رواية علي دروب الهوي الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم تسنيم المرشدي
الفصل الثالث والعشرون
على دروب الهوى
بقلمي تسنيم المرشدي
***
_ صبا!
_ ڤاليا!
هتفن بأسمائهن متعجبتين من وقوفهن أمام غرفة عبدالله تلك الساعة المتأخرة من الليل، فكانت صبا أول من تساءلت بحدةٍ وغيرة:
_ بتعملي إيه هنا؟
ابتلعت ڤاليا ريقها، وطالعتها بنظراتٍ متوترة، حمحمت لتُجمع الإجابة قبل أن تَرُد بتلعثمٍ:
_ كنت جاية أشوف عبدالله لو يعني محتاج لحاجة.. يا حرام اتصاب وهو لوحده دلوقتي..
لم تتقبل صبا كلماتها المائعة وهاجمتها صبا بغتة:
_ أنتِ لطيفة أوي يا ڤاليا، حلو تعاملك مع العامل اللي بيشتغل عندكم.. على كدا دا تعاملك عامةً؟
_ عبدالله غير أي حد..
قالتها ڤاليا بتلقائية لم ترتب لذلك، فتفاجئت صبا بردِها وحدجتها بسخطٍ، فالغيرة هشمت قلبها، انتبهت ڤاليا على كلماتها التي ستُثير حولها الريبة فأردفت موضحة ما تقصده:
_ عبدالله أخو آدم.. وطبيعي نكون مهتمين أكتر
اندهشت صبا من تصريحات ڤاليا، وخصيصًا لمعرفتها بأن عبدالله قد وطد علاقته بعائلته، وعلى الرغم من دهشتها إلا أن كلماتها قد أخمدت نيران غيرتها قليلًا، انتبهت كلتاهن على خروج عبدالله اثر أصواتهن، ونظر إليهن بالتناوب متعجبًا من أمر وقوفهن معًا أمام غرفته.
اهتز داخله وخفق قلبه بقوة عندما شعر بقرب صبا منه، لكنه وقف بقامة منتصبة شامخة ينظر إليها كأسدٍ لا يخشى عدوه، لا يدري ماذا يريد إثبات لها، لكنه حتمًا لن يُظهر ضعفه أمامها.
بنبرة لا تُبالي وكأنه لا يتأثر بها سألها بجفاء:
_ محتاجة حاجة يا دكتورة؟
رفت عينيها فجأة، وحاولت تمالك نفسها أمامه، لا تريد البكاء الآن، جاهدت شعورها المُلح في البكاء فمدت يدها بِقُربه وقالت بصوتٍ بالكاد وصل لأُذنيه:
_ نسيت أقولك تاخد مسكن، فجبت لك عشان الجرح هيوجعك...
دون أن يرفع عينيه عنها أخذ المسكن فأولته صبا ظهرها وفرت هاربة فناداها عبدالله قبل ذهابها وقال:
_ يا دكتورة..
أدارت رأسها مُتلهفة لسماع ما يريد، فاسترسل عبدالله سؤاله وهو يضع راحة يده على صدره:
_ مفيش مسكن لوجع القلب..
تفاجئت صبا وكذلك ڤاليا لم تكن أقل منها اندهاشًا، فسؤاله كان مريبًا ومُبهمًا بالنسبة لها، بينما ابتلعت صبا ريقها وأخرجت كلماتها بصعوبة:
_ لو فيه كنت نفعت نفسي..
قالتها وهرولت إلى الداخل ثم إلى الغرفة، وقفت خلف الباب تجهش بالبكاء الذي حبسته، وضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها القوية، انتبهت على حركة عاصم فأسرعت إلى المرحاض حتى لا يُلاحظها.
فتحت صنبور المياه وغسلت وجهها مرارًا لعلها تعود إلى رُشدها، تأملت نفسها في المرآة، وتساءلت كيف كانوا وكيف أصبحوا، يتصعنون غُربتهم لكنهما لبعض أوطانًا لن تنهدم بسهولة.
في الخارج؛ وبعد ذهاب صبا انتبه عبدالله على سؤال ڤاليا:
_ عامل إيه دلوقتي؟
وجه بصره عليها؛ وأجاب مختصرًا:
_ الحمدلله
تنهد ثم أضاف معاتبًا:
_ ملوش لزوم وقوفك هنا في وقت زي ما دا، اعتقد عز بيه مش هيكون حابب كدا، ولا آدم باشا!!
أحرقتها كلماته، تحول لون بشرتها إلى الحُمرة من شدة خَجلِها الطاغي عليها، إزدردت وقالت مُعللة سبب مجيئها:
_ أنا بس حبيت أطمن لو محتاج لحاجة...
قاطعها عبدالله مستنكرًا تعاملها الرقيق معه:
_ أنا لو محتاج لحاجة هعرف أجيبها بنفسي، متقلقيش حضرتك ..
خرجت ڤاليا عن هدوئها واندفعت:
_ أنا مش حضرتك.. مش بحب الرسيمات دي، عبدالله أنت من العيلة خلاص وأنا..
قاطعها مرةً أخرى، فلا يريد سماع ما تود قوله:
_ أنا تعبان ومحتاج أنام، عن إذنك..
زمت ڤاليا شفتيها بحزن، كما تملكها الخجل من فظاظة أسلوبه معها، ألقت نظرة أخيرة عليه وقالت:
_ تصبح على خير..
_ وأنتِ من أهله
هتفها فانصرفت ڤاليا سريعًا عائدة إلى غرفتها، وكذلك فعل هو، جلس على طرف الفراش وتحسس ذراعه بألمٍ شديد انعكس على تقاسيم وجهه، نظر إلى المسكن لوقتٍ ثم تناول منه حبة على أمل أن يُسكن آلامه ولو قليلًا.
***
صباحًا، وبعد محاولاتٍ عديدة بائت بالفشل الذريع، ومنها انتهى بعضها بالملل وفقدان الأمل في الوصول إلى مراده، في النهاية نجح في فك قيده، حرك ذراعيه للأمام بألم شديد لوضعهما خلف ظهره مدة طويلة.
ظل يُحرك ذراعيه في حركاتٍ دائرية ويقوم بغلق أصابعه وإعادة فتحهما مرة أخرى ليُريح أعصاب يده المتشجنة، نهض وبحث عن مكانٍ يمكنه الهرب منه لكن لم يجد، فالمكان مغلق وليس لديه سوى بابًا حديدي حتمًا لن يُفتح إن حاول إلى العام القادم.
انتبه على هاتفه الموضوع على طاولة قديمة بعيدًا عنه حتى لا يُمكنه الوصول إليه وهو مقيد الأيدي، توجه نحوه سريعًا وحاول الإتصال بأحدهم حتى يُفرج عن حبسه الذي دام لأشهرٍ.
لم تلتقط الشبكة فكانت ضعيفة، أوصد عينيه ناعتًا ذلك الحظ التعيس، ثم أعاد فتح عينيه وجاب بها الغرفة من حوله بيأسٍ، لكنه لن يستسلم بتلك السهولة عليه فعل ما يلزم لكي يخرج من هنا، لقد تعفن في ذلك المكان العفِن.
بدأ يُجمع بعض الخرودات ويضعها فوق بعضها لكي يصل إلى الأعلى ربما تقوى شبكة الهاتف، وبالفعل بعد لحظاتٍ استطاع عمل مكالمة هاتفية:
_ آدم باشا أنا حمادة..
تأفف آدم بضجرٍ فلقد استيقظ لتوه، ولم يكن في حُسبانه صباحًا على صوت حمادة، قلب عينيه وهتف:
_ عايز إيه يا بني آدم أنت، مش كنت غورت ومحدش شافك فترة، رجعت تاني ليه؟
_ أبوك هو اللي كان حابسني عشان يكون في إيده دليل لما السنيورة تظهر، حطني في مخزن بقالي كتير أوي مش عارف عدا عليا شهر ولا سنة، أنت لو مجتش تخرجني من هنا صدقني أول ما هشوف أبوك أو عبدالله هقولهم على كل حاجة..
هتفهم حمادة بنبرة تحذيرية خشاها آدم، الذي صُعق ولجم لسانه من فرط الصدمة، أخذ ثوانٍ يستوعب عقله ما يحدث وما يُمكنه الوقوع فيه من خلف ذلك الوغد اللعين.
أخرجه صوت عقله الذي وجد له فكرةً عليه فعلها إن خانه حمادة واعترف عليه، زفر أنفاسه وأردف بهدوءٍ مختصرًا:
_ هخرجك.. اصبر أنت شوية
_ لو على الصبر فأنا معنديش غيره حاليًا، لكن ممكن يِنفذ أول ما أشوف طلة أبوك، معاك ساعة بالكتير تخرجني من هنا لإما تقول على البشوية باي باي
قالها حمادة ثم أنهى المكالمة، فتطلع آدم الهاتف بغيظٍ وبصق عليه ناعتًه ببغضٍ عندما لم يحصل على كلماتٍ أراد تسجيلها، تابع إرتداء ملابسه وخرج من غرفته متوجهًا إلى غرفة والده بهيئة لا تبشر بالخير، طرق باب وولج فور سماعه لسماح والده له بالدخول.
دلف بِخُطاه الغير متزنة، حتى وقف أمام والده وهتف مُهاجِهمًا إياه:
_ أنت حابس حمادة؟!
استنكر قاسم نبرته في الحديث معه وهتف:
_ اتكلم بصوت واطي دا أولًا، ثانيًا آه حابسه، عايز حاجة؟
خرج آدم عن طوره وجن جنون لا يستوعب تصرف والده وصاح عاليًا مُبديًا تذمُره مما يحدث:
_ إيه الطريقة اللي بتتعامل بيها دي، من امتى وأنت كدا، ولا كُتر قُعادك مع ابنك حببك في شغل البلطجة بتاعه؟!
برقت عيني قاسم مندهشًا بأسلوبه الوقح، وهلل غير متقبلًا وقاحته:
_ أنت قليل الأدب، إنك تتكلم مع أبوك بالشكل دا تبقى مشوفتش تربية!!
جاهد آدم شعوره القوي في المُشاجرة وأخمد نيرانه قليلًا محاولًا استعطاف والده:
_ أنا آسف، بس دي مش طريقة ولا أسلوب، أنت معودتنيش على كدا، متلعبش في الثوابت وترجع تزعل لو عملت زيك!
حمادة لازم يخرج!!
شعر قاسم بالحرج يجتاحه، فلديه الحق فيما قاله، لم يكن يستخدم ذلك الأسلوب المتهور الغير آدمي، لكن حُب عبدالله وتطوقه لخلق علاقة قوية بينهما قد بعثر مبادئه لطالما حرص عليها طيلة عمره، تنهد ثم أولاه ظهرها وأبدى رفضه قائلًا:
_ مقدرش أعمل كدا، لازم أرجع لعبدالله الأول
_ تمام، كلمه وخليه يجي نتقابل قدام المكان اللي فيه حمادة ونتكلم إحنا التلاتة..
أردفها آدم بجدية ثم خرج من الغرفة بينما أعاد قاسم النظر نحو الباب الذي خرج منه ثم هاتف عبدالله ليصل معه إلى حلٍ يُرضي الأطراف جميعًا.
بعد فترة؛ ترجل قاسم وانضم إلى آدم الذي توجه إلى الخارج مباشرةً واستقل سيارته، انتظر حتى يتحرك والده ويتبعه، مر قاسم على فيلا عز ليصطحبه ويذهبون إلى حمادة.
كان عبدالله هادئًا طيلة الوقت، لا ينبس بحرفٍ، فكان يتفقده قاسم بريبة من آن لآخر حتى قاطع ذلك الصمت بسؤاله:
_ عبدالله أنت كويس؟
_ عادي
اكتفى بقولها فتابع قاسم أسئلته:
_ كنت فاكرك هتعترض على اللي آدم عايزه.. بس أنت فاجئتني إنك موافق حمادة يمشي..
تشدق عبدالله بتهكمٍ قبل أن يُردف مستاءً:
_ أسيبه ليه، إذا كانت اللي بعمل كدا عشانها مش فارق لها.. شافت حياتها
أطلق ضحكة انتهت بتنهيدة مُحملة بالهموم، أحس بما يشعر به قاسم وأراد الإطمئنان عليه:
_ أنت متأكدة إنك كويس..
_ هتفرق؟
تساءل عبدالله بجمودٍ، فأكد قاسم قائلًا:
_ أيوة طبعًا، لو مش كويس..
قاطعه عبدالله بحنقٍ:
_ مش هتقدر تعمل حاجة، أنا مش قادر أعمل لنفسي حاجة..
أخذ قاسم نفسًا زفره على مهل، ثم أردف كلماتٍ حنونة:
_ هتتخطى، الوجع مع الوقت هيختفي
رمقه عبدالله بعدم اقتناع وهتف بتهكمٍ:
_ وأنت قدرت تتخطى حبك؟
تفاجئ قاسم برمي الكلمات التي آلمته، حدجه بنظراتٍ معاتبة ثم حاول إظهار الفارق بينهما:
_ أنت كل اللي بينك وبينها مشاعر مع الوقت هتقل لغاية ما تختفي حتى لو الوقت طال، لكن أنا بيني وبينها روح، رابط كان مقويني بيها ومخلي عندي أمل ليومنا دا..
أطلق عبدالله ضحكات ساخرة وردد دون تصديق لما يُردفه:
_ وأنت عندك أمل إنكم ترجعوا لبعض؟
_ وليه لأ؟ إيه اللي يمنع؟ الحواجز اللي منعت وصولنا زمان لبعض خلاص معدتش موجودة، ليه ما أعيش حلمي اللي في نهاري كنت بدعي بيه وطول ليلي كنت بحلم بيه..
_ حلوة الثقة دي، بس متثقش كتير عشان مترجعش تزعل لو فضلت طول عمرك تحلم بس..
هتفها عبدالله فقال الآخر بعيون راضية:
_ يبقى يكفيني شرف المحاولة ولا إيه يا عُبد؟
تبادلا كليهما النظرات لوقتٍ ثم تابع قاسم قيادته حتى وصل إلى المخزن الموجود به حمادة، ترجل ثلاثتهم من السيارتين، وكان آدم يسبقهما بخُطوة، وقف أمام الباب ونظر حيث أبيه وقال:
_ افتح الباب يا بابا..
دون تعقيب ألقى له قاسم المفتاح فـ لَقِفه آدم وقام بفتح الباب الحديدي، فوجد حمادة يركض نحوه، فقام آدم بمنع خروجه وقال:
_ استنى..
وجه بصره على عبدالله وأردف بنبرة جادة عملية:
_ أنت لو ليك حق، أنا أعرف أجيبهولك، بس بالقانون والقانون محتاج أدلة ودي شغلتي، لكن اللي حصل دا لو كان حد تاني اللي عمله مكنتش اتغاضيت عنه.. حمادة هيفضل تحت عيني طول الوقت لغاية ما نثبت إذا كان هو اعتدى على البنت فعلًا ولا لأ...
لحظة صمت حلت على وجوه الجميع، اقترب عبدالله من آدم وبعيون ضائقة ونبرةً جامدة هتف:
_ وأنت عرفت منين الموضوع دا؟ محدش يعرف خالص..
وجه عبدالله أنظاره على قاسم فاستشف ما يرمي إليه الآخر وأردف:
_ أنا مقولتش حاجة.. معرفش هو عرف منين
كان آدم في موقفٍ صعب للغاية، وقف يفكر في شيءٍ يُخرج به نفسه من تلك الورطة، ثوانٍ وقال بنبرة مهزوزة وهو يشير إلى حمادة:
_ حمادة اللي قالي في الموبايل إنكم حابسينه عشان السبب دا..
نظر إلى حمادة وأشار إليه بعينه أن يؤكد حديثه فلبى الآخر أمره على الرحب:
_ أيوة أنا فهمته الفولة واللي فيها..
زفر آدم أنفاسه ثم وجه حديثه إلى حمادة أمرًا:
_ يلا قدامي..
كاد يسير حمادة أولى خُطواته لكن وقوف عبدالله أمامه قد منعه، أمسك ذراعه وشد عليه قبل أن يردف ببغضٍ:
_ إرمي يمين الطلاق على زينب..
تبادلا النظرات قليلًا ثم هتف حمادة بقلبٍ جامد دون رأفة:
_ أختك طالق..
تقوس ثغرها ببسمةٍ خبيثة فتابع عبدالله حديثه:
_ لينا قاعدة تانية عشان الطلاق يكون رسمي..
صمت وأدار رأسه للجانب ووجه حديثه إلى آدم دون أن ينظر إليه:
_ ولا إيه يا حضرة الظابط
_ اللي أنت عايزه يا عبدالله هيحصل..
قالها آدم ليُنهى الحوار سريعًا، ثم أشار إلى حمادة بأن يستقل سيارته، تريث آدم حتى ابتعد حمادة عنهم وأشار بسبابته اتجاه والده وأخيه:
_ محدش يعمل حاجة تاني من غير عِلمي.. مش كل مرة هتسلم الجرة زي ما بيقولوا..
تركهما وتوجه إلى سيارته تحت نظرات قاسم السعيدة، فلقد شعر بتغير أسلوبه تجاه أخيه، ظهرت على شفتيه ابتسامة رضاء عن آدم، وشعور
من الراحة قد تغلغل داخله.
التفت برأسه ونظر إلى عبدالله وقال:
_ إيه رأيكم تعزم صحابك في بيت المزرعة وتقضوا وقت سوا هناك؟
رفض عبدالله ذلك بحركة من رأسه مُردفًا:
_ ملوش لازمة..
أصر قاسم على جمعهم سويًا وقال بنبرة رخيمة:
_ قُعادك مع صحابك دا احتياج مش رفاهية، لازم تعملوا كدا كل فترة عشان تخرج طاقتك السلبية وتحس إنك أحسن، عمومًا سيب الموضوع عليا، أنا هظبط لكم الدنيا المهم انت فضي لي نفسك بليل وخلاص..
لم يُعلق عبدالله بل توجه ناحية السيارة واستقل المقعد وكذلك فعل قاسم الذي قاد سيارته وأعاد عبدالله إلى عمله على مضضٍ فهو إلى الآن لا يهضم استمراره في ذلك العمل الذي لن يضيف إليه سوى المتاعب والآلام.
***
طرقات الباب قد أزعجتها، ونهضت بكسلٍ لتفتح الباب للطارق، فكانت زوجة عمها، استقبلتها خلود بترحيب حار:
_ اتفضلي يا طنط..
ولجت عزة وقامت بالجلوس عندما دعتها خلود لذلك، انضمت إليهن عليا وهناء كما رحبن بها بحفاوة، فهي لا تأتي إليهن كثيرًا.
أخذت عزة تتنفس بعض الهواء ثم أردفت سؤالها التي جاءت للإستفسار عنه:
_ أنا جاية أعرف منكم كيك الشكولاتة بيتعمل إزاي، أنا بعملها بالبرتقال على طول، لكن مجربتش قبل كدا الشكولاتة، كنت عايزة أعملها عشان عيد ميلاد وليد بكرة..
تولت عليا مهمة إخبارها بمكونات ومقادير الكيك وطريقة صُنعه باحترافية، ثم انتهت وكذلك زوجة عمها التي دونت ما قالته في ورقةٍ حتى لا تنسى شيئًا. ثم استأذنت وغادرت تحت نظرات خلود التي راودها فكرةً عزمت على فِعلها.
ابتسمت بخفة وسرعان ما توجهت إلى المطبخ وظلت تُفتش في أدارجه، ثم وضعت ما بحثت عنه أمامها ووقفت تتفقد النواقص مرددة:
_ دقيق، بيض، زيت، سكر، ولبن.. ممم كدا ناقص كاكاو وبيكنج بودر وفانيليا..
توجهت إلى غرفتها وقامت بحسب هاتفها من على الفراش وقامت بالإتصال على والدها بحماسة واضحة:
_ بابا حبيب قلبي.. ممكن طلب!
أخبرته ما تحتاجه ليأتي به عند عودته من العمل ثم أنهت الإتصال وعادت إلى المطبخ فوجدت عليا تُعيد ما قامت بإخراجه إلى أماكنهم فصاحت مُتذمرة وهي تأخذهم من يدها:
_ إيه دا سبيهم، أنا محتجاهم
_ محتجاهم في إيه؟
تساءلت عليا مستفسرة فأجابتها خلود بعفوية:
_ بصراحة حاسة إن مرات عمك هتبوظ الكيك، فأنا حابة أعمله وأطلعه ..
ضاقت عليا بعينيها لا تصدق عِلتها، عقدت ذراعيها على صدرها وهتفت:
_ بقى خايفة تبوظها قولتيلي..
أولتها خلود ظهرها وتصنعت انشغالها في إعادة الأشياء على الطاولة الرخامية وقالت مؤكدة:
_ أيوة طبعًا أومال هيكون ليه؟
_ هنشوف
قالتها عليا وهي تبتسم بخبثٍ ثم خرجت من المطبخ فوقفت خلود تستشنق الصعداء، ثم تابعت تجهيز الأدوات التي ستستخدمها في صنع الكيك لحين عودة والدها.
***
في الفيلا، اجتمعت عائلة عز حول الطاولة يتناولون وجبة الفطور، ساد الصمت حتى قطعته ڤاليا بقولها:
_ عاصم أنا رايحة النهاردة أخد مقاس الـ Drees، تحب تيجي أنت وصبا معايا؟
بترحابٍ كبير أيد عاصم اقتراحها:
_ طبعًا نيجي، عشان صبا تختار هي كمان فستان أو تفصله، اللي تحبه يعني..
_ فستان لإيه؟
تساءلت مستسفرة بنبرةٍ جامدة، فتعجب عاصم من سؤالها وردّ موضحًا:
_ حبيبتي مش يوم ما وصلنا من السفر قولنا هنشارك في خطوبة ڤاليا عشان الناس تتعرف عليكي، بما إننا معملناش فرح يعني..
تفاجئت صبا بذلك القرار وحاولت جمع حدوثه:
_ ملوش لزوم حفلة لينا، الناس كدا كدا هتتعرف عليا مع الوقت..
تدخلت نهال موضحة بعض النِقاط التي تجهلها صبا بسلاسة:
_ ضروري يكون فيه حفلة ليكم يا صبا، حفلة أصلًا متليقش بمقام عصام سليمان، وكان المفروض يعمل فرح يليق بمكانته ووضع عيلته، بس أنتوا قررتوا تكتبوا الكتاب وتسافروا، دا فيه ناس بتتفاجئ لما بقول عاصم اتجوز، محدش انتظر مننا جواز غامض بالشكل دا، فعشان كدا بقولك ضروري الناس تتعرف عليكي في حفلة خاصة ليكم..
شعرت صبا بغصة في حلقها، فلقد ألقت نفسها بين أناسٍ لا يشبهونها وستضطر إلى فِعل ما يُريدونه على غير رغبة لِتُجاري تلك الحياة التي اخترتها يومًا دون إرادة منها، كادت تسقط عبراتها إلا أنها جاهدت على منع ذلك.
انتبه الجميع على حضور الخادمة وقالت موجهة حديثها بلغتها الأجنبية إلى صبا:
_ Mrs. Saba's family has arrived and they are waiting for you outside.
( لقد وصلت عائلة السيدة صبا، وهم ينتظرونك بالخارج )
تجمدت صبا مكانها، وترقرقت العبرات في عينيها، نظرت إلى عاصم وهبت واقفة ثم غادرت المكان دون استئذان، فلحِق بها عاصم تحت نظرات الجميع المتعجبة لأمرهما.
_ صبا، لحظة بس..
قالها عاصم فلم تتوقف قدميها عن السير حتى بلغت غرفتهما، أغلق عاصم الباب خلفه فاندفعت به بعروقٍ متشجنة:
_ أنت اللي قولتلهم صح؟
_ أيوة، كان لازم يعروفوا إننا رجعنا..
قالها فتابعت صبا هجومها غير راضية بما يحدث:
_ زي ما قولتلهم يجوا اتفضل قولهم يمشوا، أنا مش عايزة أشوف حد، مش جاهزة..
حاول عاصم تهدئتها بمسكه لذراعها فتراجعت للخلف مُبتعدة عنه ففضل الحديث دون لمسها:
_ متنسيش إن مواجهتك ليهم من ضمن خطة العلاج، أنتِ لازم تقابليهم يا صبا.. لازم تواجهيهم بكل اللي جواكي نحيتهم..
_ بقولك مش جاهزة دلوقتي..
هتفتها على أملاٍ أن لا يضغط عليها، لكنه آبى سماعها وتحدث بهجومٍ:
_ أومال نزلنا مصر ليه؟ مش عشان نتابع علاجك بالطريقة دي، عشان تواجهي كل اللي هربتي منهم..
هدّأ عاصم من نبرته وأضاف:
_ أنا هنزل أنادي عليهم، تتكلموا هنا أحسن، عشان تكونوا على راحتكم..
خرج من الغرفة سريعًا حتى لا يُقابل أي إعتراضٍ منها، بينما وقفت صبا تبكي وهي تتذكر ماحدث لها تلك الليلة عندما أرادت الإنتحار والتخلص من حياتها.
استمعت إلى صُراخ والدتها الآتي من الغرفة وهي تهرع إليها خشية أن لا تلحق بها، قامت إجلال باحتضان قدميها مُتوسلة لها بأن تتراجع:
_ انزلي، أنتِ بتعملي كدا ليه حرام عليكي
انضم إليهن محمود الذي تفاجئ بحالتهن وأسرع نحوهن ثم قام بإنزال صبا بكل قوته فوقع أرضًا وهي بين ذراعيه، جست إجلال على ركبتيها وقامت بضم إبنتها إلى حضنها وأجهشت في البكاء تحسُرًا على ما أصابها وظلت تردد:
_ ليه كدا يا صبا، كنتي هتوجعي قلبي عليكي عمري كله..
لم تتوقف صبا عن البكاء الذي أنهك جزءًا من روحها، نظر محمود إلى زوجته وقال:
_ ساعديني ندخلها الأوضة..
نهضت إجلال وقامت بمساعدة صبا على الوقوق، عادوا إلى الغرفة فانتبه محمود على هاتف صبا الذي لم يكُف عن الرنين منذ فترة، إلتقطه وقال:
_ دا رقم..
وضع الهاتف في وجه صبا وسألها:
_ تعرفيه يابنتي؟ دا رقم عبدالله
إزداد نحيب صبا وأخذت وقتًا قبل أن تُجيبه بنبرة متلعثمة غير مفهومة:
_ دا باشمهندس عاصم.. صاحب المستشفى
وكأن مِصباحًا قد أنار فكرةً لعقل محمود الذي صمت لبرهة قبل أن يقطع ذلك الصمت بسؤاله:
_ هو مهتم بيكي أوي كدا ليه؟ عايز يتقدم يعني؟
رمقته إجلال بنظرات معاتبة وهي تردد:
_ كلام إيه دا يا محمود دلوقتي.. خلينا في اللي إحنا فيه؟
_ ماهو لو كان عايز يتقدم، بنتك ترد عليه وتقوله إنها موافقة.. الناس اللي زي دي مش بيفرق معاها بنت بنوت ولا لأ..
هتفها محمود دون رأفةٍ لمشاعر صبا التي هُشِمت، حدقت به بعيون واسعة لا تُصدق ما سمعته أذنيها، أخذت ثوانٍ تستوعب فيهم ما تفوه به، كانت جامد لا تُبدي رد فعل، لا تصدق أنه يستغيث بأحدٍ لينجدُه من فضيحةٍ قد تُسبِبها له، أهذا هو أول رجل أحبته وتعلمت على يده الحب للآخرين؟
هل نفسه والدها حبيب فؤادها الأول من حطم قلبها بكلماته القاسية؟
هل أصبحت عبء لا يتحمله الآن؟
خرجت صبا عن هدوئها وصرخت عاليًا بعقلاٍ حتمًا سيجن مما تعيشه:
_ أخرجوا برا، سيبوني لوحدي..
عند إصرارها بالصراخ خرجا والديها على أمل أن تهدأ، بينما أوصدت صبا باب غرفتها وتوجهت إلى
الهاتف تبحث عن رقم عبدالله، لتُعيد محاولاتها الأخيرة، لكن الهاتف كان مُغلقًا.
أعادت اتصالاتها مرارًا، والنتيجة دون جدوى، الهاتف مغلق، حالة من التِيه تملكتها، تفقدت معالم غرفتها جيدًا، لوهلة لم تعرف أين تمكث، وكأن المكان غريبًا لا يمت لها بصلة، كيف تربت هنا وترعرعت بين كنف ذلك البيت التي لم تتعرف عليه.
قطع عليها حبال شرودها اتصال عاصم، نظرت إلى الهاتف وشيطان أفكارها أرغمها على الإستسلام له،
للتخلص من ماضيها الكاذب، وحبها المزعوم.
كانت تعلم بأن قرارها ماهو إلا تمهيدًا إلى الجحيم لكن نعيم الجهل خيرًا من جحيم الوعي.
أجابت على اتصال عاصم وقالت بصوتٍ باكي:
_ لسه عرضك ساري يا باشمنهدس، لسه عايز تتجوزني؟!
عادت إلى واقعها الأليم على دخول والديها الغرفة،
كان الطرفين ينظُران إلى بعضهم البعض بمشاعرٍ مختلطة بين الندم والغضب، بين الحزن واللوم، بين النفور والتعلق.
تقدمت إجلال فاتحة ذراعيها جاذبة إياها بين أحضانها وقد انهمرت كلتاهن في البكاء بقلوبٍ حزينة تنعت الفراق، ظلت إجلال تُمسد بيدها على رأسها وهتفت بنبرةٍ مشتاقة:
_ وحشتيني يا قلب أمك، وحشني صوتك وحضنك وكل حاجة فيكي وحشتني..
بادلتها صبا العِناق، فهي بحاجة ماسة لذلك، أخذن وقتًا كان حميميًا يليق بالغياب الذي فرق بينهن، ثم تراجعت إجلال لتُعطي زوجها فرصة إخماد لهيب اشتياقه لها، خطى محمود أولى خُطواته فتراجعت صبا للخلف وهتفت:
_ خليك عندك..
صعق محمود مما قالته وردد بذهولٍ:
_ أخليني مكاني يا صبا؟!
_ مش قادرة أسامحك.. مش قادرة أتخيل إنك عيشتني وهم كبير وإنك بتحبني وإني أحلى حاجة في حياتك وأنت وقت اللي حصل كنت أول اللي باعني، أول واحد نبذني ورماني، أول واحد كان عايز يتخلص مني عشان ميتفضحش، بدل ما تجيب لي حقي من اللي عمل كدا كنت عايز تجوزني وتخلص مني بأي طريقة مش فارقة لعبدالله ولا عاصم!! رغم إنه مش بإيدي..
رفعت صبا يديها المرتجفتين وأضافت:
_ دا كله غصب عني والله..
أولته ظهرها وسرعان ما هربت إلى الشرفة، رافضة الحديث معه، فترقرقت دموع محمود وتساقطت بغزارة ولم يستطع الوقوف لثانية أخرى وفر هاربًا إلى الخارج، ألقت إجلال نظرة أخيرة على إبنتها ثم ألحقت بزوجها حتى بلغوا الحديقة وكانت المفاجئة وجود عبدالله أمامهما.
تبادلا ثلاثتهم النظرات المذهولة، كاد محمود يتابع سيره إلا أن عبدالله قد وقف أمامه وتساءل بتلهفٍ لمعرفة الحقيقة:
_ بنتك عملت كدا ليه؟ أنت أجبرتها ولا هي اللي اتجوزت برضاها؟
لم يُجيبه محمود، فيصعُب عليه إخباره أنه السبب في جواز ابنته من رجلًا غيره لا تحبه ولا تريده، فقد لتهرب من كلماته التي رماها بها، هرول عبدالله خلفه وهو يُناديه:
_ رد عليا، فهمني اللي حصل دا بسبب مين؟
تابعا سيرهما حتى استقلوا سيارة الأجرة التي كانت في انتظارهما وغادرا، ركل عبدالله أحد الأحجار بقدمه غاضبًا من عدم إجابتهما عليه، عاد إلى الداخل، وعينيه مرفوعتان على تلك الواقفة.
كم ود اقتحام جدران الفيلا والوصول إليها لأخذ ما يريده ويذهب، حتمًا سيغادر على الفور، وقف يتطلع بها وبحور ذكرياتهما معًا تُعاد في عقله تزيد غضبه منها.
***
مساءً؛ حول طاولة الطعام في فيلا قاسم، كان يجتمع مع ابنه وزوجته يتناولون وجبة العشاء، فتبادل قاسم معه أطراف الحديث:
_ حددتوا ميعاد الخطوبة ولا لسه؟
أجابه آدم بضيقٍ شديد وهو يتذكر أسلوب ڤاليا معه:
_ لسه بس بنجهز الترتيبات اللي قبلها دي..
_ طيب حلو، محتاجني في حاجة؟ اخلص لك حاجة أو كدا؟
تساءل قاسم مهتمًا به، فأردف الآخر بصوتٍ جاف وملامح باهتة غير حيوية:
_ لو احتجت لحاجة هقولك أكيد..
استشعر قاسم أن هناك أمرًا يُزعجه، فقرر أن ينفرد به بعد العشاء، بعد قليل؛ انتهوا من الطعام، فنهض قاسم أولًا ونادى على الخادمة وقال:
_ لو سمحتي اعملي لنا اتنين قهوة وهاتيهم على مكتبي..
ثم وجه أنظاره على آدم وصاح:
_ آدم تعالى هنتكلم شوية..
أماء آدم بقبولٍ، فأسبق قاسم بخُطاه إلى المكتب، فلحق به آدم وقام بغلق الباب، جلس كليهما مقابل بعض وقد لاحظ قاسم شرود آدم فتساءل دون مماطلة:
_ مالك، شكلك مضايق كدا ليه، أنت متخانق مع ڤاليا؟
_ ياريت..
قالها آدم بشجنٍ فأثار الفضول حوله، تنهد آدم وبدأ يشرح لوالده طبيعة العلاقة بينهما:
_ ياريت نتخانق على الأقل العلاقة يكون فيها روح، إحنا بقالنا ٣ شهور مع بعض يمكن مش فترة كبيرة أوي مش بس برده مش قليلة إنها تفضل لغاية دلوقتي جامدة في كلامها معايا، مرة كويسة وعشرة لأ، حتى لما بتكون كويسة مش لدرجة حبيبة لحبيبها، دي بتتعامل مع العُمال عندهم في الفيلا ألطف ما بتتعامل معايا..
_ طب أنت مواجهتهاش؟ اتعود تواجه وتسأل كل اللي جواك عشان ترتاح...
سأله قاسم بجدية فردّ الآخر بملامح عابسة:
_ سألت كتير أوي والإجابات معناها واحد، مرة مش في المود، قبل كدا متوترة من الإمتحانات، آخر حاجة هي شخص قلوق وبتخاف قبل أي خطوة وبتكون كدا، ودا كلام أونكل عز.. بصراحة معتش فاهم لها حال
أنا من كتر ما مش لاقي أسباب بحاول أقنع نفسي إن دي شخصيتها..
_ طب وأنت هتقدر تكمل مع شخصيتها دي؟
كان سؤال قاسم صريح فاجئ آدم الذي أخذ وقتًا يفكر فيه ويُرتب كلماته بعناية ثم أردف:
_ صعب أوي إن المشاعر تكون متبادلة من طرف واحد، بس أنا هفضل أحاول معاها للآخر يمكن تتغير..
انحنى قاسم بجسده للأمام وقام بوضع راحة يده على قدم آدم واسترسل:
_ حاول يا حبيبي طلاما أنت بتحبها، بس متعملش حاجة أنت مش مرتاح لها، يعني متكملش في أوهام أنت راسمها وفاكر إنها ممكن تتغير، حاول بس متجيش على نفسك..
دلفت العاملة بعد أن طرقت الباب ووضعت القهوة على طاولة المكتب، فشكرها قاسم وغادرت ثم أضاف:
_ يلا اشرب قهوتك...
أخذ كليهما قدح القهوة وقاموا بارتشافه، تذكر قاسم صباح اليوم وابتسم ثم قال:
_ عجبني موقفك الصبح مع عبدالله، وإنك أخدت خطوة اتجاهه.
لم يعلق آدم بل اكتفى بهز رأسه، فرغ من القهوة فنهض واستأذن من أبيه:
_ أنا هطلع أوضتي، تصبح على خير
نهض قاسم من مكانه وقال:
_ ما تيجي معايا نسهر شوية، عبدالله وصحابه هيجو عندي بيت المزرعة..
تشدق آدم ساخرًا وقال بتهكمٍ:
_ بيت المزرعة اللي منعتني قبل كدا أدخله؟
تفاجئ قاسم بكلامه وزم شفتيه حزنًا، اقترب منه وحاول توضيح بعض الأمور له:
_ البيت دا حصل لي فيه كل حاجة، عشت الحلو والوحش والأسوأ فيه، أنا كنت حابب احتفظ بذكرياتي، يمكن كنت غلط بس بحاول أصلح غلطي.. حاول تنسى لي أي حاجة ضايقتك مني أو واجهني بيها..
وضع قاسم يده على صدر آدم واستأنسف:
_ المهم ميكنش جواك حاجة ليا مش كويسة..
أزاح يده عنه وواصل بجدية:
_ ها هتيجي معايا؟
رفض آدم بهز رأسه؛ وأخبره عِلته:
_ أنا بجد فاصل ومش قادر، اليوم كان طويل النهاردة، مرة تانية..
_ ماشي يا سيدي، على راحتك، تصبح على خير
قالها قاسم بابتسامة هادئة فغادر آدم وهو يردد:
_ وأنت من أهله..
فتوجه قاسم إلى غرفته ليبدل ملابسه سريعًا ويذهب إلى بيت المزرعة ويتمتع بسهرة شبابية فريدة من نوعها.
***
في بيت المزرعة، تجمع الشباب متسائلين عن قاسم، فأجاب عبدالله:
_ كلمته وقالي جاي في الطريق..
جلس الشباب معًا فبدأ وليد أطراف الحديث بسؤاله:
_ مفيش عندك جديد؟
أطلق عبدالله صوتًا من فمه قبل أن يردد:
_ محصلش حاجة.. وأنتوا إيه الجديد عندكم؟
_ ليلى حامل!
قالها زكريا فتحولت النظرات المتفاجئة عليه، ثم تحول المكان إلى حالة من الهرج، حيث قفز وليد أعلى زكريا بسعادة عارمة وهلل عاليًا:
_ مبروك يا زيكو، أنت هتبقى أب مش متخيل والله
لكزه عبدالله في ذراعه وقام بضمه بسعادة شعر بها لذلك الخبر السار قائلًا:
_ مبروك يا حبيبي، ربنا يكمل لكم على خير يارب
لم يستطع زكريا مُجاراة ما يحدث وتصنُع السعادة التي لا يشعر بذرة منها، فلاحظا صديقيه وتعجبا من حالته المريبة، لكزه وليد بقوةٍ في صدره وتساءل بحاجبين معقودان:
_ في إيه يابني مالك؟ أنت مش مبسوط ولا إيه؟
ابتلع ريقه وحاول جمع كلماته وهو على دراية بهجومهما عليه بعد سماعه:
_ مكنتش عايز يحصل حمل دلوقتي!
تلقى زكريا نظراتٍ منهما أحرقته، ثم أبدى عبدالله استيائه:
_ أنا كنت فاكر الناس بتتجوز بس عشان تخلف من الناس اللي بتحبها!
فأضاف مستنكرًا رفض زكريا:
_ مش لاقي أسباب بصراحة..
_ أقولكم على حاجة ومحدش يضحك عليا؟
قالها زكريا بنبرة مهزوزة تخشى سماع ما لا يسره منهما بعد تفكيرٍ طال، بينما تبادلا عبدالله ووليد النظرات المُبهمة ثم صاح عبدالله بفضول يطوق لمعرفة ما يُخفيه:
_ إيه؟
ابتلع زكريا ريقه؛ ومرر نظريه بالتناوب بينهما ثم أردف بصوتٍ مهزوز:
_ أنا خايف..
_ خايف من إيه؟
قالها وليد مستنكرًا خوفه الغير منطقي، فردّ زكريا على سؤاله موضحًا أسبابه:
_ خايف ومش فاهم إزاي هقدر أتعامل مع كائن حي، إزاي هشيله بين ايديا، ويا ترى هكون أب كويس ولا لأ؟ هقدر أحببه فيا، طب هقدر أحميه؟ لو تعب هتعامل مع تعبه إزاي، مثلا لو سخن أو عطس، هجري على الدكتور ولا فيه حاجة تتعمل قبلها، لو محتاج هدوم أو لبن أو بامبرز هقدر أوفرله الحاجات دي ولا لأ ؟
خايف يجي أظلمه معايا، خايف أكون مش قد مسؤوليته..
كانوا متفاجئين بما يسمعوه منه، فكان صادمًا قليلًا، ساد الصمت للحظات قبل أن يقطعه عبدالله
بقوله:
_ كلامك غريب أوي، أول مرة أشوف حد بيفكر بالشكل دا، أنا آه مجربتش إحساس الأبوة دا، بس مفتكرش إن فيه إحساس أحلى من إنك تكون أب، شايل قطعة من روحك على ايدك، وبعدين هو مش مش بيتولد محتاج كل اللي قولته دا، أنت بتتعلم معاه كل حاجة واحدة واحدة، حاسس إنك مزود الموضوع شوية، المفروض تفرح مش تكون بالحالة اللي أنت فيها دي
_ مش عارف، والله مش عارف، حاولت بس مش لاقي الفرحة اللي المفروض أي راجل مكاني هيفرحها.. مش عارف السيستم بايظ عندي ليه؟
قالها زكريا مستاءًا، فخرج وليد عن صمته وعلق ساخرًا:
_ أنت طول عمرك سيستمك بايظ يا زكريا مش جديد عليك
انفجر ثلاثتهم ضاحكين ثم انتبهوا على وصول قاسم الذي نادى بصوتًا مرتفع:
_ يا شباب، مساعدة من فضلكم..
مال زكريا على أُذن عبدالله وقال ممازحًا:
_ أبوك دا محترم أوي، تحس إننا مشوفناش تربية جنبه
قهقه عبدالله وكذلك الآخرين، استقبلوا قاسم وتفاجئوا بالكن الهائل من الأكياس التي بصحبته، قاموا بإدخالها المطبخ بأمر منه ثم وقف قاسم في منتصف المطبخ وقال بحماسة:
_ يلا كل واحد يلبس له مريلة مطبخ عشان هنطبخ..
تبادلوا النظرات التي انتهت بضحكاتٍ عالية فهلل زكريا مُبديًا سخريته من الوضع:
_ مريلة وطبخ!! أنتوا جايبنا تهزقونا ولا إيه؟
شاركهم قاسم الضحك وأردف بصوت يملؤه الحماس:
_ الطبخ دا أحلى حاجة يا شباب ممكن تعملوها، هتستمتعوا بس إلبسو المريلة الأول عشان الهدوم تفضل نضيفة
أشار لهم على مكانهم فقاموا بارتداءها تحت ضحكاتهم التي لا تتوقف، ثم بدأ قاسم يُقسم الأعمال على أربعتهم، وقفوا يفعلون ما يأمرهم به قاسم ولم يخلوا وقوفهم من الضحك والسخرية على حالتهم، ناهيك عن إلتقاطهم بعض الصور لأنفسهم في تلك الحالة.
بعد فترة ليست بقصيرة؛ انتهوا من طهي الطعام، وجلسوا يتناولون بشهية مستمتعين بوقتهم معًا، كما لم يتوقفون عن إطلاق الضحك وتناول أطراف
الأحاديث عنهم.
فتساءل قاسم بجدية:
_ ها قولولي، مش الأكل طعمه أحلى بكتير وهو معمول بمجهودكم؟
تبادلا الثلاثة النظرات، ثم هتف زكريا من بينهم:
_ بصراحة؟
أماءت قاسم وهو يردد:
_ أيوة طبعًا قول الصراحة
_ إحنا أخدين على الأكل والمرعى وقلة الصنعة
هتفها مازحًا فانفجروا ضاحكين، ثم تحدث قاسم من بين ضحكه:
_ أكيد المرعى حلوة، بس الأحلى المجهود اللي بتعمله للي بتحبهم، يعني أنتوا مش متخيلين سعادتي وأنا وسطكم والأكل معمول بكل حب ليكم.. انتوا بس اللي كسلانين شوية
بعد مرور بضعة ساعاتٍ، لم يشعروا بمرور الوقت، فلقد استمتعوا كثيرًا وانعكس مزاجهم إلى الأفضل، استاذنا وليد وزكريا ليغادرا بينما مكث عبدالله بطلب من قاسم.
ولج غرفتًا كان قاسم قد أحضرها له خصيصًا، فألقى عبدالله جسده أعلاه بتعبٍ شديد، ولم يأخذ ثوانٍ حتى غاص في نومه، فوقف قاسم على الباب يطالعه بحبٍ ثم قال:
_ تصبح على خير يا عبدالله
فهمس الآخر بخفوت:
_ وأنت من أهله يا بابا!!
خفق قلب قاسم لحظتها؛ لا يصدق ما وقع على أذنيه، لقد صرح عبدالله بأبوته، دقت طبول السعادة قلب قاسم الذي لم يتردد وتوجه ناحيته، وقام بالنوم إلى جواره مستمتعًا بتلك اللحظة الثمينة، لقد كان يعلم أنها ليلة فريدة من نوعها، لكنه لم على دراية بأنها ستكون فريدة بشكلٍ خاص هكذا.
احتضنه بكل ما أوتي من قوة شاعرًا بمشاعر خاصة يغلفها السعادة العارمة
