اخر الروايات

رواية علي دروب الهوي الفصل السابع والعشرين 27 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل السابع والعشرين 27 بقلم تسنيم المرشدي


الفصل السابع والعشرون
على دروب الهوى
بقلمي تسنيم المرشدي
***
_ دي نفسها البنت اللي كانت معاك في المستشفى صح؟
سؤالها آثار فضول عاصم حوله، لن ينكر أن داخله شعر بالسعادة على أمل إعطائه فرصة وتلك البداية، أخذ نفسًا ومد يده يتحسس وجهها فتفاجئ بإبعادها ليده ثم نظرت إليه في إنتظار إجابته، فضحك عاصم وأردف:
_ بلاش قلبة الوش دي هفهمك براحة.. سلمى ياستي دي واحدة من الشلة زيها زي أنس وهيثم بالظبط بالنسبة لي..
_ بس دي مش باين على طريقتها إنها مُعتبراك صديق!
قالتها صبا بجدية تطوق للوصول إلى مُرادها من الحديث، ولم تُدرك ماذا تفعل أسئلتها بذلك المسكين الذي يطمح في أي اهتمامٍ منها، وأجاب بسلاسة:
_ هي بالنسبة ليها فأنا مش مجرد صديق فعلًا، بس دي حاجة متخصنيش، أنا موعدتهاش بحاجة ولا كان أسلوبي معاها في يوم خارج نطاق الصحوبية، وأنا صدِيتها كتير لأني حسيت بمشاعر مختلفة ليا من نحيتها عشان متبقاش عايشة على الوهم..
_ وليه مديتهاش فرصة؟
تساءلت مستفسرة، فردّ الآخر وهو يجلس على الأريكة:
_ عشان محستش بحاجة نحيتها..
وضع عاصم قدم على الأخرى وأضاف بوجهٍ مفعم بالحيوية:
_ يعني أنا لما شوفتك حسيت إني عايز أقرب منك، حسيت إني عايز أمشي لك ١٠٠ خطوة حتى لو ضد إرادتي.. بس حبيت أعمل أي حاجة عشانك، لكن هي مكنتش حاسس إني ممكن أمشي لها خطوة واحدة..
ضاق عاصم بعينيه عليها وتساءل بلهفةٍ لسماع
ردها:
_ إيه سبب كل الأسئلة دي؟
أطالت صبا النظر به ثم توجهت نحوه وجلست بجواره تاركة مساحة بينهما ثم عقدت أصابعها ببعضها وقالت بترددٍ قابلته في البداية:
_ ما تحاول تديها فرصة طلاما بتحبك...
تفاجئ عاصم من كلامها، فلم ينتظر ذلك الرد البتة، حدجها باندهاشٍ، ثم قال:
_ هو إيه اللي أنتِ بتقوليه دا؟ يعني إيه أديها فرصة؟ طب وأنتِ؟
_ مفيش أنا، دا اللي بحاول أوصله ليك..
قالتها صبا مُشفقة على آماله الواهية، ثم انتبهت على نهوضه المفاجئ قاطعًا حوراهما فلحقت به صبا وحاولت قطع طريقه بوقوفها أمامه محاولة التحدث معه:
_ عاصم، اسمعني، لو سمحت..
اضطرت صبا إلى مسك يده وهي تصر أن يقف:
_ عشان خاطري يا عاصم اسمعني حتى لو مرة واحدة بس..
توقف عاصم عن سيره، ورمق يدها الموضوعة على يده فسحبتها هي برفق وبدأت حديثها بهدوءٍ حتى يسمعها دون تمردٍ أو إبداء أي إعتراضٍ:
_ تعالى نقعد..
نظرت إليه متوسلة فتوجه عصام تلقائيًا إلى الأريكة، فزفرت صبا أنفاسها ثم تبِعَته وجلست مُقَابله وبدأت تُحادِثه:
_ أنا لو كملت بالطريقة اللي إحنا فيها، هيكون منتهى الأنانية، أنا عارفة إني دخلتك في حوار أنت ملكش ذنب فيه، بس صدقني لو كان عندي حل تاني أو كانوا سابولي طريق أمشي فيه غيرك مكنتش اترددت أبدًا عشان مَكُنش سبب في وجع قلبك ولا إنك تتآمل على الفاضي..
ابتعلت ريقها وأضافت مسترسلة بعيون لامعة:
_ عاصم أنت حد جميل جدًا، شخصية مهذبة ومجتهدة، ذكي وطموح وفوق كل دا طيب وحنين ومش بتستنى مقابل لأفعالك الجميلة اللي بتقدمها لغيرك..
ابتسمت بخفة وتابعت بصوتٍ رخيم:
_ دا مش مجرد كلام، أنت كدا فعلًا، وأنا مش حابة شخصية زي دي تعيش على أمل كداب، مش عايزة أكون سبب في إنطفاء حيويتك، أنت ساعدتني صح؟! وأنا كمان حابة اساعدك، هكون بخدعك لو متكلمتش معاك بصراحة وفوقتك..
عارفة إنك أكيد مش مُتقبل كلامي دلوقتي وحاسس إني مجنونة عشان بطلب منك تشوف حياتك وتحب، بس أنت بعدين هتشكرني إنك أخدت الخطوة دي..
صمتت ربما تستشف ما يدور في عقله، لكنه كان هادئًا أكثر من اللازم، لا ينبس بحرفٍ، فتيقنت أنه لا يريد الإقبال على خُطوة الارتباط بغيرها فهتفت بنبرة عالية:
_ أنا لو معملتش كدا أنت مع الوقت هتكرهني، طول ما أنت مستني مني حاجة وأنا مش هعرف أبادلك مشاعرك هتحس إنك كارهني وجواك هيخلق غضب مني وأنا مش عايزة نوصل للطريق دا، والله مش عشاني أنا، بالعكس عشانك أنت، الإنسان لما مش بيوصل لحاجة كان حاطت كل أمله فيها نظرته بتتغير، بيكون قاسي وجواه غضب وإحساس بالنقص بيكمله بطُرق مختلفة.. وأنا مش هكون مبسوطة لأني هكون السبب في تغيرك للأوحش، أنت قلبك نضيف وأنا مش حباه يتغير..
مال عاصم بجسده للأمام، وعقد كفوفه في بعضهما وتساءل دون أن يتطلع عليها:
_ المطلوب مني إيه دلوقتي؟
إلتوى ثغر صبا ببسمةٍ حيوية عندما استشعرت قبوله لطلبها:
_ المطلوب منك، إنك تشوف كنت بتعمل إيه في حياتك قبل ما أدخل لها وتعملها، مثلًا كنت بتخرج مع صحابك أخرج تاني، إسهر معاهم، إرجع اهتم بشغلك، انجح وحقق نجاحات تستحق اسمك، لو فيه بنت قلبك مال ليها إوعى تخاف وتحطني عائق قدام طريقتك، بالعكس تعالى وعرفني وأنا هساعدك توصل لقلبها..
رفع عاصم عينيه عليها وتشدق ساخرًا وهو يُعلق على كلامها:
_ حلوة الديموقراطية دي، أعتقد كل الرجالة تتمناها، الراجل يدخل يحكي لمراته إنه قلبه مال لواحدة غيرها وهي بدل ما تقلب الدنيا وتقوله أنت حقي ومِلكي تساعده يوصل لقلبها.. أحلام العصر!!
هب عاصم واقفًا ثم أضاف وهو يوليها ظهره:
_ تصبحي على خير يا صبا..
لم تُعقب، بل تابعت خُطواته حتى صعد إلى الطابق الثاني واختفى من أمام مرآى عينيها، فأطلقت صبا زفرةً مهمومة ثقيلة، ثم تفقدت المكان من حولها، وقررت النوم مكانها، تمددت على الأريكة وأخذت تُعيد أحداث اليوم حتى سيطر عليها النُعاس وباتت في عالم آخر.
***
وصل عبدالله إلى المنطقة خاصته؛ صف السيارة أسفل البناية، ثم صعد درجات السُلم سريعًا، وقام بفتح الباب بمفتاحه، كان البيت هادئًا للغاية، تفقد ساعته فكان الوقت متأخر لكنه لن يُفوت ليلة أخرى دون مُصالحة والدته.
توجه إلى غرفتها، وطرق بابها عدة مرات فتأكد أنها نائمة عندما لم يجد ردًا، ففتح الباب على مهلٍ يتأكد من حدسه، وعندما رآها نائمة دلف على أطراف أصابعه، ثم جسى على ركبتيه بجوار الفراش.
ومسد على خُصلاتها المختلطة بين الأبيض والأسود وهمس بندمٍ لتركها مدةً طويلة دون الحديث معها:
_ أحلام.. قومي
انتبهت عليه أحلام وفتحت عينيها، نظرت إليه تتأكد من وجوده، ثم انتفضت حين تأكدت، جلست على الفراش تُطالعه بعينين لامعتين قبل أن تردف بصوتٍ متحشرج يكسوه البكاء:
_ نسيت أحلام يا عبدالله؟
وكأنها دعست على وترًا حساس لديه، تساقطت عبرات عبدالله بغزارة، وهم بالوقوف سريعًا والجلوس بجوارها، ضمها بكل ما أوتي قوة إلى صدره وظل يُقبل رأسها مرارًا ودموعه تنهمر من عينيه كالشلال.
كانت أحلام ترتجف بين يديه من شدة تأثُرها بتلك اللحظة، رفع عبدالله رأسها وطبع قُبلة على جبينها ثم هتف بصوتٍ مهزوز:
_ حقك على راسي، متزعليش مني أنا عارف إن مفيش مبرر لبُعدي عنك، بس أنتِ قلبك كبير وهتسامحيني صح، دا أنا عبدالله حبيب قلبك هيهون عليكي تفضلي زعلانة منه؟
شدت أحلام بيدها الموضوعة خلفه على ظهره وقالت من بين نحيبها:
_ أنا مهما زعلت منك قلبي راضي عنك على طول، بس قلبي زعلان أوي إنك نستني ومسألتش فيا، حسيت فجأة إني عمري راح هدر يا عبدالله، إحساس وحش أوي..
تألم عبدالله كثيرًا، وقد شعر بوخزة شديدة في قلبه، أعادها إلى حضنه وهتف نادمًا:
_ ما عاش اللي يحسسك إحساس وحش يا...
منعت أحلام متابعته للحديث بوضع راحة يدها على فمه مُعاتبة إياه بعينيها ولسانها:
_ متقولش كدا، بعد الشر عنك
أخفض عبدالله بصره عليها وسألها باهتمامٍ:
_ طب لسه زعلانة مني؟
نفت بحركة من رأسها فمازحها عبدالله قائلًا:
_ دَوري هنا ولا هنا يمكن يكون فيه زعل مستخبي كدا في حتة مش باينة، عارف أنا حركاتكم دي
ابتسمت أحلام فبادلها عبدالله الإبتسام، وقد دقت طبول السعادة قلبه لرؤية ابتسامتها، ابتعدت عنه أحلام وسألته عن حاله مُهتمة له:
_ مزاجك عامل إيه؟
رمقها عبدالله لبرهة ثم نظر أمامه وقال بإيجاز:
_ والله يا أحلام مش أحسن حاجة، بس تمام يعني..
_ رجوع صبا لخبط لك الدنيا أكتر صح؟
قالتها وهي تربت على ذراعه، فنظر إليها عبدالله بعيون ضائقة وقال:
_ دا قاسم مقضيها مكالمات على حِسي بقى!
ضحكت أحلام فعاود عبدالله الحديث متصنعًا ضيقه مما يحدث:
_ الكلام دا مش عندي، كل شوية مكالمات بحجة عبدالله، ميصحش أبدًا، ممكن أقبل بس في حالة واحدة بس..
انتبهت عليه جيدًا فاسترسل ما لديه بجدية:
_ تكتبوا الكتاب!!
تفاجئت أحلام باقتراحه، ورمقته بذهولٍ قبل أن تهتُف بإستيحاء:
_ إيه اللي بتقوله دا؟ الكلام دا خلاص فات عليه كتير ومعتش ينفع
قاطعها عبدالله مُتحدثًا بصوتٍ رزين:
_ إيه اللي معتش ينفع؟ دا الراجل عايش على أمل إنه يرجع لك لغاية النهاردة، فين المشكلة إنكم تعيشوا اللي مقدرتوش تعيشوه زمان؟
ابتسمت أحلام بتهكم وأوضحت له أسبابها:
_ زمان كنا صغيرين، والحياة قدامنا، وكنا أول ناس في حياة بعض، لكن دلوقتي كل واحد فينا عنده حياته، معتش ينفع صدقني..
_ كل حاجة تنفع يا أحلام، بس أنتِ فكري في الموضوع، وبعدين مش لازم يكون نفس إحساسكم زمان يكون نفسه دلوقتي، فيه إحساس أحسن مليون مرة من الحب، وهو الونس!
هتفها عبدالله بنبرةٍ سوية، فابتسمت له أحلام دون تعقيب، فحاول عبدالله إقناعها:
_ أنا عايز أكون مطمن عليكي، عايز وقت ما أكون مشغول أوي ومش عارف أجي أشوفك أكون مطمن إنك مش لوحدك..
أمسك عبدالله يدها وشد عليها قبل أن يُواصل:
_ كفاية شقى يا أحلام، كفاية تفكير في بكرة، كفاية هموم ومسؤولية شلتيهم لغاية دلوقتي، أنا عايزك تكوني مرتاحة وبالك مرتاح ودا مش هيحصل إلا لو قاسم دخل حياتك..
قهقه واستأنف بمزاحٍ:
_ وبعدين اعتبريه العوض ياستي، أينعم هو أتأخر أوي بس كويس إنه جه في الآخر ولا إيه
لكزته أحلام في ذراعه بخفة وعاتبته:
_ يواد بس بقى..
ضحك عبدالله على حيائها الظاهر، وقام بدغدغتها وهو يردد:
_ بتتكفسي يا أحلام..
صدرت منها قهقهاتٍ عالية، ثم توقف عبدالله ونهض عن الفراش، أمسك بيدها وقال بحماسة:
_ تعالي هوريكي حاجة..
مشت معه حتى بلغ شرفة الغرفة وأشار إلى سيارته وقال:
_ شايفة العربية الجامدة دى
أخفضت أحلام بصرها مُتفقدة السيارة وتساءلت بجدية:
_ أيوة جميلة ما شاء الله، بتاعت مين؟
وقف عبدالله بشموخٍ وأعدل من هيئته مُتلبسًا ثوب التعالي وهو يخبرها:
_ بتاعت العبد الفقير إلى الله، عبدالله القاضي!
أسرت السعادة قلب أحلام وعاودت النظر إلى السيارة من جديد هاتفة بفرحة عارمة:
_ بجد والله؟
أماء عبدالله مؤكدًا فقامت أحلام باحتضانه والمباركة له:
_ مبروك يا حبيب قلبي
شد عبدالله على ظهرها وقال:
_ الله يبارك فيكي، بكرة أول حاجة نعملها أول ما البت زينب تصحى ننزل ناخد لفة بيها..
ابتسمت أحلام بسعادة وقالت:
_ إن شاء الله
تثاءب عبدالله فلقد سيطر عليه النُعاس، فقالت أحلام:
_ شكلك عايز تنام، روح اوضتك يا حبيبي ونام
رفض عبدالله الذهاب لمكانٍ وقال:
_ أنا مش منقول من هنا، هنام في حضن أحلام النهاردة
إزدادت أحلام بهجةً، وفتحت له ذراعيها على مصرعيه وقالت مُرحبة:
_ يا مراحب يا مراحب..
***
صباحًا؛ انتهت ليلى من وضع وجبة الفطور في الصينية ووقفت تتفحص جميع الأطباق التي تفننت في رسمها، ثم حملتها وتوجهت إلى الغرفة الذي يَبيت فيها زكريا، وضعت الصينية جانبًا وجلست على الفراش برفق تُناديه بصوتٍ مُنخفض حتى لا تُزعجه:
_ زكريا.. قوم عشان نفطر
لم ينهض فاضطرت إلى استخدام يدها التي وضعتها على وجهها وملست عليه بنعومة، فنجحت في إيقاظه، فتح عينيه ببطئٍ ورمقها برؤى مشوشة.
ثم أعدل جلسته وتطلع إلى حالتها التي كانت عليها، فلقد ارتدت من الثياب أحسنهم، تغلغلت رائحة عِطرها إلى أنفه، ناهيك عن خُصلاتها التي وضعتهم على الجانب فباتت مثيرة المظهر.
قابلته ليلى بإبتسامة رقيقة أضافت لحالتها رونقًا
خاص وقالت:
_ صباح الخير يا حبيبي
دنت منه وقامت بتقبيل وجنته بتمهلٍ تعمدته، ثم أمسكت الصينية ووضعتها على قدميه وبدأت تُطِمعه في فمه بيدها، فلم يعترض زكريا وجاراها فيما تفعله، حتى ظهرت على وجهه ابتسامة أراحت قلب ليلى وتأكدت أنها تسير على النهج الصحيح.
_ أنتِ مش بتاكلي ليه؟
تساءل مستفسرًا فأجابته ليلى بإيجاز:
_ خليني كدا أحسن، أنا مش جعانة..
لكنه لم يرضى ذلك وأخذ من الطعام وقام بإطعامها، فحاولت ليلى التحمُل دون اللجوء إلى القيء، وقامت بتناولها، عاود زكريا إطعامها لكنها أبت تلك المرة وهتفت:
_ كفاية عشان خاطري، أنا وقت ما أحس إني مُتقبلة الأكل هاكل..
ثم أسرعت في الخروج من الغرفة وجاءت بصورة أخفتها خلف ظهرها، عادت إليه مُبتسمة بحماسٍ، ثم وضعتها أمام عينيه موضحة ماهي:
_ شوفت صورة البيبي، طلبتها من الدكتورة مخصوص عشان أوريهالك...
شعر زكريا بغصة في حلقه، لكنه جاهد على مُسايرة الأمر على الرغم من رفضه التام لما يحدث، أعطتها ليلى له، فأخذ زكريا وقتًا قبل أخذها ثم تفقدها فلم يفهم شيئًا، جاورته ليلى وبنبرةٍ مليئة بالحيوية أوضحت له وهي تُشير بإصبعها على نقطةً في الصورة:
_ شايف النقطة دي، هو دا..
ابتسمت بسعادة ظاهرة وهي تستأنف:
_ سبحان الله، شوف بيكونوا قد إيه وبعد ما يتولدوا بيكون إزاي..
لم تجد منه رد فعل، فقررت اللعب على شيءٍ آخر يثير حماسه، فجلست مُقابله ونظرت إليه مُتلفهة وسألته:
_ أنت نفسك في ولد ولا بنت؟
أطال زكريا النظر بها بجفاءٍ شديد، ابتلع ريقه وأردف بإيجاز:
_ كل اللي يجيبه ربنا كويس..
قالها ثم نهض وابتعد عنها، فلحقت به ليلى مُتابعة حديثها:
_ أكيد طبعًا كل اللي ربنا يجيبه حلو، بس دايمًا الأب والأم بيكون ميولهم للنوع، أنا مثلًا نفسي في بنوته أوي..
اتسعت ابتسامتها وهي تتخيلها بين يديها وتابعت بحماسة شديدة وعيون لامعة متأثرة:
_ تكون بنتي وصاحبتي، بجد دي أمنيتي تيجي بنت أوي، ها أنت بقى نفسك في إيه؟ زيي ولا...
قاطعها زكريا بوقوفه المفاجئ ورمقها بنظراتٍ مشتعلة قبل أن يهتف بحدةٍ:
_ خلاص يا ليلى..
صر أسنانه بغضبٍ وسُرعان ما هرب إلى المرحاض، فوقفت هي تُتابع خُطواته بحسرة على فشلها كلما حاولت إقناعه بحملها، جرت أذيال خيبتها حتى بلغت الغرفة وجلست على طرف الفراش تتطلع أمامها بصمت.
إنه يضيع عليها لحظاتٍ ثمينة لطالما تمنت عيشها معه، ومع من ستعيش تلك الأجواء الحميمية إلا معه؟ ليس من السهل تحمل ذلك العبء والتعب بمفردها، إنه لا يحاول ولو بمقدار ذرة أن يقبل بالأمر الحالي فمحاولاتها تأتي عبثًا.
داخل المرحاض؛ وقف زكريا يطالع صورته بنفورٍ شديد من نفسه، يكره ما يفعله، لكنه لا يشعر يتقبله لذلك الحمل الذي أفقده لذة عيش لحظاته مع ليلى بأريحية.
فتح صنبور المياه وغسل وجهه مرارًا ثم قام بالخروج دون النظر إلى ليلى، وسُرعان ما ترتدى ملابسه وهم بالخروج، بينما انتبهت ليلى على رنين الهاتف فقامت بالرد:
_ عليا...
***
_ أيوا يا لولو، بقولك طنط عزة ووليد جاين بليل، ابقي انزلي بدري شوية هَدّي معايا أستاذة توتر دي عشان أنا كتير عليا اللي عملته فيا من وقت ما عرفت إن وليد اتقدم لها
قالتها عليا مُتعمدة مشاركتها ليوم خاص كهذا، فأبدت ليلى قُبولها وقالت:
_ تمام، هخلص اللي ورايا وانزل على طول..
أنهتا المكالمة ثم نظرت عليا إلى خلود التي تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا وصاحت بنفاذ صبر:
_ كفاية بقى أنا دوخت من اللف..
توقفت خلود بملامح متوترة وأردفت:
_ بابا أكيد هينادي عليا دلوقتي قبل ما ينزل ويسألني، دا أنا امبارح سجدت لله سجدتين شكر عشان جاله شغل ومكلمنيش..
أمسكت خلود بطنها وأضافت بوجهٍ ونبرةٍ مرتبكة:
_ بطني بتوجعني أوي...
وقفت عليا أمامها وحاولت طمأنتها ببعض الكلمات الداعمة:
_ هو الموضوع يوتر أنا عارفة، بس والله التوتر المُبالغ دا ملوش لازمة، يعني أنتِ هتلاقيكي عادي وقت ما سألك وبتردي عادي.. وكمان بليل هتحسي إن روحك خلاص بتطلع ووقت ما هتخرجي وتقعدي ونتكلم كل دا هيختفي، فبلاش توتري نفسك على الفاضي
نظرت إليها خلود وكأنها تتعلق في قش لتبخر توترها وتساءلت:
_ أنتِ شايفة كدا؟
أكدت عليا ذلك:
_ أيوا طبعًا..
شهيقًا وزفيرًا فعلت خلود ثم اعتلت طرف فراشها، تلك الأثناء ولجت هناء الغرفة ووجهت حديثها إلى خلود بجدية:
_ أبوكي عايزك.. تعالي
اتسعت حدقتي خلود وهبت واقفة، نظرت إلى شقيقتها بهلع فحاولت عليا بث الطمأنينة بها بإشاراتٍ من عينيها، ثم رافقتها إلى الخارج حتى تُساندها إن احتاج الأمر.
خرجت خلود على استحياء شديد، ووقفت أمام أبيها وهي تفرك أصابع يدها، فدعاها محمد للجلوس:
_ اقعدي واقفة ليه؟
جلست خلود ونظرت إلى شقيقتها تستمد منها القوة، ثم انتبهت على كلام أبيها:
_ أكيد عرفتي إن وليد اتقدم لك، إيه رأيك في الموضوع دا؟
ازدادت نبضات قلبها بقوة، تطلعت فيه وهي لا تعلم للكلام سبيل، لكزتها عليا بخفة في ذِراعها لِتُخرجها من حالتها فردت خلود مختصرة:
_ اللي حضرتك تشوفه يا بابا
_ هو أنا اللي هتجوزه يابنتي؟ لازم تقولي رأيك، مرتاحة للموضوعة ولا لأ، عندك قُبول من نحيته ولا لأ، كدا يعني خدي ودي معايا في الكلام عشان أعرف أتكلم معاهم بليل..
قالها محمد بنبرة هادئة متريثة، فابتلعت خلود ريقها وحاولت تجميع الكلمات لِتُجيب بها والدها، ثم أردفت بتلعثمٍ:
_ مُتقبلاه عادي، أقصد يعني عندي قبول، مش مضايقة..
ابتسم لها محمد، ومازحها مشاكسًا:
_ ولا نقوله لأ؟
رفعت خلود رأسها وقابلت عيني والدها بتوجسٍ خيفة من رفضه، فقهقه محمد وهلل من بين ضحكه:
_ شوفوا البت خافت إزاي؟!
لم تستطع خلود إخفاء ضحكتها التي تشكلت رغمًا عنها على وجهها، وسُرعان ما أخفضت رأسها هاربة من نظرات والدها، فتدخلت هناء قائلة:
_ بس الفرق بينهم كبير يا محمد.. وهي لسه قدامها ٣ سنين على ما تخلص كلية، حاسة موضوع الخطوبة دا مش وقته خالص حاليًا.. وخصوصًا إني مش بحب الخطوبة تطول ويفضل داخل خارج علينا كدا...
تفاجئت خلود برأي والدتها، رمقت عليا بخوفٍ خشية أن تقنع والدها برأيها، لكن حاولت عليا تهدئتها من خلال عينيها، ثم انتبهن على رد والدهن
_ ١٠ سنين مش فرق كبير للدرجة دي يعني يا هناء وبعدين مش أول ولا آخر ناس يكون بينهم الفرق دا، ومش لازم الخطوبة تطول ولا حاجة، تكمل تعليم في بيته إن شاء الله..
عادت بهجة خلود من جديد بعد سماعها حديث والدها، تقابلت مع عيني عليا التي انشرح ثغرها ببسمةٍ سعيدة، ثم تابعن حوار والِدتهن حيث قالت هناء:
_ ربنا يكتب اللي فيه الخير، هقول إيه بعد كلامك..
رفع محمد رأسه ناظرًا إلى عليا وأمرها بلطفٍ:
_ عليا هاتي لي الموبايل بتاعي عشان أكلم وليد وأكِد عليه يجي بليل..
فأسرعت عليا في تلبية أمر والدها، فقام بالإتصال على الفور حتى يُعطي خبرًا لوليد بانتظارهم تلك الليلة.
***
قلِق عبدالله من نومه؛ تفقد المكان من حوله فلم يجد والدته في الجوار، تفقد الوقت فوجده قد تأخر، فنهض مبتعدًا عن الفراش وتوجه إلى الخارج، فتقابل مع زينب التي تخرج من المطبخ تحمل طعامًا وتضعه على السفرة.
ابتسم لها واقترب منها وقبّل جبينها ثم أردف:
_ صباح الخير يا زوزو..
_ قصدك مساء الخير، إحنا خلاص العصر..
قالتها زينب مازحة، فأردف عبدالله وهو يمط ذراعيه في الهواء:
_ مش عارف نمت كل دا إزاي؟ تقريبا البيت كله واحشني ونمت براحتي..
_ نوم الهنا يا حبيبي
قالتها زينب بحبٍ فنظر تلقائيًا إلى الأطباق وقال:
_ الغدا جاهز كمان، مش معقول الدلع
تلك الأثناء خرجت أحلام من المطبخ اثر صوتهما وقالت بإبتسامةٍ عريضة:
_ صباح الخير يا حبيبي، يلا اغسل وشك عشان ناكل مع بعض
توجه عبدالله إلى المرحاض، بينما تابعت زينب وضع الأطباق على السفرة حتى انتهت، وجلسن في انتظار مجيء عبدالله، بعد لحظاتٍ كانوا ثلاثتهم على الطاولة يتناولون الغداء.
انتهوا من الطعام، فهب عبدالله واقفًا وقال وهو يتناوب النظر بينهن:
_ يلا قوموا إلبسو وجهزوا نفسكم..
عقدت أحلام ما بين حاجبيها وهي تتساءل بفضولٍ يُخالطه القلق:
_ هنروح على فين؟
أجابها وهو يقوم بإرتداء معطف حُلته:
_ هنروح على بيت المزرعة، هنقعد هناك..
عبست ملامح أحلام، وأبدت رفضها بما يريده:
_ أنا مش هتنقل من بيتي، أنا مرتاحة هنا
رمقها عبدالله بعتابٍ كبير، قبل أن يُردف بإصرارٍ:
_ إحنا اتكلمنا في إيه امبارح؟ قومي إلبسي بس وأي حاجة تانية تتحل بعدين
_ يا عبدالله صدقني مينفعش، فات الأوان على اللي أنت عايزه دا! أنا كبرت على الكلام دا خلاص!
اقترب منها عبدالله بِضع خُطوات وشاكسها بأسلوبٍ طريف:
_ هي مين اللي كبرت بس، أنتِ أخرك ٣٥سنة...
رمقته أحلام بطرف عينيها فهلل عبدالله مازحًا:
_ ٣٦؟
انفجرت أحلام ضاحكة وكذلك الآخرين، ثم حاول عبدالله الإصرار على ذهابهم:
_ العمر مجرد رقم، والونس مش محتاج رقم ولا يعرف عُمر.. اسمعي مني
ثم نظر إلى زينب لِتُسانده ووجه حديثه إليها بجدية:
_ ما تقولي حاجة يا زينب
ابتسمت الأخرى وقالت:
_ وافقي يا ماما، أنا أكتر واحدة عايزة تمشي من الحارة دي، معتش حابة أفضل هنا..
نظرت إليها أحلام بتأثرٍ وحزن، بينما علق عبدالله ساخرًا:
_ شوفي هي بتاعت مصلحتها بس اسمعي منها برده
ضحكت زينب وإلتزمت الصمت، بينما أخذت أحلام مُدة تفكر فيها، بداخلها تناقض شديد، لن تنكر أن جزءًا منها يُود عيش مالم تحظى به في الماضي.
وجزءًا يخشى الإقبال على تلك الخُطوة متوجسة عيش ما عاشته قديمًا، والجزء الأخير يستحيي أن يترك بيت زوجها الذي كان خير زوج لها ونعم الأب لأولادها.
اقتحم عبدالله شُرودها بإصراره:
_ مش عارف أنا باخد رأيك ليه؟ مش أنا الراجل هنا، وكلامي يتسمع، يلا قوموا إلبسوا وهاتوا شوية هدوم معاكم..
كان أمره حاسمًا فلم تستطع أحلام الإعتراض وهمت بدخول غرفتها لِتُبدل ملابسها وكذلك فعلت زينب بحماسة شديدة لعيش تجربة جديدة لم يسبق وعاشتها.
وقفت زينب مذهولة أمام سيارة عبدالله الجديدة، أشارت إليه بعيون مُتسعة لامعة وتساءلت:
_ دي بتاعتك؟! احلف
غمزها ثم أقسم أنها تعود إليه:
_ والله
فركضت نحوها بفرحةٍ عارمة وقامت بركوب المقعد الخلفي تحت ضحك عبدالله على تصرفاتها، بينما توجه هو إلى الباب الأمامي وقام بفتحه لوالدته ثم انحنى بجسده مُتلبسًا ثوب السائق وأردف:
_ اتفضلي يا هانم..
قهقهت أحلام على داعبته وقامت بركوب المقعد، ثم قام عبدالله بغلق الباب، انتبه على صفير صديقيه من خلفه ثم هلل وليد:
_ اش اش اش وأنا أقول الولا نسينا خالص، طبعًا له حق بعد ما ركب الجي كلاس
اقترب منهما عبدالله بملامح مشدودة وبغرورٍ واستعلاء قال:
_ نعم، عايزين مين يا حبيبي أنت وهو
تبادل وليد نظراته مع زكريا الذي سب عبدالله فانفجر الآخر ضاحكًا بعد تلبُسه ثوب التعالي، اقترب منهما وقال:
_ شوفتوا صاحبكم وصل لفين؟
ربت وليد على ذراعه بسعادة بالغة من أجله وردد:
_ الله يسهلوا يا سيدي..
فأضاف زكريا:
_ مبروك يا صاحبي، ربنا يعوض أيامك كلها خير
ثم لكزه زكريا في ذراعه بقوة وواصل:
_ بس متبقاش بس تنسانا بجد..
استنكر عبدالله ظنه، وقال مُبديًا حسن نواياه:
_ بقولكم إيه، فكروا في مشروع ينفعنا إحنا التلاتة عشان أنا مش هشتغل لوحدي، يا نعيش عيشة فُل ياااا....
قاطعوه صديقيه وهللوا عاليًا:
_ يا نموت إحنا الكُل
انفجروا ضاحكين ثم انسحب عبدالله معللًا:
_ هروح أنا ونبقى نتفق ونتقابل..
ثم انصرف سريعًا تاركًا سعادة في نفوس صديقيه، مُتأملين في ذلك العمل خيرًا لحياتهما القادمة، انصرفا كل منهما إلى عمله بمزاجٍ صافٍ يخلوا من الهموم.
وصل بهم عبدالله إلى بيت المزرعة بعد أن أبلغ والده بوصولهم، فكان قاسم في انتظارهم أمام الباب، يخفق قلبه بقوة كلما خُيل له اقترابه من حُلمه لطالما سهر لياليه يُناديه وينتظر حدوثه.
ترجلت أحلام من السيارة، وداخلها يُسيطر عليه التوتر والإرتباك الشديدين، شعرت لوهلة بأن قلبها يرتجف عندما رأت ابتسامته ونظراته التي لا تُرفع عنها، ثم انتبهت على صوت عبدالله الذي هلل موجهًا حديثه إلى أبيه:
_ وأنا اللي قولت هلاقيك واقف بالمأذون قدام الباب!!
نظر إليه قاسم مستاءً، فلقد انتابه الخجل من خلف كلماته، حمحم قاسم وعاتبه في نظراته:
_ لازم نتكلم مع بعض الأول يا عُبد..
ثم وجه أنظاره على زينب ورحب بها:
_ أهلًا يا بنتي، نورتي المكان
اكتفت زينب ببسمةٍ خجولة، ثم دعاهم قاسم إلى الداخل، ففضل عبدالله أن يتحدثا سويًا بمفردهما فقال:
_ هاخد زينب ناخد لفة في المكان تتعرف عليه..
وسُرعان ما انصرفا كليهما، بينما نظر لها قاسم بلهفةِ مُحب وأردف بصوت رخيم:
_ تعالي نقعد..
جلسا مقابل بعضهما، ثم لاحظ قاسم توترها فابتسم وقال:
_ لسه بتتوتري مني حتى بعد العمر دا كله؟
رفعت أحلام عينيها في عينيه وهمست:
_ الست بتفضل ست حتى لو الشكل اتغير.. طبيعي تتحرج وتتوتر، المشاعر ملهاش علاقة بالعُمر..
_ معاكي حق..
قالها ثم أضاف بحماسة قد تدفقت في أدرينالينه:
_ تتجوزيني يا أحلام؟
تطلعت به بحدقتين واسعتين متفاجئة من طلبه الجاد، بينما ابتسم هو بهدوءٍ وبنبرة رزينه تحدث:
_ تعالي نلم الشمل اللي اتفرق من سنين تاني، نعيش مرة واحدة لنفسنا، أنا مش بتمنى حاجة من ٣٠ سنة غير إنك تكوني ونسي في الحياة من تاني!
كانت مُندهشة بتصريحاته التي لم تُرتب لسماعها فور وصولها، حمحمت وحاولت تجميع شتات نفسها المُبعثرة وقالت بتلعثمٍ:
_ بس.. بس أنا كبرت يا قاسم، معتش البنوتة بتاعت زمان اللي ملامحها جميلة ورقيقة وصوتها ناعم، أنا وشي ظهر فيه تجاعيد، وصوتي بقى خشن، وإيدي ملمسها مبقاش حنين زي زمان...
_ والله يا أحلام لو كل دول كانوا فارقين معايا مكنتش طلبت منك نرجع تاني، أنا لسه بحس نفس الإحساس معاكي، لسه قلبي بيدق جامد وبيكون متوتر وخايف وأنا واقف قدامك كأني داخل امتحان ثانوية، إحساسي بيكي مقلش لحظة ودا المهم..
أردفها قاسم بلوعة مُشتاق إلى حبيبه، ثم أضاف مازحًا بعد أن شكل ابتسامة ساخرة على محياه:
_ وبعدين ليه محسساني إني عامل six pack ما أنا كرشي مدلدل قدامي أهو، وشعري خالطه الشيب وحاجة جميلة خالص
لم تستطع أحلام منع ضحكها على سخريته، فبادلها قاسم الضحك ثم تساءل بجدية وعيون تتلهف لسماع إجابتها:
_ ها نكلم المأذون؟
أطالت النظر به ثم أماءت بقبول، وسرعان ما أخفضت رأسها في حياء، فابتهج قاسم واسرت السعادة قلبه، هب واقفًا وقال:
_ طب اطلعي استقري في الأوضة اللي على يمين السلم فوق وأنا هعمل مكالمة سريعة وراجع لك..
نهضت مُسرعة من أمامه بينما خرج قاسم من البيت ليقوم بالإتصال على المأذون ليأخذ منه موعدًا في أقرب فرصة له، انضم إليه عبدالله وزينب عندما رأوه واقفًا بمفرده ثم تساءل عبدالله باهتمامٍ:
_ وصلتوا لإيه؟
لم يجيبه قاسم على الفور، بل وجه نظره على زينب وقال:
_ بتعرفي تزغرطي يا زينب؟
كانت كلماته خير دليل على قُرب إتمام زواجهما، انفرجت شفتي زينب بإبتسامة عريضة وأومأت برأسها قبل أن تطلق الزغاريد العالية التي وصلت لآذان عاصم وصبا المجاورين لهما.
فركضا إلى الخارج ليعلموا مصدر الصوت، تفاجئوا بوجود عائلة قاسم، في الحديقة الخاصة بهم، انضموا إليهم فشعرت صبا بالإرتباك الشديد من وجود عبدالله وزينب، وكأن الماضي لا يريد تركها وشأنها.
بينما قفزت زينب فرحًا لرؤياها، وقامت بضمِها لكن صبا تجمدت مكانها ولم تُبادلها العِناق، استشعرت زينب عدم مُبادلتها المشاعر نفسها وتراجعت بحرجٍ شديد وهتفت:
_ إزيك يا صبا...
_ كويسة..
اكتفت صبا بذلك الرد والتزمت الصمت في وجودهم، بينما تحدث عاصم موجهًا حديثه إلى قاسم:
_ إحنا سمعنا الصوت، فجينا نشوف جاي منين؟
كان قاسم مُتفاجئًا بوجودهما، ابتسم له بهدوء، وتعمد عدم إخباره بما يدور معهم:
_ عبدالله وعيلته هيقعدوا هنا.. وزينب كانت فرحانة وعبرت عن فرحتها بأسلوبها...
أثار كلام قاسم ريبة من حوله، فلماذا لم يخبرهم بزواجه، تبادل عبدالله النظرات مع شقيقته ووقفا مكانهما دون تعليق، بينما رحب عاصم بهم قائلًا:
_ الونس حلو برده بدل الهدوء اللي في المكان دا..
ثم انتبه الجميع على خروج أحلام الخائفة وبيدها مسدسًا تمسك به بيدين مرتجفتين:
_ أنا بفتح الدرج لقيت المسدس دا قدامي، بيعمل إيه هنا؟
اقترب منها قاسم مهرولًا وقام بأخذه منها موضحًا سبب تواجده في المنزل حتى يطمئن قلبها:
_ دا موجود للطوارئ بس متقلقيش..
فأضاف عاصم على كلمات قاسم:
_ دا ضروري وجوده في البيوت هنا، المكان هنا مقطوع وبعيد عن الناس وسهل أوي تلاقي حرامية، فدا بيكون للحماية بس، إحنا برده عندنا واحد في درج المكتب..
تلك اللحظة انتبهت أحلام لوجود عاصم وإلى جواره صبا، رمقتها بنظرات مذهولة، تُعاتبها في نظراتها، كيف فعلت ذلك بولدِها؟ كيف تقف إلى جوار زوجها أمامه، حتمًا يتألم الآن ولا يُظهر.
ابتعلت ريقها ولم تستطع الوقوف لدقيقة أخري أمامها فانسحبت بعد أن استاذنت من الجميع، وكذلك عاصم وصبا عادوا إلى البيت تحت نظرات عبدالله المستشاطة.
عاود عبدالله النظر إلى والده بوجهٍ مُحتقن وسأله بنبرةٍ مندفعة قليلًا:
_ أنت ليه مقولتش على جوازك من أمي؟
استشعر قاسم ما يوجد خلف هجومه فأوضح له قاسم سبب إخفائه للأمر:
_ عشان مش حابب آدم يعرف من حد غيري، هو لازم يعرف مني أنا الأول عشان ميزعلش..
تفهم عبدالله موقفه، وتبخر غضبه منه تدريجيًا حتى زال، تفقد قاسم السلاح الذي بيده ثم ناوله إلى عبدالله وأردف بجدية:
_ حد إخفي المسدس دا بعيد عن والدتك..
أخذه منه عبدالله ثم ولج قاسم برفقة زينب إلى البيت بينما تريث عبدالله ووقف يُطالع البيت التي تتواجد فيه صبا بمشاعرٍ مضطربة، لم يعد يدري أي شعورٍ يراوده الآن.
***
مساءً، خرجت صبا من مطبخ البيت بعد أن أحضرت لها شطيرة تتناولها حتى تأخذ دوائها فتقابلت مع عاصم الذي يبدوا عليه الخروج، حمحمت قبل أن تتساءل:
_ أنت خارج؟
أماء وردّ ببرودٍ:
_ أيوا بحاول أعمل بنصيحتك وأشوف حياتي..
تقوس ثِغر صبا بإبتسامة سعيدة وهتفت مُشجعة:
_ مبسوطة إنك أخدت الخطوة دي..
تطلع عاصم بها لبرهة دون تعقيب، ثم زفر أنفاسه ومر بجوارها دون إضافة المزيد، تحت نظراتها المتابعة له، هي على دراية بغضبه منها الآن، لكنه حتمًا سيكون مُمتنًا لها لاحقًا.
صعدت إلى الغرفة التي تقطُن بها، ووقفت في شُرفتها تطالع بيت المزرعة الخاص بعبدالله وعائلته، وهي تتناول شطيرتها على أمل رؤيته.
في الخارج؛ ركب عاصم سيارته، ووصل إلى مكانٍ قد اختاره خصيصًا للتواجد به، ولج إليه بوجهٍ جامد يخلو من المشاعر الطيبة، وقف مع أصدقائه وكان أول من سأله عن سبب وجودهم كان أنس:
_ إيه المكان اللي أنت جايبنا في دا.. من امتى بنسهر في ديسكوهات؟
رمقه بطرف عينيه قليلًا قبل أن يردد:
_ تغير، التغير مطلوب..
إستاء أنس منه وعلق بتهكمٍ:
_ بس دا تغير للأوحش يا صاحبي..
نظر أمامه وقال وهو يهُز رأسه:
_ استمتع شوية وسيبك مني..
بعد مرور ساعة، كان عاصم يترنح يمينًا ويسارًا لا يقدر على الوقوف بثباتٍ لشُربه كمية كبيرة من الكحول، اقترب منه أنس وأخذ الكأس من يده وهتف عاليًا:
_ كفاية شرب بقى، أنت معتش شايف قدامك
دفعه عاصم بعيدًا عنه وصاح بحنقٍ:
_ أبعد عني..
_ لا مش هبعد، أنت بتعمل كدا ليه؟ دي أول مرة تشرب، يكون بالكمية دي؟
هتفها أنس على أمل تركه للمشروب، لكن هيهات لعاصم الذي أخذ كأسًا وراء كأس حتى لم تعد تتحمله قدميه، وتشوشت رؤياه فساعده أنس على الوقوف والخروج من المكان برفقة صديقيه الآخرين.
عاد عاصم من الخارج بعد منتصف الليل، يترنح ويتمايل، يسير بخُطوات غير مُتزنة، صعد إلى الطابق العلوي وتوجه إلى غرفة صبا، اقتحمها فجأة، وتقدم بخُطاه منها ثم ارتمى على الفراش فتسبب في إيقاظها مذعورة.
نظرت إليه بتوجسٍ وتساءلت برهبةٍ:
_ عاصم، أنت بتعمل إيه هنا؟
نظرا إليها بتِيه وتحدث بلسانٍ ثقيل:
_ عايز أنام هنا النهاردة!
لاحظت صبا حالته، وخمنت أنه ثمل، فنفرت منه وقالت:
_ أنت شارب إيه بس مخليك كدا..
ابتعدت عن الفراش ووقفت مقابله محاولة حمِله:
_ تعالى معايا هوصلك أوضتك..
بصعوبة بالغة ساعدته على الوقوف، استند عاصم بجسده عليها، فأصبحت خُطواتها بطيئة، حتى توقف فجأة ونظر إليها بعيون زائغة وهتف:
_ عنيكي لونها حلو أوي..
_ ماشي، يلا بقى روح أوضتك
قالتها صبا بنفاذ صبر، اقتربت منه لتعاود إسناده لكنه أجبرها على التوقف، ثم رفع رأسها إليه وسمح لنفسه بالإقتراب من ثغرها، فشهقت صبا بصدمةٍ وهللت غير مصدقة:
_ أنت بتعمل إيه، أبعد عني...
قالتها وهي تحاول الهرب من أمامه لكنه أبى وقام بمُحاصرتها بيديه المُمسكة بكلتى ذراعيها وصاح بثقل:
_ أنتِ ليه مش حاسة بيا، أنا بحبك، وعايزك، ليه مش شيفاني.. ليه بترفضيني بالشكل دا..
بتوسلٍ ورجاء شديدين هتفت صبا والخوف يُسيطر على صوتها:
_ عشان خاطري يا عاصم سيبني..
رفض الإبتعاد عنها، بل وسمح لنفسه بتقبيل ثغرها بعنفٍ، تحت محاولاتها في الهرب من بين يديه، لكنها تفشل في المقاومة، دفعها عاصم بقسوة فسقطت على الفراش، تلك اللحظة تجمعت حادثتها في ذاكرتها مجددًا حين راودها حمادة عن نفسها، وها هو عاصم يفعل مثله الآن.
ينهش في جسدها كحيوانٍ لا يرأف بفريسته، صرخت وصرخت على أمل أن يتركها لكنه لا يتراجع عن الوصول إلى مراده غير آبه لصُراخها كأنه لا يستمع إليه.
في الخارج؛ كان عبدالله جالسًا في الحديقة مُصوبًا عينيه على نوافذ البيت التي تقطن به صبا، يلعب بالمسدس الذي أعطاه له والده ليقوم بإخفائه عن عيون والدته حتى لا تهابه ثانيةً.
ظل يحركه في حركاتٍ دائرية، حتى تسلل إليه صراخ صبا، فتوقفت يداه عن الحركة، ونهض يستمع إلى الصوت مرة أخرى ليتأكد مما وقع على أذنيه.
خفق قلبه بذعرٍ وكاد يقتحم بيتهم، إلا أنه تريث قليلًا ربما يفهم الأمر خاطئًا، اقترب من البيت أخِذًا وضع الإقتحام إن تطلب الأمر وعاودت الصراخ.
في الداخل حيث غرفة صبا؛ شعرت صبا باستكانته، حيث وضع رأسه على صدرها، تفقدت وجهه فوجدته قد غفى.
أغمضت عينيها تتنفس الصعداء، مُمتنة لذلك النوم الذي كان طوق نجاتها، جاهدت في إبعاده عنها ثم نهضت وألقت عليه نظرة احتقار قبل أن تفر هاربة من الغرفة عندما شعرت بالإختناق يغلف صدرها، توجهت إلى غرفة المكتب باحثة عن السلاح التي تحدث عنه عاصم صباحًا ثم هرولت خارج البيت.
وقفت في منتصف الحديقة تبكي ألمًا على ما جعلها تعيشه، كلما شعرت بأنها بخير يعاود أحدهم هدم سكنِها من جديد، نظرت إلى السماء لتُعيد إليها ذاكرتها ما مرت به منذ تلك الليلة حتى تلك اللحظة.
كانت في حالة يرثى لها، تحطمت جميع محاولاتها في أن تكون بخير، تبخرت آمالها في العودة إلى ذاتها مرةً أخرى، رفعت يدها للأعلى وصوبت فوهة السلاح على رأسها.
كانت يديها ترتجف بشدة من قوة بكائها، إزداد شعورها بالخوف لتلك الخُطوة التي تقبل عليها، لكن لابد من فعلها، عليها إنهاء حياتها لترقد بسلام.
_ إبعدي السلاح يا صبا..
اقتحم صوت عبدالله المكان، فاهتزت صبا مذعورة، ثم التفتت ناظرة إليه بعيون تترقرق منها الدموع، لكنها لم تخفض ذراعها، بل ثبتت يدها جيدًا وقالت:
_ إمشي..
رفض الذهاب بحركة من رأسه واقترب بخُطاه منها مرددًا:
_ نزلي إيدك يا صبا، اللي مسكاه دا مش لعبة!
بصوتٍ متحشرج حذرته:
_ متقربش..
لم يكترث لها فاضطرت إلى وضع إصبعها على الزناد، فتوقف عبدالله لحظتها، ثم رفع يده فظهر السلاح المُمسك به والذي صوبه باتجاه قلبِه وقال:
_ يلا أهو نموت مع بعض!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close