اخر الروايات

رواية علي دروب الهوي الفصل السادس والعشرين 26 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل السادس والعشرين 26 بقلم تسنيم المرشدي


الفصل السادس والعشرون
عل دروب الهوى
بقلمي تسنيم المرشدي
***
لحظاتٍ حابسة للأنفاس؛ تجمدت صبا مكانها تُحدق في عبدالله بذهول، وكذلك عاصم الذي تطلع في عيني عبدالله بنظراتٍ مُبهمة، أثارت كلماته الشك حولها، بينما أمسك قاسم ذراع عبدالله وحاول جذبه للخلف حتى لا يقع بلسانه.
لكنه لم يهتم، بل ظل واقفًا بثباتٍ يتناوب النظر بين عاصم وصبا ببغضٍ شديد، حتى انتبه على سؤال عاصم الجاد:
_ يعني إيه زي ما اتعودتوا دايمًا؟
تقوس ثغر عبدالله ببسمةٍ باهتة قبل أن يُخبره قائلًا بصوتٍ أجش وهو ينظر إلى عيني صبا:
_ الدكتورة مقالتلكش إننا ولاد حارة واحدة؟
زم عبدالله شفتيه للأمام مبديًا استيائه، ثم وجه حديثه إلى صبا معاتبًا:
_ إحنا كنا أهل وجيران قبل ما تيجي أنت يا باشمهندس وتخطفها..
كان عاصم متفاجئًا بما يسمعه، لم يروق له أسلوب عبدالله في الحديث، وكأنه يُلمح لشيءٍ خفي يجهله عاصم، انتبه عبدالله على يد والده الذي شدت على ذراعه يحثه على التوقف بهمسٍ:
_ كفاية يا عبدالله..
لم يكترث له بل أضاف مُتصنعًا سعادته لهما:
_ ضروري نقعد مع بعض ونعرف قصة الحب دي بدأت إزاي؟
_طبعًا أكيد
قالها عاصم بودٍ، بينما انسحب عبدالله على الفور، فنظر عاصم إلى صبا التي تُجاهد في إخفاء توترها
لكن هيهات له لقد لاحظ نظراتها التي تتابع عبدالله ولمعتها المتأثرة، وقف عاصم مقابلها وقبل أن تلاحظ فعلته وضع يده على قلبها فوجده في عنفوانه، أعاد النظر إليها عندما تفاجئت بتصرفه وقال:
_ اتوترتي كدا ليه؟
أزاحت صبا يده عنها ورددت معاتبة:
_ أنت بتعمل إيه؟
بعيون ضائقة سألها بجدية:
_ مقولتيش ليه إنك تعرفي عبدالله قبل كدا؟
ابتلعت ريقها، وحاولت التظاهر باللامبالاة قبل أن تجيبه:
_ قولت لك قبل كدا مش كل حاجة أنت عارفها عني، ومقولتش ليه لأن مفتكرش إننا بنتعامل كزوج وزوجة طبيعيين عشان نحكي في حياة بعض، مش كدا ولا إيه؟
رفض عاصم الإستسلام تلك المرة؛ أعاد وضع يده على قلبها وهتف:
_ طب قلبك نبضاته سريعة كدا ليه؟
أعادت صبا ابعاد يده ثانية، ثم قامت بوضع يدها على صدره وأردفت بفتور:
_ وأنت كمان قلبك بينبض، ليه؟ مش عشان دا الطبيعي مثلًا..
دنا منها عاصم وهمس بقُرب أذنها:
_ لا مش الطبيعي، وقت ما كنا في أمريكا لما كنتي بتاخدي جرعة المهدئات كنت بطمن عليكي من نبضاتك، حتى في أسوأ لحظاتك مكانتش بتكون كدا!
تراجع للخلف خُطوة؛ وتقابل مع خضروتاها اللامعتين وأضاف:
_ يا ترى إيه السبب؟
أطالا كليهما النظر في عيون بعض، لم يكن لدى صبا ما تخبره به، شعرت بمُحاصرته لها وإن مرت دقيقة أخرى عليها ستخر مغشي عليها، تلك الأثناء ظهرت أصواتًا من خلف عاصم أجبرته على الالتفاف والنظر إلى أصحاب الأصوات.
كانوا أصدقائه طوق نجاتها تلك اللحظة، فأخرجت أنفاسها التي حبستها داخلها، بينما أخذ عاصم ترحيبًا حار من قِبل أصدقائه حيث هتف شابًا منهم:
_ والله عيب يبقى بقالك فترة هنا ومتعبرناش يا أخي.. الجواز بينسي للدرجة دي؟
مال الشاب برأسه متفحصًا صبا بنظرة سريعة قبل أن يعود إلى عاصم ويردد:
_ لا عندك حق تنسانا، حلو...
لم يدعه عاصم يواصل حديثه حيث وضع كفه على فمه مانعه من الكلام، وقال محذرًا:
_ لا دي مراتي مش صاحبتي، فاهدى كدا واعرف أنت بتقول إيه
غمزه عاصم واستأنسف وهو يضبط له ياقة قميصه:
_ ها اهدى يا عم أنس
دنا منه أنس وأخبره بالكارثة التي في انتظاره:
_ بمناسبة صاحبتك، سلمى أصرت تيجي تباركلك بنفسها..
تفاجئ عاصم بما وقع على مسمعه، وتساءل بحنقٍ:
_ هي فين؟
_ بتركن العربية..
قالها أنس فالتفت عاصم برأسه ناحية صبا وقال:
_ راجع لك تاني...
ثم توجه إلى الخارج لكنهما تقابلا في منتصف الحديقة، فهتف عاصم بضيقٍ:
_ لفي وارجعي تاني، هنتكلم برا
_ لأ، مش قبل ما أسلم على العروسة..
قالتها سلمى ثم توجهت ناحية صبا تحت نظرات عاصم المستاءة، كز أسنانه بغضبٍ وسرعان ما تحرك خلفها حتى لا تفتعل تصرفاتٍ حمقاء هو لا يريد حدوثها.
وقفت سلمى أمام صبا بإبتسامةٍ خبيثة وقامت بمد يدها مرددة:
_ مبروك عليكي عاصم..
ضاقت سلمى بعينيها محاولة تذكر أين رأتها من قبل، ثم اتسعت حدقتيها عندما تذكرت وهتفت عاليًا:
_ مش أنتِ الدكتور اللي كانت بتعالج عاصم في المستشفى؟
أماءت صبا مؤكدة ففغرت سلمى فاها بصدمةٍ، ثم أدارت رأسها رامقة عاصم وعاودت النظر إلى صبا وأضافت:
_ دا أنتِ تاخدي اوسكار، إحنا ياما اتحايلنا عليه يتجوز ومكنش راضي خالص، معقولة دا! وبالسرعة دي؟
تشدقت سلمى ساخرة واستأنفت وهي تتناوب النظر بين صبا وعاصم:
_ دي عاملة لك سحر بقى!
اقترب منها عاصم وهمس بخفوت:
_ امشي يا سلمى..
نظرت إليه بعيون متوعدة فهدر بها شزرًا:
_ قولتلك امشي..
بصعوبة استطاع عاصم إقناعها، أسبقت بالسير إلى الخارج فتبِعها عاصم حتى ابتعدا عن الأعين، فشد يدها يُجبرها على التوقف واندفع بها:
_ أنتِ إيه اللي بتعمليه دا؟
بانفعالٍ شديد صاحت سلمى:
_ ما أنت حلو وبتتجوز أهو، أومال إيه بقى مليش في الجواز اللي كنت بتقولهالي أكتر ما بتتنفس دي؟
تأفف عاصم بضجرٍ وصاح بنفاذ صبر:
_ عشان هو مش عافية يا سلمى، الجواز مش عافية، وأنا موعدتكيش بحاجة إحنا كنا صحاب عادي أنتِ اللي كنتي مُصرة تقلبي الصحوبية لطريق تاني أنا مكنتش عايزه، فأنتِ ملكيش لي حق تيجي تقفي قدامي وتعاتبيني كأني وعدتك وخِليت بيكي..
توقف عن الحديث وأخذ يلتقط أنفاسه الهاربة وأضاف بنبرةٍ هادئة لكنها لم تخلو من التوعد:
_ إبعدي عني معتش بينا صحوبية أو غيره، أنا دلوقتي واحد متجوز والكلام اللي كنت بعديه منك قبل كدا مش هسمح لك بيه دلوقتي!
ألقى نظرة أخيرة عليها وأردف قبل ذهابه:
_ عن إذنك..
ثم عاد إلى الحفل ووقف بجوار صبا بملامح عابسة، فاليوم لم يُحالفه الحظ في أي شيءٍ مما رتب له، على الجانب الآخر وقف عبدالله مقابل أبيه الذي لامه:
_ ليه عملت كدا؟ إيه الاستفادة إنك تعرفه باللي بينكم؟
دون أن ينظر إليه قال:
_ مش عارف..
وجه نظره على والده واسترسل:
_ بتسأل ليه؟
أوضح له قاسم سبب سؤاله بنبرةٍ جادة:
_ أنت مش شايف إنك ممكن تبوظ لها حياتها بكلامك اللي قولته دا، مش يمكن عاصم يشك في الموضوع ويدور وراكم ويعرف، ووقتها حياة البنت تتلخبط خالص!
_ طب ما تتلخبط، ما أنا حياتي كلها اتلخبطت، اتلخبطت إيه، دي اتشقلبت خالص، معتش باين لها ملامح
هتفها عبدالله بغضبٍ ظاهر، فلم يعجبه قاسم أسلوبه وعاتبه قائلًا:
_ أنا مش حابك تكون كدا يا عبدالله، مش عايز يكون جواك كُره للبنت، عايزك تحط لها عذر..
صمت قاسم عندما تفاجئ بنظرات عبدالله الذي يتلهف لسماع شيءٍ يجعله أكثر هدوءًا اتجاهها، استشعر قاسم ذلك وتابع موضحًا:
_ أنا مش بقولك كدا عشان تخلق أمل جواك برجوعك ليها، بس عشان تقدر تسامح.. تقدر تعفو، ضروري نعذر اللي حوالينا ونكون رحيمين بيهم، إحنا مهما شوفنا من الصورة بس مش بنشوفها كاملة، مش بنشوف الجوانب والزوايا، اللي هي بناءً عليهم ظهرلنا صورة قاسية كدا.. صدقني يابني كل واحد أكيد عنده مبرراته
خليك دايمًا متأكد من كدا، سامح لو مش عشانها عشان نفسك، عشان تقدر تبدأ من جديد، تخلق حياة أنت تستحق تعيشها، بس من غير ما يكون فيها غضب وكُره، وأمل على حاجات متنفعش ترجع.. لازم تبدأ وأنت صفحة بيضة مفيهاش أي متعلقات بالماضي..
وضع قاسم يده على كتف عبدالله ثم ابتسم بهدوء وقال:
_ ها، هتفكر في كلامي؟
كان دومًا قاسم ينجح في سلب أي طاقة سلبية بسلاسة من داخل عبدالله، أخذ الآخر يتنفس الهواء ثم هز رأسه مؤكدًا سؤاله، فحثه قاسم على العودة إلى الحفل مرددًا:
_ يلا نرجع، تعالى نقف جنب أخوك
سارا بجوار بعضهما حتى وصلا إلى آدم، جاوره أبيه بينما وقف عبدالله أمامهم، فابتسمت ڤاليا بعذوبة وهي تتفقد كل أنشٍ بعبدالله، لقد لاقى مظهره على إعجابها للغاية، انتبه عبدالله على، ابتسامتها لكنه لم يُعقب فأردفت هي موجهة حديثها إليه:
_ مش هتقولي مبروك على الحجاب؟
بلا مبالاةٍ قال:
_ مبروك..
مالت ڤاليا بقربه وهمست:
_ على فكرة أنت السبب..
قطب عبدالله جبينه فلاحظت هي وأوضحت مقصدها:
_ كلامك الصبح كان صعب عليا أوي، فوقني من غفلتي..
تراجعت ڤاليا للخلف وشكرته ممتنة:
_ شكرًا
كان حوارهما محل انتباه آدم الذي تدخل مستاءً:
_ بتشكريه على إيه؟
مرر عبدالله نظره بينهما ثم انسحب بهدوءٍ دون إضافة الكلمات، بينما أجابت ڤاليا سؤال آدم وعينيها تتبع تحرُكات عبدالله:
_ عبدالله السبب إني مقدرتش أخرج من البيت من غير حجاب..
وكأن أحدهم قد سكب دلو من الماء المثلج على رأس آدم، اتسعت مقلتيه وحدق بها مذهولًا وهو يردد:
_ عبدالله!!
أومال كلامي معاكي الفترة اللي فاتت دا كان إيه؟ اشمعنا قابلتي نصيحتي وخوفي عليكي على إنه سيطرة وتملك!
مش غريبة دي؟
تفاجئت ڤاليا بهجوم آدم، تطلعت به لبرهة وقد انتباها الضيق منه، وقالت مبررة:
_ على الفكرة أنا مش باخد نصايح من حد! الفكرة إنه عمل موقف من غير ما يقصد خلاني حسيت قد إيه أنا صغيرة قدام نفسي وعيدت تفكيري في موضوع الحجاب ودي كانت النتيجة!
عقد آدم ذراعيه أمام صدره ورفع حاجبه الأيسر دون إعجابٍ بما قاله ثم هتف متسائلًا:
_ ويا ترى أستاذ عبدالله عمل إيه؟
استنكرت ڤاليا أسلوبه ورمقته بإشمئزازٍ، ثم صاحت وهي وتشير إلى نفسها:
_ آدم أنت بتكلمني أنا بالأسلوب دا؟
_ هو أنا لسه اتكلمت بأساليب؟ أنا كل دا بحاول أتكلم بهدوء عشان أفهم الوضع اللي إحنا فيه!
قالها بحنقٍ، فتدخل قاسم عندما وصلا صوتهما إليه:
_ في إيه يولاد، صوتكم عالي، مينفعش كدا الناس حوالينا...
قلبت ڤاليا عينيها مستاءة ووجهت حديثها إلى قاسم بتذمرٍ:
_ تعالى يا أونكل شوف آدم ماله.. عشان أسلوبه مش ظريف خالص وأنا مش متقبلة إنه بيكلمني أنا كدا..
حاول قاسم تهدئة الأوضاع المشحونة فقال لها:
_ طب اهدي يا حبيبتي، مفيش عروسة بتكون مضايقة كدا..
ثم جذب آدم تحت ذراعه وأمره:
_ وأنت تعالى معايا شوية..
حرص قاسم على إظهار وضعهما طبيعيًا حتى وقفا في مكانٍ ليس به أشخاصًا قريبون، أخذ نفسًا وقال وعينيه تتبعان المارة:
_ في إيه، حد يعلي صوته ويتعصب كدا يوم حفلة خطوبته؟
خرج آدم عن طوره وهو يرمق عبدالله بغيظ:
_ أستاذ عبدالله هو سبب إن ڤاليا تلبس الحجاب..
عاد بنظره إلى أبيه وأصبحت نبرته أكثر حدة:
_ واللي بحاول أعمله في ٣ شهور وهي متقبلتوش مني اتقبلته من عبدالله عادي، ولو سمحت متحاولش تقولي إن دا طبيعي عشان هو من طبيعي!
كان قاسم متفاجئًا بما أخبره به آدم، أخذ وقتًا يفكر قبل كلامه حتى يتقبل منه آدم الحديث، حمحم ثم أردف بنبرةٍ هادئة رزينة موضحًا وجهة نظره:
_ أنت ليه مشخصنها يا آدم؟ أنت كان نفسك تلبس الحجاب، مش فارقة لبسته بسبب مين، ومش معنى كدا إنك فاشل في الاقناع، ممكن أنت كنت متساهل شوية سايب الباب موارب عشان متضايقش منك فمكنتش بتتكلم باستفاضة أوي معاها.. ودا أكيد يا آدم أنا حافظك..
دنا قاسم منه ووضع يده على كتفه قبل أن يتابع مسترسلًا:
_ بص يا حبيبي، فيه حاجات وخصوصًا الستات هنلاقيهم بيعاندوا فيها معانا وبيتقبلوها من ناس تانية عادي، لأن بيكون واصل لهم إننا عايزين نسيطر على العلاقة، أما الناس التانية فهما مش مستفيدين بسيطرة أو غيره فكلامهم بيكون مقبول، ودا هتلاحظه في مواقف كتير، إنها ممكن تسمع نفس الكلام من مامتها وتوافق عليه رغم إنها رفضته منك! دا شيء طبيعي..
_ من مامتها حاجة ومن عبدالله حاجة تانية خالص!
هتفها آدم بعدم قبول للأمر، فردد قاسم بنفاذ صبر:
_ مش بقولك أنت مشخصنها!
_ هو أنا المفروض أكون طبيعي وأنا عارف إنها اتقبلت رأي راجل غيري؟ ومتقوليش أخوك والكلام دا عشان في الآخر هو راجل زيه زيي، إيه اللي ممكن يخليها تسمع له وأنا اللي اسمي خطيبها لأ؟!
قالها وهو يشعر بجنون عقله الذي لا يتوقف عن التفكير، لا يتقبل ما حدث بالمرة، ومهما حاول أبيه إقناعه فلن يقتنع.
على الرغم من صحة حديث آدم، إلا أن قاسم لا يريد أن تزيد الحواجز بين أبنائه، فعمِل على إذابة جبل الجليد التي قامت ڤاليا ببنائه للتو:
_ اعتبرها مساعدة يا آدم، حاجة كان نفسك فيها وحصلت، متحاولش تبص على الجوانب اللي مضيقاك من الموضوع، ويا سيدي دا أول وضع أصلًا تتحط فيه، يعني ملكش أي حق تعترض وتزعل، الزعلا بيجي بعد كام موقف لو هي اتقبلت آراء غيرك لكن حاليًا مينفعش نحكم ولا نزعل..
دفعه قاسم للأمام قليلًا وأضاف بنبرةٍ أكثر ليونة:
_ ويلا ارجع لها وحاول تكون لطيف معاها النهاردة خطوبتكم، كدا مينفعش، متقفلهاش منك
نظر آدم إلى عبدالله بضيق، ثم أشاح بصره عنه بصعوبة وتوجه إلى ڤاليا التي ترافق صديقاتها، بينما نظر قاسم على عبدالله وداخله يطوق لمعرفة الحقيقة خوفًا من تزايد الاختلافات بينهما.
***
انتهى الحفل وذهب الجميع عدا العائلتين، وقف عز يُحادث الشباب الواقفين:
_ أنا حجزت للشباب في مطعم يروحوا يتعشوا ويستمتعوا شوية..
تفقد قاسم ملامح الجميع وأردف مؤيدًا قرار عز:
_ خير ما عملت يا عز، دا العيال ولا كأنهم كانوا في حفلة، تحسهم خارجين من خناقة..
قهقه عز وعلق مازحًا:
_ مش بيعرفوا يفرحوا، دا إحنا كنا بنستنى أي مناسبة عشان نفرح نفسنا.. أجيال صعبة أوي
أنهى عز جملته انتبه الجميع على صوت عبدالله الذي يود الإنسحاب:
_ طب همشي أنا بقى..
أوقفه عز قائلًا:
_ أنت مش حاسب نفسك من الشباب ولا إيه؟
رمق عبدالله جميع الواقفين بحرجٍ ثم أجابه بثباتٍ:
_ كنت فاكر إن العشا للعرسان بس..
قاطعه عز معاتبًا:
_ العشا لشباب العيلة كلها يا عُبد..
اختلس عبدالله نظرة سريعة على صبا ثم أبدى رفضه:
_ بلاش أنا..
لم يدعه عز يُكمل وقال حاسمًا الأمر:
_ خليك لذيذ بقى، كله هيبقى كابل وعامر اللي هيكون لوحده روح ونسه، لغاية ما نشوف لكم عرايس..
ربت قاسم على ذراع عبدالله وهتف:
_ إيدي على ايدك، معندكش عروسة؟
ابتسم عز وهتف مُمازحًا:
_ لو كنت أعرف إن فيه عبدالله كنت جبت له أخت لڤاليا..
شعر عبدالله بالإختناق من حديثهما الضجر، وكذلك صبا وڤاليا راودهن الضيق، وحاولت ڤاليا إنهاء السخافة الحادثة قبل أن يتحول إلى الجدية:
_ يلا نمشي، معتش قادرة أقف من الهيلز..
مد آدم ذراعه لها وهو يردد:
_ يلا بينا..
لم تريد التعلق في ذراعه فعبرت عن عدم قبولها بأسلوب غير مباشر:
_ همسك الدريس عشان مقعش..
رمقها آدم بنظراتٍ جامدة ولم يُعلق، فأسبقت ڤاليا بِخُطاها إلى سيارته، انزلقت قدماها فتمسكت بيد عبدالله، كان هو القريب منها، حتى وازنت جسدها، اقترب منها عز برفقة آدم ليطمئنوا عليها، فهللت هي:
_ لا مش هقدر أمشي بالهيلز دا أبدًا..
نظرت إلى والدتها وقالت:
_ please يا مامي خلي حد يجيب لي شوز مريح
_ تمام
قالتها نهال ثم عادت إلى الداخل لتُخبر الخادمة بإحضار حذاءٍ مريح لڤاليا، بينما استندت ڤاليا بكامل إرادتها على ذراع عبدالله وقالت بإبتسامةٍ:
_ كمل جميلك ووصلني العربية بدل ما أقع تاني..
تفقد عبدالله ملامح آدم، ثم قام بجذب ذراعه ووضعه على يد ڤاليا وقال:
_ شيل شيلتك ياعم..
وبهدوءٍ انسحب من بينهما تحت نظرات ڤاليا المستشاطة، بينما شعرت صبا بالراحة لتصرفه، تبادلت النظرات مع عاصم الذي أردف:
_ يلا ولا مش حابة تروحي..
_ عادي، نروح
هتفتها فتعجب عاصم من عدم اعتراضها على شيءٍ، فاشار إليها بالسير أولًا فتقدمت بخُطواتها نحو السيارة فقام عاصم بفتح الباب لها، وقامت بركوب السيارة، لم يشعر أحدهم بعيون ذلك الغاضب الذي يتابعهما من خلف زجاج سيارته.
انضم عز إلى عاصم وتحدث بخفوت:
_ بعد ما تخلصوا عشا أطلع على بيت المزرعة، استمتع شوية بدل الكآبة اللي أنتوا فيها دي مش معقول دا منظر عرسان أبدًا..
أجبر عاصم ثغره على الإبتسام ليُجاري الأمر ثم أماء بقبولٍ وتوجه إلى السيارة وسرعان ما اختفت ابتسامته الباهتة وتحولت تقاسيم وجهه إلى الضيق،
تحرك الجميع بالسيارات خاصتهم، وكان لفاليا نصيبًا من اللوم بنبرة غاضبة:
_ أنا مش قادر أفهم ليه تطلبي مساعدة من عبدالله في وجودي؟
طب مش عايزاني اخواتك وأونكل عز واقفين، سيبتي كل دول وطلبتي من عبدالله!!
عبدالله يا ڤاليا!
خرجت فاليا من هدوئها التي تتحلى به واندفعت به منفعلة بصوتٍ فاجئ آدم:
_ يووه كل شوية عبدالله عبدالله، أنا زهقت بجد، أنا اللي مش قادرة أفهم أنت ليه حاطت عبدالله في دماغك بالشكل دا، دا أخوك على فكرة مش عدوك..
_ أخويا أو عدوي دا مش موضوعنا، لكن إنك تلغي وجودي وِتِبَقِي عليا حد دا اللي مش مسموح بيه
اندفع بكلماته فلم تصمت الأخيرة وصاحت بنفاذ صبر:
_ أنت عايز تشوف إني بلغي وجودك
This is your problem
لكن أنا بتعامل بتلقائية مع كل الناس، سواء عبدالله أو غيره.. ياريت تفهم كدا!
تشدق آدم ساخرًا وهلل بحنقٍ:
_ بأمارة الحجاب اللي عبدالله كان السبب فيه!
تأففت فاليا فلقد بلغت نصاب صبرها على تلك السخافات وأردفت بفتورٍ شديد:
_ أنا عايزة أروح، روحني، ولا أقولك وقف العربية أنا هنزل أركب مع عامر..
لم يكترث لها فهدرت به:
_ بقولك وقف العربية، أنا اتخنقت مش هكمل الخروجة دي
لم يعقب، بل عمِل جاهِدًا على إخماد غضبه الجامح قدر استطاعته، تحت إلحاحها على الوقوف، أخذ آدم نفسًا وزفره على مهل ثم صف السيارة جانبًا فأسرعت ڤاليا في فتح الباب لكنه لحق بها وأمسك يدها مانعها من الخروج مرددًا بندمٍ:
_ لو سمحت يا فاليا اصبري، أنا آسف ممكن تسمعيني..
التفتت إليه بملامح عابسة مشدودة فأضاف الآخر بنبرةٍ هادئة لا تُشبه بركانه الثائر:
_ أنا بغير عليكي، إفهمي دا، ودا من حقي على فكرة، أنا راجل وطبيعي أغير لو لقيت حد قرب منك أو أنتِ اهتميتي بحد..
شدت ڤاليا تقاسيمها بتزمجرٍ فعدّل آدم مقصده من الحديث:
_ اتعاملتي ياستي بتلقائية، أيًا يكن، دا بيضايقني، حياتك قبل ما يكون فيها شخص حاجة وبعد ما دخلت أنا فيها حاجة تانية، المفروض تراعي دا! أنا مش طالب منك أكتر من إنك تحترمي وجودي ومتوصليليش إحساس إني رقم ٢ دايمًا..
مد آدم يده والتقط كفها ثم رفعه بقُرب فمه وطبع قُبلة رقيقة عليه ثم عاود النظر لها بعذوبة وبصوتٍ رخيم قال:
_ أنا اسف، مكنتش حابب يحصل التوتر دا بينا في يوم زي النهاردة..
انتبها كليهما على زمور السيارت الأخرى فسحبت ڤاليا يدها مُسرعة، ثم أخرج آدم يده وأشار إليهم بأن كل شيءٍ على ما يُرام فتحركات السيارت خلف بعضها حتى وصلا إلى المطعم الذي قام عز بالحجز به.
ولج عاصم برفقة صبا لكن دون تلامس، وكذلك آدم وڤاليا، بينما تعلق عامر في ذراع عبدالله وهتف مازحًا:
_ لما هما ميمسكوش في ايدين بعض إحنا اللي نمسك بقى
ضحك عبدالله على دُعابته ثم أخذ الجميع أماكنهم، حاول عبدالله قدر الإمكان أن يتحاشى النظر عن صبا وكذلك هي، كانت تفرك أصابعها بتوترٍ بائن وتهز قدميها بسرعةٍ حتى لاحظها عاصم وقام بوضع يده على قدمها يُرغمها على التوقف قائلًا:
_ في إيه، بتحركي رجلك جامد كدا ليه؟
رفعت صبا عينيها في عيني عبدالله المُتابع لحوارهما فلم تستطيع إعطاء عاصم إجابة بسبب نظرات عبدالله المُحاصرة لها، بينما نفخ عاصم بضيق لعدم ردها وأدار رأسه للجانب الآخر حتى لا يُظهر ضيقه للآخرين.
جاء النادل وقاموا بطلب الطعام المفضل لكلًا منهم، فاقترح عامر عليهم لُعبة يتسلون فيها لحين وصول الطعام:
_ تعالوا نلعب لعبة
أيد عاصم اقتراحه ربما يخفف من التوتر الحادث:
_ ياريت، بس هنلعب إيه؟
سحب عامر هاتفه من جيبه وقال وهو يقوم بفتح لُعبة لديه:
_ معايا لعبة جماعية على الموبايل، هندخل أسامينا وكل واحد هيخمن حاجة بيحبها التاني..
تدخل عاصم بسؤاله:
_ أنا مش فاهم أوي بصراحة
فأضافت ڤاليا موضحة:
_ أنا فهمت، وليكن أنت يا عاصم هيجيلك تخمن آكلة صبا المفضلة وهكذا، فهمت
أومأ عاصم برأسه بتفهمٍ ثم بدأ عامر يُدخل أسمائهم، وبدأ اللعبة فهلل عامر:
_ ڤاليا هتخمني إيه أكتر حاجة ممكن أنسى نفسي فيها؟
أجابته ڤاليا دون تفكيرٍ:
_ طبعًا قعدتك مع صحابك
غمزها عامر وهو يشير إليها بسبابته قبل أن يهتف:
_ صح
ثم أعاد مواصلة اللُعبة وقرأ الأسماء الظاهر له:
_ عبدالله هيخمن لون ڤاليا المفضل
انتبهت جميع حواس ڤاليا لحظتها، بينما انتاب آدم الضيق وصوب عينيه على عبدالله، الذي أخذ يفكر قليلًا ثم أجاب عندما تذكر المرات التي رآها بها باللون نفسه:
_ كُحلي..
تفاجئت ڤاليا بإجابته ورمقته بعيون لامعة وهتفت بسعادة حاولت إخفائها:
_ You're right!
( أنت صح)
ولو أن للمشاعر رائحة لتغلغلت رائحة غيرة صبا في أنوف الجالسين، كانت تحدق بعبدالله بحاجبان معقودين لا تصدق تركيزه الشديد في أنثى غيرها.
تابع عامر لُعبته فظهر إليه أسماءٍ أخرى فقال:
_ عاصم هيخمن الورد المفضل لصبا
قطب عاصم جبينه وردد دون انتباه لحديثه:
_ إيه السؤال الصعب دا؟
فغر عامر فاهه بصدمة وعلق ساخرًا:
_ أنت مبتجبش وردد ولا إيه يا خيبتك يا عاصم يا سليمان!
نهره عاصم مستاءً من أسلوبه الوقح:
_ عامر، اتلم
ثم نظر عاصم إلى صبا وردد مازحًا:
_ ما تغششيني يا صبا دا أنا جوزك برده
شعر عبدالله بغصة في حلقه، كانت كلمته ثقيلة للغاية على قلبه الذي لم يتحمل سماعها، حمحم وحاول الإعتدال في جلسته ليُخفي ملامح وجهه المشدودة.
لم يصل عاصم إلى زهرتها المفضلة، فتدخل عامر مقترحًا عليه:
_ طيب ممكن نعمل حاجة تانية لو محدش عرف يخمن صح يسيب غيره يخمن..
قلب عاصم عينيه وأبدى استيائه:
_ يعني أنا معرفتش، حد منكم هيعرف أكتر مني بالعقل يعني؟
_ فُل!!
هتفها عبدالله فانتبه عليه الجميع لحظتها، بينما خفق قلب صبا وتسارعت نبضاته، ابتلعت ريقها تخفي ارتباكها خلفه، لكن هيهات لتوترها، بأي وجهٍ ستخفيه بعد أن تحولت النظرات نحوها منتظرين تأكيدها لتخمين عبدالله، لكزها عاصم بخفة وسألها:
_ الكلام دا صح يا صبا؟
بعد وقتٍ لم تستطع إعطائهم إجابة فيه قالت وهي تومئ برأسها:
_ أيوة صح!
كانت مفاجئة للجميع وخصيصًا عاصم الذي تساءل مستفسرًا:
_ عرفت إزاي؟
بملامحٍ جامدة أجابه:
_ قولتلك إننا ولاد حارة واحدة!
تلك الأثناء صعق آدم بعد تصريح عبدالله، وكأنه أنار جزءًا كان مظلمًا داخل عقله، نظر إليهما مشهدوهًا يحاول تكذيب حدسه، هب واقفًا فجأة فتساءلت ڤاليا عن سبب نهوضه:
_ في حاجة يا آدم؟
_ هدخل التويلت..
قالها وانصرف سريعًا إلى الخارج، وقام بعمل مكالمة هاتفية وظل يَسُب وينعت ذلك الذي لا يجيب على اتصالاته، أعاد تكرار اتصاله حتى أجاب الآخر بفتور:
_ إيه واحشتك يا آدم باشا؟
_ سيبك من الكلام الفاضي دا وركز معايا، هبعت لك صورة جماعية شوفها وقولي تعرف حد فيها..
قالها آدم وقام بإرسال الصورة إليه على الواتساب وأردف:
البنت اللي على الشمال دي تعرفها يا حمادة؟
أجابته حمادة قائلًا:
_ أيوا، دي صبا الدكتورة حبيبة عبدالله!
وضع آدم يده خافيًا وجهه بعد أن تلقى تلك الصدمة القوية ثم أنهى الإتصال على الفور، استدار آدم ورمق الجميع وداخله قد تبعثر ولم يعد جمع شتات نفسه لحظتها.
****
عاد قاسم إلى بيت المزرعة، فلم يجد داعٍ لذهابه إلى الفيلا نفسها مع حورية، جلس على الفراش بعد أن بدل ملابسه بأخرى مريحة، حدق بالسقف سابحًا بين ماضيه وذكرياته في ذلك البيت.
تقوس ثغره بابتسامة عريضة انتهت عند سماعه لرنين هاتفه، فزدادت بهجته عندما وجدها نفسها من يحلُم بها، وأجاب على الفور:
_ إزيك يا أحلام..
بنبرة هادئة يكسوها الحزن أجابت:
_ الحمد لله
تعجب قاسم من صوتها وتساءل باهتمامٍ يخالطه القلق:
_ مالك يا أحلام، صوتك مضايق!
وكأنها لم تستمع إليه، وتساءلت بصوتٍ متحشرج يغلفه البكاء:
_ عبدالله عامل إيه؟
تعجب من سؤالها لكنه أجابها بتلقائية:
_ كويس، كان معايا طول اليوم النهاردة، وحضرنا مع بعض خطوبة آدم وهو دلوقتي مع الشباب بيتعشوا.. هو فيه حاجة؟ مش بيكلمك ولا إيه؟
شعرت أحلام لحظتها بغصة في حلقها ولم تستطع الرد، هاجمتها نوبة بكاء شديدة فاضطرت إلى إنهاء المكالمة:
_ أنا هقفل..
وسرعان ما أغلقت الخط؛ وانفجرت باكية بحزنٍ شديد، بينما اعتدل قاسم في جلسته، وأراد إعادة الإتصال بها لكنه تريث وفضّل أن يُهاتف عبدالله أولًا.
بعد فترة جاءه صوته وهو يبتعد عن الجميع ويقف أمام الحائط الزجاجي الذي يُظهر له البلدة من حوله بوضوحٍ:
_ الو..
حمحم قاسم وسأله بجدية:
_ عبدالله أنت امتى آخر مرة كلمت والدتك أو شوفتها؟
أخذ يُفكر قبل أن يجيبه ثم أردف:
_ تقريبًا من وقت ما صبا رجعت..
زم قاسم شفتيه بضيق، ولامه بلطفٍ:
_ ودا ينفع برده يا عبدالله؟ تنسى نفسك للدرجة دي؟
بعد ما تخلص العشا دا تروح لها على طول
_ هي قالتلك حاجة؟
تساءل عبدالله وداخله يتآكله التفكير، وضميره قد أنبه للغاية، بينما أجابه قاسم بصوت أجش:
_ مقالتش حاجة أكتر من أنها سالت عليك وصوتها كان باين إنه مضايق فأنا خمنت عشان مش بتكلمها..
_ هروح لها، أنا مكنتش أصلًا عايز أجي..
هتفها ثم أنهى المكالمة، وقف يطالع
الجميع بشعورٍ سيء قد اكتسبه من مكالمة أبيه، لم يكُف عن معاتبة ذاته، كيف استطاع تجاهلها تلك الفترة؟
سيطر عليه الضيق وشعر بالإختناق يغلف صدره، فقام بفك رابطة عنقه، وفتح بعض أزرار القميص، أخذ وقتًا يُلملم فيه وجدانه، ثم عاد إلى الطاولة، وكذلك آدم، جلسا وقد وصل الطعام للتو فبدأوا يتناولون وجبتهم في صمتٍ يقطعوه ببعض الأحاديث من آن لآخر.
لاحظ عاصم تلك القلادة التي يرتديها عبدالله من خلال أزرار قميصه المفتوحة، وعلق مشاكسًا:
_ إيه السلسلة دي يا عبدالله هي مكسورة؟
تفاجئ عبدالله بسؤاله، وما زاد ضيقه ظهورها للجميع، وأمام صبا، فلم يود أن يُريها أنه ما زال يرتديها، تفقد نظراتها اللامعة التي تلهفت لسماع ما يَسُر نفسها منه، وأنها لازالت ساكنة في قلبه.
ازدرد عبدالله ريقه وقال وهو يحاول إخفائها خلف زر قميصه الذي يُغلقه:
_ لا مش مكسورة، هي بتكون كدا..
أضافت ڤاليا موضحة ماهي القلادة:
_ أيوة بيكون ليها نص تاني مع الشخص اللي بنكون مرتبطين بيه..
ضاقت ڤاليا بعينيها عليه وتساءلت بتوجسٍ لسماع لا تحبه:
_ على كدا أنت مرتبط يا عبدالله؟
_ كنت...
قالها فجأة وقد عَز عليه قول ذلك، آلمه قلبه وشعر بإضطراباتٍ قد أشعرته بالسوء، في الطرف المقابل لمعت عيني صبا وهددت بالبكاء، لكنها جاهدت نفسها وتابعت تناول طعامها حتى تشغل عقلها ولا يفكر به.
ثم انتبه عبدالله على الموسيقى الهادئة التي تصدر من سماعات المكان، فراودته فكرةً وعزم على فعلها، نهض واستأذن منهم ثم توجه إلى إدارة المكان وقام بطلب تشغيل أغنية خصيصًا من أجله.
ثم عاد من جديد مع بدء ألحان الأغنية التي تسببت بوخزة قوية في صدر صبا، وشرقت فأسرع عاصم في إعطائها كوب من الماء، فقامت بإرتشافه حتى فرغت ثم حولت نظرها على عبدالله توحي إليه بإشاراتٍ معاتبة بعد أن تيقنت بأنه من قام بتشغيلها لأنها تعود إلى مطربته المفضلة.
كان ياما كان كان ياما كان
كان ياما كان الحب مالى بيتنا
و مدفينا الحنان
زارنا الزمان سرق منا فرحتنا
و الراحه و الامان
حبيبى كان هنا مالى الدنيا عليا .. بالحب و الهنا
حبيبى يا انا يا اغلا من عينيا .. نسيت مين انا
أنا الحب اللى كان .. اللى نسيته أوام
من قبل الأوان
نسيت اسمى كمان .. نسيت ياسلام
على غدر الإنسان
ولله زمان يا هوا زمان ..ولله زمان يا هوا زمان
ولله زمان زمان .. يا هوا زمان
هبت صبا واقفة عندما فشلت في التماسك لوقتٍ أكثر، نظرت حيث عاصم وأردفت:
_ أنا همشي معتش قادرة أقعد..
ثم انصرفت إلى الخارج دون انتظار ردًا من عاصم، فتعجب الجميع من نهوضها المفاجئ، استأذن منهم عاصم ولحق بها سريعًا، بينما علقت ڤاليا على ما يحدث بحرجٍ:
_ أنا عارفة إني مينفعش أقول كدا، بس صبا مش طبيعية...
أرغم عبدالله أذنيه وجميع حواسه على الإنتباه جيدًا، حيث مال بجسده للأمام وتساءل مستفسرًا:
_ مش طبيعية إزاي، تقصدي إيه؟
أوضحت له ڤاليا ما تقصده من خلف كلماتها:
_ بنسبة كبيرة أوي هي بتاخد sedatives..
لم يفهم عليها عبدالله واستشفت ڤاليا ذلك من خلال تقاسيم وجهه فأوضحت:
_ مهدئات.. صبا طول الوقت هادية أكتر من اللازم، وبتنفعل فجأة وبدون أي اسباب، دا غير أسلوبها في الكلام، سوري بارد أوي مفيش حاجة طبيعي بيكون كدا..
كان آدم ملتزمًا الصمت، فهو في كارثة على وشك حدوثها، بينما كانا عامر وعبدالله يصغيان باهتمام لها وخصيصًا عبدالله الذي نظر حيث اختفت صبا وقد تجدد شعور الفضول لديه حول معرفة سبب اختفائها وزواجها الغير منطقي المُفاجئ، أخذ نفسًا وزفره على مهلٍ ثم نهض ولملم أشيائه تحت نظرات ڤاليا التي تخشى ذهابه.
نهضت أيضًا وتساءلت:
_ أنت هتمشي؟
أماء عبدالله مؤكدًا ذهابه، بينما نظرت ڤاليا إلى آدم وقالت:
_ أنا هروح التويلت..
أماء آدم بقبولٍ، فذهبت ڤاليا خلف عبدالله، حتى خرج من المكان وأردفت بترددٍ:
_ كلامك الصبح اثر فيا أوي..
ضاق عبدالله بعينيه، فلم يعي ما تقصده وهتف سؤاله:
_ كلام إيه؟
أخفضت ڤاليا رأسها في خجلٍ صريح وأردفت:
_ لما قولتلي أختك مبيلمسهاش رجالة..
أعادت رفع رأسها ونظرت إليه وهي تحاول شرح ما شعرت به لحظتها:
_ حسيت وقتها إني متاحة للكل، واشمئزيت من نفسي جدًا، إزاي أسمح لراجل غريب عني يلمس شعري ويشوف جسمي، غيرت أوي بصراحة من اختك، ليه هي تكون عفيفة ومحدش يشوفها وأنا متاحة بالشكل دا لعيون الرجالة..
مدت ڤاليا يدها وأمسكت ذراع عبدالله، وأضافت مُمتنة:
_ شكرًا إنك فوقتني..
سحب عبدالله ذراعه من بين قبضتها، وأعاد النظر إليها قبل أن يردف بجدية:
_ الحجاب له شروط يا ڤاليا، من ضمنهم مينفعش تلامس بينك وبين أي راجل غريب عنك، أنا أو حتى آدم خطيبك مينفعش تسلمي عليه، اقرأي كتير عن الحاجات اللي متنفعش تتعمل كبنت مسلمة عشان يكون حجابك صح، وعمومًا مبروك عليه، ربنا يثبتك.. بعد إذنك
كاد يغادر لكنها أوقفته بنادائها:
_ عبدالله..
التفت إليها مجددًا فقالت بإبتسامة رقيقة:
_ أنت إنسان جميل ونضيف، وأنا مقابلتكش حد زيك قبل كدا..
كان عبدالله مستاءً من تصريحها، فهو لايريد غزلًا منها على شخصيته، حتى وإن كان في إطار الصداقة، فهو لم يُعطي فرصةً لأنثى من قبل لتخطي حدودها معه، تجهمت تعابيره وصاح:
_ والكلام برده له حدود مع راجل غريب عنك... عن إذنك
تلك المرة ذهب دون أن يلتفت قبل أن تُعيد إيقافه ثانيةً، بينما وقفت ڤاليا تُتابع خروجه بتزمجرٍ، فهو دومًا ما يصُدها، ويضع حواجز بينهما كأنهما ليسا..
توقف عقلها لحظتها، فلم تدري أي لقبٍ تعبر به عنهما، ماذا هو بالنسبة لها؟ لن تكذب على ذاتها وتصنفه صديقًا، لأنه ليس كذلك، هو أكبر من تلك المكانة بالنسبة لها.
خرجت من شرودها على صوت عامر الذي ردد خلفها:
_ يلا يا فيفو نمشي..
تناوبت بالنظر بينه وبين آدم ثم سارت بجوارهما متعمدة عدم لمس آدم مثلما أخبرها عبدالله، كان كلًا منهما في عالم آخر يسبح بين أفكاره فيما يَقدُم عليه.
***
وصلا عاصم إلى بيت المزرعة خاصتهم، فتساءلت صبا مستسفرة وهي تتفقد المكان من حولها:
_ إحنا جايين هنا ليه؟
أجابها بتهكمٍ:
_ عشان المفروض إحنا عرسان..
مال برأسه ناظرًا إليها وأضاف:
_ والمفروض نكون لوحدنا في ليلة زي دي..
عبست ملامح صبا وتجهمت فأوضح الآخر مُسرعًا:
_ بابا اللي طلب مني نيجي هنا، مش أنا متخافيش
تحاشت صبا النظر عنه بعد أن تأكدت من حُسن نواياه، ترجلت من السيارة وقامت بالدخول بعد أن فتح عاصم باب البيت، كان يسبقها بخُطواته قبل أن توقفه هي بسؤالها:
_ عاصم مين البنت اللي خرجت معاها في الحفلة دي؟
تجمدت قدمي عاصم لحظتها، حدجها بعيون واسعة وهو يقترب منها وأردف بإبتسامةٍ عذبة:
_ دي غيرة دي ولا إيه؟
اقتربت منه صبا حتى باتت أمامه لا يفصلهما سوى مسافةٍ صغيرة وقالت:
_


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close