اخر الروايات

رواية عيون الريان الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم نيللي العطار

رواية عيون الريان الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم نيللي العطار




                                              

أَما وَاللَهُ إِنَّ الظُلمَ شُؤمٌ
‏وَلا زالَ المُسيءُ هُوَ الظَلومُ

+


‏إِلى الديّانِ يَومُ الدينِ نَمضي
‏وَعِندَ اللَهِ تَجتَمِعُ الخُصومُ

+


- علي بن أبي طالب -

+


*************

+


بوجه مُرهق وملامح مازالت تمارس طقوس الألم لحظة وراء لحظة كان يتابع أعماله في الشركة ، وأثناء انهماكه في مراجعة بعض الملفات التي تحتاج للتوقيع ، جذب انتباهه إشعار رسالة واردة لهاتفه عبر الواتساب ، لم يعير الأمر اهتمام ظناً منه أن يكون المُرسل چيسي ، ومع قدوم الرسالة الثانية ازداد فضوله .. وفتحها لتتسمّر أنظاره على المكتوب 
الأولى صعقته وأفقدتُه القُدرةَ على النُّطْق.. (مريم اتقتلت) .. والثانية تريدُ وضعَ الحقيقةَ بين يديهِ المُتعبَتين من إزالة دموعه التي لا تنضب روافدها (لو عايز تعرف مين اللي ورا حريق دار وسيلة عشان يخلص منها قابلني كمان ساعة فالعنوان ده) .. النَفَس في صدره انحبس ، ونبضاته تتسارع وتساعد قلبه على ضخ الدم ليصل لمخه الذي صار أبعد مما يتخيل عن مجرد التخيل .. حتى عضلات لسانه تعطلت وكأنه أصيب بجلطة شلّت مخارج ألفاظه.. بالكاد استطاع الوقوف وأوصاله جميعها ترتجف وببقايا قوته الواهنة خرج من مكتبه لمكتب كريم 
-(الحقني ياكريم).. قالها بنبرة مُرتعشة فاختض صديقه لمنظره الذي لا يبشر بخير وهب واقفاً كالملسوع يسنده عندما أحس بترنح جسده (مالك ياريان؟ ، حد جراله حاجة؟) .. ناوله الهاتف الذي مازال مفتوحاً على الرسائل وعينيه تحكي صدمة عنيفة هزّت كيانه كالإعصار.. شهقة خفيضة خرجت من بين شفتي كريم وحدقتيه تتسعان شيئاً فشيئاً ثم قال بعدم إتزان (مين ده؟ ، وجاب رقمك البرايفت منين؟)

+


رد عليه ريان بخفوت (مش عارف) .. 
لم يدع كريم مجالاً لتتملك الصدمة منهما وحاول الإتصال بالمُرسل لكن الرقم خارج نطاق الخدمة ويبدو أن صاحبه فجّر القنبلة وأغلقه ليجبر ريان على مقابلته وجهاً لوجه..فحثه على التحرك ليغادرا سوياً نحو الموقع المُرفق بالرسالة الثانية ... وللعجب أن المسافة لم تكن طويلة..الفندق قريب جداً من الشركة وكأن هيثم تعمّد ذلك كُرمى للحدث الجلل.. وفي غضون دقائق كانا أمام مكتب الإستقبال حائرين عمَن سيستعلما ، إلى أن تنبيهاً برسالة جديدة وصل لهاتف ريان وتلك المرة قرأها بلهفة

+


-(مستنيك في أوضة 512)

+


..لم يستغرق الأمر سوى ثواني معدودة وأوصلهما عامل الفندق إلى الغرفة بتوصية من صاحبها .. بطوله الفارع وملامحه غاضبة الوسامة 
استقبلهما وسط نظراتهما المندهشة.. صافح ريان ومشاعره تتأرجح بين الغيرة والإشفاق يسأله عن حاله مبتسماً (إزيك ياريان؟)

+


تأمله ريان لبرهة ثم رد عليه بتشتت (أنا شوفتك قبل كده)

+


أومأ هيثم إيجاباً ثم قال (اتقابلنا في مكتب مدير النادي) .. أشار لمقعدين متجاورين قائلاً (اتفضلوا اقعدوا) .. جلس قبالتهما يميل بجسده للأمام مشبكاً كفيه ببعضهما ومرفقيه يستقران على ركبتيه قائلاً (البقاء لله مع إنها متأخرة أوي)

+



              
تحدث ريان بهدوء ظاهري (ونعم بالله)

+


ابتلع هيثم غصة مريرة عبأت جوفه بطعم صدأ قائلاً بحزن (قبل ما اتكلم ، ورحمة مريم والأطفال اللي ماتوا غدر أنا ماكنت أعرف أي حاجة ، ولما عرفت قررت أقولك عشان تاخد حق حبيبتك) .. نظرات متسائلة، حائرة ، غير مستوعبة ، تائهة كانت رد ريان فتابع هو ممسكاً بحاسوبه النقٰال الموصول بالفلاشة التي تحتوي على أرشيف چيسي الأسود من تسجيلات صوتية وڤيديوهات أحدهم يثبت تورطها في حريق الدار والآخر دليل عُهرها (اسمع المكالمات دي الأول) .. ضغط زر التشغيل وبدء الصوت الأنثوي المألوف في الاسترسال بالحديث وتوالت الاعترافات واحداً تلو الآخر : 

+


-(انتِ ليكِ يد فالحوار ولا ايه؟) 

+


-(وهو انا كان هايكفيني القلمين والتهديد الاهبل بتاع خالتي؟ ، چيسي الصرّاف قرصتها ماتطلعش غير بالدم يابيبي) ، -(تليفون صغير من بابي وكل حاجة خلصت) ، -(ملك الديرتي بيزنس على حق) 

+


-(والأطفال اللي ماتوا دول ذنبهم ايه؟)

+


-(ذنبهم إنها منهم ، أيتام زيها، من غير أهل، يعني موتهم مش فارق مع حد) ، -(فيه ايه يابنتي؟ ، ماتكبريش الموضوع ، يومين بالظبط والناس هينسوا ويتلهوا فحاجة جديدة) ، -(المهم دلوقتي إن ريان رجع لوحده، وقريب أوي هايكون ليا)... 

+


ومع كل كلمة تدفقت لآذانه كان يشعر بجلدات سوط حارقة تنزل فوق قلبه وحدقتيه تتسع حتى أصبحتا كحفرتين من اللهب والدم بينما استكمل هيثم تشغيل باقي التسجيلات وضحكتها المتفاخرة بكذبها وخداعها له تعلو وترتفع خلال المقطع التالي :

+


-(ده طلع عبيط أوي ومصدق إن المنتجع بتاعي)..

+


-(يابنتي بقولك كان واخد حباية مُهدء وضايع خالص ، فرصة وجات لحد عندي ما استغلهاش؟)

+


-(انتِ مش متخيلة الضحك اللي ضحكته بعد ما نزلت من العربية)

+


-(فظيع يادينا بجد ، دماغي لفت من بوسته)

+


-(هو انا هبلة عشان اسيبه يكمل ويعرف إني مش virgin)

+


-(أكتر حاجة غاظتني منه، إنه وهو معايا كان بيهلوس بإسم الزفتة بتاعته)...

+


الوقحة تتحدث عن استغلالها لحالته النفسية وتسخر منه وتتباهى بكل صِلف وعنجهية ، بل وقيدته طيلة الفترة الماضية بذنب اخترق صدره كطَعْنَة فَغارِ ، والأنكى أنها مُفرّطة في شرفها وليست عذراء من الأساس.. حاول ريان الخروج من صدمته متسائلاً بتيه وعدم اتزان (ولما هي مش بنت ، عايزة تتجوزني ازاي؟) .. 

+


لم يتردد هيثم في تشغيل المقطع الذي يحمل إجابة سؤاله فأتاه صوتها الفج يؤكد على استمرارها في استغفاله :

+


(هاتتجوزي ريان ازاي ، وانتِ سوري يعني مش virgin؟)

+


-(أكيد هاعمل العملية قبل الفرح) .. 

+



        

          

                
كتم كريم صرخة مصعوقة جاشت بها حنجرته بينما تشنجت عضلات ريان كاملة ونفير أنفاسه يهدر بحدة ويطرق رئتيه كطبول الحرب فقال هيثم بنبرة متهكمة (بالمناسبة هي بتعمل العملية دلوقتي)

+


خبط ريان كفيه ببعضهما قائلاً بذهول (يعني مش خارجة مع واحدة صاحبتها تشتري حاجات للخطوبة؟)

+


ضحك هيثم مِلأ فمه قائلاً (استنى بس ، اللي جاي جامد وهايبهرك) .. ضغط على زر تشغيل مقطع جديد ومختلف لكن تلك المرة صوت وصورة .. لسانه انعقد وانحشر الكلام بحلقه عندما شاهدها تشاركه الفراش بخبرة عاهرة لها صولات وجولات في ممارسة الرذيلة باحترافية.. أنّاتها وآهاتها تثير الغثيان ، حتى تحركاتها أسفل جسده مقززة وكأنها أفعى تتلوى من الرغبة في إشباع غريزتها من اللدغ ، يكاد يرى السم المُتقاطر من أنيابها أثناء تبادلها القبلات معه .. رفع كفيه يضعهما فوق رأسه وبشق الأنفس سأله سؤالاً مطعوناً في شرفه (انت اللي معاها فالڤيديو؟)

+


أجابه هيثم بندم (معاها من سنين ، وفالأصل أنا المتخان مش انت) .. أخفض بصره مردفاً بتحسر على عمره الضائع تحت أقدام غانية لم تقدر مشاعره (عملت المستحيل عشان علاقتي بيها تبقي فالنور ، وياما اتحايلت عليها نتجوز رسمي وكانت بترفض) .. ابتسم بقهر شديد واستكمل (استرخصتني ، واستقلت بيا ، بس عندها حق انا الـ ******** مش هي) 

+


صمتاً مخنوقاً بالصدمات ران على ثلاثتهم لدقائق قطعه هيثم مُقرراً كشف جميع الأوراق وتحديداً الأخيرة التي ستكون بمثابة قشة ستقصم ظهر البعير 
-(فيه حاجة أهم من ده كله لازم تشوفها، واللي أنا جايبك عشانها أصلاً ، لو سمحت حاول تتمالك أعصابك لأن الموضوع هايكون صعب عليك) .. وبأصابع متوجسة قام بتشغيل ڤيديو اعتدائها على مريم .. رجفة قوية اجتاحت جسده كالزلزال عندما وقعت أنظاره المصعوقة على حبيبة عمره تقف أمام تلك العاهرة كقطة مذعورة وصوتها يتداخل مع نفج العواصف الباردة بشرايينه بكل خِسّة وضلال :

+


-(انتِ بقى خطافة الرجالة اللي بتلف على الشباب الأغنيا عشان يصرفوا عليها، ويشيلوها من المستنقع اللي عايشة فيه؟) .. 

+


الحقيرة ادّعت عليه عندما سألتها عن هويتها (أنا خطيبة البيه اللي دايرة تتصرمحي معاه) ... 

+


حشرجة مريم ورفضها وعدم تصديقها المصدوم سحب سيف مسلول من غمده وغرزه غرزاً عميقاً في خاصرته فأمسك شقه الأيسر بكفٍ نازف وهو يستمع لكلماتها : 

+


-(مستحيل،انتِ كدابة، وهاقول لريان على كدبك ده) ، -(أنا عارفة إنه نايم وزمانه صحي) ، -(هاكلمه ييجي حالاً ويقولك في وشك إنك كدابة)... 

+


تؤكد لها أنه نائم ، وتستنجد به وهو نائم ، وتحاول الوصول إليه وهو نائم، وظل نائم حتى حُرِم منها ومن النوم كُلّه بعد فقدانها.. ومازالت روح قلبه المجروح تُكذّبها : 

+


- (انتِ كدابة ، ريان بيحبني...) 

+


فقابلتها الوضيعة بصفعة أسقطت جسدها أرضاً .. تأوه ريان بفم منفرج .. وتلقائيا جذعه ارتد للوراء رافعاً كفه يتحسس وجنته ، يشعر بأثر ضرب الأصابع وعلاماتها على وجهه حتى طَنّت أذنه بصفير أصمّها..

+



        
          

                
-(ماتنسيش نفسك ياروح أمك ، ريان مين اللي يحب واحدة عامية ، تربية ملاجئ زيك؟).. جملة أخرى خرجت بحقد أسود من فم لا يتفوه إلا بديدان الكذب تبعها جذب لخصلات شعر أطهر من أن تمسها غانية مثلها وصاحت بأنفاسها الكريهة (ولا مفكرة إني هاسيب لك خطيبي وابن خالتي تاخديه عالجاهز؟) .. صيحة عقبها ترك عنيف مُتعمد ليصطدم جانب وجه مريم بحافة المكتب.. يرى دمائه تسيل بجانبها ورأسه مشقوقاً لنصفين كل نصف يقف مطعوناً في جهة ، وتحت دناءة التهديد اعتذرت عن ذنب لم ترتكبه : 

+


-(أنا آسفة، والله ماكنت أعرف إنه مرتبط بيكِ) .. اعتذار مكسور تلاه وعد مقهور - (أوعدك إني هابعد عنه) ... وصورة أمه تظهر لتدق الرمق المتبقي من عنقه بمطرقة غدر ثقيلة ، وتوسل مريم الموجوع يخترق جلده وعظامه -(والله ياطنط ماكنت اعرف إنه خاطب، ورحمة أمي ماهاقرب منه تاني، بس وحياة أغلى حاجة عندك ماتخليهاش تأذي الدار) 

+


-(ماتخافيش مش هاتقرب من حد لو وفيتي بوعدك) ، -(يلا بينا ، كفاية كده) ..

+


أمر الوالدة الجاحدة جعل من الشك يقين بتورطها في ذبحه والإرعاد الأخير بالقتل كان للبغيضة الأخرى -(لو نطقتي بكلمة من اللي حصلت هنا انهاردة ، هايكون آخر يوم في عمرك)

+


أحنى ريان رقبته يغطيها بكفيه الباردين ، وكل خلاياه ترتعش رعشة ما قبل الموت ، ودموعه تتراقص كالأمواج أمام عينيه، ووخز لعين ينخر أنسجة قلبه ويبعثر نبضه الضعيف ، بينما حاوطه كريم بذراعه قائلاً بنبرة مهزوزة (اهدى عشان خاطري)

+


تحدث ريان بأنفاس تتثاقل بألم (ماعرفتش احميها ياكريم ، كان عندها حق لما خافت من علاقتنا) ..فتح أزرار قميصه وقبضة لعينة تعصر قصبته الهوائية وتعيق شهيقه وزفيره متابعاً (وأنا كنت مستغرب سابتني فجأة ليه ، وياريتهم استكفوا وسابوها فحالها ، دول قتلوها وحرقوا الدار ،وحرقوا قلبي معاها) 

+


حاول كريم مواساته قائلاً (أنا واثق إنك هاتاخد حقها)

+


نظر إليه ريان قائلاً بأعين زائغة وقدرته على الاتزان تتضائل (من مين؟ من أمي ، ولا من بنت خالتي الو*********؟ ، ولا من نفسي عشان ماعرفتش أحافظ عليها؟)

+


قاطعه هيثم ليضع الحقيقة كاملة بين يديه رغم تأثره (ولا من أبوك اللي سفرك عشان يخلصوا منها وانت بعيد؟)

+


لو أقسم بالله أن صوت انكسار عموده الفقري في تلك اللحظة صم أذنيه لن يصدقه أحد ، حرّر آهة خفيضة من رئتيه ليخفف وطأة توجعه وقال لكريم مبتسماً ومقلتيه غائمتين بعبرات متحسرة (بابا ياكريم؟ ، انا مابعرفش اقوله غير حاضر ونعم وتحت أمرك ، هاقف قصاده واعاتبه على خيانته ليا ازاي؟) .. احتضنه كريم باكياً ولم يجد كلمات ترادف ما يشعر به فتابع هو ونزيف روحه يزداد (أنا غلطت فإيه عشان يدبحوني بدم بارد كده؟)

+


جلس هيثم بجواره يربت على كتفه قائلاً (غلطت إنك آمنت لناس ماتستاهلش)

+


ابتعد ريان عن كريم برفق يقول بتشتت (دول أهلي ، لو ما آمنتش ليهم أآمن لمين؟)

+



        
          

                
جاهد هيثم على التحكم بمشاعره قائلاً بثبات انفعالي يُحسد عليه (تماسك ياريان وحاول تتجاوز صدمتك فيهم ، لحد ماتجيب حقك وحق مريم ، وحق الولاد اللي ماتوا) .. أضاف بلهجة جادة تحمل كُرهاً وتحريضاً ورغبة في الثأر (القضية دلوقتي مش مجرد قصة حب ما اكتملتش، فيه جريمة راح ضحيتها أرواح بريئة ، والجاني حُرّ طليق ولا كأن إيده غرقانة بالدم)

+


وافقه كريم الرأي قائلاً (هو بيتكلم صح) .. فمد هيثم يده يصافحه مُعرّفاً عن نفسه (هيثم، إسمي هيثم)
بادله كريم مصافحته مبتسماً بترحيب (تشرفنا) .. بينما قال ريان بملامح مُتعبة (أنا مش عارف اشكرك ولا اعتذرلك)

+


ضحك هيثم قائلاً بيأس (وانا مش عايزك تزعل من اللي عملته وهاعمله في بنت خالتك) .. 

+


سأله ريان بفضول (انت عملت حاجة تاني غير إنك تصورها وهي معاك؟)

+


أجابه هيثم بتهكم (الدكتور اللي بيرجعها بنت بنوت تاني ، عامل باكيدچ عذرية وربط عشان إذا حبت تخلف ماتقدرش ، وكله تحت إشراف صاحبتها) .. وقبل أن يتسائل مجدداً استطرد هازئاً (واحدة مصاحبة علي علوكا وأشرف كوخا، عايزها تصاحب مُحفظة قرآن؟) .. سكت هُنيهة ثم أردف باشمئزاز (الخاينة مابتعرفش غير ناس شبهها ، وصاحبتها دي باعتها بيعة رخيصة أوي) ..

+


-(المهم دلوقتي، احنا هانتصرف ازاي؟) .. قالها كريم بحيرة فتولى ريان إجابته بنظرات مظلمة (أنا عايز مصر كلها تعرف إن چيسي الصرّاف هاتتجوز ريان زين الدين ، وبعدين هاقولكم تعملوا إيه)

+


****************

+


فوق سرير جلدي من أسرّة العيادات الخاصة كانت مُستلقية تحت تأثير المُخدر بعدما انتهى الطبيب من ترميم عُذريتها الزائفة مع وضع لمسة انتقام إبداعية ، خطوة لن تشكل فارقاً كبيراً بالنسبة لشخصية مثل چيسي لكن دينا أصرّت على اتخاذها لتجرّعها ثمن سخريتها من موت أطفال الدار الذين تسببت بقتلهم بلا ذرة رحمة .. غرسة معدنية صغيرة يتم وضعها للنساء اللواتي يرغبن في التعقيم ، يقوم الطبيب بإدخالها بواسطة قسطرة خاصة تمر من المهبل إلى الرحم لسد قناتي فالوب ومنع الإنجاب مدى الحياة .. 

+


-(العروسة قربت تفوق).. قالتها الممرضة بصوتها الغليظ فانتبهت لها دينا متسائلة باهتمام (هي هاتحس بحاجة؟)

+


أجابتها بتعابير جامدة (وجع بسيط في بطنها وكتفها، وبعد كده هاتبقى كويسة)

+


أخرجت دينا مبلغاً كبيراً من المال ثم وضعته في جيب معطفها المُهترئ قائلة بابتسامة راضية (خدي دول مش خسارة فيكِ)

+


ربتت الممرضة على جيبها تقول بامتنان (تحت أمرك يامدام)

+


عقدت دينا حاجبيها قائلة بضيق (مدام إيه ياست إنتِ ؟، أنا آنسة)

+


ضحكت الممرضة قائلة وهي تدخل الغرفة مجدداً لتتأكد من إفاقة چيسي كلياً (هو فيه حاجة مضمونة اليومين دول؟ ، رقب الحمام كتير وعلى قفا من يشيل يا اختي) ... ثم هتفت عليها من الداخل هازئة (يا آنسة، الحلوة أم شرف إلا ربع فاقت) .. تحرّكت دينا بعصبية حاولت كبحها قدر المستطاع ، لاعنة الحظ الذي جعلها تتعامل مع تلك الأشكال المقززة لتتفحص المصيبة النائمة بالداخل وتأخذها وتغادر هذا المكان القميئ بأقصى سرعة...

+



        
          

                
فرّقت چيسي جفنيها بتثاقل هامسة (أنا فين؟)

+


أسندتها دينا لتنهض قائلة بوجه مكفهر (يلا نمشي من هنا بسرعة)

+


أمسكت چيسي رأسها تسألها بلسان ثقيل أثراً للتخدير (العملية خلصت؟)

+


جاوبتها دينا وهي تعدل وضعية ثيابها مبتسمة بخبث (آه ورجعتِ زي ماكنتِ)

+


انزلت چيسي كفها تضعه فوق بطنها متألمة (بطني بتوجعني)

+


لملمت دينا متعلقاتهما الشخصية وخرجت بها لتتجه نحو السيارة قائلة (ده مغص مكان العملية ، هايروح بعد كام ساعة ، المهم ترتاحي وماتعمليش مجهود اليومين دول) .. 

+


استقلت چيسي السيارة متخذة المقعد الأمامي شبه غائبة عن الوعي ، والبنج يتلاعب بعقلها تقول بهذيان (وديني أي مكان غير البيت ، مش عايزة حد ياخد باله من حاجة) ..

+


*****************

+


أين يذهب الإنسان حينما تضيعه جميع الأماكن؟ ، وتلفظه الأرض كما تلفط الدم؟ .. هل يعاقبه الله بالتيه في صحراء نفسه كما عاقب بنو إسرائيل جرّاء عصيانهم لأوامره؟ ، هو لم يكن يوماً عاصياً ، ربما انهزم واستسلم وأسرف على قلبه بالعذاب لكنه لم يعصيه أبداً بإرادته ، روحه انشرخت شرخاً هائلاً وأصبح خاوياً ، فكل من مر فيه أخذ معه شيئاً منه ولم يتبقِ لريان من ريان إلا رُفات حزن يكفيه حتى يموت ، وتحوّل كّل شيءٍ إلى اللاشيء فجأة .. وبعدما أنهى جلسته المُطولة مع هيثم وكريم غادر وحيداً ، وطريقته في المغادرة لم تكن غاضبة ، بل هادئة وخفيفة .. خفيفة تماماً مثل ريشة لا وزن لها ولا ثِقل ، يمشي واضعاً كفيه داخل جيوب معطفه ، غريباً ، خاسراً ، يتيماً ، يشاهد أحلامه المرسومة ببخار الماء على زجاج نوافذ السيارات ، أحلام بدأت بشخصين وانتهت بواحد مطعون، يحيا قيد النزيف متلحفاً ببرد الشتاء ..ويبقى السؤال كما هو بلا إجابة أين يذهب الإنسان حينما تضيعه جميع الأماكن؟ .. ويضيق به اتساع البلاد ، ويرميه القدر مقتولاً بطول ذراعه على قارعة طريق مجهول؟ .. أكثر من ثلاث ساعات قضاهن في سير غير مُهتدي وكعادة قدميه تقودانه حيث جذوره الأولى..(بيت الحاج زين الدين)..وقف أمام الباب مطأطأ رأسه بخجل ، فهو لا يتذكر متى كانت آخر مرة زار فيها جده ، ويعلم أنه غاضب ومستاء منه و.... لا يريد رؤيته ، ورغم ذلك تحركت أصابعه نحو الجرس ليقرعه .. ثواني تُعد على أصابع اليد المدة التي استغرقها الجد في فتح الباب .. وكما توقع وبغير عادته استقبله ببرود وملامح تتقن الصد.. لم يجد أحضانه مفتوحة له فاتسع وجعه أضعافاً .. جلس قبالته مخفضاً بصره ووجهه يشبه خرائب هجرها أهلها قاصدين تركها لريح الخذلان تعوي في زواياها وسأله (بطة فين؟)

+


.. 

+


-(مسافرة عند ولاد اخواتها) .. أجابه جده دون النظر إليه .. -(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .. ذكرٌ حكيم تَلاه الحاج زين الدين بنبرة عذبة فاتحاً مصحفه الكبير مُدعيّاً القراءة منه بينما في الحقيقة كان يراقب تردد صدى الآية الكريمة داخل عيون ريان الدامعة وأردف (وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) .. صوت شهقات خفيضة ارتعشت بها حنجرة حفيده الغالي طمأنته أن فطرته السليمة مازالت تتأثر بكلام الله فتابع متعمداً جلده (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) .... لم يتحمل ريان فغطى وجهه منخرطاً في بكاء مرير فأضاف الجد مكملاً السورة (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) ... 

+



        
          

                
ثم أغلق المصحف واستند بكفيه على عُكازه بصمت مهيب تاركاً إياه يغالب دموعه ويغرق فيها.. هكذا اعتاد تربيته بالقرآن وغرس بذرته الطيبة وريها بدمائه منذ صغره .. ريان كان مضيئاً وأطفأه قنوطه وعدم رضاه بقضاء ربه ، وتراكمت أوجاعه داخله بدلاً من تراكمها خلفه ، وتسرّب اليأس وعبر من قفصه الصدري كذرات رملٍ لم يعد لديه طاقة ليلملمها ..
-(لو خلصت ياتطلع أوضتك تنام ، يا إما ترجع مطرح ماجيت) .. قالها الجد زين بقسوة ليست من طباعه فرفع ريان أنظاره الغائمة نحوه يقول بصوت مهزوز (أنا محتاجك)

+


هدر به جده (وانا ماعرفكش) .. ثم لكزه بالعكاز في كتفه بقوة مستطرداً (أنا ماربيتش غير حفيد واحد بس ، واللي قاعد قصادي دلوقتي إنسان فاشل مالوش علاقة بيه) .. لم يرد ريان يستقرأ معالم الغضب والاستنكار البادية على تعابيره فسأله الجد بصرامة أب يود إصلاح ما أفسده الزمن في ولده (اعتراضك على موت مريم رجعهالك؟) ..حاول ريان إجابته لكنه قاطعه بلهجة مُحتدة (ولا مشيك البطّال وشرب السجاير، وصرمحتك مع بنت خالتك فالبارات خلوك تنساها؟ ، رد عليا .. بتعاقب نفسك بالذنوب ، ولا بتعاقب اللي كتب عليك ابتلاء ماقدرتش تصبر عليه؟)

+


ردد ريان بخفوت (حاشا لله ، استغفر الله العظيم)

+


استمر الجد في تلقينه درساً عاقد النية على طرده وقطع علاقته به نهائياً (ربنا بيأدب عباده بالبلاء ، وانت طلعت قليل الأدب وانا ماعرفتش أربيك .. ومن انهاردة اعتبر ان مالكش......) ... لم يعطه ريان فرصة لتكملة حديثه وجثى أمامه على ركبتيه يقبل تجاعيد يديه باكياً كما الطفل الضائع قائلاً (كلهم باعوني ياجدو، ماتبعنيش زيهم) ..

+


أمسكه جده من كتفيه يتأمل قهره الجديد ويود لو يصفعه بكل خيبته ، وشوقه ، وحزنه ، وألمه ، وغيابه وشقائه ، لكنه ضمه كضمة أسير مُحرر لتوه من سجن طويل قضاه ظلماً يأن ويقاسي الوحدة والفراق .. قائلاً بعتاب (كده ياريان؟ ، دي تربيتي فيك؟)

+


شدد ريان عناقه يختبئ بين أحضانه من سواد عالمه قائلاً بندم (أنا آسف والله ، آسف وتعبان وماليش فالدنيا غيرك)

+


-(انت نسيتني)

+


-(لا عِشت ولا كُنت)

+


-(نسيت نفسك فنسيتني)

+


-(فكّرني، ورجعني ليك، ماتسبنيش اغرق أكتر من كده، أنا بموت)

+


-(بعد الشر عليك ياحبيبي)

+


ابتعد عنه ريان برفق ثم استند برأسه على كفيه المستقرين في حجره يقول مغمضاً عينيه (هافضل حبيبك لحد آخر يوم في عمري؟)

+


مسد الجد خصلاته المُبعثرة قائلاً (لحد آخر يوم في عمري أنا) ... تنهيدة طويلة، متعبة ، ومهمومة بذلها وقال بهدوء (ربنا اختصر حالتك في آية عظيمة جداً بتقول " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" ، اختبار الإيمان بالابتلاء مشقة عظيمة ومهمة صعبة يا تنجح فيها وتعديها بأمان ، يا تفشل وساعتها ماحدش هايشيل عنك شيلتك)

+



        
          

                
استقام ريان ليعود لجلسته مجدداً ماسحاً دموعه (أنا مش معترض على قضاء ربنا، بس كل حاجة جات ورا بعضها فجأة ، زي مايكون حد مسك عصاية ونزل بيها فوق دماغي عماني ، وخلاني ماشي اخبط وانا مش فاهم إيه اللي حصل) .. ارتجف صوته متابعاً بحزن بالغ (إدراك الأسباب بيخلي الإنسان يتقبل ألمه وخسارته)

+


سأله جده باهتمام وترقب في نفس الوقت (وأدركت؟)

+


رد عليه مبتسماً بوجع (أدركت لحد ماهلكني الإدراك).. أخرج هاتفه من جيب المعطف ثم فتحه وقام بتشغيل تسجيلات چيسي واحداً تلو الآخر بترتيب الأحداث ليستمع جده للمؤامرة التي دُبِرَت ضده وضد مريم .. صمت مطبق للصدور خيم عليهما، وصدمة اقتاتت على قلب الشيخ العجوز فلهج لسانه مردداً (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم....) 

+


قاطعه ريان قائلاً وهو يعطيه الهاتف ليشاهد ڤيديو الاعتداء على مريم (ده كان قبل حريق الدار بيومين) .. تناوله منه الجد بيد مُرتعشة وفم منفرج فأضاف ريان بحسرة (بابا سفرني عشان يهددوها وانا بعيد ، ويخلوها تسيبني)

+


سأله بذهول (أبوك؟)

+


أومأ ريان قائلاً بضعف (تخيل ياجدو ، بابا؟) 

+


حرّك الجد رأسه نافياً بعدم إتزان (لا ، سعد مايعملش كده فيك، ده انت نور عينيه ، ومابيحبش حد فالدنيا كلها قدك)

+


تحدث ريان بخذلان (للأسف عمل، واستغل طاعتي ليه، وخانني فأكتر وقت كنت مديله فيه الأمان)

+


وكأن الطعنة التي تلقاها نفذت لصدر جده (هونت عليه ازاي؟)

+


رفع كتفيه وأنزلهما سريعاً يقول بقلة حيلة (ماتعبش في تربيتي ، خلفني وسابني ليكم وسافر يحقق أحلامه ، الطبيعي إني أهون عليه) .. 

+


-(ماعرفش قيمتك ، ياريتني مارجعتك تعيش معاهم)

+


(لا عارف قيمتي كويس ، أنا بالنسبة ليه مش أكتر من واجهة اجتماعية ، حتة كده بيكملوا بيها برستيچهم هو وامي) .. أزال دموعه التي أغرقت وجهه رغماً عنه بجانب راحتيه مردفاً (مجرد موظف شغال عنده في شركته) .. نهض الجد ليجلس بجواره وأحاطه بذراعيه يواسيه ويقبل رأسه معتذراً (حقك عليا انا ياحبيبي ، حقك وحق مريم عليا)

+


انتحب ريان بقهر بين أحضان جده قائلاً (كان بيواسيني وبيعزيني فيها وهو دابحني ودمي ودمها بينقط من إيده ، وشافني بضيع قدامه ووقف ساكت يتفرج عليا ، ماكلفش خاطره حتى يضربني قلمين يفوقوني ويرجعوني محترم زي ما استلمني منك) ... غصة تورمت واحتقنت في حلق الجد زين ولم يجد كلمات يخفف بها عن قلب أعز الناس إليه ، وأصبح متيقناً أن غاليه الصغير فقد اليوم شيئاً لا يمكن تعويضه بشكل أو بآخر .. الحب يُعوض ، والذنب يُغفر ، والتوبة تُقبل .. لكن الأمان والثقة حينما ينكسران بين المرء وعموده الفقري لا يتصلحان أبداً ، وخيبة ريان في والديه فضيحة صعبة وموحشة .. وبعد وقت ليس بقليل ابتعد عن ملاذه الوحيد برفق قائلاً (انا هاطلع أوضتي ، لو لسه ليا مكان هنا)

+



        
          

                
ربت الجد زين على وجنته قائلاً بحنو (مكانك دايماً فوق راسي وجوه قلبي) .. ابتسم ابتسامة واهنة لكنها مُرتاحة ثم قبّل جبينه بامتنان وتركه متجهاً نحو غرفته ، يتحسس مواطن إيمانه بأصابع خَجِلة ، ويعلم جيداً أن الله سيقبله بكل زلاته وأخطائه إذا ما أسبغ الوضوء ووقف بين يديه يناجيه ، ولم يتردد ثانية في فعلها .. بدّل ملابسه واغتسل وفرد سجادة الصلاة وترك لروحه العنان.. صلّى بمقلتين مغبشتين كنافذة منزل قديم يضربها المطر .. صلّى بمقدار اغترابه خلف سجن ذنب لم يقترفه.. بمقدار اشتياقه لريان القديم الذي اندثر ودُفِن تحت أسوار القنوط والكره والجشع والبغض .. بمقدار صرخات صغار الميتم وسط ألسنة النار وموتهم غدراً .. صلّى ليسدل الستار على فصل انتهى من قصته المحزونة ويبدء آخر سيكون به قوياً ومسئولاً وناضجاً .. سجد واقترب ولسانه يردد دعاء ذي النون في بطن الحوت (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ... ولم يدري كيف مر الوقت عليه وهو يقيم الليل حتى آذان الفجر .. والنوم يجافيه ويجافي جده فقرر اللجوء إليه مجدداً ليخبره بكل ما ينتوي فعله .. دخل عليه خُلوته وجده جالساً أمام المصحف وهالة بيضاء تحيط به وكأنه ولياً من أولياء الصالحين.. هذا الرجل بهي الطلة ذو الوجه الوضّاء ركن ريان الآمن .. الآمن حقاً ، وجداً لآخر العمر.. جلس قبالته مُربعاً رجليه يستمع لتلاوته الخاشعة (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) .. صدّق بلسانه الطاهر وأغلق المصحف ماسحاً على رأس حفيده بكفه الطيب وتابع (أعيذك بكلمات الله التامة من كل شر يؤذيك)

+


نظر ريان إليه نظرة غريق يتشبث بقشة لينجو وسأله (ربنا بيحبني؟)..

+


أجابه جده مبتسماً (بيحبك .. البلاء محبة من الله)

+


أخفض ريان بصره قائلاً (بس أنا تعبت وقلبي وجعني)

+


رفع جده ذقنه ليواجه عينيه (تعبك عشان يأدبك ، ووجعك هاتؤجر عليه) .. أحاط جانب وجهه براحته وأضاف (ضاقت وهاتفرج ، وهاينجيك من كربك وانت أقوى وأطهر وأقرب ليه) ... سكت هُنيهة يلتقط نَفسَاً حائراً ثم سأله (ناوي على إيه؟)

+


اعتدل ريان في جلسته قائلاً (هاواجه ، ومش هاسيب حق ليا عند حد إلا وهاخده) .. وبدء في سرد خطواته القادمة على مسامعه ليستمد منه الدعم المعنوي طالباً مشورته ويتأكد أنه يمشي في مسار صحيح ، واستمرت أحاديثهم حتى الصباح .. واضطر ريان للعودة إلى الڤيلا ليبلغ أبويه بقرار سيفرحهما به كثيراً ، ويتوق لرؤية ردة فعلهما خاصة أمه...

+


****************

+


وصل ريان إلى الڤيلا في وقت مبكر للغاية ، تسلل بحذر لغرفته عندما تأكد من أن الجميع مازالوا نائمين .. فتح خزانته ثم أخرج منها حقيبة سفره الكبيرة .. نفس الحقيبة التي كانت تحمل أغراضه وملابسه .. وأحلام طفولته وقلبه البرئ من بيت جده إلى هذا المكان الذي حوّل حياته لأعقاب سجائر دُهِست تحت أقدام أقرب الناس إليه .. ينخره سؤال متحسراً (كيف استطاعوا إطفائه وهو الذي كان دوماً مصدر الضوء لهم؟) .. الشفرة التي عمّقوا وحفروا جرحه بها حادة ولن يزول أثرها بسهولة .. لملم جميع أشيائه التي يحبها ورتبها داخل الحقيبة جيداً ، ولم ينسَ وضع آلامه ودموعه ورماد احتراقه حياً فشتان بين ريان المغادر لبيت الحاج زين الدين، وريان العائد إليه بخيبات لا تُعد ولا تُحصى .. ولأن كل ميقات بمقدار ، فلاضرر من تأجيل الرحيل لأسبوع آخر وأخير .. أغلق سحّاب حقيبته بقوة وخبأها مجدداً داخل الخزانة وعقله يردد (لا بأس من التحمل لبضعة أيام قليلة ياريان .. لا بأس .. لا بأس) .. ثم جلس على الأريكة ينتظر موعد استيقاظ أصحاب البيت وأسباب علّته، وفي تمام الثامنة وكعادتها التي لا تتغير أبداً.. صدح صوت رويدا في الأركان تعطي الأوامر بتجهيز مائدة الإفطار .. وقبل أن تدخل لتوقظه خرج هو أولاً .. استقبلته على الدرج بنظرة متفاجئة قابلها بابتسامة خائبة الرجا يلقي التحية بهدوء زائف (صباح الخير)

+



        
          

                
ردت عليه بتعجب (غريبة! ، صاحي بدري زي زمان)

+


وضع كفيه في جيوب سترته الثقيلة قائلاً بغموض (وحشتني لمتنا سوا على سفرة واحدة ، لو هاتضايقوا من وجودي بلاش)

+


أسرعت رويدا بالرد وفرحتها تتقافز حولها (نتضايق ايه ده باباك هايفرح اوي) .. استكملت صعودها نحو غرفة والده متابعة بسعادة (هاروح اصحيه على ما يجهزوا الفطار).. تتبعها بأنظاره ، وملامحه المخذولة تعزف أغنية حزينة عن طفل كبر وحيداً ، يتيماً وأمه على قيد الحياة ، وحينما غدا رجلاً أكدت له اليُتم بصك رسمي مختوم بختم الغدر .. وفي غضون دقائق معدودة اجتمع ثلاثتهم حول مائدة الطعام بعدما استيقظ سعد..

+


-(هاتروح الشركة انهاردة؟) .. سؤالاً عادياً وجهه سعد له وهو يشرب قهوته الصباحية فأجابه بوجه خالي من التعابير (لا ، خارج مع چيسي)

+


وعلى ذكرها انقلبت ملامح رويدا من السعادة إلى الاستياء متسائلة بحنق (وعلى فين كده عالصبح؟، مش كفاية طول الليل سهرانين مع بعض؟)

+


تناول ريان قطعة خيار من الطبق أمامه يضعها في فمه قائلاً ببرود مُتعمد (هانختار فستان الفرح).. ثم تابع بنفس الطريقة المستفزة (نسيت أقولكم ، احنا هانتجوز الإسبوع الجاي)..

+


شهقت رويدا بصدمة بينما توقف سعد عن الأكل قائلاً بغضب (انت قررت مع نفسك ، وبتعزمنا زي الأغراب؟)

+


تحدث ريان بلهجة متحدية (حياتي وانا حر فيها ، مش دي كلمتك ليا بقالك فترة ؟ ، بجملة الحرية بقا وماتزعلش) 

+


نظر له والده بذهول وكأنه يراه لأول مرة بحياته .. أين ولده الطائع؟.. أين ريان الذي لم يكن يعصي له أمراً؟.. أين؟.. تأخر السؤال كثيراً ... كثيراً جداً .. تأخر عامين كاملين فلا يلومن إلا نفسه الآن ..

+


-(مفيش مبروك يا ام العريس) .. قالها ريان لوالدته رافعاً حاجبيه متصنعاً البراءة .. أشاحت بوجهها الغير راضي للجهة الأخرى ولم ترد فأردف هو مدعياً الاستغراب (معقول ياماما؟ ، ابنك الوحيد هايتجوز وانتِ متضايقة كده ، بدل ماتسمعينا زغروطتين؟)

+


رمقته رويدا شزراً قائلة (اسمعك زغروطتين على خيبتك؟)

+


ضحك مِلأ فمه .. ضحكة رنّ صداها وتردد مِراراً وتكراراً .. أتستنكر زغروطتين وتسكثرهما؟ ، والله لولا العَيبة لجلب لها حزاماً ذو حلقات ذهبية وشد به خصرها وجعلها ترقص على الخيبة .. 

2


قاطع سعد ضحكه الصاخب بسؤال متعصب (وهاتعيشوا فين بعد الجواز؟) 

+


-(في شقة المنيل) .. إجابته نزلت فوق رأس أمه كالصاعقة لكنه لم يعطها فرصة للإعتراض مستكملاً باستهزاء (عايز أبدء حياتي في نفس المكان اللي بدأتوا فيه حياتكم ، يمكن ربنا يكرمني وابقى زيكم)

+


قال سعد بشفقة على زوجته التي ألجمتها الصدمة (بس الشقة دي انت اشتريتها هدية لأمك في عيد ميلادها)

+



        
          

                
عقد حاجبيه قائلاً بسخرية واضحة (ماهي أكيد مش هاتستخسرها فيا يعني) .. ثم توجه بالحديث لرويدا الصامتة التي أصبحت على وشك البكاء (ولاهاتستخسريها يارورو؟) .. صمت خانق وسكون مُشتعل ران عليهم .. تخلله صوت الزفرات المتذمرة ، الحانقة ، واكفهرار الوجوه يعبر عن حجم الغضب والضيق المتبادل بينهم .. نهض ريان يتظاهر بالثبات ، ممسكاً بكوب الماء يشرب منه وعينيه تراقب تعابيرهما الساخطة ثم تحرّك نحو الحديقة وأخرج هاتفه من جيب سترته ليجري اتصالاً هاتفياً بعروسة الهنا التي لم يسمع صوتها منذ البارحة 

+


-(ايه ياروح قلبي، انتِ لسه نايمة؟) .. قالها ريان محاولاً إخفاء ما يعتمل بصدره فأتاه ردها الكاذب خافتاً يشوبه بعض الإرهاق (عندي صداع من امبارح ، مش قادرة افتح عيني)

+


جلس ريان على أحد مقاعد الحديقة يضع ساق فوق الأخرى قائلاً باستخفاف (والصداع ده في دماغك ولا في حتة تانية؟)

+


أجلت چيسي صوتها المتحشرج أثراً للنوم قائلة (مالك ياريان عالصبح؟ ، هايجيلي صداع في رجلي مثلاً؟)

+


ضغط على فكيه يجبر لسانه على الحديث برَوِيَّة دَعِيّة (صحصحي كده يلا ، وجهزي نفسك بسرعة عشان هاعدي عليكِ) .. وبحاجبين مُقطبين وتعبير خطِر من حسن حظها أنها لا تراه استطرد (محضر لك مفاجأة حلوة أوي) .. أغلق الخط ولم يعطها فرصة الاستسفسار ، قاصداً عدم إطالة الكلام معها ، بينما هي نهضت من فراشها بتثاقل ومعالم الإعياء بادية عليها بشدة ، تفحصت الوقت في هاتفها وجدته مبكراً للغاية وعلى غير عادة ريان ، ومع ذلك أسرعت لتذهب إلى بيتها حيث أنها تمكث في غرفة بأحد الفنادق منذ ليلة أمس حتى لا ينتبه والديها لتعبها جرّاء العملية المشبوهة .. وعلى الطرف الموازي وفور إنهائه المكالمة معها اتصل ريان بكريم ...

+


-(صباح الخير ياعريس).. قالها كريم مازحاً يستهدف إغاظته فرد عليه يسأله بزفرة كئيبة (انت فين؟)

+


أجابه وهو يركز بصره على مرآة السيارة الجانبية (في الطريق رايح الشركة)

+


تحدث ريان بجدية (عايز خبر جوازي يبقى تريند عالسوشيال ميديا انهاردة)

+


ضحك كريم بيأس (ماتقلقش هاخلي سيرتكم على كل لسان)

+


شاركه ريان ضحكاته المتهكمة قائلاً (أصيل ياصاحبي) .. تناول فنجان قهوته من يد نجاة مُلقياً لها قبلة في الهواء ثم قال مستفهماً (ماتعرفش هيثم وصل لحاجة ولا لا؟)

+


استمر كريم في متابعة طريقه قائلاً (لسه)

+


رفع ريان فنجان القهوة نحو فمه يرتشف منه قطرات بسيطة قائلة (خليك معاه على تليفون) .. أردف بنظرات قاتمة هازئاً (وانا هاخد العروسة عشان تختار فستان الفرح)....

+


وتنفيذاً للإتفاق المُبرم بينه وبين ريان بدء هيثم في اتخاذ خطوات أسرع للتحري عن التقارير الحقيقية للطب الشرعي فكما هو مُثبت باعتراف چيسي أن الحريق جريمة مُدبرة وبفعل فاعل وليست قضاء وقدر ولحسن الحظ أن أحد أقربائه يعملون في انهاء تلك الإجراءات ، وعندما هاتفه ليحدد موعد لمقابلته رحب به ترحيباً شديداً ... 

+



        
          

                
-(هيثم باشا ، عاش من شافك يا راجل) .. قالها الرجل بحفاوة وهو يصافحه بينما جلس هيثم على الكرسي المقابل لمكتبه قائلاً بابتسامة مجاملة (والله يا دكتور أحمد الدنيا مشاغل) 

+


بادله ابتسامته بأخرى مستفهمة (بس إيه سر الزيارة الكريمة دي؟)

+


دخل هيثم في الموضوع مباشرةً (عايز منك خدمة)

+


أومأ الرجل باهتمام (طلباتك أوامر طبعاً)

+


تحدث هيثم بلهجة جادة يشوبها تهديد خفي (حريق دار وسيلة ، فيه شبهة جنائية ، والتقارير اللي خرجت من مكاتبكم مزورة)

+


تلفت الرجل حوله بخوف ثم مال للأمام يقترب منه هامساً (انت عرفت منين؟)

+


رد عليه هيثم بترقب (معايا اعترافات متسجلة للقاتل ، وڤيديو اعتداء على نزيلة من النزيلات متصور جوه الدار ، ولو اتسلموا للنيابة ملف القضية هايتفتح تاني)

+


ضغط الرجل على كفه قائلاً بصوت خفيض (بيني وبينك التقارير النهائية اتلعب فيها فعلاً، بتوصية من رجل أعمال مشهور)

+


باغته هيثم بذكر إسم يخاف الجميع من مجرد نطقه (محمود الصرّاف؟)

+


وضع الرجل سبابته فوق فمه قائلاً بذعر (هاتودينا في داهية ، ده راجل قادر والقتل عنده زي شكة الدبوس)

+


أرجع هيثم ظهره للخلف قائلاً بإصرار (التقارير السليمة تكون معايا في ظرف نص ساعة ، وإلا هاطلع من هنا على مكتب النائب العام ، وساعتها هاتروحوا كلكم في داهية برضه)

+


حثه الرجل على التراجع قائلاً (انت هاتفتح على نفسك وعلينا طاقة جهنم)

+


غرز هيثم نظراته المتوعدة في عمق عينيه المرتعبة قائلاً (اعمل اللي بقولك عليه من غير شوشرة) ...وأردف بملامح لا تبشر بالاستسلام غامزاً (واوعدك إن سيرتك مش هاتيجي فالحوار)

+


سحب الرجل منديلاً ورقياً من علبة موضوعة بجانبه يجفف به عرقه ثم وقف قائلاً بعدم ارتياح (استناني ، خمس دقايق بالظبط وراجع لك) وبالفعل خرج الرجل من مكتبه متجهاً نحو أحد الموظفين في قسم استخراج التقارير وفي غضون الخمس دقائق عاد إليه مجددًا ومعه ملف يحتوي على المعلومات المطلوبة وأعطاه له قائلاً بتوسل (هيثم! .. أنا لا شوفتك ولا انت شوفتني ، الناس دي فاجرة وماعندهاش كَلفة فالقتل)

+


(ماتخافش يادكتور ، وجميلك ده هافضل شايله فوق دماغي العمر كله) .. نطق بها هيثم بعدما تناول منه التقارير الصحيحة مبتسماً بحبور ثم انصرف كلياً بهدوء مثلما جاء ، وبحوذته ما سيعلِّق المجرمين ويأرجح أجسادهم على حبل المشنقة بكل سهولة لينالوا جزاء ما جَنت أيديهم ...

+


***********

+


على صعيد آخر /

+


غادر ريان الڤيلا لمقابلة أبشع مستنقع قد يحشر الإنسان نفسه في طينه بإرادته ، يجرجر أذيال هزيمته أينما ذهب ويرافقه شعور بغيض أن العالم أصبح هاوية ضيقة عالق فيها بجسده كاملاً حتى عنقه ، ورأسه خارجة منها تستغيث بلا صوت .. اختناق يعذبه ويجعل عقله يطارده بفكرة واحدة ... فكرة أنه يتوجب عليه إنهاء حياته .. وأمام ڤيلتها كانت تنتظره وملامحها مضمخة بالشحوب والإعياء .. ولم تمر سوى دقائق معدودة حتى وصل لمكانها ، وبصمت مريب استقلت السيارة بجواره تستند على النافذة برأسها فسألها لاوياًً زاوية فمه (مالك ياحبيبتي ؟ ، شكلك تعبانة كده ليه؟)

+



        
          

                
ردت عليه بتوتر (الظاهر خدت برد في معدتي)

+


رفع ريان حاجبيه يحاصرها بسؤال آخر (يعني مش صداع زي ما قولتي الصبح؟) 

+


ارتبكت چيسي لاعنة غبائها وعدم تركيزها ثم قالت بأسلوب فظ (صداع ولا مش صداع اهو تعب وخلاص) 

+


أمسك كفها وبحركة غير مألوفة بينهما ولم يفعلها سابقاً طبع قبلة عميقة فوقه قائلاً بمراوغة (ألف سلامة عليكِ ياقلبي)

+


قشعريرة لذيذة دبت في سائر جسدها تأثراً بلمس أنفاسه لبشرة يدها هامسة بإسمه (ريان!) ..وبنظرة مُحتالة السحر من عينيه الجميلتين أجابها (نعم)

+


سألته مبتسمة بسعادة (هانروح فين؟)

+


أدار محرك السيارة لينطلق بها قائلاً (مفاجأة) ... ركز رؤيته على الطريق أمامه بعدما ارتدى نظارته الشمسية القاتمة ليخفي الشرر الذي يتطاير من مقلتيه ، وزفرة خانقة تجتاح حلقه وتود التحرر لكنه كبح جماحها مستهلكاً جرعات إضافية من الصبر .. وبعد وقت ليس بقليل توقف قُبَالَة مركز ضخم لتصميم فساتين العرائس يخص مصمم مشهور تحلم كل فتاة بتوقيعه على فستان زفافها .. ترجل أولاً ليفتح لها بابها واحتوى كفها يحثها على النزول قائلاً بهدوء مصطنع (يلا عشان تختاري فستان فرحك)

+


أطاعته فاغرة فمها قائلة (انت تصرفاتك كلها غريبة انهاردة ليه؟)

+


رمقها بتعابير غير مقروءة قائلاً (ايه الغريب في إني آخد عروستي تختار فستانها بنفسها؟) .. حرّكت أكتافها نزولاً وصعوداً بعدم فهم ولم ترد ثم دخلت معه تجوب المكان بأنظار مذهولة وما زاد دهشتها توقفه إزاء فساتين الزفاف البيضاء يقلّب فيها مدعياً الاهتمام فقالت له باسترابة (فساتين الخطوبة بتكون ملونة مش بيضا)

+


التفت إليها قائلاً بابتسامة خادعة (عارف) .. ثم حاوط خصرها بذراع وبالآخر تحسس وجنتها قاصداً التلاعب بمشاعرها وأردف (ماهانش عليا أرفض لك طلب ، وهانتجوز على طول زي ما كنتِ عايزة)

+


اتسعت حدقتيها شاهقة بفرحة عارمة واحتضنته قائلة (بجد ياحبيبي؟ ، أنا مش مصدقة نفسي) 

+


أبعدها عنه برفق هامساً بإغواء (الناس حوالينا ، اصبري لما يتقفل علينا باب بيتنا)

+


عضت شفتها السُفلى تسأله بدلال (وهاتعمل ايه ورا الباب؟)

+


أجابها غامزاً بوقاحة ليست من صفاته (الحاجات دي ماينفعش تتحكي نظري)

+


ضحكت قائلة بميوعة (وأنا هاموت واشوف العملي بتاعك من زمان) ... سُبّة نابية ألجم لسانه عن النطق بها رداً على جرأتها وقلة حيائها وأشاح بوجهه للناحية الأخرى يجاهد ألا يصفعها ، ويلعن الأب والأم اللذان لم يُحسنا تربيتها لتصبح بكل هذا العُهر ...
وبآلية تامة سحب كرسي ليجلس عليه واضعاً ساق فوق الأخرى قائلاً بثبات كاذب (يلا ياحبيبتي مفيش وقت ، الفرح الإسبوع الجاي ولسه عندنا حجز الفندق وتجهيزات تانية كتير) .. تحرّكت بحماس وأسارير مُبتهجة ، تتفحص ألبسة الزفاف وتنتقي منها بعناية فائقة .. يليق بها دور العروس الأرستقراطية .. وتتصرف بعنجهية وغطرسة ابنة الحَسب والنَسب..متناسية كونها ساقطة بشرف مُرقّع ، وأفعى لدغتها والقبر كما يقولون.. أما هو فمكث مكانه يتابعها بعقل مثقوب وقلب معصور كنصف جثة مكتملة الموت 

+



        
          

                
***************

+


في السويس / 

+


في غرفتها كانت تجلس ريهام وحيدة ، تنتظر عودة مريم وانتهائها من كشفها وفحوصات قرنيتها الدورية اللازمة كإجراء احتياطي للإطمئنان على صحتها وسلامتها بعد العملية وأثناء تصفحها مواقع التواصل الاجتماعي بعشوائية عبر هاتفها وقعت أنظارها على خبر هبط على قلبها هبوط نيزك من السماء .. الصفحات العامة والفنية والمهتمة بأنباء رجال الأعمال وحياتهم الشخصية لا سيرة لهم إلا " تحديد موعد زفاف المهندس ريان زين الدين نجل رجل الاعمال سعد زين الدين على ابنة خالته چيسي الصرّاف كريمة رجل الأعمال محمود الصرّاف" .. كتمت شهقاتها الباكية بشق الأنفس ولسان حالها يجلدها (لم يكن مظلوماً .. ريان لم يكن مظلوماً .. الحقير، المخادع، ذو الألف وجه لم يكن مظلوماً) .. اختض جسدها بفزع عندما انفتح الباب ودخلت مريم ببسمتها البشوشة .. لكن سرعان ماتبدلت البسمة لعبوس قَلِق عندما لاحظت منظر صديقتها المصدوم ومقلتيها الدامعتين وما زاد ريبتها أكثر إخفائها الهاتف وراء ظهرها بتوتر واضح فاقتربت منها تسألها (مالك يا ريهام؟ ، شكلك زعلان كده ليه؟)

+


تحدثت ريهام بنبرة مهزوزة تحاول استدراك الموقف (مفيش حاجة ، أنا كويسة)

+


جلست مريم بجوارها تتفحص وجهها الذي لا يبدو بخير أبداً والدموع العالقة بأجفانها متسائلة باضطراب (انتِ بتعيطي؟)

+


مسحت ريهام عينيها سريعاً فسقط الهاتف بجانبها قائلة بعدم اتزان (لا لا لا، مش بعيط ، ده تلاقي تراب دخل عينيا) .. وزّعت مريم نظراتها بينها وبين الهاتف الذي مازال مفتوحاً على خبر زواج ريان وبدون مقدمات التقطته لتستكشف السر الذي تحاول تخبئته عنها .. شهقت بخضة وحدقتيها تتسع شيئاً فشيئاً وكأنها تحاول استيعاب ماقرأت ، تصارع ذاتها لتجد هواء يسعف رئتيها .. تكاد تختنق .. وتجزم أن صوت تمزق روحها شق سكون الصدمة الذي يحاوطها وعقلها يصفع أملها المخدوع (لم تكن كاذبة ، خطيبته لم تكن كاذبة .. وهو! ... هو ليس مظلوم .. ريان لم يكن مظلوم) .. بكت بمقلتين تحرقهما الدموع.. وكأن قلبها يُقتلع من جذوره.. سيتزوج! .. ريان سيتزوج وربما بعد أشهر قليلة سيصبح أب لطفل من رحم أنثى غيرها .. أنثى ستشاركه الحياة التي رسمها بيده لها.. ستشاركه تفاصيل كانت تخصها وحدها .. ستشاركه فراشه وأنفاسه وعطره.. ستشاركها فيه ... تشاركها؟ .. هي لم تعد موجودة من الأساس لتتشاركه مع أياً كان .. تركته بمِلأ إرادتها وأتقنت دور الميتة حتى تسرّب من بين أصابعها كالماء ، وصارت بالنسبة له ماضياً ونسياً منسياً .. 

+


احتضنتها ريهام تواسيها قائلة (والله مايستاهل دمعة واحدة من عينيكِ)

+


قالت مريم من وسط دموعها (هايتجوزها ياريهام ، طلعت خطيبته بجد ومابتكدبش عليا)

+


ردت عليها ريهام بحزن (حسبنا الله ونعم الوكيل ، ربنا يخلص حقك منهم)

+


ابتعدت عنها تمسح وجهها المُبلل تدعو بوجع (يارب هات لي حقي من كل حد ظلمني وكسر قلبي)

+



        
          

                
أمسكت ريهام بكفيها تحتويهما بين راحتيها قائلة بشفقة (ماتزعليش نفسك ياحبيبتي ، ده إنسان واطي مايتزعلش عليه)

+


تنهدت مريم بارتجاف تحاول ألا تبكي مجدداً قائلة (الصبر من عندك يارب) 

+


****************

+


صباح يوم الزفاف /

+


بنظرات شاردة وأفكار مشتتة كان يقف ريان في شرفة غرفته ، يمسك كوباً كبيراً من القهوة بيد وبالأخرى سيجارة مشتعلة مثل دواخله .. سحب نفساً طويلاً منها يعبأ به صدره المجروح وأخرجه على مهل بتثاقل وفي نيته أن يقلع عن التدخين تماماً .. لتمر الليلة كما يريد وسينهي علاقته الآثمة بكل شئ أحرق روحه .. بينما كانت تجهيزات العرس تسير على قدم وساق وسط تعجبات الجميع واستنكارهم لاستعجاله وكأنه لا يطيق الانتظار ليصبح هو وچيسي تحت سقف واحد ، أما هي فكانت تعيش أجمل أيام حياتها كأميرة تجلس فوق عرش مملكته ، لم يرفض لها طلب وأوامرها ورغباتها نُفذت بالحرف ، ماعدا اعتراضها على الزواج بشقة عائلته القديمة ، أقنعها بأسلوب ناعم للغاية أنه يتفائل بها ويريد بدء حياته معها في المكان الذي وُلِد فيه ، 

+


-(مبسوط وانت شايفهم بيلفوا حوالين نفسهم كده؟) .. صوت كريم الممازح قطع شروده لينتبه إليه خابطاً إياه على كتفه مغمغماً بحنق (خضتني يازفت)

+


دلك كريم مكان خبطته قائلاً بتذمر (بدلتك عالسرير ، وماتطلبش حاجة تاني ، انا خلاص رجليا ورمت من كتر المشاوير)

+


رد عليه ريان وهو يخرج من الشرفة نحو الخزانة ليحرّر حقيبة أغراضه المحبوسة بداخلها متجاهلاً حديثه (هتاخد الشنطة دي وشنطة نجاة توديهم بيت جدي ، وتخلص وتتصل بيا تشوف لو فيه حاجة تانية عايزك تعملها)

+


قذفه كريم بوسادة صغيرة موضوعة على الأريكة قائلاً بغيظ (ولا ولااا ، انت مطلع عين أهلي بقالك إسبوع ، أمال لو عريس بجد كنت نيلت فيا ايه؟)

+


تفحّص ريان بدلة العرس قائلاً (يابني قدّم السبت عشان اخدمك كده واتعبلك يوم فرحك)

+


أمسك كريم بمقبض الحقيبة قائلاً (حاضر ياللي منك لله)

+


ضحك ريان متسائلاً (هيثم فين دلوقتي؟)

+


أجابه وهو يستعد للمغادرة (بيكمل باقي الاتفاق) .. أنهى جملته سريعاً وانصرف كلياً ليتركه بمفرده مجدداً كي يستكمل باقي تجهيزاته .. وبعد ساعات كثيرة قضاها في غرفته وحيداً ارتدى بدلة الزفاف الأنيقة التي اختارتها چيسي له بعناية شديدة ثم وقف أمام المرآة ينظر لنفسه بحزن ، اليوم أدرك حقيقة أن شخصاً مثله كان يحتاج لضربة قوية من القدر .. ضربة تزلزل كيانه الهش ، ليكبر وينضج فوق موقد العذاب ويصير رجلاً متماسكاً يستطيع النهوض مجدداً من رماد احتراقه .. ربتة كف نجاة الحانية على كتفه أخرجته إلى أرض الواقع تتمتم بدعوات صادقة (زي القمر ياحبيبي، ربنا يحرسك) .. أخفض بصره يداري انكساره ولم يرد فرفعت ذقنه بأطراف أناملها تسأله بقلق (انت مش فرحان ليه؟)

+



        
          

                
حاول ريان اخفاء وجعه أمامها قائلاً بهدوء مصطنع (مين قال كده ، ده انا طاير من الفرحة)

+


تأملت نجاة مقلتيه المغرورقتين بالدموع قائلة (مش باين على عيونك ، وانا أكتر واحدة عارفة عيون ريان)

+


تحدث ريان مبتسماً بيأس (انتِ لسه بتشوفي ريان؟)

+


بادلته ابتسامته بأخرى أكثر أملاً وبنبرة تقطُر حباً قالت (ربنا يخلي حسه فالدنيا واشوفه أسعد الناس)

+


احتضنها يقبل رأسها ويدها ثم أبعدها عنه برفق يطالع عبائتها المُطرزة الجميلة التي ارتدتها خصيصاً من أجل فرحه قائلاً بمرح (ايه الحلاوة دي كلها ، انتِ هاتتخطبي مني كده ياست هانم)

+


ضحكت قائلة بطرافتها المحببة لقلبه (ياريت والله الواحد يجرب حظه تاني ، بدل الموكوس اللي قاعد فالبيت زي طشت الغسيل)

+


ضحك بشدة على دعابتها قائلاً (حرام عليكِ ، ده راجل غلبان لا بيهش ولا بينش)

+


حركت فمها يميناً ويسارًا بطريقة اعتراضية قائلة (هو فيه حاجة جايباه ورا غير عدم هششانه ونششانه ، يلا ربنا يجعله في ميزان حسناتنا) ... تعالت ضحكاته أكثر وللحظة أزاحت عنه ثقل همومه بخفة ظلها المعتادة عندما تتحدث عن زوجها فمسحت بكفها على وجنته قائلة بحنو بالغ (اسم الله عليك وعلى جمال ضحكتك ياقلب أمك، بدر منور اللهم صلّي عالنبي) .. وأثناء حالتهما الاستثنائية تلك صدح رنين الهاتف باتصال من چيسي تبلغه أنها انتهت من استعداداتها وتنتظره في غرفة استضافة العرائس بالفندق المُقام به حفل الزفاف 

+


**************

+


انطلق موكب الزفّة المهيب من أمام ڤيلا سعد زين الدين احتفالاً بزواج الإبن الغالي والوريث الوحيد ، بينما كان هو يجلس في المقعد الخلفي لسيارته يتابع المشهد بصمت كئيب وكأنهم يشيعون جنازته، يبتلع حسراته واحدة تلو الأخرى كجمرات مشتعلة تكوي جوفه بلا رحمة ، الكون بأكمله ينغرز فوق صدره وبدلة عرسه استحالت كفناً أسوداً يخرج من جيوب سترتها ثعابين كلها تشبه "چيسي" .. وبعد وقت ليس بقليل وصل إلى الفندق ثم صعد نحو غرفة العروس المنتظرة لقائه بفارغ الصبر .. رفض الدخول وأصر أن تخرج هي له ، فاندفعت باتجاهه بتعابير مستاءة لأنه أفسد عليها لحظة (الطلٰة الأولى) ، اقتربت منه تقول بانفعال (انا بقالي ساعة مستنياك وفالآخر تبوظ لي الـ first look؟) ..

+


حدجها بنظرة قاتمة لم تفهمها وببطء شديد أخذ ذراعها يضعه في ذراعه ليهبط بها الدَرَج المؤدي لصالة الزفاف وسط أنغام الموسيقى التراثية المُعتادة (طِلّي بالأبيض يازهرة نيسان) .. وتهليل الموجودات من صديقاتها، ماعدا واحدة كانت تقف بعيداً ، ترمقها بتشفي وشماتة وغل مستوحش .. انفتح باب القاعة على مصراعيه استقبالاً للدخول الملكي للعروسين، الفرقة الراقصة تصطف على الجانبين يؤدون حركات استعراضية ترحيباً بهما والأهل والأقارب يقفون كلٍ في فلكه يسبح .. "رويدا" مُتجمدة بجوار شقيقتها ، توزع ابتسامات مُجاملة هُنا وهُناك وملامحها لوحة فنية من التجهم والضيق ، تعرف معرفة اليقين أن ولدها يقحم نفسه داخل جُحر أفعى سامة بكامل إرادته ، والشئ الوحيد الذي تملكه المشاهدة في صمت ولعب دورها الأرستقراطي أمام الناس بجدارة.. و"نُهى" أم العروس الغالية فرحتها اليوم تبلغ عنان السماء .. أخيراً چيسي ستتزوج وستكون على ذمة رجل يسترها ويستر أفعالها وفضائحها المشينة والتي كانت على علم بها كلها ، ورغم ذلك تجاوزت وتغاضت وتواطأت تحت قناع (ربما يصلحها ريان بصلاحه) .. هكذا؟! .. بكل بساطة؟! .. وفيما العجب؟! .. إذا كانت والدته التي أنجبته ولعق كبدها أحرقت روحه ، فهل ستكترث الخالة وتخاف الله فيه؟! .. هؤلاء وُلِدوا بقدرة خارقة على دهس قلوب الآخرين دون شعور بالذنب.. فلا بأس .. أما "سعد" فلم يكن بخير ولو استطاع خداع نصف العالم برسميته وأناقته وتمثيله بأنه على مايرام ، لن يستطيع خداع ولده الذي يقرأه من بعيد كالكتاب المفتوح ، ويدرك جيداً مدى تعاسته.. بينما "محمود" كان ينتصب فارداً جسده بعنجهية وغرور .. "والد العروس" ويحق له التجوّل كالطود الشاهق، ومصافحة الشخصيات المُهمة بترفع ومن طرف أنفه .. العين الوحيدة التي كانت تبصر ما لايبصرون هي عين "الجد زين" .. الجالس بمقدمة القاعة ، ترافقه زوجته ونجاة ، وفرحة زائفة بعيدة كل البعد عن طاولتهم ... انتهت مراسم الدخول ووقف العروسين في المنتصف انتظاراً لبدء أولى فقرات الحفل ، وانطلقت الموسيقى الهادئة كدعوة لرقصة رومانسية روتينية ، فأحاط خصرها بذراعيه يقربها له بشكل لافت ، فطوقت رقبته تتأمله بحالمية وانتشاء لدُنوّ أنفاسه الملاصقة لوجنتها .. وبإشارة من يده لم تلحظها انطفأت الأنوار وأُضيئت مجدداً ليظهر هيثم خلف ريان مباشرةً .. انتفضت بفزع عندما رأته فغمز لها وابتعد ليقف بجوار كريم ... 

+



        
          

                
-(مالك متوترة كده ليه؟) .. سألها ريان بهدوء كاذب فقالت بتلعثم واضح (رجليا وجعتني من الشوز) .. 

+


أرجع رأسه للوراء قليلاً يقول باستهزاء ماطاً كلماته (اااااه الشوز) ... ابتسم ابتسامة مريبة متابعاً (سلامة رجلك ياقلبي) .. توقف فجأة يحيط كتفها بذراع وبالآخر تناول من كريم الآيباد خاصته يهمس بجانب أذنها (عندي ليكِ مفاجأة هتبسطك أوي) .. ثم قام بتشغيل الڤيديو الفاضح حيث تشارك هيثم الفراش وأعطاه لها لتشاهد نفسها وهي تعتلي قمة فجورها .. جحظت عينيها حتى كادت أن تغادر محجريهما ، تغطي فمها بكفها محاولة استجماع نفسها كي لاتنهار أمام المدعوين وبلسان مُتعثِّر قالت (أناااا.. انت ... انت فاهم غلط)

+


ضحك ريان بطريقة أثارت رعبها أكثر (طبعاً فاهم غلط ياحبيبتي ، دي أكيد بروڤة ليلة الدخلة) ... وفجأة انقلبت مُقلتيه لجمرتين ملتهبتين ودفعها بعنف باتجاه هيثم موجهاً حديثه له (استلم) .. تراجع للخلف خالعاً سترته ورابطة العنق الخانقة يقول لكريم مازحاً (اقلع ياعم البيبيون دي الجو حر) .. 

+


ضحك كريم وقلّده قائلاً (عندك حق الواحد حاسس انه شبه الجرسونات وهو لابسها)

+


سحبه ريان ليجلسا على الكوشة قائلاً (تعالى نتفرج الفيلم هايبدء) ..

+


بينما لاحظ المدعوين توتر الأجواء وحدوث شئ غير مفهوم وبدأت أصوات تهامسهم تعلو فاتجهت نهى بفزع نحو ابنتها تسألها (ايه اللي بيحصل ياچيسي؟)

+


ردت عليها بأنفاس متقطعة كمن يصارع الموت بعدما أدركت الفخ الذي نُصِب إليها (مشّي الناس دي بسرعة يامامي) ... غمز هيثم لكريم موعزاً له تلك المهمة بدلاً من المصدومة التي ستفقد الوعي فأطاعه بترحيب ممسكاً بمكبر الصوت الخاص بمشغل الموسيقى هاتفاً (مع الأسف ياجماعة الفرح اتلغى ، ياريت تتفضلوا تخلوا القاعة ، لأن زي ماحضراتكم شايفين العيلتين هايمسكوا في بعض كمان خمس دقايق) .. وبالفعل بدأ الحضور في الانصراف وسط همهماتهم وسخطهم وتكهناتهم حول أسباب إلغاء العرس بهذه الطريقة العجيبة أمام أنظار محمود الذي إِعْتُقِلَ لِسَانه كالمشلول ، وسعد المذهول مما يحدث ، ورويدا الواقفة بعجز تنتابها حالة خَرَس، وفي غضون دقائق تم إخلاء القاعة كُلياً وإغلاق أبوابها ... 

+


-(جوز خالتك النتن عامل بوفيه عرة شبهه).. قالها كريم وهو يعود لجلسته بجوار ريان بعدما أحضر لهما طبقان مملوءان بالطعام .. تناول ريان طبقه يتفحص محتوياته ثم شرع فالأكل بهدوء .. لم يستطع سعد البقاء صامتاً فاندفع إزائه يسأله بتوتر (فيه إيه ياريان؟)

+


-(فيه محشي ، كريم يغرفلك؟) .. أجابه ريان ساخراً فهدر به والده بغضب (ولد! ، احترم نفسك)

+


مد يده بصحن الطعام أمام وجهه ضاحكاً (انا بتكلم جد والله ، فيه محشي ورق عنب وكوسة)

+


قاطعهما كريم باستهزاء (ايه شغل الفلح ده ياعمي؟ ، احنا جايين نحضر فرح في صفط اللبن؟) .. بينما قال ريان بملامح ممتقعة (طعمه وحش أوي ، نجاة بتعمل أجمد منه بكتير) .. وأثناء حالة الشد والجذب الغامضة التي تدور بين ثلاثتهم انتبهوا لصوت هيثم يصفق بيديه قائلاً (attention ياجماعة ، وافتحوا تليفوناتكم عشان عروستنا الحلوة عاملة سربرايز قمر لكل الفانز بتوعها) .. ثم أمسك الآيباد وقام بإرسال الڤيديو الفاضح لهم جميعاً على هواتفهم الخاصة وتركهم شاخصين الأبصار مما يشاهدوه ، واقترب من چيسي يمسح دموعها بأطراف أنامله (ده تمن خيانتك ليا ياروحي) .. أزاحت يده عنها بعصبية فتابع بضحكة مَاجنة (مش كله الصراحة ، في لسه جزء عند ريان) .. وأضاف يشير إلى دينا الجالسة في مؤخرة القاعة تراقب الوضع مبتسمة (وجزء عند دينا) .. صُعِقَت فاغرة فاهها لكنه أطبق بيده على فكيها قائلاً بنبرة شامتة (متخيلة صاحبتك عملت فيكِ إيه؟ ، بياعة أوي البيست فريند دي) .. قذف محمود الهاتف ليسقط متهشماً وهجم عليه مُدافعاً عن ابنته لكنه كان أسرع منه وأمسك ذراعه يلويه خلفه صائحاً (باشا! ، إيدك لو اترفعت تاني هاقطعهالك) .. أنهى كلماته داحراً إياه بعيداً ليقف مطأطأ رأسه بخزي..ثم قبض على ذراع چيسي المنهارة يستطرد والشرر يتطاير من مقلتيه (خمس سنين وانتِ واكلة ،شاربة ،قايمة ،نايمة معايا يا و****** ، وبعد ده كله بتخونيني وبتخططي لقتلي؟)

+



        
          

                
ومن الطرف الآخر أتاه صوت كريم قائلاً (ولا بتصون المشي الحرام) .. لكزه ريان في كتفه كاتماً الضحك بشق الأنفس فأردف هيثم (كنتِ مفكراني هاسيبك تعيشي حياتك من غير ما اخد حق سنين عمري اللي ضاعت تحت رجليكِ؟) ... أطلق صوتاً اعتراضياً تردد في حلقه وأخرجه من أنفه يتبعه سُبّة نابية قائلاً (ده أنا أصيع من بلدك يا روح أمك) .. 

+


لم يقدر كريم على عدم التعليق قائلاً (أوبا، الواد سحبلها واحدة اسكندراني فجّرت جيوبه الأنفية) .

3


انفجر ريان ضاحكاً حتى أدمعت عيناه يقول (كفاية ياكريم الله يخرب بيت معرفتك) .. 

+


واصل هيثم حديثه بكره واضح (وياريتك استكفيتِ بمغفل واحد ، دمرتي حياة ابن خالتك الاهبل وعايزة تتجوزيه يابجحة؟) ..

+


ألقى ريان له قبلة فالهواء قائلاً (حبيبي تسلم ، ده من ذوقك) ... نفث دخان آخر نَفَس من سيجارته المشتعلة وألقاها على الأرض بجانبه ونهض من مكانه ليقف بجواره مُربتاً على كتفه يقول (بما إنك جيبت سيرتي، يبقى سيب الطلعة دي ليا انا) .. 

1


أومأ هيثم بموافقة وتراجع للخلف رافعاً ذراعيه بطريقة مسرحية (دشمل يامعلم ، الليلة ليلتك) .. 
شمّر ريان أكمام قميصه ثم سأل چيسي بأريحية مصطنعة (بتعيطي ليه؟) ..همّت بتحريك شفتيها لكنه أطبق على فكيها بقبضته حتى كاد أن يكسرهما قائلاً بلهجة خطرة (مش عايز أسمع نَفَسِك).. أخرج هاتفه من جيب بنطاله وقام بتوصيله بمكبرات الصوت الموجودة بالقاعة عن طريق خاصية البلوتوث واستطرد موجهاً حديثه للجميع الجالسين وكأن على رؤوسهم الطير (فيه حاجة تانية أحلى هانسمعها مع بعض) .. جميع مخططاتها الدنيئة أصبحت مكشوفة علناً ، بدءً من اعترافها بتورطها في حريق الدار وقتل مريم والأطفال ، مروراً باحتيالها عليه وتخطيطها للإيقاع به حتى يتزوجها ، نهايةً باتفاقها على إجراء عملية ترميم العذرية كي لا تنفضح عندما يتمم الزواج .. لطمة قوية نزلت بها رويدا على وجهها بينما شهقت نهى تمسك برأسها ، أما سعد فانهار جالساً فوق أقرب كرسي يفتح أزرار قميصه العلوية، ومحمود حالته لا تختلف كثيراً عنهم، وجده وجدته ونجاة دموعهم لا تتوقف، الوحيدة التي كانت سعيدة وابتسامتها المتشفية من الأذن للأذن هي دينا ... 
وقف قبالتهم عاقداً ذراعيه ، يوزع نظراته عليهم وبدء بالحديث معهم واحداً واحداً بالترتيب ، قال لوالدته (ماتخافيش ياماما بنت اختك المحترمة اللي ياما حاربتيني عشان اتجوزها ، عملت العملية من إسبوع وقامت بالسلامة) .. سكت هُنيهة واسترسل مشيراً بسبابته لنفسه (عشان الحمار لما ييجي ينام معاها ، ماياخدش باله إنه مش أول راجل يلمسها) ... عَلَت نبرته يسأل كريم هازئاً (مش انا حمار ياكريم؟)

+


أجابه كريم بحنق (لم ديلك ياريان مش عارفين نقعد انا وهيثم منه) ... كتم ضحكة حقيقية وحديثه تلك المرة كان لخالته (ينفع تخلفي ياخالتي وتنسي تربي؟ ، حاجة خلفتيها ربيها)

+



        
          

                
علّق كريم من مكانه (ياريتها كانت طلعت حمل كاذب بدل المرمطة اللي احنا فيها دي)

2


خبطه هيثم على مؤخرة عنقه قائلاً (ماتسكت يابني انت عامل زي مذيع قناة الحلبة كده ليه؟) .. نظر إليهما ريان يريد الضحك لكنه تمالك نفسه ووجه كلماته لمحمود قاصداً إهانته (معقول محمود باشا الصرّاف حاطط وشه فالأرض ومكسوف؟ ، هي يعني عملت ايه؟) .. فرد كفه يعد على أصابعه (يادوب ماشية فالحرام بقالها سنين ، وقتلت حبيبتي ومعاها أكتر من تلاتين طفل يتيم ، وعملت عملية ترقع بيها شرفها) .. التوت زاوية فمه بابتسامة متهكمة (بنت حرام مصفي جاية من ضهر راجل بقرون ، ما فضيش ربع ساعة يربيها) .. رمقه بازدراء واحتقار وتركه ليواجه أحزن حقائقه.. ابتلع غصة مسننة جرّحت حلقه فخرج صوته مُرتعشاً يقول لوالده (طبعاً يا بابا مريم ماكنتش من مستوانا ، وماتليقش بابن رجل الأعمال سعد زين الدين) .. لم يعطه فرصة للرد وأشاح بوجهه للناحية الأخرى حابساً دموعه بصعوبة بالغة ثم نظر لكريم قائلاً (شغّل آخر ڤيديو) .. امتثل صديقه لطلبه وقام بتوصيل الآيباد بشاشة العرض الخاصة بالقاعة لتظهر چيسي وهي تعتدي على مريم بالضرب والسُباب ، وفي تلك اللحظة انهارت حصونه وتراجع للخلف يمسك بشقه الأيسر باكياً بصمت مقهور ، قلبه المحبوس داخل تابوته الخشبي المُسمى بقفصه الصدري يتمزق لرؤية قرة عينه خاضعة لقبضة هذه العاهرة ، مذعورة أمام جبروتها ودموعها وأنّاتها المتوجعة خناجر مغروزة برئتيه ، انتظر حتى انتهى وقت البث العلني لأكبر دليل على تورطها في قتلها ثم كفكف دموعه بجانب راحتيه ووقف قبالتها وبأعلى قوة لديه هوى على وجهها بصفعة أسقطتها أرضاً وجعلت الدماء تنزف من أنفها .. جذب شعرها لتقف مرة أخرى وتركها تترنح ليكرر نفس الصفعة بقوة أكبر ، فسقطت مجدداً تبكي بشهقات عالية ، انحنى على عقبيه يقتلع خصلاتها بيده يقول ببغض أشعل النار في مقلتيه (عمري ما كنت اتخيل اني أمد إيدي على واحدة ست ، بس انتِ القتل حلال فيكِ مش الضرب بس) .. طحن ضروسه ضاغطاً على كل كلمة تخرج من فمه بقسوة (ورحمة مريم وغلاوتها عندي لالف حبل المشنقة حوالين رقبتك يابنت ال******* ) ... تركها بعنف لترتطم رأسها بحافة الطاولة المجاورة لها واستقام يقول لخالته مبتسماً بعدم ندم (لا مؤاخذة ياخالتي ، الخلفة الوسخة بتجيب لأهلها الشتيمة)... ألقى نظرة أخيرة على والديه .. نظرة مهزومة ، مقتولة بالخيبة ، مطعونة بالخذلان ، باردة كيديه الخاليتين من الدماء وقال لجده المُشاهد في صمت (يلا بينا ياجدو ، أنا ماليش مكان وسط الناس دي)

+


-(ريان!) .. هتفت بها رويدا ونحيبها يقطع السكون في القاعة فالتفت إليها يقول بعتاب (ماصعبتش عليكِ وهي مش شايفة مين اللي بيضربها؟ ، كنتِ حوشيها من تحت إيدها ، لله حتى مش عشاني) .. وعندما همّ بالمغادرة استوقفه سعد يناديه بضعف فأجابه باحترام كعادته (نعم)

+


تحدث سعد بأسف (سامحني يابني)

+


ضغط ريان على شفتيه قائلاً بمرارة (أنا مش ابنك.. أنا ابن زين .. زين اللي رباني وكبرني وعلمني وسلمني ليك، وكان مفكرك هاتحافظ عليا، وانت رجعتني ليه مهدود حيلي وضايع ومش لاقي نفسي)

+


بكى سعد ولأول مرة يبكي بتلك الحرقة بعد وفاة شقيقته منذ أكثر من عقدين كاملين قائلاً (أنا مش هاقدر أعيش من غيرك)

+


حرّر ريان شهقة بكاء كان يكتمها قائلا ً (انت أكتر واحد فيهم خذلني ، صدمتي فيك كانت أكبر من صدمة موت مريم) .. قدرته على كبح جماح دموعه استحالت صفر فنَشَج قسراً (ليه يا بابا؟ ، انا عمري مازعلتك ، ولا عصيت لك أمر) .. استمر في معاتبته لعل جرحه الغائر يتوقف عن النزيف (روح ياريان ، حاضر .. تعالى ياريان ،حاضر ... سافر أمريكا ياريان ، حاضر) .. ارتفع صوته رغماً عنه مواصلاً (ليه؟! ، رد عليا يا بابا ، عملت إيه غلط عشان اتعاقب العقاب ده؟ ، أذيتك فإيه عشان تحرق روحي وتخوني وانا مديك الأمان؟)

+


همس سعد بإسمه همسة وصلت لمسامعه كشرارة لهب (ريان!) .. فصرخ بعذاب (مات ... ريان مات مابقاش موجود ، اللي واقف قصادك ده واحد تاني لا انا ولا انت نعرفه ، شبح للواد الغلبان اللي لعبتوا بحياته وحياة حبيبته وخلتوه ماشي وسط الناس بيخبط راسه فالحيط من وجعه) .. شق مقدمة قميصه فانفتحت أزراره وتناثرت ثم أمسك سكينة موضوعة فوق أحد الطاولات وناوله إياها مستكملاً بأنين مُدنف (خد ، افتح صدري وطلع قلبي بإيدك ، وخرجها منه زي ماخرجتها من حياتي)

+


دفع سعد يده فأسقط السكين واحتضنه يقول بانهيار (سامحني ياحبيبي)

+


شدد ريان من عناقه يختبئ بين أحضانه قائلاً بشهيق متقطع (رجع لي مريم وانا اسامحك) ... وبدون مقدمات أمسك بصدره ضاغطاً عليه ، وشعور بألم قوي يفتت عظامه مصحوباً بضيق في التنفس وحرقان انتشر سريعاً ليصل لرقبته وذراعيه وظهره وكتفيه تبعه تأوهاً مرتفعاً وسقوطاً ثم فقدان للوعي ، وصرخات أبوه وأمه وجديه ونجاة تقتلع القلوب، وانتفض كريم مُرتاعاً يركض نحوه ليتلقف جسده بملامح مذعورة يناديه من أعمق نقطة بحنجرته وصوت جهوري يملأ المكان رعباً (ريان!)

1


*************

+


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close