رواية علي دروب الهوي الفصل الثامن والعشرين 28 بقلم تسنيم المرشدي
***
تقف خلف باب غرفتها تتطلع بالخارج تارة وتارة أخرى تُمسك معدتها التي تعكرت، اتسعت عينيها عندما قرع رنين جرس الباب، فأقبلت على باب غرفتها تُتابع ما يحدث دون أن يلاحظها أحد.
فولج وليد بهيئة خفق لها قلبها، كان يرتدي ملابسًا جديدة قام بشرائها خصيصًا لتلك الليلة الفريدة، رحب به أهل البيت فجلس هو ووالدته وأخذوا يرحبون ببعضهما البعض.
ثم قال وليد بحرج:
_ معلش يا عمي اعذرني على التأخير بس كان عندي فترة إضافية في المصنع ومقدرتش أعترض..
أزال محمد الحرج من عليه بنبرته الطيبة:.
_ ولا يهمك يابني، محدش يقول للشغل لأ ربنا يعينك
ثم بحث وليد بعينيه عن تلك المشاكسة ربما يجدها، فوقعت عينيه على الباب الذي يهتز فتأكد أنها واقفة خلفه، ابتسم بعذوبة أسرت قلبها وأخجلتها، عضت على شفاها وسرعان ما اختفت من خلف الباب.
فاقتربت منها عليا وقالت:
_ أنا هخرج لهم..
تعلقت خلود في ذراعيها وهتفت متوسلة:
_ متسبنيش لوحدي، أنا متوترة أوي
ابتسمت عليا بخفة وأردفت بعملية:
_ لازم أخرج عشان أساعد ماما في تقديم الحاجة، هبعت لك ليلى..
أماءت خلود بالقبول فلم يكن هناك حلًا آخر، خرجت عليا بينما وقفت هي تستشنق الهواء الذي شعرت أنه هرب من الغرفة.
في الخارج؛ بدأت عزة حديثها قائلة:
_ إحنا مفيش بينا رسميات يا حج محمد، ووليد ابنك، وهو لما كلمني على خلود أنا فرحت أوي عشان إحنا أهل واخوات والنسب دا هيقوي علاقتنا..
_ أكيد طبعًا يا أم وليد، وأنا قولتله قبل كدا مش هلاقي أحسن منه لبنتي، كفاية أخلاقه والأهم إنه بيصلي ومش بيسيب فرض، واللي بيخاف ربنا هيتقي ربنا في بنتي ويراعيها..
هتفها محمد بصوتٍ رخيم هادئ، ثم تحدثت عزة مؤكدة:
_ خلود في عنينا، هنشيلها على راسنا هي تؤمر بس وإحنا ننفذ..
بإبتسامة سعيدة أردف محمد:
_ الأمر لله يا أم وليد..
فتدخل وليد مُضيفًا على كلامهما:
_ نتفق على ميعاد الخطوبة، وفترة الخطوبة هتكون قد إيه، أنا مش بحب فترة الخطوبة تطول، بس عشان خاطر خلود استنى معنديش مشكلة
_ يا حنين!
علق زكريا ساخرًا، فتوعد له بنظراته وأبدى استيائه:
_ أخرج أنت منها يا خفيف..
ضحك زكريا وصمت، بينما ردّ محمد على حديث وليد:
_ والله يابني الخطوبة دي بتاعتكم شوفوا الوقت اللي يناسبكم وقرروا، إنما وقت الخطوبة..
تلك الأثناء قاطعت هناء زوجها وقالت:
_ بعد إذنك يا محمد مش قصدي أقاطعك بس كنت حابة أقول حاجة..
سمح لها محمد بعينيه فتابعت ما تود قوله:
_ أنا برده مش بحب الخطوبة تطول، بس خلود لسه صغيرة، لسه قدامها ٣ سنين في الكلية ولو اتجوزت بدري مفتكرش إنها هتقدر توفق بين الدراسة ومسؤولية الجواز، فإحنا على الأقل نستنى تخلص سنتين من الكلية وفي السنة الأخيرة تتجوز والموضوع يكون سهل عليها شوية..
أيدها وليد قائلًا:
_ مفيش أي مشكلة يا مرات عمي، حتى لو هي مش عايزة تتجوز غير بعد ما تخلص الكلية خالص أنا معنديش مشكلة.. أهم حاجة مصلحتها طبعًا
شعرت هناء بالراحة تجتاح قلبها من خلف كلماته التي أيد بها رأيها، فعاودت الحديث قائلة:
_ وياريت الخطوبة تكون بعد فرح عليا، إحنا هنكون مشغولين فرش البيت..
وجهت هناء نظرها إلى عزة وأضافت:
_ أنتِ ست العارفين الوقت اللي قبل الفرح دا بيكون ضيق وملخبط إزاي
أومأت عزة برأسها مُبدية عِلمها بالأمر وقالت:
_ أيوة فعلا عندك حق..
ثم انتبه الجميع على إعتراض وليد حيث هتف:
_ لا دي مش هقدر أكون معاكي فيها يا مرات عمي، أنا عايز أدخل الفرح وهي خطيبتي في إيدي.. إحنا مش لازم نعمل حاجة كبيرة، تجمع عائلي بسيط نلبس الشبكة ونتصور صورتين وخلاص..
ضحك محمد وعلق مشاكسًا وليد:
_ شوف الواد مش قادر يصبر شهر، أومال هتستناها ٣ سنين إزاي؟
تملك الخجل من وليد الذي تلون وجنتيه بالحُمرة وابتسم بخفة وهو يردد:
_ استنى وهي خطيبتي مقبولة شوية..
_ على بركة الله، نقرأ الفاتحة دلوقتي والخطوبة الجمعة الجاية إن شاء الله
قالها محمد حاسمًا الأمر، فرفع الجميع أياديهم فاعترض وليد ما يفعلوه قائلًا:
_ هو فيه قراية فاتحة من غير عروسة؟ ولا أنتوا نيمتوها ولا إيه؟
قهقه الجميع ثم نظر محمد إلى عليا التي استشفت ما يرمي إليه، وتوجهت إلى الغرفة لتُخرج خلود:
_ يلا يا خلود بابا عايزك
تراجعت خلود للخلف رافضة الخروج مُعللة:
_ مش هعرف أخرج، حاسة إني قلبي هيقف
اقتربت منها عليا وأردفت:
_ لا جمدي قلبك وتعالى يلا عيب نتأخر عليهم ..
انضمت إليهن ليلى وحثت خلود على الخروج:
_ يلا يا خوخة، متوتريش نفسك كلنا جنبك
بعد فترة؛ خرجت خلود من الغرفة برفقة عليا، وليلى التي تتبعهن، ابتهج وليد فور رؤياها وشعر بالسعادة لحظتها، توجهت خلود إلى زوجة عمها وصافحتها، مُتحاشية النظر عن وليد حتى لا يزداد خجلها أضعافًا.
جلس الجميع وبدأوا يقرأون سورة الفاتحة ليباركوا تلك العلاقة، ثم ارتفعت الزغاريد من قِبل عليا وليلى، عمت الفرحة قلوب الجميع بتلك العلاقة التي بدأت لتوها.
***
اجواءٍ مشحونة بالتوتر والخوف، يخشى الطرفين إصابة الآخر، رجفت يدي صبا وهي تطلع على السلاح الموجه على قلب عبدالله ثم هتفت بنبرة مهزوزة:
_ أنت فارق لك في إيه أموت ولا لأ؟ إمشي يا عبدالله..
دون أن يكترث لكلامها أمرها:
_ نزلي السلاح ونتكلم..
_ مش هنزله، لو مش قادر تتفرج إمشي..
هتفها بإصرارٍ فصاح الآخر:
_ سبق وعملتها يا صبا، بس المرة اللي فاتت خدش المرة دي هتبقى بجد، وأنا مش بتاع كلام.. قدامك ٣ ثواني لو منزلتيش السلاح هخليكي تندمي عمرك كله على الفرصة اللي اديتهالك...
نظرت إليه بعيون دامعة، ترتجف بشدة، فبدأ عبدالله بالعد على إصبعه وقبل أن يصل إلى الرقم ٣ كانت ألقت صبا المسدس أرضًا، فزفر عبدالله أنفاسه براحة، ثم أبعد السلاح عنه وأعاد وضعه في جيب بنطاله ثم أردف:
_ عايزة تموتي نفسك ليه؟
تشدق ساخرًا وواصل:
_ الباشمهندس أتأخر عليكي النهاردة ومقدرتيش على بُعده...
رفعت صبا عينيها عليه ورمقته بنظراتٍ مستنكرة، أولته ظهرها لتغادر لكنها توقفت فجأةً وعادت إليه من جديد حتى باتت مقابله لا يفصلهما سوى الهواء الذي يمر بينهما وهتفت ببغضٍ كارهة سخريته وهي تضرب صدره بكل قوتها:
_ أنت، أنت ملكش أي حق تتدخل في حياتي، ملكش دعوة بيا نهائي، أنت واحد بياع كلام ووقت الجد بعتني وملقتكش جنبي، فملكش أي حق تتكلم معايا بالطريقة دي....
انهمرت دموعها رغمًا عنها وهي تُتابع ضرب صدره الذي آلمه للغاية، لوهلة فقد توازنه لكنه وقف بثباتٍ وتركها تفعل ما تشاء فتابعت الأخرى صراخها:
_ أنا بكرهك يا عبدالله، أنا حياتي ادمرت بسببك، بكرهك.....
قالتها ثم هدأت نبرتها تدريجيًا عندما انخفض معدل ضغط دمها، خارت قواها وفقدت وعييها فجأة، فخفق قلب عبدالله مذعورًا وهرع إليها لاكتشاف ما حدث معها:
_ صبا... يا صبا
تفقد نبضها فوجده بطيئًا للغاية، بالكاد شعر به، انحني بنصف جسده وقام بحملها بين ذراعيه ووقف يتفقد المكان من حوله، لا يدري أين يذهب بها، فسقط بصره على الغرفة الخارجية التي تتوسط الحديقة، فلم يتردد إلى التوجه نحوها.
قام بركل باب الغرفة بقدميه عدة مرات حتى فُتح، ثم ولج ووضعها برفق على الفراش، وقف ينظر إليها بقلة حيلة، جهل لحظتها التعامل مع الأمر، أغمض عينيه لثانية يحاول التفكير بعناية.
أعاد فتح عينيه ثم خرج من الغرفة؛ ليأتي بشيءٍ يُعيد إليها صوابها، بعد قليل عاد إليها ثم وضع عطرًا على يده قبل أن يُقربها من أنفها، كرر فعلته عدة مرات حتى شعر باستجابتها إليه.
فتراجع للخلف ووقف ينتظر صحوتها، أخذت ثوانٍ حتى استعادت وعييها، تفقدت معالم الغرفة حتى وقعت عينيها على عبدالله الواقف يُراقبها في صمتٍ، فانتفضت من مكانها.
ثم انتبهت على يد عبدالله التي تُعطيها شيئًا وأوضح:
_ خدي إلبسي، داري شعرك...
صعقت صبا أنها بمظهرٍ لا يليق بها الظهور أمامه، أخذت منه قطعة القماش ثم أخفضت رأسها في حياء، فخرج عبدالله على الفور، أغلق الباب ووقف أمامه بعد الثواني بفروغ صبرٍ.
بعد مدة قصيرة انتبه على فتح الباب، فاستدار بجسده ومنع خروجها من الغرفة، حيث عاد إلى الداخل فاضطرت صبا إلى التراجع خُطوتين، فقام عبدالله بركل الباب بقدمه فأغلقه.
وقفت أمامه تطالعه بمزيجٍ من المشاعر المتناقضة، حيث أنها تستحي من مظهرها التي ظهرت به أمامه منذ قليل، كما أنها تشعر بالغضب الشديد منه، لكن مالم يُراودها هو الشعور بالخوف.
لم تهاب هيئته المنتصبة، لم تكن كذلك من قبل ولن تفعل الأن، فقط شعور الطمأنينة لا يسكن قلبها سوى وهو أمامها، على الجانب المقابل كان الآخر يُطالعها بشوقٍ حار.
يا ليت الزمن يسمح بضمها إلى صدره وأخذ عناقًا حار يروي ظمأه لفقدانها الشهور الماضية، ابتلع ريقه وحاول الثبات أمام عينيها التي تطلع به بوميضٍ مختلف لم يتعامل معه من قبل.
أخذ نفسًا عميق ثم تساءل بصوتٍ هادئ:
_ إحنا إيه اللي وصلنا لكدا؟
قلبت صبا عينيها مستاءة من سؤاله وأجابته وعينيها تجوب من المكان من حولها:
_ هو أنت بجد بتسأل؟
صوبت بصرها عليه وتابعت:
_ هو أنت سيبت لي حل تاني أهرب له غير إني اتجوز!!
ضاق عبدالله بعينه فهو لا يعي ما وراء كلماتها المبهمة وسألها بحنقٍ:
_ أنتِ بتتكلمي في إيه؟ أنا عملت لك إيه أصلًا عشان تتهميني إني السبب في جوازك!
أنا من يوم ما عرفتك وأنا براعي ربنا فيكي وفي كلامي وتصرفاتي وحتى نظرتي ليكي عمرها ما كانت خارج حدود الإحترام..
أنتِ مشوفتيش مني غير الحلو وبس، كنت راجل وقد كلمتي وعمري ما خليت بوعد أخدته على نفسي معاكي..
تشدقت صبا ساخرة ثم سمحت لنفسها بالإقتراب منه فلم يُحرك عبدالله ساكنًا بل ظل ثابتًا مكانه، ارتفعت وتيرة أنفاسه بشدة من وراء تأثُره بِقُربها، حتى صاحت صبا في وجهه:
_ أنت حبتني وأنت ضامن إنك هتكون أول لمسة في حياتي، لكن أول ما غيرك لـ....
_ شششش، اسكتي..
هتفها بتحذيرٍ، ثم صاح عاليًا:
_ أنا عمري ما فكرت التفكير المريض دا، أنتِ وصلك كدا يبقى دي مشكلتك، استسهلتي وهربتي وروحتي اتجوزتي واحد معرفش ظهر امتى دا ولا تعرفيه منين!
_ اللي بتتكلم عنه وافق يتجوزني بعد ما عرف وضعي وساعدني اتعالج من حالتي اللي كنت فيها، في الوقت نفسه اللي كلمتك فيه وسألتك لسه عايزني وأنت سِكت، مردتش عليا وقفلت السكة في وشي، وبعدها قفلت الموبايل، استغنيت عني بكل سهولة!
استغنيت عني بمكالمة تليفون!
قالتها ثم انفجرت باكية وهي تُتابع وتشير إلى ذاتها:
_ مكنتش أعرف إن قيمتي وداع بمكالمة حتى من غير كلام!
إلى هنا وقد بلغ عبدالله ذروة تحمله على تلك الإتهامات البرئ منها، وخرج عن هدوئه وهدر بها بنبرةٍ اهتزت لها أرجاء الغرفة:
_ استغنيت عن مين؟ عنك أنتِ؟ ووداع إيه اللي بتتكلمي عنه؟ أنتِ متعرفيش أي حاجة، متعرفيش أنا اتعرضت لإيه؟ ولا حالتي كانت إزاي؟!
مد ذراعه نحو الفراش وتابع بنبرة جهورية:
_ أنا كنت قاعد هنا جنب السرير بعيط زي العيل الصغير في حضن أمه طول الليل، أنا اللي دموعي عمرها ما نزلت حتى في عز ما الدنيا جاية عليا نزلت عشانك!
كلمتيني وأنا في عز خنقتي وصوتي مش قادر أخرجه ومقدرتش أرد عليكي..
أشار إلى نفسه وضرب صدره بعنفٍ وهو يتابع:
_ أنا يومها كنت بايت في الحجز عشان اتهجمت على حمادة، كنت رايح أخد لك حقك منه، وأخرتها اترميت في زنزانة ومكنش معايا موبايل عشان أوصل لك، بعت لك أمي تطمنك وتقولك إني جنبك وعمري ما أسيبك مهما حصل بس حضرتك كنتي مشيتي..
هز رأسه مرارًا مستنكرًا تسرعُها وواصل استرساله:
_ مشيتي ودورتي على واحد واتجوزتيه!!
أنا كنت هموت عليكي، أنا عشت أيام كنت بتمنى الموت فيهم مليون مرة، أنا كنت بموت بالبطيء وأنا هتجنن وأعرف أنتِ فين، دورت عليكي في كل مكان أعرف لك فيه قريب ومحدش يعرف عنك حاجة، وبعد كل دا جاية تتهميني إني بيعتك؟
مش هسمح لك أبدًا ترمي اللوم عليا، مش هسمح لك يا دكتورة..
تشدق ساخرًا وبعقلاٍ يجن صاح:
_ مش قادر أتخيل إني كنت هموت عليكي وأنتِ في المقابل عيشتي حياتك واتجوزتي ولا فرق لك اللي كان بينا!!
أنتِ إزاي كدا؟ إزاي أنانية ومفكرتيش غير في نفسك بس؟ إزاي هان عليكي إحنا؟ دا إحنا كنا....
صمت عبدالله حين هاجمته نوبة بكاء أرادت الخروج لكنه جاهد نفسه وحبسها قدر استطاعته ليُواصل حديثه فكان صوته مهزوزًا:
_ دا أنا لغاية دلوقتي بيعز عليا أقول كنا!!
انتهى عبدالله مما لديه، كانت مواجهة ساخنة، فوقف يلتقط أنفاسه تحت نظراتها المصدومة، كانت تُحدق به بعينين متسعتين لا تصدق ما قيل، تراجعت صبا للخلف وجلست على الفراش بإهمال مستندة براحتي يدها على الغطاء ورددت وهي تُطالع أمامها بذهولٍ:
_ يعني إيه؟ يعني كل اللي أنا عشته دا كان كدبة؟ كان وهم؟ دا أنا حياتي ادمرت، أنا بتعالج من اللي حصل ومن اللي كنت فكراه إنه حصل!!
يعني إيه بجد؟ إزاي طيب؟
كان يُراقبها دون أن يستشف ماتقصده، إلتزم الصمت فأخذت صبا تقص ما عاشته وهي تنظر في عينيه:
_ أنا يومها كلمتك كتير أوي.. أنا كنت خايفة يا عبدالله ومكنتش محتاجة غير كلمة منك تطمني!
وملقتهاش، أنت مردتش عليا، الخط قفل والموبايل اتقفل، رنيت كتير ونفس النتيجة مش بتتغير..
تساقطت عبراتها كالشلالٍ وهي تُواصل شرح ما تعرضت له بحسرة شديدة:
_ أنا كنت هنتحر يا عبدالله، أنت فجأة اختفيت وأبويا اللي كنت فكراه ساندني ويحميني برموش عينه، كان كل هامه إنه يخلص من الفضيحة قبل ما تحصل..
أبويا بعد ما كان رافضك وحاسس إنك أقل مني فجأة سألني إذا كنت لسه عايزني ولا لأ!!
أنت متخيل حسيت بإيه وقتها؟
حتى عاصم مكنش حد يعرف عنه حاجة، كان بيحاول يدخل حياتي وأنا برفضه طول الوقت أول ما شاف رقمه عندي طلب مني أرتبط بيه عشان الناس الأغنيا دي مش هتفرق معاهم حالتي!!
إزداد نحيبها بشدة واهتز جسدها وهي تتذكر ما مرت به:
_ متخيل أبويا أنا يقولي كدا، أنا فجأة لقيت نفسي لوحدي، لا حبيبي لقيته جنبي ولا أبويا طبطب عليا وأخد لي حقي، وأنا كنت مدمرة، أنا عشت أسوأ حاجة ممكن أي بنت تعيشها، فكرة إن حد ينتهك جسمك بالطريقة المؤذية دي صعبة أوي، والله صعبة أوي..
رفعت صبا يديها المرتجفتين ونظرت إليه وقالت بصوتٍ مهزوز مُتلعثم:
_ مكنش في إيدي حاجة غير إني أقبل بعاصم في حياتي.. كنت فاكرة إني بكدا هعفيك من حِملي وهبعد عن أبويا الفضيحة اللي كان خايف منها!
_ للدرجة دي يا صبا مكنتيش عرفاني؟ مكنتيش عارفة إني لا يمكن استغنى عنك مهما حصل؟ وإني هفضل جنبك ولا أي حاجة تفرق لي غيرك أنتِ، يعني بعد كل دا وتطلعي مش عرفاني!!
هتفها بتأثرٍ يُخالطه اللوم، فهتفت هي عاليًا:
_ هل أنا وقتها كان فيا عقل أفكر كويس؟ رد عليا وقولي لما أبويا اللي أنا من دمه يحسسني إني عبء هل ممكن عقلي يستوعب إنك هتكون غيره؟ مش بتفكر زيه؟
مسحت صبا دموعها بظهر يدها، ونهضت وقفت مقابله، وأردفت بثباتٍ قليل:
_ ومع ذلك كان عندي أمل إن كل دا يطلع كابوس، اتعلقت في قشاية يمكن هي طوق نجاتي..
عادت صبا بذاكرتها إلى تلك الليلة عندما أجابت عاصم وأخبرته بقبولها للزواج منه:
_ بس فيه حاجة الأول أنت لازم تعرفها...
أخذت نفسًا عميق ثم أخبرته بنبرة غير سوية عن حادثتها، كانت تبدو نبرتها جامدة لا تآبى ما تعرضت له، عكس باطنها التي تخفي به انهيارًا عظيمًا ودت لو تُظهره لكن لم تجد من تشاركه معه فالتزمت تلبس ثوب القوة أثناء مكالمتها مع عاصم الذي أخذ وقتًا يحاول استيعاب حقيقة ما أخبرته به ثم انتهى من تفكيره قائلًا:
_ أنتِ وافقتي على طلبي مضطرة ولا...
قاطعته صبا مجيبة بجفاء:
_ مضطرة.. أنا مش عندي حل تاني، لو أنت مش قابل مفيش مشكلة.. بس لازم تفهم إنك لو وافقت فأنا معنديش أي حاجة أديهالك، اللي بتتكلم دي مجرد صوت من غير روح! من غير قلب ومن غير مشاعر! أنا فاضية من جوا مش هقدر أديلك حاجة أنت عايزها!
بعد تفكيرٍ ردّ عاصم بقراره الأخير الذي حسم فيه أمره:
_ وأنا موافق، حتى لو كنت ملجأ لهروبك، كفاية عليا إنك فكرتي فيا وقت محنتك، وأنا مش هخذلك..
_ أنا محتاجة أمشي من هنا في أقرب وقت ممكن..
هتفت بها صبا وهي على وشك الإنهيار، فقال عاصم بجدية:
_ جهزي نفسك وأنا ساعة بالكتير هكون عندك...
قالها فأنهت صبا الإتصال على الفور ثم أچهشت باكية بألم وحسرة على حياتها التي على وشك الإنتهاء، نفضت عنها أفكارها التي ليست في أوقاتها ثم نهضت وخرجت من الغرفة فوجدت والديها يجلسان في الخارج.
أخذت نفسًا زفرته على مهلٍ وبثباتٍ قالت:
_ أنا هتجوز عاصم!
نزل الخبر كالصاعقة على والدتها، فهبت واقفة واقتربت منها قائلة:
_ إيه اللي بتقوليه دا؟ وجواز إيه وعاصم مين؟
ربتت إجلال على ذراع صبا وتحدثت برجاء:
_ استهدي بالله يا صبا، أنا عارفة إنك بتمري بفترة صعبة، بس بلاش قرارات دلوقتي يا حبيبتي هتندمي عليها بعدين.. وبعدين هو فين عبدالله؟
لمعت عيني صبا بالخزي والحسرة، فعاودت والدتها مُتحدثة بصرامة:
_ مفيش جواز من حد متعرفيهوش يا حبيبتي، مش هنصلح غلطة بغلطة تانية..
قاطعها محمود تلك الأثناء قائلًا:
_ إجلال.. سيبيها! بنتك هتعمل الصح..
كان محمود يفاجئهن كلما تحدث بكلمةٍ، رمقته صبا بخيبة أمل كبيرة شعرت بها تجاهه، أطالت به النظر وشفتيها مزمومتين، ثم عادت إلى الغرفة لتُحضر حقيبتها فلحقت بها والدتها وحاولت منعها مما تفعل متوسلة:
_ عشان خاطري بلاش قرارات مفاجئة أنتِ أكتر واحدة هتندمي عليها، اهدي وخلينا نفكر بالعقل، وسيبك من ابوكي، هو مصدوم وبيقول أي كلام، فين عبدالله يا صبا.. فين وأنا اعملكم أحسن فرح في البلد كلها!!
توقفت صبا عن جمع مختصاتها وتقوس ثغرها بٍبسمة باهتة قبل أن ترُد:
_ كل حاجة بانت على حقيقتها، عبدالله اتخلى عني.. وبابا زي ما أنتِ شايفة، أنا استحالة أقعد ثانية في البيت دا..
ثم تابعت لملمة أشيائها المُتبقية، حتى فرغت وقامت بارتداء ملابسٍ لها وجلست على الفراش في انتظار وصول عاصم بعيون متورمة من فرط البكاء.
على جانب آخر؛ وقف عاصم أمام والديه داخل غرفتهما وهتف:
_ أنا عارف إنه قرار مفاجئ ومش مفهوم بالنسبة ليكم، بس أنا محتاجكم جنبي وقت كتب الكتاب..
تبادلا والديه النظرات المذهولة؛ ثم بدأ عز الحديث:
_ هو أنت بتتكلم بجد ولا اختبار لينا ولا إيه، أنا مش فاهم حاجة؟
أسرع عاصم مجيبًا إياه بنبرةٍ متلهفة:
_ أنا بتكلم بجد..
فقاطعته نهال باندفاعٍ:
_ بجد إزاي؟ يعني إيه فجأة تقولنا هتجوز؟ مين دي وظهرت امتى وليه الجوازة السريعة دي؟ فيه حاجة غلط!
أخذ عاصم نفسًا وبدأ يشرح لهم جدية الأمر متعمدًا عدم ذكر السبب الحقيقي:
_ مين دي، دي الدكتور صبا اللي كانت بتعالجني في المستشفى، وظهرت من وقتها وأنا متعلق بيها وبحاول أقرب منها، وهي إدتني فرصة وأنا حابب أكتب الكتاب على طول.. ومفيش أي حاجة غلط في الموضوع، الموضوع طبيعي خالص بس هو سريع شوية!
نظر عز إلى نهال ثم أمرها بنبرة رزينة:
_ نهال لو سمحتي سيبنا لوحدنا..
تناوبت نهال النظر بينهما قبل أن تنسحب من الغرفة، فقام عز بالإقتراب من عاصم وسأله بتوجسٍ:
_ عاصم يا حبيبي، بكل هدوء كدا فهمني كل حاجة براحة، أنت والبنت دي غـ...
لم يتقبل عاصم سماع اتهام كبير كهذا وقاطعه قائلًا:
_ مفيش أي حاجة من اللي حضرتك بتفكر فيها دي، دي مش أخلاقي، والبنت سُمعتها أحسن مافيها، ومحترمة ومش بتاعت الكلام دا..
خرج عز عن ثوب هدوئه الذي يتلبسه منذ سماعه بخبر زيجة ابنه واندفع به:
_ أومال في إيه؟ على رأي والدتك فيه حاجة غلط!
شهيقًا وزفيرًا فعل عاصم ليكون في صدره متسع لمجاراة حوراهما وإقناع والده:
_ يا بابا أنا بأكد لك إن مفيش أي حاجة مش طبيعية، صدقني لو سمحت، كل الحكاية إني عايزكم جنبي وقت كتب الكتاب تحضروه معايا وبعد كدا هتتعرفوا عليها وصدقني هتحبوها و...
لم يتحمل عز سخافاتٍ أخرى، وصاح مندفعًا بنفاذ صبر:
_ إحنا في هنحبها ولا لأ؟ يابني لو متورط معاها في حاجة قول وأنا هعرف أخرجك منها، لكن متحاولش تقنعني أبدًا إن الجوازة المفاجئة دي طبيعية من غير أسباب كدا؟!
شعر عاصم بمُحاصرته من قِبل والده، أولاه ظهره بعد أن تملكه التوتر وظل يحك مؤخرة رأسه بقوة، يحاول جمع حلولًا تُخرِجه من مُحاصرة أبيه، وبعد وقتٍ استدار بجسده ونظر لوالده مُطولًا قبل أن يُردف:
_ البنت واقعة في مشكلة، ومتطلبش مني تعرف إيه هي عشان مش هقدر أقول، احتاجتني وأنا لازم أقف جنبها..
الأن اتضحت لعز بعض الأمور، تنفس بعض الهواء وقال:
_ مفيش حاجة اسمها مش هقول، أنت ممكن تكون عايز تساعد بحسن نية وبعد كدا تلاقي نفسك اتورطت في مصيبة، أنا أبوك ولازم أعرف، أنا ليا نظرة غيرك وأفهم إذا كانت مساعدة ولا توريط في مصيبة..
نفذ صبر عاصم على الإلحاح، ولم يقف ثانية أخرى، توجه إلى الباب وهو يُردد عاليًا بتمردٍ:
_ خلاص مش عايز منكم حاجة، أنا هعرف أتمم كتب الكتاب لوحدي..
كاد يدير مقبض الباب فصاح عز مُحذرًا:
_ أنا بمكالمة مني أخلي كل مأذون في مصر ميقدرش يكتب لك الكتاب اللي مُصر عليه دا! وأنت عارف إني أقدر أعمل كدا كويس..
أغمض عاصم عينيه بضيقٍ، فلقد غلف الإختناق صدره، التفت ونظر إلى والده عندما حاصره الآخر بتحذيره الأخير، ابتلع ريقه وتحدث:
_ الكلام اللي هقوله دا محدش يعرفه حتى ماما، ماما بالذات مينفعش تعرف
أماء عز لِيُطمئنُه فقص عليه عاصم حقيقة الأمر، حتى انتهى من حديثه وقال:
_ أنا عرّفتك مش عشان تقولي أه أو لأ، أنا في كل الأحوال هقف جنبها، بس أنا عرّفتك عشان تقف أنت جنبي ومكنش لوحدي في خطوة زي دي
كان عز مذهولًا مما وقع على مسمعه، كان يُطالع الفراغ أمامه في محاولة استيعاب ما أخبره عنه عاصم، خرج عز حالة شروده متسائلًا بجدية:
_ وأنت ليه يابني تعمل كدا؟ ليه تحمل نفسك حاجة زي دي مش سهلة أبدًا وعواقبها كتيرة ومحسومة؟ دي خطوة جريئة منك ومش أي راجل يتقبلها؟
بحسمٍ صاح:
_ عشان أنا حابب أعمل كدا، محدش ضغط عليا، أنا في كامل وعيي وأنا باخد قرار زي دا، وعارف إن قرار متهور بس أنا مش بفكر في أي عواقب غير إني أساعدها وبس!
استطاع عاصم إقناع والده ببعض المفاهيم الأخلاقية ثم توجه برفقة والديه لاصطحاب صبا حتى يُتمِم عقد قرانهما.
في فندقٍ من أهم الفنادق الذي يتعامل معها عز وعائلته، جلس عاصم في غرفةٍ للمناسبات، ينتظر حضور صبا في الغرفة الذي قام بحجزها لهما، بينما وقفت صبا في منتصف الغرفة تبكي بشدة، غير راضية عن تلك الخُطوة المُقبلة عليها.
نظرت إلى والدايها وقالت مُحاولة إيجاد حلًا آخر غير زواجها من عاصم:
_ أنا هكلم جلال، أكيد عنده حل غير إني اتجوز، ياخدني عنده أو يعمل أي حاجة تانية
توجهت باحثة عن هاتفها فأسرع والدها في اللحاق بها ثم سرق منها الهاتف فجأة وأردف بجدية:
_ متعرفيش اخوكي حاجة، مش لازم كله يعرف بلي حصل، وبعدين يا بنتي بصي حواليكي وشوفي إحنا واقفين فين وبنتعامل إزاي لمجرد إننا تبع الباشمهندس، دي فرصة متتعوضش، الشاب قِبل بوضع هو ملوش ذنب فيه وواضح إنه شكله بيحبك وإلا مكنش وافق على الشيلة دي..
هتعيشي معاه مرتاحة، بصي لمصلحتك يا صبا!
فكري بعقلك مش بعواطفك!
وضعت صبا كِلتى يديها خافية وجهها بقلة حيلة، كانت في وضعٍ لا تُحسد عليه، يُحاصرها الإجبار من جميع الزوايا، اهتز جسدها ورفض عقلها الخضوع لتلك الزيجة وهتفت:
_ عبدالله لا يمكن يعمل فيا كدا، لا يمكن يتخلى عني بالسهولة دي.. أكيد فيه حاجة غلط!
مدت يدها إلى أبيها وقالت من بكائها:
_ اعطيني الموبايل هكلم طنط أحلام..
تلك الأثناء اهتز هاتف صبا مُعلنًا عن وصول رسالةٍ، فتفقدها والدها الذي ما أن قرأها حتى أدار لها الهاتف ووضعه في وجهها، فأخذت صبا تقرأ محتواها تحت تأثير الصدمة من تلك الكلمات القاسية المدونة على الشاشة.
وكأن الوقت قد وقف من حولها، ولم يعد هناك حياة لها تلك اللحظة، فلقد تبخرت كل آمالها الأن، جذبت الهاتف من يدي والدها وقامت بإغلاقه ثم توجهت بقامة منتصبة شامخة إلى الخارج دون أن تنبس حرفٍ.
وبعد دقائق، كان زواجها قد تُمِمَ، عادت صبا إلى الوقت الحالي تحت نظرات عبدالله المصدومة مما وقع على أذنيه، وبصعوبة بالغة خرج سؤاله بصوتٍ متحشرج:
_ رسالة إيه؟
نهضت صبا عن مكانها بعد أن جلست عليه مؤخرًا وهي تقص عليه ما حدث معها وقالت بجمودٍ:
_ زينب أختك بعتت لي إنك استغنيت عني ومش عايز تعرفني تاني وياريت مصعبش الموضوع أكتر وأشوف نفسي بعيد عنك!
ولو أنه قد تلقى خبر موت عزيزٍ أهون عنده من سماع ما قالته صبا للتو، أغمض عبدالله عينيه وظل يُمسد بِخُطوط طولية على رأسه في حالة تِيه لا يستوعب عقله ما تلقاه البتة.
تملك من صدره الإختناق المفاجئ، حتى شعر أنه لم يعد يستطع التنفس، فقام بفك بعضًا من أزرار قميصه وأخذ يتنفس بصوتٍ مرتفع فخشت صبا حالته التي بات عليه وأسرعت نحوه قلِقة:
_ أنت حاسس بإيه؟
_ مش حاسس..
همس بها فساعدته صبا على الجلوس ثم انتظرت قليلًا وعاودت سؤاله وهي تجسي على ركبتيها أمامه تتفقد ملامحه:
_ مش حاسس إنك أحسن؟
فتح عبدالله عينيه ببطءٍ وأخفض عينيه حيث تجسي وتحدث بخفوت:
_ أنا عمري ما استغنيت عنك يا صبا! أنتِ كنتي روحي، ومحدش يقدر يستغني عن روحه!
قابلته بعيون دامعة وصوتٍ مهزوز وهي تُردد قوله:
_ كنت!
هربت بعينيها بعيدًا عنه، ونهضت تُجمع شتات نفسها، ابتلعت ريقها وقالت وهي لا تستطع النظر في عينيه:
_ أنا همشي..
تساقط دمعها فأسرعت بتوليه ظهرها لتفر هاربة لكنها تريثت عندما وقعت كلماته على أذنيها:
_ من شوية..
نهض عبدالله وتوجه نحوها حتى بات مقابلها واستأنف:
_ سمعتك بتصرخي..
انتابه غصة في حلقه لم يقدر على التحدث، فجاهد نفسه ثم واصل بقية سؤاله:
_ هو عمل لك حاجة؟
بجفاءٍ قالت:
_ أنا كويسة، متقلقش عليا يا جاري!
تشدقت ساخرة مما وصلا إليه، ثم تابعت خروجها من الغرفة، فتَبِعها عبدالله ولم يخفض بصره عنها، فكان داخله سؤالًا لحوحًا يطوق لمعرفته، وبترددٍ بالغ قابله في البداية صاح:
_ صبا..
أكتفت بالنظر إليه فأخذ عبدالله وقته يُجمع سؤاله ثم أخرجه بحرجٍ شديد:
_ هو لمسك؟
اندهشت صبا من سؤاله الذي جدد مشاعرٍ قد اختفت داخلها، جدد لديها آمالاً بعودة الوصال بينهما، فاجتاحها الخجل الصريح واخفضت رأسها
في حياء شديد وأجابته بإيجاز:
_ إجابة سؤالك دا نفسه إجابة سؤالك اللي قبل كدا..
ألقت عليه نظرة أخيرة ثم انسحبت عائدة إلى البيت بينما وقف عبدالله يجمع ما تقصده من خلف كلماتها، حتى وصل إلى إجابتي أسئلته في آن واحد، إذًا كان صراخها رفضًا قاطعها لاقترابه منها.
لم يدري بماذا شعر لحظتها، لكنه تعجب من ابتسامته الخفية التي تشكلت على شفتيه، استند بجسده على الباب يُتابع خُطواتها حتى اختفت من أمامه خلف باب البيت فعاد هو إلى الداخل، اعتلى الأريكة المجاورة للفراش وطالع أمامه يُعيد ما أخبرته به صبا ثانيةً حتى وصل بذاكرته إلى أمر الرسالة فتجهم وجهه وصر أسنانه بغضبٍ وتوعد أشر وعيد لزينب.
بينما في البيت المجاور، عادت صبا إلى غرفتها فوجدت عاصم ما زال هناك، بحثت سريعًا عن هاتفها القديم التي لم تستخدمه منذ حادثتها، وجدته في حقيبتها فأخذته وتوجهت إلى الغرفة المجاورة ثم أحكمت من توصيد الباب خلفها حتى لا يستطيع الوصول إليها ثانيةً.
جلست على الفراش وقامت بإعادة فتح الهاتف، وماهي إلا ثوانٍ حتى جاءه رسائل عديدة عندما اتصل بالانترنت، لم تتفحص سوى رسائل عبدالله التي تفاجئت بذلك الكم الهائل من الرسائل منه.
كانت تبكي مع أحد الرسائل تارة وتضحك تارة، ثم تعيش مشاعرٍ حزينة وأخرى سعيدة وهي تسبح بين سطور رسائله، تندهش من حالاته التي وصل إليها في غيابها وتبكي تحسرًا لألامه التي جعلته يعيشها بفقدانها.
ظلت تقرأ طوال الليل دون مللٍ، وكلما انتهت منهم تُعيد قرائتهم من البداية وتعيش المشاعر ذاتها كأنها تقرأهم للمرة الأولى.
***
في الصباح الباكر، كان قاسم جالسًا في كافتيريا مرموقة، يرتشف قهوته وهو ينتظر وصول آدم، مرت مدة لا بأس بها حتى ظهر آدم وجلس مقابله:
_ صباح الخير..
_ صباح الخير يا حبيبي، نفطر سوا؟
رد قاسم التحية بمزاج صافٍ ثم تساءل باهتمامٍ فأماء آدم بالقبول:
_ تمام
أشار قاسم إلى النادل وأمره بإحضار وجبة فطور تليق بهما، ثم تسامر مع آدم في شتى المجالات مُبديًا اهتمامه البالغ به، وصل الطعام وبدأَ كليهما يتناولان حتى امتلأت معدتهما.
تراجع قاسم مستندًا على ظهر الكرسي وبدأ يُمهد للحديث الذي خصص تلك المقابلة من أجله، حمحم وأردف بصوتٍ رخيم:
_ أنت عارف يا آدم إني كنت متجوز أم عبدالله قبل والدتك ولظروف صعبة اضطرينا ننفصل، ومن بعدها اتجوزت والدتك وحصلت الفجوة في العيلتين بسبب بُعدي عنكم.
اعتدل في جلسته وتابع بهدوءٍ:
_ وأنا لما رجعت المرة الأخيرة كنت راجع ونيتي أجمع شمل العيلتين وأدوب الجليد اللي بينا، وأحاول أصلح اللي غلطت فيه زمان..
ضاق آدم بعينيه وهو يُتابع تمهيده للحديث وقال:
_ بابا أنت عايز تقول إيه؟
أخذ قاسم نفسًا عميقًا ليتسع صدره ثم أخبره:
_ أنا هتجوز والدة عبدالله!
كانت صدمة كبيرة بالنسبة لآدم الذي حدق بوالده لبرهة يستوعب ما سمعه، حرك رأسه يسترد صوابه، كما حرك لسانه بحركاتٍ دائرية على شفتيه وقال مختصرًا:
_ مبروك..
استشف قاسم ضيقه وحاول محي ما يشعر به بكلماته:
_ أنا فاهم إن الموضوع حساس بالنسبة ليك جدًا، ومش سهل أنك تعرف إني هتجوز واحدة على والدتك، بس أنت مش صغير يا آدم ومهما خبينا عنك وحاولنا نتصنع إننا كويسين وعلاقتنا كويسة فأنت أكيد شايف الفجوة الكبيرة اللي بيني وبين حورية.. واختصارًا لأي كلام ملوش لزوم، أنا بحترمها وإحنا مع بعض عشانك أنت، عشان تتربى وسطينا حتى لو القرار متأخر شوية..
زفر أنفاسه المتوترة وابتسم ثم عاود الحديث:
_ أنا محتاج ونس في العُمر دا، وأحلام الوحيدة اللي تقدر تسد الخانة دي وخصوصًا إنها مش جديدة هي من زمان موجودة جوايا، وأم ابني وزي ما أنا حابب إنك تتربى وسط أب وأم حابب عبدالله يعيش نفس الإحساس..
أخفض آدم رأسه محاولًا هضم قرار والده، فرك أصابعه وسأله بنبرة مختنقة وعينيه لا تُرفعان على قاسم:
_ أنت ليه محاولتش تحب أمي؟
تفاجئ قاسم بسؤاله، وما زاد ضيقه وانقباصه قلبه حالة آدم التي بدى عليها، فحاول قاسم انتقاء الكلمات المناسبة حتى لا يجرح قلبه:
_ القلب ملوش سلطان، والحب والمشاعر بإيد ربنا مش بإيدنا، مش إحنا اللي بنختار نحب مين ومين يحبنا، سبحان الله..
حرك آدم رأسه بتفهمٍ وما زال مُنكس الرأس، فمد قاسم ذراعه ورفع رأسه ثم قال:
_ هنكتب الكتاب النهاردة، نفسي تكون معايا..
نظر إليه آدم نظرة مطولة قبل أن يُخبره بقراره:
_ ربنا يسعدك في حياتك يا بابا، بس أنا مش هقدر أعمل كدا في أمي، مش هقدر أوجع قلبها بحضوري كتب كتابك، اعذرني
إلتوى ثغر قاسم ببسمةٍ فخورة، ثم ربت على يد آدم الموضوعة أعلى الطاولة وأردف:
_ أنا مِحترم شعورك بوالدتك جدًا، وأنا مش زعلان بس أهم حاجة تكون أنت راضي عن قراري..
جاب آدم المكان بعينيه ثم عاود النظر إلى والده وردّ مختصرًا:
_ هتعود.. كلنا هنتعود على الوضع الجديد
لم تختفي ابتسامة قاسم قط، فسحب آدم يده ثم نهض معللًا بعد أن تفقد ساعته:
_ أنا لازم أمشي، عندي شغل
ثم انصرف سريعًا وقد باغته وخزة قوية في صدره، بينما نهض قاسم وقام بالمغادرة ليبدأ يومه الفريد والمنتظر منذ زمنٍ.
***
عاد قاسم إلى بيت المزرعة واختلس نظرةً إلى الحديقة التي أمر بتزينها خصيصًا لعقد قِرانه، كان المكان مُزينًا بالورود البيضاء، لقد أضاف رونقًا ساحرًا للحديقة.
تابع سيره حتى وصل إلى أحلام التي تقف أمام الباب تُشاهد ما يحدث، تقوست شفتيها ببسمةٍ خجِلة وأردفت وهي تُشير إلى المكان:
_ إيه اللي بيحصل دا؟
جاورها قاسم ونظر حيث تنظر وهتف بحماسة:
_ أنتِ يتعملك الحلو يا أحلام، هو أنتِ يعني أقل من أي عروسة؟
ابتسمت بسعادةٍ وخجلٍ، وسرعان ما أخفضت رأسها بحياء، فابتسم قاسم بخفة لحالتها، ثم صاح:
_ وبعدين أنتِ واقفة هنا بتعملي إيه؟ أومال الوصيفات اللي جايبهم تحت أمرك دول لازمتهم إيه؟
أخذت أحلام نفسًا ثم قالت وهي تفرك أصابعها:
_ بص بقى ياسي قاسم، أنا مش بتاعت الكلام دا، لا ذِواق ولا فساتين ولا جو الطبقات الاستقراطية دي، أنا ست بلدي على قد حالي، عاجبك على كدا عاجبك مش عاجبك....
قاطعها قاسم وهو يُهلل:
_ مش عاجبني إيه، هو أنا جابني ورا غير البلدي..
غمزها مشاكسًا واسترسل متغزلًا بها:
_ يا بطة بلدي أنت يا حلو
اتسعت مقلتي أحلام بخجلٍ صريح، وفرت هاربة من أمامه فقهقه قاسم ثم ولج البيت ليُبدل ملابسه بأخرى.
بعد ما يقرُب الساعتين، كان قاسم واقفًا في الحديقة برفقة عبدالله وزينب وبعض الأصدقاء القليلون، ترجلت أحلام من درج البيت وظهرت بهيئة رقيقة ساحرة تُناسب عمرها وتليق بكونها زوجة قاسم القاضي.
خفق قلبه وهو يراها تقدُم عليه، وتوجه بخُطاه إليها ثم مد لها يده فنظرت إليه مستاءة وقالت:
_ بعد كتب الكتاب يا قاسم..
_ جدعة يا أحلام، دا الراجل شكله هيخيب ولا إيه
قالها عبدالله مازحًا فتفاجئ قاسم وكذلك أحلام بتعليقه الوقح وعنفاه معًا:
_ عبدالله!
انفجر عبدالله ثم رفع يديه مستسلمًا وردد:
_ تمام ياعمنا..
توجه الجميع إلى الطاولة، جلس قاسم وأحلام على جانبي المأذون، ثم جلس عبدالله وأحد أصدقاء قاسم ليكونوا شهودًا على عقد القِران، كما وقف زكريا ووليد خلف عبدالله يُشاركاه تلك مناسبة.
انتهى المأذون من مراسم عقد القِران وتَممَ حديثه:
_ بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير..
نهض الجميع وباركوا لقاسم وأحلام، نظر قاسم إلى أحلام بنظرة مُحارب انتصر في معركته للتو، ابتسمت هي بحياء وأخفضت عينيها عندما لاحظت عيون الجميع المُصوبة عليها.
في الجوار، لكز زكريا ذراع عبدالله ومازحه ساخرًا:
_ مبروك جواز أمك وأبوك يا صاحبي
رمقه عبدالله بطرف عينيه ثم نهره:
_ ما تتلم
قهقه زكريا وهتف من بين ضحكه:
_ إيه يا عم هو أنا قولت حاجة غلط؟
تدخل وليد متابعًا لسخرية زكريا:
_ ويجيبو لك أخ صغنن كدا تلعب بيه على لما ربنا يفرجها عليك وتتجوز..
_ طب أقطم الكلام بقى منك ليه
هتفها عبدالله بحنقٍ، ثم انتبه ثلاثتهم على دخول ڤاليا الذي خطف الأنظار، ابتسمت فور رؤياها عبدالله وتوجهت نحوه حتى وقفت مقابله وقالت بصوتٍ أنثوي رقيق:
_ هاي عبدالله..
كان زكريا ووليد متابعين لحديثها، وتفاجئوا بأسلوبها، فعلق زكريا مقلدًا نبرتها:
_ طب باي إحنا يا عبدالله
غمزه وليد وهو يبتسم بخفة وهتف:
_ إحنا جنبك هنا هو
ابتعدا عنه قليلًا فصاح زكريا:
_ أيوة يا سيدي الله يسهلوا
رمقهما عبدالله بنظراتٍ مستشاطة متوعدًا لهما، ثم عاد بنظره إلى ڤاليا التي قالت:
_ مبروك لاونكل..
_ الله يبارك فيكي
قالها مختصرًا فعاودت الحديث:
_ المكان حلو أوي بجد.. ذوقه يجنن
اكتفى عبدالله بإيماءة من رأسه، لكنه تفاجئ بتغزلها به وهي تتفحص هيئته جيدًا:
_ وأنت كمان شكلك حلو، البدلة لايقة عليك
أخذ عبدالله نفسًا وبإقتضابٍ ردّ:
_ شكرًا..
وقفت ڤاليا إلى جواره تُشاهد ما يحدث في الأرجاء، فراود عبدالله سؤالًا فسألها بجدية:
_ أنا آسف في سؤالي، بس أنا حاسس إنك المفروض متكونيش هنا..
حمحم وأوضح ما يقصده من وراء كلماته:
_ يعني عشان آدم، الموضوع حساس بالنسبة له، فطبيعي يكون حساس بالنسبة لك أنتِ كمان
أخذت ڤاليا نفسًا وزفرته بقوة تمهيدًا لما ستُصرح به، استدارت بجسدها وقفت مقابله ثم أسبلت عينيها في عينيه وقالت:
_ أنا جاية عشانك أنت يا عبدالله..
تفاجئ عبدالله بكلماتها المبهمة بالنسبة له، ورمقها بطرف عينيها متسائلًا بجدية:
_ مش فاهم الجملة؟ بمعنى؟
أطالت النظر به قبل أن تبُوح بمشاعرها:
_ بمعنى إني بحبك يا عبدالله!
التاسع والعشرين من هنا
