من الباب الكبير ، متوكأة على عكاز يصحح مسار خطواتها المُتعرِجة قليلاً أثراً للجلطة ... متشحة بسواد لم تخلعه منذ وقوع الفاجعة ، تنظر أمامها بثبات إمرأة قوية والعيون تتابع دخولها المهيب ، انتبه ريان لوجودها وظل مُتسمِٰراً مكانه لثواني يحاول استجماع شتات نفسه ، وكأنه يرى مريم ثم استقام واقفاً وبدون مقدمات اتجه نحوها ليحتضنها بقوة ..
+
-(كنتِ فين؟! ، أنا دورت عليكِ كتير ومالقتكيش) .. سألها ريان فأجابته ماسحة بيدها على ظهره (كنت مسافرة)
+
ابتعد عنها برفق يحتوي كفيها بين راحتيه قائلاً بمشاعر صادقة (ياحبيبتي ، كأني شايف مريم الله يرحمها)
+
عقدت حاجبيها متعجبة من حديثه .. مريم لم تمُت ليترحم عليها .. هي متأكدة من ذلك.. وقبل أن تنطق وتخبره بالحقيقة أعلن الحاجب عن قُدوم القاضي والمستشارين فاتخذت مقعدها بجانبه في الصف الأول ، وبعد دقائق أخرى أَدخِل المُتهمين قفص الإدانة ، وسبحان المُعز المُذل .. وحقاً له في خلقه شؤون .. "محمود الصرّاف" بسلطانه وجبروته ، ذلك الشيطان الذي خرق سفينة كانت تسير آمنة في ملكوت الرحمن وأحرقها غصبا.. يقف الآن منكسراً ، ذليلاً ، مطأطأ الرأس بخزي وعار يلاحقه من محبسه لقاعة المحكمة.. أما چيسي فوصفها الكاتب البرتغالي أفونسو كروش في جملة دقيقة ومُبهرة ؛ "لا أستطيع أن أقول عن إنسان أنّه طيب إلا إذا كان لديه القدرة على فعل الشر ولم يفعل ، يجب أن يكون لديك الخيارات لتعرف حقًا من أنت" .. وهي لم تفعل سوى الشر بل انتقت أعظم الشرور فداحة لتقترف ذنوبها بدم بارد .. والحين تجاور والدها تترقب المتواجدين بأعين غير متأسفة ، فالكِبر والعياذ بالله إرث إبليس لأبنائه .. عم الصمت آرجاء المكان وافتتحت الجلسة، استهل وكيل النيابة العامة مرافعته العصماء، مستنكراً وشاجباً ، ومندداً الجريمة النكراء التي أِرتُكِبت في حق أطفال الدار المنكوب ، بالتناوب مع هيئة المُحامين المُوكلين بالدفاع عن المُدانين ، واستغرقت المحاكمة قرابة الساعة ونصف تضمنت الاستماع لكل الأطراف وفحص الأدلة المُقدمة لهيئة القضاء والتقارير السليمة للطب الشرعي وأخيراً أعلن القاضي تداول الحكم مع مستشاريه قبل التصريح عنه ..
+
وبعد دقائق قليلة خرج القضاة من غرفة المداولة لإذاعة البيان الأخير.. أمسك رئيسهم بالأوراق يقرأ مقدمته المُعتادة ثم أفرد ملابسات الجريمة أمام الحضور المُتأهبين ، و بدء في سرد أسماء الضحايا الصغار إسماً إسم، حتى وصوله لقائمة المُعلمات وعند إسمين محددين لم تستطع وسيلة البقاء صامتة وقاطعته هاتفة بصوت مرتفع (لو سمحت يا حضرة القاضي)
+
انتبه القاضي لنداءها وأجابها باحترام لمعرفته هويتها (خير يا أستاذة وسيلة؟)
+
نهضت وسيلة تقول بتعابير مُرتعشة (فيه غلطة فأسماء الضحايا)
+
تفحص القاضي المستندات باهتمام سائلاً (غلطة إيه؟)
+
-(مريم حسين محفوظ المسيري ، وريهام صبري عبدالله عايشين)
+
