رواية عيون الريان الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم نيللي العطار
ما بينَ مُعْتَرَكِ الأحداقِ والمُهَجِ
أَنا القَتيلُ بلا إثْمٍ ولا حَرَجِ.
+
___ ابن الفارض___
+
***************
+
كعاصفة تتعثر برياحها الهوجاء وصلت رويدا إلى الڤيلا،والخوف يلتهم قلبها كما تلتهم النار سنابل القمح المحترقة، وبعد تفكير طويل دام لساعات منذ اختلائها بذكرياتها الآثمة هداها عقلها لتدبير حيلة ستمكنها من إبعاد ريان عن مريم لكنها ستحتاج سعد ويجب أن تضمن وقوفه هذه المرة بصفها، وستبذل قصارى جهدها في استمالته لما تفكر به،متناسية عن كونه والد إبنها الوحيد، وخال مريم الوحيد، وشقيق ليلى "رحمها الله"الوحيد، وقبل كل ذلك زوجها، مع وضع آلاف الخطوط الحمراء تحت الأخيرة.. دلفت إلى الداخل بخطوات ظاهرها ثابتاً ،أصلها ترتجف وجدته جالس في الحديقة،يحتسي قهوته أثناء مراجعة بعض الأعمال من خلال حاسوبه النقال، توجس من ملامحها الواجمة التي توحي بعدم اتزانها النفسي متسائلاً (مالك يارويدا؟،شكلك زعلان كده ليه؟)
+
جلست على الكرسي المقابل له ترسم تعابيراً زائفة من الحزن والخذلان فوق وجهها بتمثيل محاولة اتقانه جيداً كما اتقنته طيلة عشرون عاماً لتخفي أكبر أسرارها شراً وفداحة قائلة (والله مش عارفة أقولك ايه ياسعد،بس فعلاً في موضوع مهم جداً وماينفعش نسكت عليه) .. أحس سعد بالقلق من منظرها وحديثها لكنها سارعت بسؤاله متخذة تكنيك الهجوم السريع وضرب الحديد وهو ساخن والدخول المباشر في صلب المواضيع مستكملة باستفهام كاذب (هي دار الأيتام اللي ريان حضر حفلتها اسمها ايه؟)
+
أجابها سعد بتعجب (اسمها دار وسيلة،بتسألي ليه؟)
الحفاظ على هدوءها في تلك اللحظة كان جهاد يتطلب منها شحذ جميع قواها فمجرد نطقه لإسم الدار جعل قلبها يسقط أسفل قدميها قائلة بتوتر (ابنك على علاقة ببنت كفيفة هناك، ومش بس كده دول مع بعض فالعين السخنة كمان، وياعالم بيحصل بينهم ايه من ورا ضهرنا)
+
اتسعت حدقتيه بصدمة كبيرة يسألها بعدم تصديق (ريان؟،إزاي؟)
+
ردة فعله الرافضة أشعرتها ببعض الراحة فأردفت مستغلة صدمته لتسكب الوقود فوق النيران (البيه المحترم اللي ياما دافعت عنه قصادي،ووقفت معاه ضدي ماعملش حساب لوضعه ووضعنا الاجتماعي، آدي آخرة دلعك فيه وطبطبتك عليه )
رد عليها بنبرة غاضبة (دلوقتي فهمت كان متلخبط ليه لما كنت بسأله على أي حاجة تخص الدار) .. سكت هُنيهة ثم استطرد بصوت عالٍ (يعني كان مستغفلني بحجة انه عايز يعمل خير وهو بيتصرمح هناك؟).. هب واقفاً وأضاف بعصبية (متخيل عشان بديله حرية الاختيار اني هوافق يحط وشي قدام الناس فالأرض؟)
+
وقفت رويدا أمامه تمسك ذراعه لتحثه على الجلوس مجدداً قائلة بخبث (اهدى ياحبيبي عشان صحتك)
نفض ذراعها عنه قائلاً بانفعال شديد (ازاي يخون ثقتي فيه وفي تصرفاته وينزل للمستوى ده؟ )
+
احتوت كفه بين راحتيها تقول بهدوء منافي للموقف (عصبيتك ورفضك المباشر هيعلقوه بيها وممكن يعاند أكتر،واحنا مش عايزين نخسره)
+
كلماتها المنتقاة بعناية أصابت نقطة ضعفه، تدرك جيداً مدى تعلقه بولده لذلك أصبغت حديثها بالتريث قائلة (أنا عندي حل هايبعده عنها من غير ما نبان فالصورة خالص ،بس اهدى واسمعني كويس)
+
تهاوى سعد على المقعد من خلفه، يشعر بخذلان وخوف بذات الوقت، فكرة خسارته لولده الوحيد مرعبة، ريان بالنسبة إليه قلبه، وعموده الفقري، وإن حدث مايخشاه سينكسر ظهره بالمعنى الحرفي للكلمة، ويجب عليه توخي الحذر قبل اتخاذ أي قرار وسيستمع لأفكار زوجته مُجبراً ... لا يعلم أنها ستسحب الخنجر المغروز في خاصرته منذ سنوات طويلة لتكرر به طعنة أخرى كثيفة الألم، شديدة الوطأة ستأخذ في طريقها روح أعز مايملك ..
+
*****************
+
عودة إلى العين السخنة /
+
مرّت الساعات المتبقية على انتهاء اليوم الأول من الرحلة بطيئة على قلب كريم الذي قضاها في غرفته برفقة سجائره، سريعة على ريان الذي يتمنى أن يمضي العمر به بجوار سيدة روحه، متوترة على ريهام التي ترغب في المغادرة والعودة إلى القاهرة فوراً .. حلّ الليل سريعاً وأسدل المساء جدائله المخملية وبعد أن قام بتوصيلها حيث تتواجد رفيقتها واطمئن عليها اتجه نحو غرفته ليأخذ قسطاً كافيا من الراحة، هاله منظر صديقه الغارق في غمامة دخان رائحتها تعبأ المكان حد الاختناق، حثته عاطفته ليحادثه ويفهم سبب كآبته لكنه تذكر ردة فعله قليلة التهذيب صباحاً فقرر تجاهله، هكذا يعاقب ريان، عندما يكسر خاطره عزيز يتجاهله كي يشعر بذنبه، وكريم يعلم ذلك جيداً لذا لم يحاول الاعتذار مرة أخرى حتى يهدأ ليسمعه، أما هو فبدل ملابسه وتمدد فوق فراشه بفكر مشغول رغم أنه سعيد وقلبه يطير من الفرح، حديث مريم الأخير وخوفها أخافه وأثار في نفسه قلقاً غريباً، استعاذ بالله من الشيطان ليخفف وطأة مشاعره المضطربة ويطرد تلك الوساوس من عقله واستسلم لنعاس داهم عينيه، وعلى الطرف الآخر كانت مريم تحاول سبر أغوار ريهام، حدسها ينبأها أن رفيقة العمر بها خطب يعكر صفوها، سألتها عشرات المرات وألحت عليها بكل الطرق لتخبرها عما يزعجها لكنها تعللت بإرهاق السفر ومكوثها بمفردها منذ وصلوا الفندق وبعد محاولات كثيرة لجذب أطراف الحديث أدركت أن مزاجها لايسمح بالسهر لوقت أطول والخلود للنوم سيكون أفضل .. وفي الصباح استيقظ الجميع مبكراً استعداداً للخروج وأخذ جولات حرة للإستمتاع بمزارات العين السخنة الساحرة بدءً من محمية الأشجار المتحجرة والعيون الكبريتية، مروراً بأديرة القديس أنطونيوس والأنبا بولز، وختاماً جبل الجلالة والتنزه بجواره والإستمتاع بمنظره المهيب، وأثناء جلوسهما فوق أحد الكثبان الرملية انتبه كلاً من مريم وريان لمشرف الرحلة يهتف عليهما لينضما لباقي المجموعة في جولة سفاري بواسطة دراجات الدفع الرباعي أو كما يُطلق عليها (البيتش باجي) .. امتثلا لطلبه بحماس شديد واستقلا مركبة من المركبات المتراصة جنباً إلى جنب في انتظار شارة البدء، بينما كان كريم كالمحموم على مركبته ترافقه الفتاة سبب اندلاع نار الغيرة بينه وبين ريهام التي أصرت على استمرارها في رد صفعات لامبالاته بمشاعرها، لم تكن تصفعه وحسب، كانت تركله بمقدمة حذاءها مباشرةً في قلبه وركوبها خلف علي أذهب المتبقي من صبره القليل، مجرد تخيله لذراعيها وهما يحاوطان جذع رجل غيره خشية السقوط جعل رغبته في إحاطة عنقها بحبل غليظ أهون ألف مرة عوضاً عن ذلك ، وأخيراً أطلق المشرف صافرة الانطلاق، تتبع خط سيرها متعمداً وبعد مسافة ليست بطويلة لم يستطع التحكم أكثر بنفسه وانفلتت أعصابه رغماً عنه، توقف بمركبته بطريقة مفاجئة أمامهما ثم اتجه نحوهما ومقلتيه متقدتين كجمرتين من قعر جهنم، وبعصبية مفرطة جذب ذراعها ليجبرها على النزول من مكانها وتقف قبالته وكأنه أمسكها بالجرم المشهود، وقبل أن تدفعه في صدره بقبضتيها سحبها خلفه بعنف دون حديث..
+
_ (انت بتعمل ايه يامتخلف؟....) صرخت بها ريهام بغضب جامح محاولة التملص من قيد أصابعه الملتفة حول رسغها بقوة .. استدار إليها قائلاً بصوت أرعبها من شدة علوه (مش عايز أسمع صوتك)
+
ارتعشت ملامحها وأحست بدموع غادرة تتجمع تحت ستار أهدابها فتابع هو بهدر شديد الإنفعال (انتِ مفكرة عشان عديت قلة أدبك امبارح هاسمح لك تركبي ورا راجل غريب؟)
+
لم تستطع تحمل إهاناته المتكررة فانفجرت بالبكاء قائلة بنحيب (ما انت راكب مع البت اللي كل ماتشوفك تبوسك ولا كأنها خالتك)
+
توقف الزمن للحظة، وسؤال واحد أضاء داخل رأسه اليابس، هل كل ما تفعله منذ أمس لأنها تغار؟، وهو بكل صفاقة ورعونة لم يراعي ذلك؟، وبدون مقدمات احتواها بين ذراعيه ليستقبل دموعها التي كان سبباً رئيسياً فيها يعتذر بندم (أنا آسف) ..استكانت بعض الشئ ثم ابتعدت عنه مطرقة برأسها لأسفل فرفع ذقنها بأطراف أنامله.. حدجته بنظرة أدرك من خلالها إجابة سؤاله ، أيعقل؟ ريهام بجلالة قدرها، وصلفها، وكبرياءها الذي يجعلها سليطة اللسان تغار؟، والحقيقة أن حبة الفراولة الطازجة شهية للغاية حين تتلبسها صفات الأنوثة،وتتملك منها بوادر الحب .. ران عليهما صمتاً خجولاً قطعته هي بنبرة خافتة (عن إذنك) .. ثم همّت بالعودة لمركبة علي الذي كان ينتظرها بملل، استوقفها متسائلاً بتعجب (رايحة فين؟ )
+
أجابته بملامح واجمة (هاركب مع علي) ..
+
_(ماتسوقيش فيها بقا واحترمي نفسك) .. قالها بتحذير وهو يحثها على التحرك باتجاه مركبته وسط ذهولها، اعتذر للفتاة التي كانت تراقب الموقف من بعيد مشيراً لها على مركبة علي وطلب منها أن ترافقه، أطاعته متذمرة،رامقة ريهام باستعلاء ونظرات مغتاظة لتفسح لهما المجال وتتركهما بمفردهما ليأكلا بعضهما البعض ..
+
_(ريهام! )..خرج إسمها من بين شفتيه دافئاً فأجابته بسوأل محملاً بعتاب خفي (عايز مني إيه؟)
+
رد عليها بدون تفكير (عايزك ماتعوزيش حد غيري) .. سكت لثواني ثم أردف بلهجة صادقة (عايزك جنبي ومعايا)
تحدثت بألم لم تستطع مداراته (أنا ماحدش بيعوزني ياكريم، ماتضحكش عليا وعلى نفسك)
+
اقترب منها يحتوي وجهها الجميل بين راحتيه قائلاً بحنو بالغ (هو حد يطول نظرة رضا من عيونك الحلوة؟، انتِ ألف مين يتمناكِ ويعوزك يافراولاية)
+
افترّ ثغرها الرقيق بابتسامة لطيفة قائلة (وانا مش عايزة من الألف دول غير واحد بس)
+
سألها مازحاً (مين سعيد الحظ اللي عايز حش رقبته من لغلوها ده؟)
+
رفعت حاجبها متزامناً مع جانب شفتها العلوية تقول بضيق لغبائه (أمي، عارف أمي؟)
+
تعمد إثارة حنقها أكثر قائلاً (مالها؟)
+
صكت أسنانها بغيظ قائلة (ابقى تعالى انا وانت نتف على قبرها لو فلحنا) .. أنهت كلماتها بطريقة طريفة وتركته لتستقل المركبة متابعة (اخلص عشان نلحقهم،الشمس نقحت دماغي منك لله)
+
تبعها يخبط كفيه ببعضهما قائلاً (أنا مني لله فعلاً عاللي بعمله فنفسي) .. اتخذ مكانه أمامها وقام بتشغيل المحرك لكنه لاحظ تشبثها بمؤخرة الدراجة تجنباً للمسه فقام بهزها بعنف مما اضطرها لمحاوطة جذعه بذراعيها، استدار ينظر إليها قائلاً بابتسامة عذبة (غيرتك صعبة أوي على فكرة)
+
شهقت قائلة باستنكار (مين دي اللي بتغير؟)
+
أعاد أنظاره مجدداً ليتابع الطريق قائلاً بمشاكسة (أمك،عارفة أمك؟)
+
ضربته بقبضتها على ظهره قائلة (هاخليك تحصلها)
+
ضحك قائلاً بسعادة (أنا قولتلك قبل كده اني بحبك؟)
+
رأى ابتسامتها تتسع من خلال المرآة المعلقة بالمقود فاستكمل بصوت مرتفع لتشهد عليه رمال وحصى وصخور جبل الجلالة (بحبك)
+
وبعد وقت ليس بقليل التحقا بالفوج الذي استقر للتخييم والاستمتاع بسهرة ليلية تحت سفح الجبل، قام بعضٍ منهم بإشعال النيران بواسطة الحطب ليجلسوا حولها في دائرة كبيرة تستوعبهم جميعاً، لم يخفى على ريان تبدل حال رفيقه، وجهه الذي كان يمطر ضباباً البارحة، يسيل منه الحب اليوم، كأنما فرّت روحه من عائلة جسده إلى حديقة غنّاء مزدحمة بثمار الفراولة، بينما كان هو يحيط مليحته بذراعيه المضرّجتين باللهفة ويتابع بأعين فضّاحة سكونها الهادئ ورفيف جفنيها، مسحوراً بنسمات الهواء المخضبّة بأنفاسها وبالقرب منهما وبمسافة قصيرة تتيح لها مراقبتهما كانت تجلس دينا متصنعة المرح برفقة أصدقائها وبجرأة لا أحد يعلم مصدرها وجهت سؤالاً لمريم ساخرة (صحيح يامريم، انتِ هتتخطبي لريان؟)
+
تعجبت مريم من الصوت الذي لا تألفه ومن السؤال نفسه لكن ريان بادر بالإجابة عندما استشعر حرجها قائلاً (احنا مخطوبين فعلاً، وكلكم معزومين على الفرح لما نرجع القاهرة)
+
ابتسمت دينا بخبث موجهة حديثها لمريم مجدداً (وانتِ هتقدري عالجواز يامريم في ظروفك دي؟،اعتقد هايكون صعب على واحدة زيك إنها تتجوز وتتحمل مسئولية بيت وأطفال)
+
نزلت كلماتها المُبطنة بالتنمر فوق رأس مريم كضربة عصا قوية لكنها ابتلعتها بمرارة ثم ردت بهدوء ظاهري ( لما تبقي زيي بإذن الله هاتعرفي تحكمي على الموضوع كويس، وبعدين الحمدلله ربنا رزقني بريان مش مخليني محتاجة أي حاجة)
+
تابعت تلك الأفعى حديثها المسموم ضاحكة بغل دفين (حبيبتي، الراجل بيكون معاه واحدة سليمة ومفيهاش غلطة وبيزهق منها وبيخونها ، مابالك بقا لما تكون، سوري يعني عندها إعاقة)
+
لم يستطع ريان المكوث صامتاً أكثر من ذلك فتولى مهمة الرد عليها بنبرة حادة قاصداً إلزامها حدودها (مش ملاحظة انك قليلة الذوق وبتتدخلي في اللي مايخصكيش؟)
+
أحست دينا كأنها بالت على نفسها من التوتر قائلة (احنا بندردش مع بعض عادي، ماتاخدش المواضيع بالشكل ده)
+
زجرها ريان بشدة (انتِ تعرفينا أصلاً عشان تدردشي معانا؟)
+
اعتذرت بتلعثم (أنا آسفة) .. ثم همّت بالابتعاد عنهم لكنه استوقفها متعمداً إهانتها أمام الجميع (مريم ست البنات وتاج راسهم كلهم، والضافر اللي بتطيره من صابع رجليها الصغير برقبة ألف واحدة من عينتك) .. تسمّرت مكانها للحظات بلسان معقود من الذهول، وغصة أقرب لطعنة خنجر استقرت في جوفها، تحفر جرحها المتقيح بلا رحمة، لماذا لاتُحَب هكذا؟،ألا تستحق أن يعطيها هيثم فرصة ويرى عشقها له؟، هي تستطيع منحه نفسها بالكامل مثل چيسي وأكثر، لو طلب روحها ستعطيه إياها على طبق من فضة، لو ينظر لها، فقط ينظر لها وستكون أسعد مخلوقة في الكون، نظفت حلقها باعتذار آخر لتنسحب من الجلسة بهدوء، ونار الحقد تأكل قلبها وأقسمت على عدم التقصير في فعل أي شئ تثأر به لكرامتها من الجميع بلا استثناء......
+
***************
+
يقولون دوماً أن الأوقات السعيدة تنتهي سريعاً انتهاء طرفة عين، وبعد انقضاء رحلة السفاري عاد فوج الرحلة إلى الفندق مجدداً وللمرة الثانية اضطر لتركها مع رفيقتها لتأخذ كفايتها من النوم استعداداً لآخر أيام هذا الحلم الجميل، دخل ريان غرفته وقلبه رغم السعادة غير مرتاح، عقله مزدحم بهواجس تخيفه ويشعر كأن ثقلَ العالم كله محمول فوق كتفيه، أخذ حماماً بارداً ولجأ إلى الصلاة لعلّها تكون المُنجية، وأثناء قضائه لنافلته المُحببة انتبه لدخول كريم الذي مازال غاضباً منه ويتجاهله تماماً، انتظره حتى فرغ من صلاته ثم قال له مبتسماً (حرماً)
+
أجابه ريان وهو يطوي سجادة الصلاة دون النظر لوجهه (جمعاً ان شاءالله) ..
+
وقف كريم أمامه يقول غامزاً بشقاوة (ماتحن ياجن)
+
نظر إليه ريان بملامح ممتقعة فيبدو أن مزحته لم تؤثر به وتركه متجهاً نحو الفراش لينام، وقبل أن يتمدد جلس بجواره حد الالتصاق يدغدعه قائلاً بمشاكسة (انتِ كلبة، قموصة، زعلانة من كركورك)
+
ابتعد ريان عنه بضيق قائلاً (أنا مش فايق لسماجة أهلك دي عالمسا)
+
اقترب منه يحيط عنقه بذراعيه ونام على كتفه بحركة حميمية قائلاً بصوت رقيق (واهون عليك ياقاسي)
+
أزاحه ريان متأففا قائلاً بقرف (ما خلاص يا ابن الرخمة)
+
خبطه كريم على كتفه قائلاً (جر إيه يالا، ماقولتلك آسف أربع مرات)
+
رمقه ريان بنظرات مستاءة قائلاً (وده مالفتش نظرك لحاجة؟)
+
قلّب كريم عينيه يمينا ويساراً مدعياً التفكير وقال (يمكن بتتقل عليا)
+
رد عليه ريان بحنق (أو مش طايقك مثلا؟)
+
استلقى كريم فالجهة المقابلة له رافعاً مؤخرة كعبه فوق ركبته قائلاً بابتسامة لزجة (أنا كنت هاجيب لك هدية اصالحك بيها، بس مالقيتش هدية أحسن مني فجيبتلك نفسي،ويارب تكون مبسوط بيا) ..
زفر ريان بيأس من إصراره على مصالحته ولم يرد وانحنى قليلاً ليستند بمرفقه على فخذه واضعاً قبضته أسفل خده مسلطاً أنظاره للأمام فاعتدل هو ليتابع بلهجة آسفة (أنا عارف إني كنت حيوان معاك و....)
+
قاطعه ريان وهو مازال على وضعه (كريم! ، بص لي كويس وركز ،وقولي أنا مين؟ )
+
استغرب كريم من سؤاله قائلاً باستنكار (سلامة عقلك ياضنايا،انت ريان ابن الراجل اللي مطفحني الكوتة في شركته) ..
+
اعتدل ريان في جلسته قائلاً (حلو، يعني أنا مش أمك، وطالما أنا مش أمك يبقى مش مضطر استحمل سوء تربيتك وقلة ذوقك)
+
لكزه كريم في ذراعه قائلاً (كفاية تهزيق بقا)
+
نهض ريان من مكانه ثم فتح الشرفة المطلة على البحر ليقف بها وبداخله رغبة في عدم الحديث، ليس غضباً منه إنما مزاجه غير رائق ويود بعض الهدوء ولو قليلاً
+
_(آه كنت غيران عليها، والغيرة كلت قلبي) قالها كريم بإقرار وهو يجاوره مستنداً بكفيه على السور الحديدي وصوت ارتطام الأمواج يؤدي دور الموسيقى التصويرية للمشهد
+
بذل ريان تنهيدة عميقة قائلاً بصدق (أنا أكتر واحد فالدنيا نفسه يشوفك مبسوط ومستقر، انت أخويا ياكريم مش صاحبي)
+
_(عارف والله، ومتأكد إنك بتفهمني من غير ما اتكلم، وبتعذر توهاني وقلة عقلي)
+
_(بتحبها؟)
+
_(حاجة كده أبعد من الحب بشوية، مشاعري متورطة فيها، خايف منها وفنفس الوقت هموت عليها) ... صمت هُنيهة يرتب أفكاره المُبعثرة ثم أردف بحيرة (أنا محشور بين حبي لحريتي وحبي ليها)
+
تحدث ريان بجدية (يا ابيض يا اسود، الحب مافيهوش مرقعة الرمادي بتاعتك دي، يعني يا بتحبها يا مابتحبهاش، وفي الحالتين هاتتحمل نتيجة اختيارك)
+
جاوبه كريم باستسلام (بحبها)
+
ابتسم ريان قائلاً بمزاح (ياااه عالإنسان اللي براس عِجل لما ربنا يهديه)
+
ضحك كريم على دعابته قائلاً (تصدق وتؤمن بالله أنا طالع عين أمي فالعلاقة دي، ومش عارف ازاي جابتني على بوزي كده)
+
-(ماهو الصايع دايماً بيقع وقعة مهببة)
+
-(اشمت فيا كمان وندمني عاليوم اللي روحت فيه معاك الدار)
+
-(بالعكس ريهام جدعة ومحترمة، هي صحيح غشيمة ودبش ولسانها عايز يتقص منه تلاتة متر ، بس غلبانة وطيبة وبميت راجل)
+
ران عليهما صمتاً لا يتناسب مع الموقف لثواني ثم انفجرا ضاحكين بصوت مرتفع والمبادرة بالحديث كانت لريان قائلاً من وسط ضحكاته (هاتربيك ياكريم، دي مايقدرش عليها غير ربنا)
+
توقف كريم عن الضحك بشق الأنفس قائلاً بمرح (يا أخي منك لله والله، ماتاخدنيش معاك في حتة تاني)
+
رفع ريان كتفيه لأعلى ثم أنزلهما سريعاً قائلاً (ده عملك الاسود اللي ساقك لحد عندها عشان تتعلم الأدب)
+
أحس كريم بالنعاس أثراً لهواء البحر الذي يضرب وجهه فتثائب قائلاً (تعالى ندخل ننام وبكرة ابقى قطمني انت وبابا وناهد وكلنا)
+
حك ريان مؤخرة رأسه ثم نظر في ساعة يده، وجد الوقت قارب على الفجر فأومأ موافقاً ودخل معه ليأوى إلى فراشه متحصناً ضد هواجسه باللهم لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه
+
******************
اليأس،وما أدراك ما اليأس ياصديقي، عدوّ يطارد الإنسان في أكثر لحظات احتياجه للأمل، ويجعل من قلبه ساحة حرب، وهو يأسه أصبح مقروء على خطوط وجهه، ويحيط روحه بحسرات لا تُعد ولا تُحصى كلما ذهب إلى دار من دور الرعاية ويعود بخُفي حُنين ، لكن سبحان الله الذي يبعث للمرء مشكاة ضوء لتنير درباً ظنه مُعتماً ، كذلك كانت هي كنجمة يهتدي بها ضال في عرض الصحراء، حماسها يخيط ثقوب إحباطه، ويرتق ثوب حزنه العميق، وبعد يوم طويل،شاق من البحث والتنقل بين دور الأيتام دلفت أميرة إلى شقتها بخطوات مُرهقة فحرارة الجو بالعاصمة تختلف كُلياً عما اعتادت عليه في السويس، وعلى الطرف الموازي وبمجرد رؤيته للأريكة هوى فوقها لينام دون الشعور بأي شئ من حوله .. مرّت قرابة الساعتين وأثناء جلوسها المُسترخي داخل شرفتها وأمامها كوباً من النسكافيه صنعته لنفسها بعدما أنعشت جسدها بحمام بارد ،أحست أنها تريد إلقاء نظرة على أوراق مريم التي بحوذتها ، فجلبت الملفات لتتفحصها بتركيز شديد،وفجأة لاحت لها فكرة .. اتسعت عيناها بحماس وأسرعت بإمساك هاتفها لتتصل به فأتاها صوته ناعساً وغير واضح أثر النوم،حاولت إفاقته قائلة وهي تتجه نحو غرفتها لترتدي ملابس تصلح للخروج (قابلني في الكافيه اللي على أول الشارع)
+
فرك يوسف عينيه بقبضته متسائلاً بعدم فهم (هي الساعة كام؟)
+
حثته على النهوض من مكانه قائلة (قوم اغسل وشك وانزل حالاً ، مش هاينفع نتكلم فالتليفون) .. لم تعطه فرصة لحديث أطول وأغلقت الخط سريعاً مما جعله يتعجب ويقلق بذات الوقت ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى امتثل لطلبها، اتخذ مقعده قبالتها متسائلاً بترقب واستغراب عندما لاحظ وجود أوراق شقيقته موضوعة فوق الطاولة (خير ياأميرة؟) .. سكت لثواني يوزع أنظاره بينها وبين الملف ثم سألها مجدداً (لقيتي حاجة فالورق ولا إيه؟)
+
أومأت برأسها إيجاباً وأخرجت شهادتي الميلاد الحقيقية والمزورة ثم ناولتهما له قائلة (بص على تواريخ الميلاد فالشهادتين ، سن ريم فالشهادة الحقيقية 19 سنة، وفالشهادة المزورة 21)
+
نظر إليها وسحابة غباء تظلل عقله قائلاً(مش فاهم)
+
بادلته نظرته بأخرى مليئة بالأمل قائلة (ده معناه إن أختك بلغت السن القانوني واحتمال كبير يكون ليها رقم قومي مكتوب فيه عنوانها)
+
بدء يوسف إدراك ماتفكر به قائلاً (قصدك اننا ندور فالسجل المدني؟)
+
أجابته مبتسمة (بالظبط كده، أنا هاكلم قريبي اللي جاب لنا عنوان جابر وهاديله بيانات ريم، وبإذن الله نوصل لحاجة)
+
-(قصدك مريم، ريم مابقاش ليها وجود) .. قالها يوسف بحزن رغم ارتياحه وبارقة الأمل التي بزغت داخله بفضلها فردت عليه بلهجة مشجعة (مريم وريم شخص واحد، أختك هاتفضل أختك حتى لو غيروا إسمها ألف مرة)
+
أطال النظر لوجهها الجميل ولسان حاله يردد الحمدلله أنها في حياته، أميرة شدة أزر قوية لشخص كان يقف على حافة الانتحار، نعمة أنعم ربه عليه بها ليعوضه غياب الأهل والأحباب فأصبحت له أهله وكل أحبابه وبعد صمت دام لثواني قال بصوت أجش ،صادق (عارفة؟! ، على قد ما نفسي ألاقي أختي وأخدها في حضني واطمن عليها، على قد ما انا خايف من اللحظة اللي مش هاتكوني فيها جنبي)
+
أسبلت جفنيها قائلة بابتسامة خجولة (مين قالك اني مش هاكون جنبك؟)..صمتت لبرهة تتدارك مشاعرها مستكملة بتوتر طفيف (قصدي جنبكم)
_(أميرة!).. نطق إسمها بسلاسة كينبوع ماء رقراق ينحدر من شفتيه لأذنيها، والإجابة كانت نظرة مُستفهمة لِمَ النداء؟ ، تنهيدة خرجت من جوف قلبه أخبرتها أنه غير قادر على البوح، ربما الوقت غير مناسب والظروف لا تسمح، وهي راضية يكفيها استقامة ظهره التي تراها حينما تهديه سبيلاً يوصله لمبتغاه وكأنه ما فقد ولا افتقد... وكما وعدت نفذت وقامت بالاتصال بقريبها الذي يعمل بالسجل المدني وأخبرته بما تريده منه، لكنه طلب مهلة قد تكون طويلة نسبياً فالأمر ليس بيسير وسيمتد لبضعة أيام .....
+
******************
في صباح اليوم التالي/
حزم الجميع أمتعتهم استعداداً لمغادرة العين السخنة عائدين إلى القاهرة، ولم يتبقَ سوى ساعات قليلة ليودعوا تلك المدينة الساحرة على أمل اللقاء مجدداً في القريب العاجل، تسلّم الفندق غرفه ثم استقل الفوج الحافلة عازمين قضاء بعض الوقت أمام البحر قبل الرحيل كلياً، جلس ريان بجوار نديمته التي تتلاعب نسمات الهواء بغُرّتِها الناعمة، وشمس الشاطئ تجعل منهما زهرتي لازورد عاشقتين، مَن يراهما ينكر بَعدَهما ضوءَ القَمَرِ
+
-(ريان!)..قالتها مريم برقتها المعهودة فأذابت حواسه كلها وأنسته قلقه طيلة الليلة الماضية، نظر إليها وأعينه تلتمع حُباً ثم أجابها بهدوء (عيون ريان)
+
سألته بتوجس وكأنها تقرأ أفكاره (متضايق ليه؟)
+
رد عليها بحزن لم يستطع مداراته (عشان هاضطر اسيبك فالدار)
+
لا تعلم لماذا أوجعها قلبها عندما أوحى لها بأنه سيتركها، هو لم يقصد ترك التخلي والاستغناء، تركه إيداع حتى يستردها بالزواج وحينها ستظل محمية تحت ستار أهدابه وبين ضلوعه، أجبرت ملامحها على الابتسام لتخفف عنه قائلة (إن شاء الله لما نرجع ونرتاح من السفر هانشوف بعض تاني يوم)
+
تشبث بكفها قائلاً وخوفه الغير مبرر يسيطر عليه (أول مانرجع القاهرة هفاتح بابا في موضوع جوازنا، أنا مش هاقدر استحمل بعدك عني أكتر من كده) .. سكت لثواني يستجمع نفسه ورباطة جأشه أمامها ثم تابع بنبرة أصبغها بالمرح ليلطف الأجواء كي لا يصيبها بعدوى كآبته الغير مفهومة (بفكر اشتري شاليه هنا عشان لما نتجوز نقضي شهر العسل فيه) .. تضرّجت وجنتيها بحمرة خجلها التي يعشقها ولم ترد فمال على أذنها يهمس مازحاً (هاستفرد بيك شهر بحاله ياجميل، أنا وانتِ والبحر تالتنا)
+
تحدثت بعبوس طفولي (كده عيب على فكرة)
+
شاكسها قائلاً (ما انتِ ساعتها هاتبقي مراتي،ولا عايزاني اتجوز عليكِ من أولها)
+
لكزته مريم في كتفه قائلة بغيرة لذيذة (ده انا اقطع رقبتك قبل ماتفكر تعملها)
+
دلك مكان خبطتها يقول ضاحكاً (بهزر يابنتي، ماتبقيش خفيفة كده)
+
صكت أسنانها قائلة بغيظ وتهديد (خفيفة بس إيدي تقيلة، وماتهزرش فالحاجات دي تاني)
+
جذبها لتتوسد كتفه وأحاطها بذراعيه قائلاً (اتجوزك بس الأول وانا اكتب لك تعهد على عيوني انها ماتشوفش حد غيرك)
+
أغمضت عينيها مستسلمة لدفء عطره وحنوه البالغ وأثناء جلستهما الهادئة تلك انتبها لصوت المشرف يجمع الفوج من جديد ليتابعوا عودتهم إلى العاصمة .. امتثل الجميع لأمره وفي غضون دقائق كانت الحافلة تشق الطريق السريع، الكل في وادي،وريان في واديه الخاص، يحاول تجاهل الوخزة التي يشعر بها، قلبه منقبض بشكل مخيف وقلقاً غادراً لا يعلم لماذا يساوره منذ ليلة أمس ولا يبارح مكانه..أما هي فلم تكن أفضل حال منه، فكرها مضطرب أيضاً وخوفها من القادم كظلٍ يتبعها أينما حلّت ولعلّ يحدث الله بعد ذلك خيراً
+
*********************
+
في ڤيلا سعد زين الدين/
+
لم يخرج سعد من مكتبه منذ حديثه الأخير مع زوجته، يحاول التفكير بشكل سليم فيما يجب أن يفعله حيال الخطأ الجسيم الذي ارتكبه ريان من وجهة نظره، مشاعره مختلطة بين الحب الشديد، والإحساس بالذنب، والتملك حد الأنانية،والغضب العارم، لم يغضب منه بهذا الشكل طيلة عمره، أو بالأحرى لم يغضبه ولده أبداً ودائماً يكن له نِعمَ الخَلف ومصدر فخر وسند قوي يحسده الناس عليه، وهو بدوره كأب سيردعه ويجعله يستفيق لمركزه الإجتماعي ويحافظ على إسمه المعروف في الطبقة الراقية، ولن يسمح له بالتدنى لمستوى دور الأيتام والملاجئ ، كلها مُبررات خائبة يعطيها لنفسه ولا يعلم أن طعنته ستكون الأشد قتلاً، أوقف سيل أفكاره المتضاربة رنين الهاتف باتصال من سكرتيرته الخاصة بالشركة تخبره بأنها أنجزت ما أمرها به وكل شئ أصبح جاهز الآن ينقصه وصول ريان إلى القاهرة، شكرها بآلية تامة ثم أغلق الخط وقلبه ينشطر نصفين، نصف يشفق عليه،ونصف ساخط ويريد تأديبه وبين النصفين يقف حائراً، خائفاً من خسارته ...
+
-(طمني ياسعد عملت إيه؟) .. هتفت بها رويدا بعدما اقتحمت المكتب لتقاطع خلوته بتحفز شديد فأجابها بملامح واجمة (ماتقلقيش، كل حاجة جاهزة)
+
تهللت أساريرها قائلة (عين العقل ياحبيبي)
+
تنهد سعد قائلاً بحزن (صعبان عليا أكسر قلبه بإيدي يارويدا، وخايف يكون متعلق بيها أوي ومايقدرش ينساها) .. سكت هُنيهة يقاوم غصة مريرة أحكمت حلقه واستطرد بصوت مهزوز (مش هاستحمل أشوفه موجوع وأنا السبب)
+
جلست على الكرسي المقابل للمكتب تقول بخبث محاولة إقناعه بكلامها وتضخيم ذنب ريان حتى لايتراجع عما اتفقا عليا (وهو ليه ما اختارش صح من الأول،ومافكرش في شكلنا وسط الناس، انت دلعته ياسعد، دلعته لدرجة البوظان)
+
-(كنت فاكره أد المسئولية)
+
-(والنتيجة زي ما انت شايف)
+
ران صمتاً مشحوناً بالتوتر بينهما، كلاً منهما عقله يغني على ليلاه، هو في هم وهي في آخر أشد لكنها كعادتها سبّاقة ومباغتة وتتحين الفرص، بادرت بالحديث ضاغطة على وتر مسئولية الوالدين تجاه صغارهم حينما يحيدون عن المسار الذي رسموه لهم قائلة (اللي هانعمله ده عشان مصلحته، احنا فاهمين الدنيا أكتر منه ولازم نحافظ على سمعته وسمعتنا قدام الناس)
+
أجابها سعد بحسرة وحيرة (ريان مش مراهق هاينساها في خلال يومين، إبنك كبير وهايتوجع)
+
قالت بنبرة أصبغتها بالعقلانية (ومين قالك انه متعلق بيها للدرجة دي؟، ماجايز يكون بيتسلى والموضوع مايفرقش معاه زي ما انت متخيل؟)
+
رد عليها بيقين تام (أنا عارفه كويس، قلبه أخضر ونضيف وروحه خفيفة، اللي زيه لما بيحبوا بيتعلقوا أوي وجرحهم بيعلم العمر كله) .. تنهيدة خفيضة أفلتت من بين شفتيه متابعاً (على كل حال، أنا هاعمل اللي اتفقنا عليه، بس خدي بالك ريان لو عرف اننا السبب فاللي هايحصل مش هايسامحنا) ..
+
ربتت على كفه قائلة بثقة (ماتقلقش، مش هايحس بحاجة، وكفاية عندي إنك واقف في صفي المرة دي عشان يفهم غلطه)
+
*****************
+
بعد قرابة الساعة والنصف وصلت الحافلة العائدة من العين السخنة أمام النادي ، تفرّق الجميع فور استلامهم لحقائبهم كلٍ يسلك دربه الخاص، اتجه ريان نحو الجراچ ليأخذ سيارته من هناك، بينما لم يتحمل كريم من شدة الإرهاق وغادر إلى منزله بواسطة سيارة أجرة بعدما ودّع ريهام على وعد باللقاء في أقرب فرصة وتركها بعهدة صديقه ليتولى مهمة توصيلها مع مريم لمكانهما .. أخذ الطريق إلى الدار وقته المُستحق،دقائق فاصلة وسيعود كل شئ كما كان، نزلت ريهام أولاً لتطلب من الحارس أن يساعدها في حمل الحقائب تاركة لهما المجال ليودعا بعضهما البعض، ظل ريان يتأمل وجهها بصمت مهيب ورجفة لعينة تسري بين أوصاله، يكاد يسمع صرير الشوق في قلبه وهو مازال بجوارها، فكيف سيتركها ويرحل الآن؟ ، وهل ستقوى قدميه الهزيلتين على حمله بعيداً عنها؟، وبصوت مهزوز أوصاها (خدي بالك من نفسك)
+
ردت عليه بنبرة حزينة (هتوحشني)
+
لم يستطع مقاومة عناقها فجذبها لأحضانه يعتصرها بين ذراعيه بقوة وكأن أحدهم يتربص بهما ليخطفها منه قائلاً مغمضاً عينيه (وانتِ كمان هتوحشيني أوي يانور عيني)
ابتعدت عنه قليلاً تتحسس ملامحه برؤوس أناملها وكأنها تنحت تمثالاً لصورته داخل عقلها قائلة بنبرة مرتجفة (ريان، أنا بحبك أكتر من نفسي)
+
قبّل باطن كفها الذي يمر على وجهه قائلاً بصدق وإقرار لحقيقة اكتشفها منذ لقائهما الأول (وأنا روحي فيكِ) .. ضمها إليه مجدداً يرغب في تخبئتها عن أعين العالم مستكملاً (إوعديني تحافظي على نفسك لحد ما اشوفك تاني)
+
تشبثت مريم بقميصه ودموعها تسبق كلماتها، بكت بقهر يتيم سينتزعونه من حُضن والده ويلقونه في غيابات الوحدة مكسوراً بالفراق، شهقات خافتة انفلتت منه أخبرتها أنه يبكي أيضاً والخوف يحط فوق كتفيهما كطائر حزين يفتت روحيهما، ظلا على تلك الحالة لدقائق حتى قاطعهما صوت نقرات ريهام فوق زجاج السيارة تنبأهما أن وقت الرحيل قد حان، أطاعاها صاغرين، مُجبرين، ومصعوقين من ذعرهما وهما يبتعدان عن أحضان بعضهما وكأنه الوداع الذي يسبق الموت، تبعها بمقلتيه الدامعتين وهي تغيب عن أنظاره، فاغراً فمه بآهة خفيضة كأنما خلعوا ضلوعه من قفصه الصدري ومزقوا رئتيه بنصل خنجر مسموم ثم غادر بسكون كئيب ابتلعه ليقوده نحو قدر غامض ينتظره حيث والديه الغاليين اللذان يفهمان مصلحته أكثر منه ..... لم يعرف كيف استطاع قيادة السيارة ولا يستوعب سبباً مقنعاً لكل هذا الحزن الذي يظلل ملامحه بعد عودته من مكان مثل العين السخنة، يشعر بخلايا جسده تتمزق من القلق والإرهاق،بالإضافة إلى قلة النوم التي جعلت رأسه كالحجر الثقيل، صف سيارته أمام الڤيلا ثم ترجل ليدلف إلى الداخل بأعصاب مرتجفة وقلب غير مرتاح، بينما كانت والدته تجلس في الحديقة تنتظر قدومه، قابلته بابتسامة ثابتة، خالية من التعابير رغم شوقها وشفقتها عليه فاحتضنها يقبّل مقدمة رأسها ويدها ،احتوت رويدا وجهه بين راحتيها قائلة (حمدالله عالسلامة)
+
ابتعد عنها برفق قائلاً (الله يسلمك) .. سكت لثواني يمشط المكان بأنظاره ثم أردف باستفهام (بابا فين؟ )
+
ردت عليه وهي تشير نحو الداخل (مستنيك في مكتبه) .. استأذن منها بتهذيبه المعتاد كي يراه وفي غضون ثواني كان يقف أمامه، وما أن لمح سعد طلته عليه حتى نهض من مكانه سريعاً ليحتضنه بشدة ويضمه إليه كالعائد من سفر دام أعوام ليس عدة أيام ، استكان ريان بين ذراعي أبيه والذي بادر بالحديث وصوته يهتز قليلاً (وحشتني ياحبيبي)
+
رد عليه ريان مستنشقاً رائحته التي افتقدها (أنا كنت محتاج حضنك أوي)
+
شدد سعد من عناقه قائلاً بتأثر وعينيه تمتلئ بالدموع (ربنا مايحرمني منك أبداً)
+
أحس ريان بغرابة بعض الشئ في نبرة والده، وأن الأمر يتخطى اشتياقه إليه فابتعد عنه متسائلاً بشك (بابا، انت كويس؟!)
+
رسم سعد ابتسامة زائفة يجيبه بثبات ظاهري (أنا كويس طول ما انت كويس) .. سكت لبرهة ثم عاد لجلسته خلف مكتبه قائلاً بتوجس (بس في حاجة مهمة عايزك تعملها)
+
-(خير،تحت أمرك طبعاً)
+
- (هتسافر انهاردة) ... أخرج تذكرة الطيران من درج المكتب ليناوله إياها مستطرداً (طيارتك كمان ساعة)
+
********************
+
إلى اللقاء مع الفصل الثالث والعشرون
+
