رواية عيون الريان الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم نيللي العطار
"إنَّكَ لا تختار حين تُحبّ، ولا تحبُّ حينَ تختار، وإنَّنا مع القضاءِ والقدر حينَ نُولد، وحينَ نُحبّ، وحينَ نَموت. وإذْ يسألونكَ عنِ الحُبّ قُل: هو اندفاعُ روحٍ إلى روح، ويسألونك عن الرُّوح.. فماذا تقول؟ .. قُل هيَ من أمرِ ربِّي."
+
- العقّاد -
+
**************
+
صدمة جارفة ابتلعته كما طوفان نوح ، وهوى تصريحها المباغت على رأسه كمطرقة ثقيلة اخترقت عظام جمجمته و تجذرت في صدره .. مريم لم تمُت؟! .. مريم لم تفارق الدنيا؟! .. وعقله بدء يصفعه بحقيقة آسِنة..كلّا مريم حيّة تُرزق ..مريم فارقته هو وغابت عنه طوعاً وبمِلأ إرداتها... وقلبه ضعيف الدفقات يسأل (أيامريم! ، كم مرة سأُقتل في حبي لكِ؟) ...
+
استكملت السيدة وسيلة إدلائها بما تعرفه (اللي مات واندفن من الكبار أربع مربيات ، ومريم وريهام ماكانوش من ضمن الجثث)
+
سألها القاضي باهتمام (عندك شهود عالكلام ده؟)
+
جاوبته وسيلة بثقة (أنا شاهدة على كلامي بنفسي وشوفتهم بعينيا ، ريهام كانت واقفة بتعيط جنب عربية من عربيات الإسعاف، ومريم كانت عالرصيف مُغمى عليها ، ومعاها اتنين بيفوقوها بجهاز التنفس)
+
كلماتها تسقط فوق مسامعه سقوط نيزك .. يشعر نفسه تائهاً في ليلٍ دامس الحُلكة بلا قمر ، ونبضه مرهق اللحن يعزف على أوتار الصمت معزوفتهُ الأخيرة .. ولرفيقه التفت ينظر بأعين زائغة ، غير مستوعبة ، وصدره المُتعب لضلعه المفقود مُشتاق ، فرد الرفيق النظرة بالفرحة ، وكثُرت الحروف فى غزير ثغر وَضَّاح المُحَيّا ، تحاول استبدال ما عز على كبرياء المُقَل أن تبوح به دمعاً ، فلم تقدر وراحت تقطر كغيث من سماء شمسها آفلة ...
+
استفسر القاضي بسعة صدر (ماحاولوش يتواصلوا معاكِ بعد الحادثة؟)
+
نفت وسيلة بشكل قاطع (لا)
+
واصل القاضي حديثه بلطف تقديراً لظروفها (حضرتك تقدري تبلغي عن اختفائهم ، والشرطة هتعمل اللازم وتتولى البحث عنهم) .. ثم أشار لها بالجلوس متابعاً (اتفضلي اقعدي عشان تسمعي باقي الحكم) .. وبصوت جاد ، مُجلجل هز آركان القاعة استأنف (حكمت المحكمة حضورياً على كلاً من محمود ناصر إبراهيم الصرّاف ، وياسمين محمود ناصر إبراهيم الصرّاف يإحالة أوراقهما إلى فضيلة المفتي)... وما أن أنهى كلماته حتى انطلقت صيحات التهليل الفرحة ، وتعالت أصوات الزغاريط من أول القاعة لآخرها ، وأخيراً القضاء حكم بميزان العدل ، والقتلة سينالون جزاء ما اقترفت أيديهم المُدنسة.. انتهت المحاكمة وبدء الحضور ينفضون شيئاً فشيئاً ، ومكث ريان بمكانه يجاوره كريم ، وقذيفة المنجنيق التي رمتهما بها السيدة وسيلة مازالت مُشتعلة .. الحياة تتغيّر أمامهما سريعاً ، وكأن الأرض تبدلت غير الأرض ، والزمان غير الزمان ، ولسان الحال يصرخ ويأن (أعيدونا طفلين آخر همهما يوم الأمتحان ، فامتحانات الكبار لا تنتهي ولا تُجتاز) ..
+
-(هي چيسي اسمها الحقيقي ياسمين؟) .. سؤال ليس بمحله ولا وقته ولا ظرفه قاله كريم بشرود مْحدقاً في الفراغ فأجابه ريان بنفس طريقته (ومحمود أبوه اسمه ناصر إبراهيم) ..
2
تسائل كريم بعقل مُتشتت (انت سمعت كلام أستاذة وسيلة ولا انا بخرف)
+
جاوبه ريان بتنهيدة عميقة (سمعت ومش عارف ازعل ولا افرح) .. سكت هُنيهة يبتلع كُرْبَة تضخمت داخل حلقه وأردف بصوت يحمل من الوَصَب الكثير (المفروض افرح وادور عليها؟ ، ولا اكمل حزن واسيبها فمكانها اللي اختارته بإرادتها بعيد عني؟)
+
ربت كريم علي كتفه قائلاً بلهجة مُتعقلة (معذورة ياريان وليها ألف حق ، والمهم إنها عايشة وفيه أمل تشوفها تاني)
+
قال ريان بنبرة مهزوزة (هالاقيها ازاي؟ ، ده انا واقف على رجلي بالعافية) .. صمت مجدداً لثواني يقاوم اشتداد آلام قلبه (الأول كنت حزين لفراقها ، دلوقتي هابقى حزين وقلقان)
+
تحدث كريم برضا (سيب كل حاجة تمشي زي ماربنا كاتبها ، أكيد له حكمة احنا مش مدركينها)
+
رد عليه ريان وطعم مُرّ كالعلقم يعبأ جوفه (هو ليه مابيحبنيش ودايماً بيبتليني فأقرب الناس ليا؟ ، أنا وحش للدرجة دي؟)
+
حاول كريم التخفيف عنه قائلاً بمواساة رغم احتياجه لها (ربنا مابيختبرش ولا بيبتلي إلا اللي بيحبهم ، المؤمن مُصاب) ..
+
سأله ريان بتيهٍ شديد (لو رجعت اعمل ايه؟ ، أسامحها؟ ، ولا اعاقبها على تعذيبها فيا؟)
+
أجابه كريم مبتسماً (بس ترجع ياريان) .. واتسعت ابتسامته مضيفاً (أنا عن نفسي لو لقيت ريهام مش هاتردد لحظة اني اتجوزها ، ده أكبر عقاب ليها والله) .. وأثناء جلستهما الضائعة تلك استرعى انتباهما دوي إطلاق نار خارج المحكمة.. فنظرا لبعضهما البعض بفزع ، ونهضا سريعاً ليتفقدا الأمر فإذا بهيثم يقابلهما هاتفاً بارتعاب (چيسي قتلت دينا وانتحرت) ..
+
توسعت حدقتي ريان بشدة بينما رفع كريم ذراعيه ليضع كفيه فوق رأسه والصدمة تعقد ألسنتهما فتابع بأنفاس متصاعدة (خطفت سلاح واحد من العساكر ، وضربتها بالنار وضربت نفسها) ..
+
-(لا إله إلا الله) .. رددها ريان بمقلتين غائمتين بالتأثر أما كريم قال مجاهداً على الثبات (لا حول ولا قوة إلا بالله)
+
حفزهما هيثم على التحرك قائلاً (الدنيا مقلوبة بره) ... اندفعا معه نحو الخارج ليجدا الوضع في حالة استنفار قصوى .. جُثتين غارقتين بالدماء ومغطاتين بورق الجرائد ، إحداهن سقطت أمام سيارة الترحيلات، والأخرى على مسافة قريبة منها ، ومن الواضح أن حديث هيثم صحيح وما أخبرهما به حدث بالفعل .. قبل قليل وخلال ترحيلها من المحكمة إلى محبسها لمحت چيسي دينا تقف مبتسمة بشماتة ، والتشفي يعبأ نظراتها ، فلم تتحمل وفقدت السيطرة على أعصابها ، وبدون مقدمات ، وبمباغتة عنيفة خطفت سلاح أحد العساكر المحيطين بها لتعاجلها برصاصات اخترقت رقبتها وأماكن متفرقة من جسدها ، ثم أطلقت على نفسها لتخرا صريعتين الانتقام والحقد الأسود ، لترتفع جَلَبة وصرخات المتواجدين وهتافاتهم المتعالية بـ (لا إله إلا الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون) .. ومن بعيد لمح ريان خالته في نوبة اهتياج عارمة ، تقاوم لاجتياز السور البشري المُحاوط للحادث كي تصل لجثة ابنتها ، فسارع ركضاً للاتجاه إزائها ، واحتواها بين ذراعيه دافناً رأسها في صدره (وحدي الله ياخالتي، وحدي الله)
+
تشبثت بقميصه تنوح بعَوِيل (بنتي ماتت ياريان)
+
سحبها لتبتعد تماماً عن موقع الحادث تجنباً لوقوع بصرها على منظر الدم أثناء الفحص الجنائي للمحققين دون حديث ، ورغم الأذى الذي طاله منهم إلا أنه لم يستطع التخلّي عنها ، طيبة قلبه تجبره ، ورحمته تحثه ، ورجولته تزيح الخلافات ليظل كما هو ريان ، الهيّن ، الليّن ، العطوف ... وبعد وقت ليس بقليل قامت السلطات الأمنية بنقل الجثث إلى المستشفى للعرض على الطب الشرعي وسط أجواء صاخبة وتوتر وشد أعصاب بالغ .. وهناك لحقت رويدا بشقيقتها عقب سماعها الأخبار السيئة ، وعند وصولها اضطر للمغادرة تلافياً لمُلاقاتها تاركاً خالته تندب مُصابها الجَلل ، وتعض أصابعها ندماً لتقصيرها في تربية طفلتها التي شبّت على كل ماهو لا أخلاقي وشابت وماتت عليه ....
+
وعلى صعيد آخر كان هيثم يقف منتظراً مع كريم أمام باب المشفى الخارجي ، صامتاً ، جميع مشاعره مُتجمدة ، وكيانه يتأرجح بين الوجود والتلاشي ، وأسئلة كثيرة تدور بِخُلده دوران الطواحين (چيسي ماتت؟ ، وإن كان ، فلماذا يشعر الآن بجبل ثقيل يستحسن صدره موطئاً ، وهو الذي سعى ليلف حبل المشنقة حول عنقها؟ ، أقتلت نفسها؟، أم قتلها بيده؟) .. وعلى المسافة بين ما حدث ، وما كان ، وما سيأتي به القدر بكى ، وعينيه تدفع الدمعة بالدمعة ، وتسطُر الحزن فوق صحائف حياته حرفاً حيّاً له روح وقلب .. وحينما اقترب منه ريان ورآه بتلك الحالة عانقه يعزّيه بتفهم لإحساسه (البقاء لله)
+
همس هيثم بخفوت متوجع (استعجلت موتها ليه؟) ، فردد بإشفاق (الله يرحمها) .. بينما قاطعهما كريم بخوف على ريان إعمالاً بنصيحة الطبيب بالابتعاد عن التوتر خشية تعرضه لنوبة قلبية مجدداً (يلا نمشي، وجودنا هنا مالوش لازمة) .. وافقاه الرأي فتواجدهم بالفعل لا داعي له ، وليس منطقياً بالمرة .. واتخذوا طريقهم بالسيارات نحو منزل الجد زين لعلّهم يجدوا استكانة يبحثون عنها ولا يحصلون إلا على الشتات
+
*********************
+
جلسة هادئة في حديقة منزل الحاج زين الدين بين ثلاثة شباب يُدَوزنون موسيقى نبضات قلوبهم على إيقاع الصمت .. كطيور مُتأنقة التيه يحملون العالم الباكي فوق أجنحتهم المُرتلة لأناشيد الفقد .. يمسكون بمناقيرهم العقفاء الغياب والألم معاً .. متوجهين بثقل أجسادهم نحو سقوط حرّ يليق بفتق جراحهم .. ولم يستطع هيثم المكوث طويلاً بهيئته الحزينة أمامهم فاستأذن ليأخذ قسطاً كافياً من الاختلاء بنفسه .. بينما بادر ريان بالحديث يقول لجده بمشاعر مُبعثرة (مريم عايشة، ماماتتش)
+
ظنه الجد زين يهذي أو يقر ببقائها على قيد الحياة معنوياً فقال مواسياً (مريم هاتفضل عايشة جواك ، على قد محبتك الكبيرة ليها)
+
ضحك كريم موضحاً (جواه ايه؟! ، هو شقة في زيد التجمع؟ ، مريم وريهام عايشين بجد)
+
سأله الجد باسترابة (انت شارب حاجة يابني؟)
+
قاطعه ريان بنظرات يملؤها التشتت (أستاذة وسيلة مديرة الدار قالت انهاردة في المحكمة إنهم عايشين)
+
رد عليه جده بشك (ما جايز بتقول أي كلام ، الست برضه اتعرضت لصدمة كبيرة ، واحتمال تكون بتخرف)
+
حرّك ريان رأسه نفياً يقول بتأكيد (كانت بكامل قواها العقلية ، وأكدت إنها شافتهم بعينيها)
+
استفسر الجد بحيرة شديدة (وماتعرفش مكانهم؟)
+
تولى كريم إجابته (لا ، وماحاولوش يتواصلوا معاها من ساعة اللي حصل)
+
أرجع الجد ظهره للخلف يستند بكفيه على عكازه ومعالم الصدمة تحتل ملامحه مهمهماً (لا حول ولا قوة إلا بالله)
+
تحدث ريان والخذلان يتفجر بأحشائه كرصاصة سامة (سنتين كاملين وانا موجوع عالفاضي ، وهي ولا على بالها) ... ثم أردف بتنهيدة عميقة (حتى مريم اللي روحي فيها قلبي ماسلمش منها)
+
حاوره جده بحكمته المُعتادة ليخلع عنه ثوب الألم الذي لا يليق بموقف يستدعي رقصه فرحاً (انت مش مبسوط إنها عايشة؟)
+
أشار كريم إليه باستنكار (ده إنسان متخلف ، ودراما كوين ، وعايز ينضرب شبشبين على وشه) .. همّ أن يرد عليه بغيظ لاستهانته بإحساسه لكن الجد استكمل بعقلانية (ربنا لما ابتلى سيدنا يعقوب بفقده لأحب أبنائه كان له حكمة عظيمة جداً ، مافهمهاش كنبي إلا بعد ما رده إليه) .. انتبه ريان بكل جوارحه عندما لامس الحديث قلبه فاستطرد جده سائلاً (عارف ربنا عاقبه ليه؟).. أومأ بعدم علم فواصل الحاج زين شرحه مستفيضاً (لما إخوات يوسف استأذنوا أبوهم إنهم ياخدوه معاهم ، بعد ما خططوا لإبعاده عنه بسبب غيرتهم منه قال : "إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ" ، خاف من الذئب رغم يقينه إن ربنا خير الحافظين ، فعاقبه على عدم ثقته بيه بحرمانه منه أربعين سنة)
+
أحس ريان بطاقة نور تتوهج بداخله لكنه قال بيأس طفيف (حسنات الأبرار سيئات المُقربين ، وسيدنا يعقوب كان نبي ، أنا مش نبي ياجدو)
+
رَوَى له جده مغزى المقارنة بإيضاح أكثر (سيدنا يعقوب مرة واحد بيسأله عن حاله ، فقاله "ساء الزمان واضطرب الحال" ، كأنه اعتراض على قضاء الله ، فأوحى ربه إليه بعتاب "أتشكوني لغيري؟" ، ومن وقتها فهم وقال " إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ") .. .. اختتم جده حديثه بنظرة ذات معنى كبير (ولما رضي وسلّم أمره لله، بشرّه إن يوسف حيّ ، فارتد بصيراً وقال : "إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" ، وبعدها ربنا رد يوسف إليه رداً جميلاً ، رده عزيز مصر) .. استشعر أمارات الفهم والارتياح المتجلية على تعابيره وتابع (فكر ياريان ، وشوف غلطت فإيه ، وانت تعرف سبب ابتلائك) .. صوت آذان العشاء بَتَر الحوار الدائر فنهض الجد متوكئاً على عكازه وقال بهدوء يختلط بلهجة آمرة (اتوضوا واندهوا هيثم ، وتعالوا نصلي العشا جماعة) .. وما كان منهم إلا الطاعة تلبيةً لفرض الخالق .. أسبغوا الوضوء اسباغاً جيداً ووقف ثلاثتهم خلف إمامهم الجليل، مصطفين ، مساويين الفُرج.. وبحسب التوقيت المحلي للخشوع ، حان موعد الدخول في معية الله، وجاز التطرفَ في الدعاء والطلب، والتصوفَ في التوبة، والتأنقَ في الحمد والثناء، وتلاشي الذاتَ في الذاتِ .. كدفاترُ أوراقها بيضاء .. راكعين ، ساجدين، وعند موضعَ الرؤوس تَرَاءَى لكل منهم عِلّته .. "ريان" .. اهتز إيمانه حين خاف وخشي البشر وكيدهم ، وغفل عن قدرة الله في رد الكيد بالنحر ، وأساء الظن به ، وبعد وقوع البلاء لم يكن راضياً بالمكتوب ، وصار شكّاء ، بكّاء ، قانط من رحمته.. وكريم ذنبه العبث وعدم تبصره للنعم ، وعناده لقلبه فعوقب بالحرمان منها ، ولم يُظلم بلا ذنب.. أما هيثم فمصيبته مصيبة، تنطبق عليه آية "نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" جُملةً وتفصيلاً..ومع آخر ركعة وبعد تشهُدِ تبعه ترنيمة التسليم انصرف الجميع وبقي هو جالس بمكانه .. يشعر بأنه يتبخر مثل ندى فجر تجرعته مسام شمس الصباح، اعتدل ليستند بظهره على الحائط رافعاً ركبتيه عند صدره وارتكن برأسه فوقهما ، لقد عاش معها أيام طويلة وكثيرة... كانت مثخنة بالآلام حد الاختناق دون أن يصدر له صوت .. سَهلة لدرجة أن دنوه نحو حضنها المُحرم أصبح جنة إبليس له على الأرض .. ورغم ازدواجية الشعور إلا أنه كان حقيقياً.. أحبها بالقلب والجوارح ، وخذلته وخانته بالقلب والجوارح أيضاً .. ورد فعله وقع صارماً وقاسياً .. أظهر كل الإجرام الذي تعلمه منها دفعة واحدة وصلب أول ضحايا معركته وتركه نهباً لغربان الخطيئة.. إنه قلبه "أول الضحايا" ، والآن ماتت هي وتركته منكسر بسببها حتى النخاع .. وبعد دقائق قليلة انضم إليه ريان مجدداً .. وبصمت تام اتخذ مقعداً بجانبه ، يُربِّع ساق أسفله ، ويرفع الأخرى لأعلى ، عاقداً ذراعيه حول صدره .. ثم أطبق جفنيه وأرجع رأسه للخلف.. منهزماً .. ساكنُ الأجواء .. كأن عمره زاد ألف عام .. منقوصاً بدونها.. منقوصاً حد التلف والإعياء ، وكلما حاول خلعها منه تغوص في أعماقه أكثر .. مريم! ..وطنه الضائع .. هجرته هجر موجع .. وهل تهجر الأوطان؟.. وهل يعطيها الحق عندما تعود؟.. وهل ستعود؟..
1
-(انا مش فاهمك ياريان) .. جملة خافتة نطقها هيثم ليقطع الإِطْرَاق المُستطال بينهما فنظر إليه نظرة حائرة وقال (ولا انا فاهم نفسي)
+
تحدث هيثم مبتسماً بهدوء (المفروض تكون طاير من الفرحة ، مريم عايشة...)
+
قاطعه ريان بعقل تائه (عايشة فين؟ ، ومع مين؟، والدنيا عملت فيها إيه؟ ، مريم هشة وضعيفة ، وأول مرة عجزها يخوفني) .. بذل تنهيدة خرجت مُحترقة وسط أنفاسه المُتعبة (أنا مُجهد وتعبان ، وصالب طولي بالعافية، وماعنديش طاقة أدور عليها) ..
+
ربت هيثم على كتفه قائلاً (ماتدورش ، اللي جمعكم وفرقكم من غير معاد ، قادر يجمعكم تاني) .. وأضاف بنبرة يشوبها حزنا خفياً (ارحم نفسك من التفكير ، ربنا أحن على عباده من عباده) ..
+
تأمل ريان وجهه المُستكين رغم وجوم تقاسيمه وسأله (انت كنت بتحب چيسي أوي كده؟)
+
أجابه بزفرة متألمة (أوي ، مع إنها ماتتحبش)
+
قال ريان مواسياً (الحب ده خبطة بتجيلك من حيث لا تحتسب ، تنزل على قلبك تعميه)
+
تكلّم هيثم بصوت مهزوز (دمرتني ودمرت روحها) .. غصباً عنه لم يتحكم في دموعه فبكى مُستطرداً (حسستني بالنقص ، واني مش راجل غير فالسرير وبس) ..ضمه ريان لصدره وتركه يخرج أحزانه كيفما يشاء فتابع بقهر (كان نفسي نتجوز ونخلف وتعوضني غياب أهلى ، دي حتى ماسابتنيش اسافر لهم ، وقعدتني جنبها خمس سنين ، بتحايل عليها نعيش فالحلال) ..
+
مسح ريان على ظهره قائلاً (ظروفك شبه ظروف كريم جداً ، بس الفرق بينكم إن هو أقوى ، وبيعرف يوقف نفسه عند حدودها)
+
ابتعد هيثم عنه قائلاً بضعف (أو يمكن عشان انت فحياته)
+
ضحك ريان ضحكة خفيفة ثم قال (الكل مفكر اني ساند كريم ، والحقيقة إن كريم هو اللي ساندني ، انا من غيره ولا حاجة حرفياً ، ولو بصيت لحياتنا احنا الاتنين وقارنت بينا هاتفهم كلامي) ...
+
أَضْمَرَ هيثم غصته للحظات وأردف متسائلاً بالْتِبَاس (انا زعلان على موت چيسي ليه؟)
+
جاوبه ريان بإحساس صادق (عشان أصلك طيب ورغم كل أخطائك فيك الخير) ... وأثناء حالتهما تلك دخل عليهما كريم يمسك بشطيرة جُبن وثمرة خيار ثم جلس أمامهما يأكل قائلاً (ايه ياملوك الأحزان ، هانفكنا من الزعل عالنسوان ، ونشوف مصالحنا امتى؟)
1
ضربه ريان على ذراعه قائلاً (مصالح ايه ياعديم الإحساس ، بنت خالتي لسه ميتة الصبح)
+
قضم خيارته يمصمص شفتيه باستهزاء (مسسم ، ياسمين؟! ، الله يرحمها كانت بنت حرام تستاهل الحرق) .. أقرن جملته بقضمة أخرى مضيفاً بلا مبالاة (ممكن ماتدخلناش في تفاصيل مالهاش لازمة، عشان الواحد مرارته على آخرها منكم؟)
+
بينما سأله هيثم بتعبير ساخر (ألا قولي ياكريم ، هاتعمل ايه لو لقيت ريهام؟)
+
شهق بخضة مصطنعة (يانهار بوس ياجدعان) .. قهقه ريان بشدة حتى أدمعت عيناه فاسترسل بسعادة كبيرة (الاقيها بس وانا ورحمة أمها ماهسيب حتة في جتتها سليمة) ..
+
تعالت ضحكات هيثم قائلاً لريان (شايف تفكير الناس العاقلة؟ ، مش انت اللي قاعد تندب جنبي؟)
+
لوّح كريم بالشطيرة فالهواء (الإنسان بقاله 28 سنة عايش وحيد ، مفيش كلبة فحياته)
+
تناولها ريان يأكل منها قائلاً بحنق (انت عيل تفكيرك قذر)
+
رفع كريم حاجبه متزامناً مع شفته العلوية يقول باستنكار (انا عايز اتجوز ، ده عم صلاح القط بتاع شارعنا بيتجوز اربع مرات فاليوم ياللي منك لله)
+
أَهْزَقَ هيثم بقوة متفوهاً (ياعيني يابني، انت بائس لدرجة انك قاعد تتفرج عالقطط فالشوارع؟)
+
رد عليه كريم بالإفيه الشهير للفنان حسين مملوك (تعبان ياكابتن، والله تعبان) .... انفجرا ضاحكين فأشار لهما أن يتوقفا قائلاً (شوية جد بقا لو سمحتم ، انا لقيت مكان كويس أوي ينفع نفتحه شركة صغيرة على قدنا، بكرة هانروح سوا نشوفه)
+
أيده ريان قائلاً بموافقة (مفيش مشكلة ، على بركة الله) .. وسانده هيثم أيضاً (ربنا يجعلها فاتحة خير علينا)
+
نهض كريم يقول بمزاح (انا هاروح انام وياريت انتم كمان تناموا ، بدل قعدة اتلم تنتون على تنتن دي ، ماتجيبولناش الفقر) ..
+
تبعه ريان يهمّ بضربه قائلاً (تعالى بقا عشان انا ساكتلك من الصبح) ..فخرج يركض نحو الحديقة هاتفاً (بالراحة ياريان ، انت راجل صاحب مرض) .. ثم هرع لغرفته تاركاً إياه يقف أسفل الدرج متخصراً والغيظ يتقافز حوله ....
+
******************
+
في السويس /
+
حالة من الصمت الحزين تعم المكان ، وفتاتي الميتم المنكوب متشحتين بالسواد من الداخل والخارج .. تجلسان بسكون لا يقطعه إلا صوت بكاء مكتوم ، إحداهما جاثمة فوق الأريكة تتدثر بشال ٱسود يغطيها كلها ، وشعرها مرفوع لأعلى بعشوائية ، والأخرى مستلقية بغرفتها ودموعها لا تتوقف .. ولم تستطع "مريم" تلك المرة تجاوز المصيبة بالغناء، ولم يسعفها البيانو لتعزف لحناً يُطرب ساكني تحت التراب الأبرياء ، والنغمات تخرج كئيبة وتطوف بها بين شواهد قبورهم فتقتلها قتلاً غير رحيم وتبقيها على قيد الحياة مذبوحة من الوريد إلى الوريد.. وللأسف رفض يوسف رفضاً قاطعاً عودتها للقاهرة لحضور جلسة محاكمة القتلة ، فأذعنت واضطرت للمشاهدة كالغرباء عبر محطات التلفاز ومواقع التواصل الإجتماعي ، ولا تعلم تفسيراً منطقياً لعدم قبوله وإصراره ألا تلح عليه وهذا أحزنها كثيراً ، أما هو فرفضه كان لحمايتها ، وخوفاً من ظهورها في وقت غير مناسب خاصةً بعدما أخبرته زوجته بالعلاقة التي جمعتها بريان (ابن خالها) .. أو بمعنى أصح (ابن رويدا) التي ألقت بها ضريرة في دار الأيتام ، ولم يستبعد أبداً أن يكون مُسلط عليها من قِبَلِها تمهيداً لقتلها .. وكلما تذكر يوم وجدها أمام الدار المُحترق مختنقة بالدخان يُقتلع قلبه من جذوره .. وحينما تقوده تخيلاته باحتمالية فقدانها لحياتها يشعر بأنفاسه تتعثر داخل رئتيه وتوجب عليه دراسة خطوة كشف الحقائق كاملة بتريث ، فانتظر حتى قال القضاء كلمته الفاصلة وحكم بإعدام القَتلة ثم اتخذ قراراً بضرورة تعرّف شقيقته على أهل والدتها المُتوفاة .. ليحكموا هم بينها وبين زوجة الخال و"ولدها" الآثمين من وجهة نظره وطبقاً لاستنتاجاته الشخصية .. وأثناء مكوثها الهادئ بغرفتها انتبهت لطرقات رتيبة على الباب تبعها دخولاً متوجساً له .. فأطرقت برأسها لأسفل تتحاشى النظر لوجهه وقسماتها تخبره أنها مازالت آخذة على خاطرها منه.. جلس بجوارها يحتوي كفيها بين راحتيه يلاطفها بتعابير بشوشة (حبيب قلب أخوه لسه زعلان؟)
+
قوست شفتيها تجيبه بملامح مُرتعشة (لا مش زعلانة)
+
نظر إليها مُطولاً يتأمل رقتها وعذوبة مُحيّاها البرئ متسائلاً في نفسه (كيف هانت على ريان؟ ، ألم تحن دمائه لها؟ .. ولا يعلم أن الدماء حنّت حنين يفجر شرايينه ، وأنّت أنين يفتت عظامه ،وصرخت شوقاً ، وتهون روحه والدنيا كلها، ولا تهون مريم عليه قط) ثم قال يداعب وجنتها برؤوس أنامله (عارفة؟، لما بقولك ياحبيب قلب اخوك بكون قاصد معناها الحرفي أوي ، انتِ حبيبة قلبي يامريم وبحبك حب أب لبنته) .. وكعادته دوماً ينتقي كلمات تؤثر بها فأهدته ابتسامة مليحة ولم ترد ، بادلها ابتسامتها بأخرى أكثر حناناً وأضاف (وعشان زعلك غالي عليا ، هاخدك نغير جو يومين فالقاهرة)
+
تهللت أساريرها متسائلة بعدم تصديق (هانروح لماما وسيلة؟)
+
أجابها بترقب (لا، هانروح لأهل ماما ليلى، مامتك الحقيقية)
+
سألته مرة أخرى بتعجب (ايه اللي فكرك بيهم دلوقتي؟)
+
رفع كتفيه ثم أنزلهما سريعاً وقال (عادي، دول أهلك ومن حقهم يعرفوا إنك عايشة)
+
فركت أصابعها تقول بتوتر (بس انا كان نفسي اشوف ماما وسيلة)
+
ضم رأسها لصدره عندما استشعر ارتباكها يقبل أعلاه قائلاً (نخلص مشوارنا عند جدك وجدتك ، وهاخدك تشوفيها) .. أبعدها عنه برفق وأردف (جهزي نفسك عشان هنسافر دلوقتي) .. أنهى كلماته بنظرة مُشجعة وانصرف كلياً تاركاً إياها تتخبط في مشاعرها، وتساؤلات كثيرة تدور بخلدها أولها لماذا تذكر شقيقها أهل والدتها فجأة وتحديداً في هذا التوقيت؟ ، ولماذا اتخذ قرار زيارتهم بمفرده دون الرجوع إليها ، مثلما يفعل في كل شأن يخصها؟، ولماذا تلمح بنبرته غرابة لا تألفها؟ .. وبرغم حيرتها وتشتت أفكارها إلا أنها امتثلت لأمره وشرعت في تجهيز نفسها للسفر .. وقفت أمام خزانتها تختار ما سترتديه وطيف صباح الغالية يلوح بين الملابس لتتذكر يدها الحانية عندما كانت تنتقي لها ثيابها وكأنها ترى بعيونها.. امتلأت مُقلتيها بالدموع غصباً تهمس بخفوت (الله يرحمك ياحبيبتي ، ويحسن إليكِ زي ما أحسنتِ ليا طول عمرك) .. ولم يطاوعها قلبها على ارتداء لون غير الأسود ، فاصطفت بنطالاً كلاسيكياً وكنزة صوفية ثقيلة ، يعلوهما معطف طويل ، وحذاء مُرتفع الرقبة.. فالشتاء لم ينتهي بعد و هي ، وعلى غير العادة تشعر بالبرد ..أكملت استعداداتها وبعناية فائقة مشطت خصلاتها التي استطالت بشكل لافت حتى تجاوزت مابعد خصرها بسنتيمترات عديدة ، وجمعت غُرّتها الناعمة بملاقط لؤلؤية ثم خرجت من الغرفة لتبلغ ريهام بأمر السفر الغير مُتوقع .. جاورتها في جلستها المُستكينة تناديها بهدوء فانتبهت لوجودها وتسائلت بصوت خفيض (انتِ خارجة ولا ايه؟)
+
أومأت مريم إيجاباً (مسافرة القاهرة مع يوسف ، هانزور أهل ماما الله يرحمها)
+
اعتدلت ريهام تقول بملامح شاحبة (خدي بالك من نفسك)
+
أسندت مريم رأسها على صدر رفيقتها الغالية تمسك كفها البارد قائلة (تعالي معايا ، أنا بخاف من غيرك)
+
مسدت ريهام شعرها بكفها الحر تقول بتعب واضح (مش قادرة يامريم)
+
أحاطتها مريم بذراعيها تعانقها قائلة بارتباك (خلاص مش هاروح في حتة لحد ما اطمن عليكِ)
+
أطبقت ريهام جفنيها تقول بإجهاد (أنا كويسة ياحبيبتي ماتقلقيش) .. أبعدتها عنها تطالع هيئتها الجميلة واستطردت مبتسمة (زي القمر ما شاء الله)
+
بادلتها مريم ابتسامتها بأخرى متسائلة (هايحبوني؟)
+
قرصت ريهام خدها المُتورد بخفة قائلة (هايموتوا فيكِ) .. وأثناء وداعهما اللطيف اقترب منهما يوسف وخلفه أميرة ، يسألها مُطالعاً الوقت في ساعة يده (جاهزة يامريم؟)
+
استقامت واقفة وقالت (جاهزة) .. بينما احتضنتها أميرة تقول بحنو (هاتوحشيني يامريومة)
+
استفهمت مريم بتعجب (انتِ مش هاتيجي معانا؟)
+
جاوبتها أميرة مُتنائية لتقعد بجانب ريهام (المرة الجاية بإذن الله) .. وزّعت مريم رؤيتها المُسترابة بينهم ولم يعطها يوسف الفرصة للمزيد من الاستفسارات وأمسك يدها ليغادرا معاً بلا حديث.. وما أن انصرفا بشكل تام حتى مالت ريهام على كتف أميرة تقول بخوف (ربنا يستر من مواجهتها مع ريان)
+
شبكت أميرة كفيها وأجابت مُطرقة برأسها (أنا مش خايفة غير من يوسف) ..
+
****************
+
نهاراً عادياً ... عادياً جداً .. يبدو أن أحداثه ستمر بسلام مع تصاعدُ أبخرة طهي الطعام داخل مطبخ الحاجة فاطمة .. وهو استيقظ مبكراً لينهي روتينه الصباحي ، ويخرج مع رفيقيه لاستكمال تجهيزات الشركة الجديدة بعدما وقع اختيارهم على المكان الذي اقترحه كريم منذ أيام .. ولا يدري لماذا يشعر اليوم بحنين زائد لمريم ، يشتاقها وكلما أغمض عينيه يراها تشق جدران أجفانه ، ويشاغله طيفها المليح فيحتضنها برموشه حُضناً دافئا ، ويتساقط معها كأوراقُ التوت بين الهُدب والمحجر .. ويعاتبها عتاباً رقيق اللهجة (مازلتُ مُصاباً بكِ ياحبة القلب ، ولم أُشفى منكِ ، ولا أريد أن أُشفى .. تؤلمني فقط عِلّة غيابك ، وأنا لا ذنبَ لى سوى مُطارحتكِ الغرام بين الحُلم والحُلم) .. وأثناء انهماكه في متابعة أعماله أصابته رعشة طفيفة أثراً لهبوب نسمة هواء باردة خطفت أنفاسه ، فأطلق شهقة خفيضة للغاية من بين شفتيه ، شهقة التقطتها مسامع كريم ولاحظ تبدل ملامحه بعض الشئ فسأله بحرص (مالك يا ريان؟ ، انت تعبان؟)
+
أجابه ريان بابتسامة غير متزنة (أنا كويس)
+
لم يقتنع صديقه وإحساسه يُكذّب إدعائه بأنه بخير متحدثاً بتوتر (لو تعبت من الشغل تعالى نروح ، الدكتور قال ماتجهدش نفسك)
+
ربت على ظهره يطمئنه (مش تعبان والله ، ماتقلقش) ..
+
العاصمة! ، تنتصب بكامل بهائها كتُفاحة آدم أعلى رُغامى الوطن ، تُساعد ساكنيه على ابتلاع أوجاعهم وتنفسها مع الهواء ، تلك الصبيةً المُزهرة ، المُنبعثة من زمان مُشمس ، تطير بأجنحة لا مرئية ، فتتبعها الأفئدة نحو سماوات لم يُبصرها إلا المُحبين بصدق ، اللذين يلعبون دورَهم كعشاقٍ بإتقانٍ نادر ، والآن تجتاز "مريم" أعتابها مُحتمية بسيارة أخيها وأحضانه الآمنة.. عامين كاملين لم تطأ قدمها مدينتها التي عاشت بها أجمل أيام عمرها وأحزنها على الإطلاق ، هنا طُرحت أرضاً فكَبُرت وأُنبِتت نباتاً حسناً .. هنا تغريبة وافرة الحظ احتوتها وأنشأتها نشأة طيبة في كنف أم عظيمة سخرّها الله وسيلة لرعاية الأيتام فصارت إسماً على مُسمى .. هنا أحبت وتعلقت وعشقت حد الوجع وتعلمت المعنى الحقيقي للخذلان ، هُنا القاهرة حيث جُرحها العميق وألمها الدائم.. هُنا ريان.. ومن هنا غادرت عاجزة ، يجتث الحُزن شرايينها كمنجل ينتزع أحشاء الحصيد ، وإلى هُنا عادت عَزيزة ، مُعززة ، مُكرّمة..... والمسافة من مَدخل المُحافظة حتى منزل الحاج زين والد ليلىٰ و.. جدها كانت مليئة بالكثير من التفكير والتوقعات ، ومع ذلك مرّت هادئة، وسريعة .. وأخيراً وصلت السيارة أمام البيت العتيق .. ترجلت ست الصبايا وقشعريرة أُلْفَة تختلج كيانها ، تتملكها عاطفة قوية وإحساس صادق تؤكده الرائحة بأنها زارت هذا المكان من قبل وبدون تردد قالت لشقيقها (أنا جيت هنا قبل كده)
+
سألها يوسف مندهشاً (إزاي؟!، ومع مين؟!)
+
أجابته بأعصاب مضطربة (مش عارفة ، بس أنا متأكدة إن دي مش أول مرة آجي هنا)
+
حاول تهدئتها قائلاً (يمكن حاسة بكده عشان متوترة)
+
حرّكت رأسها بنفي قاطع وقالت (مستحيل ، ريحة المكان مش غريبة عليا)
+
أمسك يوسف كفها ليدعمها ويخفف حدة ارتباكها ، والذهول يسيطر عليه لردة فعلها الغير طبيعية ثم اقترب بها ليقرع الجرس بترقب .. ثواني قليلة فصلتهما عن انفتاح الباب بواسطة نجاة ، والتي ما أن تفقدت الزائر حتى تجمدت أوصالها ، جاحظة العينين في صدمة بالغة عندما رأت نسخة ليلىٰ ابنة الحاج زين تقف قِبالتها بشحمها ولحمها.. ازدردت ريقها بصعوبة وعقلها يصفعها بأسئلة غير منطقية (هل الموتى يعودون إلى الحياة؟! ، وإن لم تكن هذه الفتاة ليلىٰ رحمها الله فمن تكون؟!) .. وعندما طال الصمت بادر يوسف بالحديث متسائلاً (الحاج زين موجود؟)
+
ردت عليه بتلعثم وبصرها لايحيد عن مريم (آه موجود ، أقوله مين؟)
+
جاوبها بثبات (ولاد عبدالرحمن السويسي) .. وضعت نجاة كفها فوق فمها تكتم شهقة غادرت قصبتها الهوائية بغتة ، فأعاد الإجابة مجدداً على مسامعها بشكل مُفصل وبإصرار (قوليله يوسف عبدالرحمن السويسي ، ومريم عبدالرحمن السويسي عايزين يقابلوك) .. وأثناء وقفتهم المنشدهة على أعتاب البيت ، خرجت الجدة فاطمة لتستكشف سبب تأخر نجاة في فتح الباب .. وبمجرد رؤيتها لشبيهة الغالية تسمرت مكانها هُنيهة ، ولم تتمالك أعصابها فأسقطت سِبحتها ، وانفرطت حباتها صارخة بلوعة (بنتي)
+
