رواية عيون الريان الفصل الثامن عشر18 بقلم نيللي العطار
"الكمال في كل شئ مستحيل، فمن طبيعة الحياة أن تكون ناقصة لكي تسعى لسد هذا النقص؛ فلا تقف."
+
(علي الوردي)
+
*************
+
"ريان" المُرتوي بعد عطش، الأخضر الناعم من أغصان الشجر، وفي الجنة باب لا يدخل منه إلا الصائمون، "ريان" سولاف العشق وخلاصته، الحب يبدأ من عينيه رحلته مثل عاصفة لا تُبقي ولا تذر، "ريان" رُكن مريم الهادئ، وأبيات شعرها المُعطرة بالريحان اليوم تعتريه نوبة قلق غير عادية عليها ويجلس خلف مكتبه كمن ضيّع بوصلة عقله، يتأرجح مثل ورق الخريف نحو أرصفة الشوارع المُبللة بالمطر، حاول قدر المُستطاع أن ينفض غمامة التفكير عن رأسه لكنه لم يتحمل، ألجأته الوساوس لهاتفه فأمسكه ليتصل بها، مرة، مرتين، ثلاثة ولم يأتيه رد، زفرة مُحملة بلوعة اشتياق، ممزوجة برياح نؤوج شديدة المرور على قلبه تحررت من بين أنفاسه ولسان حاله يلهث بالدعاء (استودعتك مريم يا الله، إنك لا تضيع عندك الودائع) .. مرت عدة ساعات والوضع مازال كما هو، توتره مستمر في الازدياد، وذاك الصوت الذي ينمو بداخله يغالبه ويخبره أنها ليست بخير وبعدما فقد القدرة على التركيز بعمله قرر ترك كل شيء والذهاب حيث توجد مليحته ليطمئن خوفه الغير مُبرر -مؤقتًا- بالنسبة له .... أما على الطرف الآخر وتحديداً داخل القاعة التي تشهد اجتثاث وريد برائتها كانت مريم تقاوم بكل ما أوتيت من قوة هذا الحقير الذي يحاول محاولات مُستميتة انتهاك حُرمتها ظنًا منه أنه سيأخد ما يريد وينجو بفعلته، حقاً إذا تمكن الشر من صاحبه أحرقه وأغرقه ولأن لكل مُجرم سقطة، الغبي غفل عن باب القاعة الخلفي المفتوح ولسوء حظه ولحُسن حظ المسكينة الغارقة في دوامة صُراخ تدافع به عن شرفها وكرامتها كأنثى ولأن المكر السيئ لا يُحيق إلا بأهله لم ينتبه لدخول "جميلة" عليهما متعجبة من انغلاق الباب الرئيسي، لكنها بمجرد وقوع انظارها على مايحدث ووصول صرخات مريم واستغاثتها لآذانها أسرعت ركضاً لتخلصها من بين براثنه هاتفة بعنف امتزج بالذعر من أن يكون الأمر وصل لنقطة أخطر من التحرش (سيبها ياواطي)
+
تراجع شادي للخلف يحاول استجماع نفسه قائلاً بتلعثم (أنا.. أنا.. انا ماكنتش هاعمل حاجة، انتِ فاهمة غلط)
+
صرخت جميلة في وجهه (اخرس خالص واوعى تفكر اني هاسكت، والله لابلغ إدارة النادي)
+
توسل إليها بصوت مهزوز (جميلة!،إسمعيني أرجوكِ)
+
احتضنت مريم تهدئ من ارتعاشة جسدها ترد عليه بغضب عارم (بتستغل ظروفها عشان رغبتك القذرة؟، قد كده انت شيطان وزبالة وماعندكش قلب؟)
+
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة يترجاها (اعقلي يا جميلة،ماتودينيش في داهية)
+
رمقته بازدراء قائلة (ده انا هاوديك في ستين داهية مش داهية واحدة)
+
في تلك اللحظة أدرك شادي حجم المصيبة التي أوقع نفسه بها فسارع بالخروج من القاعة بخطوات أقرب إلى الركض ليلوذ بالفرار قبل وصول باقي زملاؤهم واكتشافهم فعلته البشعة، وفي غضون ثواني كان ينطلق بسيارته مسرعاً ليبتعد عن النادي بأكمله وسط هتافات صديقه "علي" الذي ارتاب كثيراً بسبب منظره المُرتبك وكأنه يهرب من شيء ما، ولم يخطر بباله أن يكون فجوره أعماه ورغبته الدنيئة أوصلته ليتحرش بزميلته تحرشًا أقرب للإغتصاب .. بينما ظلت جميلة برفقة مريم تجاهد بكل طاقة لديها كي تهدئ بكائها وارتعاشة الخوف التي اعترتها كاملةً ،كانت أسنانها تصتك ببعضها البعض ولسانها يهذي بإسم ريان، جانب وجهها المُبلل بالدموع مطبوع عليه علامات أصابع الحقير الذي صفعها، والدماء جفت أسفل شفتها وجديلتها الطويلة أصبحت شبه مُفككة وملابسها لم تُمزق لكنها تشعثت جرّاء الهجوم السافر عليها، ناهيك عن النزيف في قلبها المجروح أثراً لتجربة مريرة من الصعب على فتاة في ظروفها وبمثل هشاشتها تخطيها بسهولة وأثناء حالتهما تلك دخل عليهما "علي"، فزع كثيراً لحالة مريم ثم وجه سؤاله لجميلة بتوجس (إيه اللي حصل؟،مريم مالها؟)
+
أجابته جميلة بغضب وصوت يبدو عليه التأثر (الواطي، الزبالة اللي اسمه شادي ، دخلت عليه لقيته قافل باب القاعة الرئيسي وماسكها من شعرها وبيتحرش بيها)
+
نزل رد جميلة على رأسه كالصاعقة وبدء عقله يربط رؤيته يفر بسيارته كاللصوص بما سمعه الآن متحدثاً بخوف (يادي المصيبة السودة اللي وقعت على دماغنا)
+
صرخت جميلة في وجهه (المصيبة دي هاتقع على دماغه لوحده لما ابلغ إدارة النادي باللي عمله)
+
نظر علي لمريم المذعورة بإشفاق قائلاً (حقك علينا يامريم، حقك على راسنا كلنا)
+
جاهدت مريم على الحديث قائلة من وسط شهقاتها المُتقطعة (أنا عايزة ريهام)
+
مسحت جميلة وجهها بمحرمة ورقية قائلة بحزن (حاضر ياحبيبتي، بس كفاية عياط عشان خاطري)
+
توسلت إليها بنبرة أشبه بالهذيان (وحياة أغلى حاجة عندك ياجميلة،خليها تيجي توصلني الدار)
+
قاطعهما علي قائلاً وهو يتجه نحو الخارج لينادي ريهام كما طلبت (اهدي وانا هاروح اجيبها حالاً والله)
+
*******************
+
وصل ريان بسيارته أمام النادي وقلقه يتضخم كوحش عملاق يأكل صبره ليعرف سبب عدم ردها على اتصالاته المُتكررة، تخطى البوابة الخارجية وحواسه جميعها مُعطلة إلا عن التفكير بها وأثناء ذهابه إلى قاعة الموسيقى حيث توجد مريم انتبه لريهام وكريم يسيران برفقة علي زميلها في الفرقة بملامح مُختضة تنذره بأن شعوره صادق، تجمد في مكانه للحظات وكل الإحتمالات السيئة تظهر نصب عينيه لكنه تخلص من ذلك الجمود سريعاً وهتف عليهما بصوت وصل إليهما مما جعلهما يدركا وجوده فاتجها نحوه ليبادر كريم بسؤاله مُستغرباً (ريان!. هي مريم كلمتك ولا ايه؟)
أحس بقبضة قوية اعتصرت قلبه ثم رد عليه بتوتر (لا، ومابتردش عليا من الصبح) ..بينما ابتلع علي ريقه الجاف بصعوبة يقاطعهما بخوف ونبرة مهزوزة (آنسة مريم تعبانة شوية و.....) ، لم ينتظر ريان أن يستكمل جملته وركض باتجاه القاعة ليسبقهم جميعاً في الوصول إليها، وعندما وقعت أنظاره عليها وهي بين أحضان زميلتها هاله ما رأى، وانسكب الألم بداخله كقطرات صغيرة تسابقت لتلون قلبه، وألقاه جريحاً كمصابيح الشوارع .. -(مريم!).. خرج إسمها من بين شفتيه مُحترقاً بآهة عميقة شقت صدره حين أدرك أنها تبكي، همسته بحروفها الأربعة وصلتها فابتعدت عن جميلة سريعاً تبحث عنه بعشوائية وذراعيها المعلقان في الهواء يرجواه بحق الله أن يتلقاها لترمي هزيمتها المُختمرة بنبيذ شهوة ذئب جائع كان يريد ذبحها فوق تلال أحزانه العتيقة، لَبّى نداؤها المُلتاع وتلقفها ليحتضنها سريعاً يمسد خصلاتها المُبعثرة قائلاً بصوت مُرتجف (مالك يانور عيني؟)
+
أجابته بشهقات متقطعة (الحيوان قفل عليا باب القاعة وكان عايز .. كان عايز.. مش قادرة انطقها)
+
اشتعلت حدقتيه كجمرات مُلتهبة ونظر للجميع، ريهام شهقت بذعر واضعة كفها فوق فمها وكريم ألجمته الصدمة وكأن أحدهم قطع لسانه أما جميلة وعلي الشاهدان الوحيدان على الواقعة أطرقا برأسيهما لأسفل ومن الواضح أنهما يعلمان هوية الحيوان المقصود -(إيه اللي حصل؟) .. قالها ريان موجهاً الحديث للواقفين بسكون كمن على رؤوسهم الطير وعندما لم يتلقى رد هدر بقوة (كلكم اتخرستوا؟، ماتنطقوا)
ردت عليه جميلة بتلعثم (شــ.. شادي استغل عدم وجودنا وقت البريك وقفل عليها باب القاعة وحاول يتحرش بيها، بس انا دخلت من الباب التاني ولحقتها...)
قاطعها ريان والغضب يغشي مقلتيه الثائرتان (يعني لو مفيش باب تاني كان زمانه عمل أكتر من كده؟) .. ثم نقل أنظاره نحو ريهام التي كانت تبكي يسألها وصدره يعلو ويهبط من فرط عصبيته (وانتِ كنتِ فين؟، هي دي الأمانة اللي كلنا سايبينها بين إيديكِ؟)
+
تحدثت ريهام محاولة تبرير غفلتها الغير مقصودة عن صديقتها بنبرة باكية (أنا كنت بتغدا...)
+
لم يدعها ريان تستكمل حججها الواهية قائلاً (اسكتي، ماتنطقيش خالص، حسابك معايا بعدين)
+
تدخل كريم ليدافع عنها قائلاً (ريهام ذنبها إيه ياريان؟)
+
حدجه ريان شزراً قائلاً (هي جاية هنا أصلاً عشان تاخد بالها منها، إزاي تسيبها فالقاعة لوحدها؟) ..صمت كريم أمامه فهو في كل الأحوال مُحق وحتى إن لم يكن، الموقف يستوجب السكوت وتحمل العاصفة التي ستهب وتقتلع الرؤوس والأفئدة بينما قالت مريم وهي مازالت متشبثة بقميص ريان بنبرة ضعيفة (مشيني من المكان ده ياريان، أنا خايفة أوي)
+
ابتلع ريان غصة وخزت جوفه بأشواك حادة قائلاً (ماتخافيش ياروحي، أنا معاكِ وهانمشي حالاً) .. أبعدها عنه قليلاً يزيل بقايا دموعها العالقة بين أهدابها بإبهاميه ويتفقد وجهها الحزين، استوقفته آثار الصفعة التي مازالت تشوه خدها الأيسر، وكأنه تلقى طعنة غادرة بواسطة خنجر بارد نفذت لتشق أضلعه شقاً، يعلم الله وحده أنها سقطت فوق قلبه بهيئة رجفة آلمته وقلق وخوف الآن أدرك مصدره، حاول تمالك نفسه حتى لايطيح قتلاً وتعذيباً في الموجودين فكلهم مُذنبون بحقها، حتى هو لأنه السبب في دخولها هذا المكان المسموم، وبعد دقائق من الصمت المُخزي تختلط فيه النظرات الحزينة بالعبرات السخية تحدث بلهجة خطرة موجهاً كلماته إلى علي الذي كان يقف والتوتر يظلل ملامحه وحركات جسده (قول لصاحبك اني هاجيبه، لو حتى رجع بطن أمه) ثم خرج بها من القاعة متجهاً نحو سيارته ليعيد اللؤلؤة -مطمع الذئاب- لمحارتها، وأنفاسه المحترقة تلهث لهاث حاطبٍ رجع بفأسٍ مكسورة ...
+
********************
+
داخل سيارة ريان /
+
تولى كريم القيادة بعدما ألح عليه ألا يتركه وحيداً في مثل هذا الظرف السيئ بينما جلست ريهام بجواره وبكاؤها لم ينقطع منذ مغادرتهم للنادي، وعلى المقعد الخلفي كانت مريم غافية،تتوسد كتفه ومُحاطة بدفء ذراعيه اللذان اتخذتهما قلعة تحتمي بهما من شر العالم ،أما هو فصدره يستعر مثل لهب بُركان ثائر، كلما تخيلها وهي مذعورة تتوسل ذلك الوغد أن يرحمها يشعر بالدنيا تسقط حوله أجزاء، وما شطر روحه إلى نصفين احتجازه لها داخل القاعة، أي ضمير هذا الذي سمح له بمباغتة فتاة ضعيفة هكذا؟،ألم يشفع كف بصرها لديه وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها؟، "مريم" تاج رأسه وزينة عمره، مليكته التي تسير في ركابها نجوم أفلاكه، كيف يتجرأ أحدهم ويفكر في لمس عرشها المُقدس؟.. الفكرة تجعل أضلعه تنكسر كما إناء فُخار وتوقظ في عروقه ناراً تشق للجحيم كُوَّة ،وبعد وقت ليس بقليل وصلت السيارة أمام الدار، ترجل الجميع منها والغصة تحكم حلاقِمهم وعلى مضض وبغير رضاه ترك ريان مريم تصعد إلى غرفتها برفقة ريهام، انتظر حتى تأكد من انصرافهما كلياً يقول لكريم بملامح لا تبشر بخير (الواد ده يكون عندي الليلة) ..
+
أومأ كريم برأسه إيجاباً دون حديث فأكد عليه بلهجة مخيفة (الليلة ياكريم، فهمت؟)
+
ربت كريم على كتفه قائلاً بجدية (ماتقلقش، هاعرف مكانه وأكلمك) .. ثم ناوله مفتاح السيارة مستطرداً (خلي العربية معاك وانا هاخد أوبر).. أنهى كلماته سريعاً ليغادر تاركاً إياه يتخبط بين متاريس أفكاره ومشاعره، لم يستغرق سوى ثوانٍ معدودة حتي حسم قراره، يعلم أن الأمر صعب ولا يضمن ردود الأفعال لكن أمانته تحتم عليه إخبار المسئولين الأوائل عنها بما حدث ويُقدر جيدًا كوّن السيدة وسيلة بمثابة والدتها والأم لا يجب أن يُخفى عنها شيئاً خطيراً كهذا، استقبلته كعادتها بترحيب شديد رغم توجسها من تعابيره المُكفهرة والغضب الواضح داخل عينيه قائلة بابتسامة ودودة (ليك وحشة والله يابشمهندس)
+
لم يستطع ريان مبادلتها ابتسامتها، عضلات وجهه تأبى الابتسام وعزيزة قلبه حزينة في غرفتها لكنه تحدث بهدوء رغم الصخب الذي يدور بداخله (وحضرتك والدار وحشتوني جداً)
+
سألته السيدة وسيلة بشكل مباشر والقلق بدأ يساورها (هو فيه حاجة حصلت؟، شكلك مش مطمني) .. خرجت الكلمات من فمه مطعونة برُمح مشتعل وبدء بسرد الأحداث منذ وصوله إلى النادي حتى مغادرتهم جميعاً ومع كل حرف التقطته مسامعها كانت تشعر بانقباضة قوية تعصر صدرها، "مريم" إبنتها وقطعة من روحها، ويعز عليها أن تتعرض لمثل هذا الموقف المُهين،تحدثت بخوف ممزوج بالغضب (هي دي الأمانة اللي وعدتني تحافظ عليها ياريان؟)
+
رد عليها ريان بضيق حاول إخفائه (والله يا افندم انا كنت فشغلي،ولما اتصلت بيها وماردتش عليا سيبت كل حاجة وروحت لها)
+
أحست السيدة وسيلة بالحرج منه لأنها تلومه في شيء لا ذنب له فيه قائلة بتبرير (انت عارف مريم غالية عليا ازاي، واللي حصل ده كبير اوي ولا يمكن يعدي بسهولة)
+
-(مين قال لحضرتك إني هاعديه؟، أنا عارف هاجيب حقها ازاي)
+
-(والنادي؟)
+
-(مش هاتعتبه تاني غير وهي رايحة تمضي على استقالتها).. صمت هُنيهة يستجمع رباطة جأشه وأردف لينفذ ما يريده منذ فترة طويلة (بما إن حضرتك ولية أمر مريم ، اسمحي لي أطلب إيدها منك، يمكن الوقت مش مناسب بس الخطوة دي اتأخرت وعلاقتنا لازم تاخد شكل رسمي)
+
أجابته بجدية (أنا موافقة بس على شرط، إيد مريم تنطلب مني بالأصول يعني والدك ووالدتك يتفضلوا ينوروني، بنتي مش أقل من أي حد)
+
تحدث بثقة (أكيد حاجة زي دي مش هاتفوتني يا أستاذة) .. سكت مجدداً لبضع ثواني ثم قال برجاء طفيف (ممكن نقرا الفاتحة؟)
+
أومات السيدة وسيلة إيجاباً (ممكن، طالما هانقراها تاني مع عيلتك) .. تنهد ريان براحة ورفع كفيه ليبدء معها تلاوة سورة الفاتحة كتقليد ديني جميل يؤكد على طلب الشاب الزواج من فتاة ارتضاها لنفسه وبعد الانتهاء منها وترديد كلمة "آمين" نهض قائلاً (انا عايز اشوف مريم قبل ما امشي) ..
+
ابتسمت قائلة بموافقة (مفيش مشكلة) .. استأذن لينصرف بتهذيب متجهاً إلى غرفة مليحته التي أصبحت في حكم مخطوبته بعد قراءة الفاتحة، وبرغم سعادته لتلك الخطوة الجادة في علاقتهما إلا أنه كان يمشي فوق غضبه كالذي يخطو فوق النار، يحمل غصته داخل روحه ويعبر بها نحو ريان آخر غير الهادئ الذي يعرفه الجميع ..ليثٌ عنيف بقدر عشقه الذي حاول ضبع من ضباع البرية أن يمسسه بضرٍ ... بينما كانت مريم تجلس على طرف فراشها بعدما بدّلت ثيابها بمنامة صوفية ثقيلة تستمد منها بعض الدفء لتستكين ارتعاشة جسدها التي مازالت تنخر عظامها، وريهام تمشط خصلاتها والدموع تجري مجرى الجداول فوق وجنتيها في صمت مُطبق لم يقطعه إلا صوت طرقات على باب الغرفة المُوارب تبعه دخول حذر لريان قارئاً السلام عليهما بنبرة رخيمة، نهضت ريهام من مكانها لتقف قبالته مطأطأة الرأس كتلميذ راسب في أهم امتحان بحياته، حاولت الحديث لكنه أشار لها أن تصمت ،أطاعته بحزن شديد ليقول هو متعمداً القسوة (لو سمحتِ يا مريم كنت محتاج أتكلم معاكِ لوحدنا) .. فهمت ريهام مقصده فلم تُطل الوقوف أمامه أكثر وخرجت من الغرفة تبكي بهدوء ... وقف ريان يتأمل جلستها كحورية تُشع رحيقاً ونور، يعانقها بأحداقه ويغسل أحزانها بالكافور والحناء، امرأته الحاضرة فيه حتى بغيابها، التاركة بضعاً من شذاها داخل أروقة روحه، ربوة عشقه وربيع عمره كيف كان سيسامح نفسه إذا نال منها هذا الحقير؟ ، اقترب ليجثو على ركبتيه قبالتها يحتوي راحتيها الباردتين كالثلج بين خاصتيه قائلاً (عاملة ايه دلوقتي؟)
+
ردت عليه مريم بصوت مرتعش (مش كويسة)
+
رفع كفيها نحو شفتيه يقبل ظاهرهما واحداً تلو الآخر قائلاً (موقف وعدى وهاننساه)
+
تحدثت مريم ودموعها توخز جفنيها (أكتر حاجة وجعتني إنه استعماني، أول مرة أحس بعجزي، الإحساس ده وحش اوي ياريان) .. استقام ليجلس بجوارها ثم أحاطها بذراعه لتسند رأسها على كتفه وتركها تخرج مافي صدرها من مشاعر مؤلمة لكليهما فأردفت ببكاء (اتهامه ليا إني مش شريفة عشان عايشة ف دار أيتام قتلني، العالم برة أوضتي مؤذي ومش هاعرف اتعامل معاه تاني) .. كلماتها فتته لشظايا وجعلت وجعه يساوي ألف قافلة لكنه حاول تخفيف ثقل الصدمة عليها قائلاً (وحياتك اللي أغلى من روحي ماهاسيب حقك)
+
قالت من وسط بكائها (ماحدش هايصدق إنه اتحرش بيا، هايكدبوني ويشوهوا سُمعتي، كل ده عشان متربية في ملجأ)
+
مسد خصلاتها قائلاً بحنو بالغ (ونعم التربية يامريم، أنا فخور بيكِ) ضمها إليه أكثر يبثها أماناً وطمأنينة ليهدأ من روعها ثم استطرد (إنتِ بميت راجل وقدرتِ تدافعي عن نفسك رغم ظروفك اللي ماتعيبكيش، وانهاردة إتأكدت إن اختياري ليكِ عشان تشيلي إسمي وتكوني مراتي وأم ولادي هو أكتر قرار صح خدته في عمري كله) أبعدها عنه قليلاً يمسح وجهها المُبلل برؤوس أنامله ثم سألها بنبرة والهة (تتجوزيني؟) .. ابتسمت مريم من وسط دموعها ولم ترد فقال هو مازحاً (بالمناسبة انا طلبت إيدك من أستاذة وسيلة ووافقت وقرينا الفاتحة خلاص، لاحسن تفكري اني باخد رأيك ولا حاجة)
+
تعجبت مما يقول فسألته (فاتحة إيه؟)
+
قرص وجنتها بخفة قائلا (فاتحتنا،وبإذن الله هاجيب العيلة عشان نتقدم رسمي ونتجوز على طول)
+
أحست مريم بالفرحة تتسرب لقلبها رويدا رويداً قائلة بخجل (مبروك)
+
أجابها بمقلتين يسطع بهما بريق الحب (الله يحفظك ليا، وما اشوف فيكِ شر أبداً) .. قاطع جلستهما صوت رسالة وردت لهاتفه عبر تطبيق الواتساب من كريم، قرأها سريعاً دون أن يلفت انتباهها وأخيراً اطمئن قلبه بعض الشيء فما يريده سيحصل عليه الليلة كما اتفق مع صديقه ثم قال بثبات زائف (الوقت اتأخر، لازم امشي)
+
أمسكت مرفقه تقول برجاء (ماتسبنيش غير لما انام)
+
أحاط جانب وجهها بكفه يقول بحزن لملامحها التي يظهر عليها الخوف قائلاً (حاضر ياحبيبي) .. ساعدها في النهوض من مكانها لتستلقي على الفراش ثم دثرها بالغطاء وجلس بجوارها يمسك بكفها الموضوع فوق الوسادة ليطمئنها بوجوده، فقالت له بلطف وهدوء (ماتزعلش من ريهام)
+
رد عليها بزفرة حانقة (انا زعلان عشان خيبت ظني فيها، فالحة بس تعمل سبع رجالة في بعض وهي هطلة والحيوان ده غفلها قبل مايغفل زمايلكم التانيين)
+
هتفت عليه برقة أذابت أعصابه (ريان!، عشان خاطري)
+
لو تعلم المجهود الخرافي الذي بذله في ضبط نفسه الآن حتى لا يتهور ويقبلها لما نطقت إسمه بتلك الطريقة العذبة قائلًا باستسلام (خلاص مش زعلان)
+
انفرجت شفتيها الجميلتين بابتسامة بريئة تقول والنعاس بدأ يغلبها (تصبح على خير)
+
تنهد قائلاً بقلة حيلة (وانتِ من أهله).. وبالفعل لم تستغرق وقتاً طويلاً حتى انتظمت انفاسها في النوم وبعدما تأكد أنها غفت كلياً انحنى ليقبل جبينها ويضع كفه على رأسها يرقيها بذكرٍ يحميها من همزات شياطين الإنس والجن (بسم الله أرقيكِ من كل شيء يؤذيكِ، بسم الله أرقيكِ من شر ما أجد وأحاذر) ثم نهض ليغادر وأثناء خروجه من الغرفة وجد ريهام تقف بجوار الباب ومازالت على حالتها الباكية فقال لها بنظرات مُعاتبة (مريم نامت، ياريت انتِ كمان تنامي، اليوم كان صعب ومرهق نفسياً) ..مسحت وجهها بجانب راحتيها وهَمّت بالحديث لكنه قاطعها قبل أن تبدء قاصداً ممازحتها (وكفاية عياط بالليل،هاتتلبسي وانتِ مش ناقصة)
+
ضحكت على دعابته قائلة بصوت متحشرج (شكرًا ياريان)
+
أهداها ابتسامة لطيفة قائلاً (هاعدي عليكم الصبح عشان نروح النادي تمضوا على استقالتكم)
+
حرّكت رأسها بموافقة على قراره الذي اتخذه بدلاً منهما قائلة (حاضر اللي انت شايفه أكيد صح)
+
أشار لها برأسه لتدخل غرفتها وتخلد إلى النوم قائلاً (تصبحي على خير، وخدي بالك من مريم)
+
*****************
قاد ريان سيارته بسرعة جنونية والغضب يعمي بصره وبصيرته، والغيرة كالنار مِلء دمه، منظر دموعها وخوفها ورجفة جسدها المُرتاع بين ذراعيه يتغلغل ويسافر سفر نصل السكين في أنسجة القلب، يلوم نفسه آلاف المرات ويعلق كل الخطأ على كاهله، هو الذي أدخلها هذا العالم المُفخخ بالجياع، معدومي الضمير ، وهو أيضاً الذي سيتحمل مسئولية الانتقام ممن آذاها كاملةً، ومثلما وعده كريم بأنه سيعلم مكان ذلك الحقير قبل انقضاء الليلة أوفى، وبطريقة سهلة وبسيطة والسر في صديقه "علي" .. لم يكلفه الأمر حتى عناء التهديد فالأخير قالها لشادي صراحةً -سأبيعك إذا تماديت يارفيقي-لكن جنونه جعله يغض الطرف عنها، وفي خلال وقت قياسي وصل أمام النادي ليجدهما في انتظاره ، سار نحوهما بخطوات ثابتة والشرر يتطاير من مقلتيه
-(حد عرف حاجة من اللي حصلت؟) .. قالها مستفسراً بوجوم فرد عليه كريم بالنفي (ماتقلقش الموضوع اتعرف على إن واحدة من الفرقة تعبت فجأة وأهلها خدوها عالمستشفى) .. قاطعهما علي قائلاً (جميلة كانت مصرة تبلغ الإدارة بس احنا منعناها)
+
ربت ريان على كتفه قائلاً وهو يتجه نحو مكتب المدير (كويس، انا اللي هابلغه بنفسي) .. أنهى كلماته سريعاً وفي غضون ثواني كان واقفاً أمام المسئول الأول والأخير عن الموظفين الذي أخذ نصيبًا عظيمًا من الهجوم بالكلمات والتهديدات بقلب المكان رأساً على عقب والإطاحة به عن منصبه ،ارتعدت أوصال الرجل فما حدث مصيبة كبيرة ستنال من سمعته وسمعة النادي إذا لم يتم تسوية الأمر بهدوء
-(الكلب ده يكون فمكتبك بكره الصبح، ماتستناش لما يتعالج من اللي هاعمله فيه، وإلا قسماً بالله لاكون رافع قضية عليك وعالنادي وفاضحكم) .. قذف ريان عبارته المُشتعلة في وجهه ثم انصرف كقذيفة البارود صافقاً الباب خلفه بعنف ليعود إلى كريم وعلي حتى ينطلقوا نحو المكان الذي يتواجد به شادي، بينما ارتمى مدير النادي على كرسيه يلتقط أنفاسه المذعورة ويلملم كرامته التي تبعثرت بسبب شيطان أهوج تجرد من إنسانيته وارتكب كارثة ستأكل الأخضر واليابس في طريقها..
+
****************
+
وصلت السيارة أمام مكان غريب يشبه يختاً برياً يبدو على هيئته أنه ماخور من مواخير المُتسكعين، رائحة دخان الأرجيلة تفوح حوله وأضوائه الحمراء الهادئة وموقعه المترامي على أطراف المدينة يؤكدان أنه مشبوه .. كان ريان أول المترجلين تتقاذفه بحارٌ من الغضب الجامح لا ضفاف لها ولا شواطئ، تطارد مخيلته أشباح الانتقام وترقص الشياطين نصب عينيه رقصة الجحيم الأخيرة فأصاب من قال "الصَّادقُونَ إذا مُسَّت كرامتهم يَمضونَ كالمَوت ما هابُوا ومَا التَفَتوا.".. اقتحم المكان بخطوات واثقة وعينين حمراوتين يتبعه الرفيقين غير مستبشرين خير أبداً، ظل يبحث عنه بأنظاره حتى وجده جالساً على البار يمسك كأس مملوء بالخمر يتجرع منه تارة وتارةً أخرى يسحب نفساً من سيجارته بعدم اكتراث وتجاوره إحدى العاهرات تميل عليه بين الفينة والأخرى تهمس له ببعض الكلمات الغير مسموعة ثم تضحك ضحكات رقيعة، مُلفتة.. وأثناء حالته المقزز تلك تفاجأ بزجاجة فارغة تسقط على رأسه بعنف شديد وقبضة قوية تمسك بمقدمة ملابسه وتجذبه لتطرحه أرضاً .. هجم ريان عليه هجوماً متوحشاً كالتتار وبكل حرارة الأدغال التي توغر صدره وشراسة ساكنيها من الضواري. يكيل له ضربات متفرقة في بطنه ووجهه مما جعل الدماء تنفجر من عروقه وكلما وقع أسنده ليقف مجدداً ،صفعة وراء صفعة، وركلة تعقبها ركلة، وصوت تكسير أضلعه المختلط بصرخات المتواجدين يقوم بدور الموسيقى التصويرية للمشهد والمريب أن لا أحد تجرأ وبادر بالدفاع عنه، وبعد وقت طويل تركه ليسقط تحت أقدامه مُترنحاً ثم انحنى ليقبض على شعره بقوة قائلاً بصوت جهوري (الدكر مايحبسش بنات الناس ويتحرش بيهم يا****** ، يعمل بالظبط زي ما انا عملت قدام الناس) .. حاول شادي التحدث لكنه باغته بصفعة جعلت رأسه ترتطم بالأرضية الرخامية مستكملاً (بكرة تكون في مكتب مدير النادي وإياك تفكر بس مجرد تفكير إنك ماتجيش، وعهد الله لاقتلك بإيدي ومالكش دية عندي) .. استقام ريان في وقفته وقبل أن يغادر أمسك ذراعه وقام بلويه حتى تأكد تماماً من كسره وسط صرخاته المتوجعة ثم انحنى مجدداً يقول بنبرة مخيفة (اللي يمد إيده على حاجة مش بتاعته حلال نكسرهاله وبالذات لو الحاجة دي تخص ريان زين الدين، خليك فاكر الإسم ده كويس واحفظه وسمعه بينك وبين نفسك كتير،عشان لو نسيته هاجيلك تاني وافكرك بيه بطريقتي) .. أنهى كلماته بنظرة احتقارية ومثلما دخل خرج ليستقل سيارته برفقة كريم وعلي اللذان كانا في حالة من الذهول والصدمة ولم ينبسا بحرف وانطلقوا جميعاً مُبتعدين عن هذا المكان الموبوء قدر استطاعتهم وأخيراً أحس ريان ببعض الراحة ..
+
******************
+
