رواية علي دروب الهوي الفصل التاسع 9 بقلم تسنيم المرشدي
***
وهل للشوارع ذاكرة تعيد إلينا رفاقًا مررنا معًا بها، وهل للبيوت أحبابًا تعود إذا عاد الزمان، وهل من الممكن أن نشعر ببهجة شعورًا قد عشناه من قبل ثانيةً؟ هل يمكن؟
***
_ أنت إيه اللي جابك هنا؟ وعرفت عنواني إزاي؟
قالتها بمزيجٍ من التوتر والخوف وهي تتلفت حولها تتفقد المكان، بينما أجاب عاصم بإبتسامة هادئة:
_ روحت لك المستشفى ودكتورة هدى صاحبتك قالتلي إنك مجتيش وموبايلك مقفول، فجيت أطمن عليكي
فغرت صبا فاها بصدمة، حدجته بنظراتٍ غير مستوعبة ما يردفه ذلك المختل، وهدرت به مع الحفاظ على مستوى صوتها:
_ لو سمحت امشي متعمليش مشاكل أنا في غنى عنها
اتسعت مقلتيها وهي ترى صعود والدها، تسارعت نبضاتها حتى شعرت أنها ستخر واقعة من فرط خوفها، ضاق صدرها وانخفض مستوى ضغطها فتسبب بدُوار خفيف، بالكاد تحملتها قدميها فوالله إن مرت دقيقة أخرى على وضعها هذا حتمًا ستقع مغشي عليها.
بغرابةٍ طالع محمود عاصم ثم وجه بصره على ابنته وتساؤلات عديدة تتأرجح من عينيه، بحدةٍ وصوتٍ خشِن تساءل:
_ مين الأستاذ دا يا صبا؟
استنشقت أكبر قدر من الأكسجين في محاولة منها للرد عليه، والمفاجأة حين أجابه عاصم وهو يمد يده يصافحه مشكلًا على ثغره بسمةٍ ودودة:
_ أهلًا بحضرتك، أنا المهندس عاصم سليمان صاحب شركات آل سليمان للتطوير والإستثمار العقاري
تعمد عاصم تعريف هويته بدقة ليجبره على احترامه، تنهد محمود وهو لا يفهم ما الذي عليه فعله بعد تعريف الآخر لنفسه، بادله المصافحة مرددًا:
_ أهلًا بيك، بس متأخذنيش أنا معرفتش أنت مين وواقف عند بيتي ومع بنتي بتعمل ايه؟
اختلس عاصم نظرة إلى صبا فوجدها ترسل إليه إشارات تحذيرية من خلال عينيها، ابتلع ريقه وبنبرةٍ رخيمة واثقة تحدث:
_ أنا مريض عند دكتورة صبا، خرجت امبارح بس لازم متابعة الفترة دي عشان أعرف حالتي وصلت لإيه، روحت المستشفى ملقتهاش وسألت عليها قالوا مجتش فاضطريت أجيلها بنفسي..
لم يقتنع محمود ولو بمقدار ذرة، أسبابه واهية لا يصدقها عقل طفل صغير، عقد ما بين حاجبيه وتحدث بأسلوبٍ هجومي:
_ وهو كل مريض دكتوره مش بيروح المستشفى يروح له البيت؟ ليه الدكاترة خلصت من البلد؟!
شعر عاصم بمحاصرة محمود له، كما أن الحرج تسلل إلى داخله، وحاول جاهدًا التمسك بثباته حتى يقنعه بتبريراته، تنهد ووزع نظره بين صبا ووالدها ثم قال ما جاء من داخله دون تفكير:
_ ما أنا نسيت أقول لحضرتك إني شريك في المستشفى اللي الدكتورة بتشتغل فيها، ولما لقيت الوضع مقلق وهي مقدمتش أي اعتذار لغيابها جيت أشوف في إيه..
اتضح الآن الأمر لدى محمود، لكنه لم يخلو من الريبة، حمحم ورحب به:
_ أهلاً بحضرتك، واقف على الباب ليه اتفضل ادخل..
انفرجت شفتي عاصم بابتسامة حيوية فهو يود الإقتراب من صبا بأي طريقة، تنحت صبا جانبًا لتمنح له فرصة الدخول وداخلها يرفض ما يحدث، لكن ما باليد حيلة، مجبرة على مسايرة الأمر حتى ينتهي.
ولج عاصم وخلفه محمود الذي سأله بودٍ:
_ حضرتك تحب تشرب ايه؟
توقع كليهما رفضه، لكنهما تفاجئا بقوله:
_ قهوة مظبوط
حدج صبا وعينيه يشع منهما وميض لامع خشته صبا كثيرًا، وشعرت إثره بالتوتر والإرتباك، فرت هاربة من أمام عينيه التي تتآكلها بوقاحة، تُحضر له قدح القهوة ودخلها مضطرب، تود ذهابه بأسرع ما يمكن قبل أن يزداد الأمر سوءًا مع والدها.
أتت بالقهوة وناولتها له مختصرة حديثها:
_ اتفضل..
أخذها منها عاصم متعمدًا لمس يدها فارتبكت صبا وقامت بإلقاء الفنجان فجأة، فوقع على بنطال عاصم الذي وقف على الفور، بينما حرك محمود رأسه بضيقٍ يستنكر عدم انتباه ابنته، وقال وهو ينهض:
_ مش تخلي بالك يا بنتي، كدا البنطلون هيمشي إزاي دلوقتي؟
نظرت صبا بينهما بعيون تلمع بالدموع، فكان ذلك أكبر من تحملها، حاولت استجماع نفسها التي تبعثرت تمامًا، ابتلعت ريقها وحاولت الإعتذار:
_ أنا آسفة معرفش حصل كدا إزاي..
نظرت في عيني عاصم وأضافت بنبرة تريد الخلاص:
_ اتفضل حضرتك ادخل الحمام نضفه
لم يعارضها بل استاذن من محمود بلطفٍ وتَبِعها إلى الحمام، استشعر عاصم توترها البائن فحاول التخفيف من عليها:
_ مفيش داعي للتوتر دا كله، دلق القهوة خير
أنهى جملته بإبتسامة عذبة زادت من جاذبيته، بينما استنكرت صبا أسلوبه معها وهدرت به شزرًا:
_ لو سمحت تخرج من هنا على برا على طول، بجد مش فاهمة سبب وجودك هنا إيه؟ أنا مش عايزة مشاكل أنا مش ناقصة..
تركته وذهبت بينما أخذ عاصم يتنفس بعض الهواء وبدأ ينظف بنطاله قدر ما يمكنه، وبعد فترةٍ؛ خرج من الحمام ووجه حديثه إلى محمود:
_ هستأذن أنا يا عمي، بس ياريت دكتورة صبا متغبش علينا عشان دا ضد قوانين المستشفى..
أماء محمود بقبول لكنه رفض ذهابه بقوله:
_ على فين بس، اقعد اشرب قهوة مكان اللي وقعت..
بلطفٍ رد عليه:
_ وقت تاني لأن مش فاضي حاليًا..
صافحه عاصم ثم غادر، بينما عاد محمود ناظرًا إلى صبا بملامحٍ مقتضبة جامدة، أسرعت صبا في النظر إلى الأرض خجِىة من والدها الذي تساءل:
_ إجلال فين، عايز أفطر
بنبرةٍ خجولة أجابته:
_ ماما نايمة، هحضرلك أنا الفطار..
_ لأ مش عايز، أنا هعمل لنفسي
هتفها بحدةٍ وتحرك نحو المطبخ ليحضر الفطور لنفسه، بينما تساقطت قطرات عيني صبا كالشلال وركضت إلى غرفتها تجهش بالبكاء دون أن يراها أحد.
***
انتهى من ارتداء ملابسه، وهبط درجات السُلم سريعًا إلى أن وصل إلى الطابق الآخر من الفيلا، سار باتجاه والدته التي تمارس الرياضة في الحديقة الخلفية، وقف أمامها وأردف سؤاله:
_ اتكلمتي مع بابا؟ قالك هيجي امتى؟
لم تجيبه، فكانت مستكينة تمامًا تمارس اليوجا، مرت بضع دقائق حتى انتهت منها وقامت بالوقوف والرد عليه:
_ اتكلمت معاه ومقالش هيرجع امتى، أنت مهتم برجوعه كدا ليه يا آدم أول مرة يعني..
تأفف آدم بضجرٍ وأردف باسيتاء واضح:
_ يا ماما عايز أتقدم لڤاليا، البنت ممكن تروح من ايدي
تأففت والدته بصوتٍ عالٍ وهتفت بنبرة حانقة:
_ مش فاهمة بجد خطوبة إيه دي اللي عايزها من غير ما تعرف البنت ولا تتكلم معاها وتعرف شخصيتها وتشوف هتناسبك الأول ولا لأ؟!
قلب آدم عينيه بإزدراء وصاح:
_ ما إحنا نتعرف على بعض عادي لما نتخطب ليه لازم نتكلم من غير خطوبة؟
كانت تسير حورية وفجأة توقفت قدميها دون سابق إنذار، استدارت بجسدها ورمقته بطرف عينيها ورددت:
_ أنت بتتكلم كأنك باباك اللي بيتكلم بالظبط، نفس طريقته وتفكيره..
_ ما أنا ابنه يعني أكيد هنبقى نفس التفكير
هتفها بنفاذ صبر فلم يعجبها ثقته المبالغة في التشابه بينه وبين والده وأرادت مضايقته فهتفت:
_ تمام روح أنت بقى اتكلم معاه، أنا مليش دعوة بالموضوع دا
تركته وولجت الفيلا، بينما ظل واقفًا يطالعها بغيظٍ حتى ابتعدت عنه فهلل وهو يضع يديه في منتصف خَصِره:
_ أكلمه، مكلموش ليه؟!
توجه ناحية سيارته ثم قادها وخرج من الفيلا، وقام بعمل مكالمة فيديو لوالده الذي أجاب بعد ثوانٍ معدودة، مبتسمًا بودٍ مهللًا بسعادة:
_ وأخيرًا كلمتني يا حضرة الظابط
حادثه آدم وعينه تتناوب بينه وبين الطريق:
_ هعمل إيه بس حد قالك تدخلني شرطة، مش عارف أخد نفسي حتى
بعدم تصديق ردد:
_ يواد يا بكاش، أومال لو مكنتش موصي عليك نص الداخلية
غمزه والده وتساءل:
_ وعلى كدا المكالمة دي عشان واحشتك ولا وراها حاجة؟
تقوس ثغر آدم بإبتسامة عريضة فتأكد والده من حدسه وهتف مازحًا:
_ أنا قولت برده مش معقول مكلمني لله وللوطن كدا، ها ارغي..
تنهد آدم وبحرجٍ بدأ حديثه:
_ عايز اتقدم لڤاليا يا بابا، خايف أتأخر وأندم في الآخر، أنت ناوي تيجي امتى عشان نروح لاونكل عز
السعادة لا غيرها تملكت من والده الذي قال بنبرةٍ مليئة بالحيوية:
_ انزلك مخصوص يا حبيبي، أنت تؤمر وأبوك ينفذ، أنا هتكلم مع عز وأديله فكرة عن الموضوع ولما أنزل نروح لهم على طول
دقت طبول السعادة قلب آدم وهتف مهللًا بمزاجٍ جيد:
_ ربنا يخليك ليا يا بابا..
_ ويخليك ليا يا حبيبي..
قالها والده ثم تذكر شيءٍ فلم ينهي المكالمة قبل التحدث بها، أخذ نفسًا عميقًا وبنبرة جدية يشوبها اللوم أردف:
_ فيه حاجة كدا يا آدم سمعت عنها ومعجبتنيش..
تجهمت تعابير آدم فهو على دراية بما سيخبره عنه، تنهد ليلقى توبيخًا يليق بما أحدثه:
_ أنا طول الوقت بتعامل معاك على إنك صاحبي مش ابني، وعمري ما شديت عليك زي أي أب لما ابنه بيغلط، بالعكس مفتكرش في مرة إني صوتي كان عالي معاك، ودايمًا بتكلم معاك بالعقل، اللي عملته مع عبدالله دا غلط، عارف كدا ولا لأ؟
رفض آدم الإعتراف بخطئه، وبرر تصرفه قائلًا:
_ أنا كنت بعمل شغلي..
تشكل الإستياء على وجه والده فلم يصدقه وعاتبه بنبرةٍ عقلانية:
_ صادق قالي إن الراجل اللي عبدالله شغال معاه مبلغش عنه أصلًا، يبقى أي قانون بيقول أنك تقبض عليه؟
_ المتهم مُدان حتى تثبت برائته!!
هتفها آدم بسخطٍ فتحدث الآخر بغضب:
_ دا حتى محصلش مشتبه فيه يا حضرة الظابط، أنت بتألف قانون على مزاجك ولا إيه؟
رفع إبهامه محذرًا آدم بلهجة لا تحتمل النقاش:
_ آخر مرة تتعرض لعبدالله بالسوء يا آدم، وإلا صدقني رد فعلي بعد كدا مش هيعجبك، ثم إني ١٠٠مرة قولتلك متتكلمش وأنت سايق العربية، يلا اقفل وسوق على مهلك..
أنهى والده المكالمة بينما أختلس آدم نظرة إلى الهاتف بضيقٍ ثم تابع قيادته بعقلاٍ لا يتوقف عن التفكير.
***
فتح الباب بمفتاحه، تفاجئ بنظافة البيت، فلم يكن مرتب هكذا عندما خرج منه، اتضحت الأمور حينما ظهرت زينب أمامه، كز أسنانه وطالعها لبرهة قبل أن يردد بوقاحة:
_ إيه اللي رجعك؟
صعقت زينب من آثار الضرب الذي على وجهه، أخذت نفسًا وزفرته على مهلٍ ثم تحدثت بحدةٍ في صوتها:
_ إيه مكنتش عايزني أرجع؟ يعني عملت اللي عملته فيا وكمان مش عاجبك إني رجعت؟!
توجه حمادة إلى الأريكة واعتلاها بتعبٍ وردد:
_ ما أنت بعتيلي أخوكي أخد حقك، شاطرة
انفجرت به زينب مهللة:
_ أنا مبعتش حد، مش محتاجة أصلًا أبعته أنا كنت قادرة أخد حقي بنفسي، بس هو بقى مقدرش يشوف أخته في الحالة دي ويسكت، أصله دمه حر، واللي يجي على اللي منه بيعمل زي ما أنت شوفت كدا
نجحت في إخراجه عن هدوئه، هب حمادة واقفًا واقترب منها كالثور الذي يركض نحو هدفه، شعرت زينب بالرعب لكنها لم تُظهر، وقفت أمامه بثباتٍ ناظرة في عينه بتحدٍ، التصق بها حتى شعرت بأنفاسه تضرب وجهها لكنها لم تأباه فصرخ الآخر بغضبٍ:
_ قلبك جمد عليا، آه ما حبيب القلب قواكي عليا!!
حركت زينب وجهها مستاءة ورددت بمللٍ:
_ سيب عبدالله في حاله بقى
حدجها بنظراتٍ مشمئزة وهتف ببرودٍ:
_ أنا قصدي وليد!
وكأن دلوًا من الثلج قد سُكِب أعلاها، اتسعت عينيها بصدمةٍ وباتت تطالعه دون تصديق ثم هتفت بصوتٍ بالكاد خرج من حنجرتها:
_ وليد! إيه دخل وليد في الموضوع؟
تشدق حمادة ساخرًا وأجابها موضحًا ما يقصده:
_ على أساس مش أنتِ اللي كلمتيه يجي يوديكي المستشفى..
_ كلمت مين، إيه اللي أنت بتقوله دا؟ أنت اتجننت يا حمادة؟
هتفتها وهي لا تعي ما يقوله ذلك الأخرق فصاح حمادة بإنفعال شديد وهو يرفع ذراعيه للأعلى يُمثل لها ما حدث:
_ دا كان شايلك بين ايديه وبيجري بيكي في الحارة، بيجري بيكي قدام الناس كلها، أنتِ إزاي قِبلتي بكدا؟ إزاي سمحتي لواحد غريب عنك يلمسك بالشكل دا؟! ولا كان عاجبك الوضع؟
صرخت زينب عاليًا وهي تضع يدها على فمه تجبره على السكوت:
_ اسكت اسكت، أنا معرفش حاجة عن اللي أنت بتتكلم عنه دا، أنا فوقت لقيتني غرقانة في دمي بسبب اللي أنت عملته فيا، خرجت وأنا مش حاسة بحاجة خالص وآخر حاجة فاكراها إني وقعت في حوش السلم واللي بعد كدا معرفش عنه حاجة.. وبعدين اتكلم عدل، وحبيب قلب إيه اللي بتقول عنه؟ وأنا لو كنت عايزاه كنت جت لك أنت واهلي مش موافقين بيك؟!
أزاح حمادة يدها عن فمه وأردف ممتعضًا:
_ بس هو لسه عايزك، بشوف دا في عينه وهو بيبص لي، بشوفه غيرته مني عشان خدتك منه، اتاكدت أنه بيحبك وهو بيطلع كل غله فيا النهاردة
نظرت إليه زينب شزرًا وأردفت بإزدراء:
_ أنت إنسان مقرف
ضاعفت زينب غضبه المتقد، فاقترب منها وغرز أظافره في ذراعها فآنت هي بألمٍ، وبصوتٍ غاضب حذرها:
_ خدي بالك من كلامك عشان متزعليش مني..
دفعها للخلف وتساءل وهو يقلب عينيه:
_ ولما أنا مقرف رجعتيلي ليه؟
تبخرت قوة زينب على التماسك، ولمعت عينيها بالدموع متحسرة على خبر حملها التي ستخبره به بتلك الطريقة السيئة، حتمًا لا يوجد أسوء من ذلك، سقطت عبراتها بغزارة فلم تخطط لأمرٍ هام بتلك الصورة المأساوية، أخرجت تنهيدة معبئة بالحزن وأجابته بإقتضاب:
_ عشان حامل...
اجهشت بالبكاء تحت صدمته من سماعه خبر حملها، وأضافت بصوتٍ منكسر حزين:
_ ليه تعمل فيا كدا؟ أنت عارف يعني إيه أقولك أنا حامل في وقت زي دا؟ أنا كنت مرتبة مواقف كتير أوي عشان أفاجئك بيها بحملي، أنت بوظت كل حاجة، خليت أكتر حاجة كنت مستنياها مش عايزاها من كتر ما أنا مقهورة وزعلانة على اللي عملته فيا، دا أنا اختارتك أنت، راهنت عليك وقولتلهم حمادة هيصوني وهيحميني، أنا خسرت أهلي عشانك، عاديت أخويا بسببك، كنت عايشة ليك بس، تيجي أنت تعمل فيا كدا؟ تضربني يا حمادة؟ ترفع ايدك عليا؟ تخليني أقولك إني حامل وأنا واقفة مش طايقة أبص في وشك؟؟
وضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها التي خرجت متتالية وفرت هاربة من أمامه، ولجت غرفتها وأوصدت بابها ثم أوقعت نفسها بإهمالٍ على الأرض مستندة على الباب تطالع أمامها بحسرة كبيرة، يزداد نحيبها كلما تذكرت ما عاشته من خلف اختيار قلبها.
من أسوأ ما قد تمنحنك به الحياة، يخذلك شخصًا حاربت به الجميع، فيضعك في حيرة بين الندم واستكمال الحرب؛ لكن تلك المرة ليس من أجله إنما خيفة من أعين تترقب فشل معركتك.
***
تعالت الزغاريد في السُلم، مهللة الأم بفرحة:
_ الحمد لله يارب
ظهر زكريا حاملًا كرتونة التلفاز، أشار بعينه لوالدته وشقيقتيه فركضن إلى الداخل، متعمدين ترك جزءًا من الباب مفتوحًا ليشاهدن من خلاله صعود الشباب.
صعد زكريا أولاً وتلاه وليد وعبدالله وبعض الشباب الآخرين، قاموا بوضع جميع الأجهزة في مكانها ثم انصرفوا، هاتف زكريا ليلى فلم يطيق الإنتظار دون إخبارها:
_ وأخيرًا جبت الأجهزة، وخلصت
بفرحة عارمة هتفت:
_ بجد؟ مش مصدقة كملت الفلوس إزاي؟
_ عبدالله سلفني فلوس وكملت على اللي معايا وجبتهم الحمد لله، مش هتيجي تشوفيهم؟
أردفها زكريا فاختفت ابتسامة ليلى وتحولت تقاسيمها إلى الخوف والتوتر اللذان ظهرا في نبرتها:
_ هشوفهم بعد الفرح يا زكريا..
استشعر زكريا خوفها فأراد أن يُطمئنها بعد أن استمع لصوت شقيقتيه ووالدته يصعدن الدرج:
_ تعالي ماما واخواتي هنا، افرحي بحاجتك يابت
بترددٍ قالت بعد تفكيرٍ لوقت:
_ طيب..
أنهيا الإتصال أثناء دخول عائلته، لم تتوقف عاليا عن إطلاق الزغاريد حتى نفخت خلود بفتورٍ ورددت:
_ خلاص بقى فرجتوا علينا الناس عشان شوية أجهزة!!
إلتوت شفتي عليا متذمرة من شقيقتها:
_ يا باي دا أنتِ فصيلة، وبعدين وماله يعني اللي بعمله مش أخويا وفرحانة له
قلبت خلود عينيها مستاءة وقالت:
_ دي أجهزة كهربائية يا حبيبتي أومال هتعملي إيه يوم الفرح؟
تدخل زكريا بينهن، وسحب خلود تحت ذراعيه وقام بمداعبة أنفها ثم أردف مازحًا:
_ إيه أجهزة أجهزة اللي بتقوليها دي، أنتِ عارفة أنا دافع فيهم كام دول عشان تقللي منهم كدا؟!
قاومته خلود بكل قوتها حتى تحررت منه، ورددت عاليًا:
_ إن شاالله تكون دفعت نص مليون برده اسمهم أجهزة في الآخر يعني..
ركض زكريا خلفها فصرخت وهي تهرب منه إلى الخارج حتى اصطدمت في جسدٍ جهلت هويته، شعرت بيدين تلتف حول خَصِرها تمنع وقعوها، رفعت خلود رأسها وتفاجئت بوليد من وقعت بين ذراعيه.
خفق قلبها بشدة؛ سرت رجفة قوية في أوصالها شعر بها وليد، سحب يده إلى جانبه، بينما لم تُبعد خلود نظرها عنه، اجتاحها توترًا لم تشعر به أمامه من قبل.
خرجت من حالتها على صوته الضاحك:
_ بتجري كدا ليه يا شبر ونص أنتِ؟
عبست ملامحها فلم يعجبها قوله، واندفعت به متذمرة:
_ بطل تقولي شبر ونص دي بتعصبني
قهقه وليد وقلد عبوسها فتطاولت على ذراعه بيدها مرددة:
_ أنا مش بعمل كدا
أعاد وليد قولها بمشاكسة:
_ أنا مش بعمل كدا
تمادت خلود معه ورفعت يدها تلقنه درسًا لكنه منع وصول يدها إليه، وقد شد قبضته عليها وهو يقول:
_ يابت احترمي نفسك معايا
بعنادٍ صريح هتفت:
_ لما تبطل تضايقني هحترم نفسي..
_ خلود!!
هتفت بها والدتها بصوتٍ غاضب، لاحظه وليد فتراجع للخلف تاركًا يد خلود، بينما ارتعبت هي من لهجتها ونظرت إليها بترقب.
وجهت هناء سؤالها إلى وليد:
_ إزيك يا وليد أخبارك إيه؟
رد عليها بإحترام:
_ الحمدلله يا مرات عمي
لم يجد وليد داعٍ للوقوف فاستأذن منهن:
_ كنت جاي أشوف زكريا لو محتاج حاجة، هجيله وقت تاني يكون فاضي..
أماءت هناء بقبول وودعته ببسمةٍ اختفت فور ذهابه، انعكست تقاسيمها ومالت إلى الحدة، أمسكت ذراع خلود وجذبتها إليها بعنفٍ، ثم همست بتوعد:
_ امشي قدامي..
ترجلن السُلم حتى وصلن إلى الطابق الخاص بهن، دفعتها والدتها داخل البيت وعنفتها بنبرةٍ حادة:
_ إيه اللي أنا شوفته دا؟ ايدك دي بتتمد على ابن عمك ليه؟ وإزاي تسمحي له أصلًا يمسك ايدك؟
حاولت خلود تبرير موقفها:
_ في إيه يا ماما ما أنا متعودة أهزر مع وليد كدا على طول
استنكرت والدتها حديثها السخيف وأردفت مباغتة إياها:
_ دا كان زمان وأنتِ لسه صغيرة، لكن دلوقتي أنتٍ كبرتي ومعتش ينفع أي تلامس بينكم، ولا حتى كلام أكتر من إزيك الله يسلمك غير كدا يبقى عيب وقبل منه حرام
تمردت خلود فلم تقتنع بما تريده والدته فعله:
_ ماما وليد دا زي زكريا بالظبط، بهزر معاه بتلقائية لأنه أخويا مش الحاجات اللي بتفكري فيها دي
استاءت والدتها من تفكيرها المحدود وصاحت موضحة بعض النقاط التي تجهلها او ربما تتعمد تجاهلها:
_ بس هو مش اخوكي، في الآخر ابن عمك ويجوز ليكي، يعني اللمس والهزار والكلام بحساب، وزمان غير دلوقتي، زمان كنتي عيلة مش مسؤولة لكن دلوقتي أنتِ بتتحاسبي على كل تصرفاتك، إذا كان نظرتك ليه اتغيرت أو لا، آخر مرة أشوف اللي شوفته دا سامعة؟!
ابتعدت عنها هناء تاركة إياها تشتعل من الغيظ، لم تقف كثيرًا وهرولت إلى غرفتها بعدم اقتناع لما تجبرها والدتها على فعله.
في الأعلى، اقتربت عليا من أخيها وسألته مستفسرة:
_ عملت إيه مع ليلى، صالحتها؟
أجابها وهو ينتقل بين قنوات التلفاز:
_ اتكلمنا..
عقدت عليا ما بين حاجبيها فكلمته كانت مريبة بالنسبة لها، وأرادت السؤال حولها:
_ يعني راضيتها يعني؟
أدار زكريا رأسه ناظرًا لها وهو يقول:
_ يابنتي بقولك اتكلمنا..
إلتزمت عليا الصمت فهي اعتقدت أنه لا يود الإفصاح عن حواره معها، احترمت خصوصيته ولم تضيف مزيدًا من الأسئلة، وصلت ليلى بعد فترة؛ رحبت بها عليا بحفاوة:
_ نورتي بيتك يا عروسة
ابتسمت ليلى بخجلٍ صريح ورددت بهدوء:
_ دا نورك يا لولو
انضم إليهن زكريا ثم قاموا بمشاهدة ما اشتراه زكريا، ابتسمت عليا بعد أن انتهوا من تفقد جميع الأجهزة ورددت بحبٍ:
_ ربنا يجعله بيت السعادة والهنا، تسكنوه بالعافية يارب
آمنت ليلى على دعائها ممتنة:
_ يارب، تسلميلي يا عليا
ربتت عليا على ظهر أخيها و باليد الأخرى على ذراع ليلى وقالت:
_ وتملوه يارب عيال كتير
أسبق زكريا بالرد قائلًا:
_ حيلك حيلك أنا يدوب واحد أو اتنين ومش دلوقتي كمان..
اندهشت ليلى وكذلك عليا لما تكن أقل منها اندهاشًا، لم تتقبل ليلى قراره وهتفت:
_ وليه إن شاءالله؟ أنا نفسي يكون عندي بيبي ضغنن ألاعبه براحتي.. وبعدين متقاطعش قول إن شاء الله
استشعرت عليا التوتر بينهما ففضلت الإنسحاب، حمحمت ثم قالت بإستيحاء:
_ أنا هنزل أشوف ماما وخلود راحوا فين
أسرعت ليلى في مسك يدها مانعة إياها من النزول:
_ لا خليكي..
لم تريد عليا أن تكون موضع إزعاج لهما فأصرت على النزول:
_ هاجي تاني.. بس هشوفهم اختفوا فجأة فين
لم تطيل وخرجت من البيت مسرعة، أغمضت ليلى عينها في محاولة منها أن تطمئن قلبها وتُذهِب عنها روعها، استجمعت قواها وبنبرة هجومية تحدثت:
_ إيه بقى اللي أنت قولته دا؟ خلفة إيه اللي مش عايزها دلوقتي؟
رمقها زكريا قليلًا ثم أجابها بجدية:
_ زي ما سمعتي كدا، أنا مش عايز دوشة من أولها، أنا عايز اتبسط وأعيش حياتي وبعدين نخلف
_ ودي نعملها إزاي دي؟
تساءلت بحنقٍ فأعطاها زكريا حلولًا:
_ تاخدي أي وسيلة، هو أنا برده اللي هعرفك على الحاجات دي
نظرت إليه ليلى بأعين ضائقة لا تصدق جدية الأمر فرددت متسائلة:
_ زكريا أنت بتتكلم بجد؟
ردد مؤكدًا:
_ أيوا بتكلم جد..
تحولت نظراته إلى مكرٍ واقترب منها بخطىً متهملة، تراجعت ليلى للخلف وهي تحذره بإصبعها:
_ خليك عندك، متقربش..
لم يكترث لتحذيراتها وتابع اقترابه حتى حاصرها بينه وبين الحائط فباتت حبيسة يديه، أخفض رأسه لينظر إليها وهمس بجرأة:
_ أنا راجل بيحب الدلع، عايز اتبسط وبس، أدخل البيت ألاقي فرفشة ودلع ومزاج عالي، متجبليش سيرة عيال غير لما أنا أقول خلاص اكتفيت، نفسي موعت من كتر الدلع
مال بقرب شفتيها وكاد يلثم عليه قبلاته لكنها دفعته بعيدًا وهتفت بصوتٍ مهزوز:
_ أنا ماشية..
لم تنتظر ثانية أخرى وفرت هاربة، بينما إلتوت شفتي زكريا للجانب مشكلًا ابتسامة ماكرة وهمس بينه وبين نفسه:
_ هانت ومتعرفيش تهربي مني تاني..
***
تقف تجلي الأطباق، فاستمعت إلى صوت رنين هاتفها، كفكفت يديها في المنشفة ثم توجهت إليه، وجدتها مكالمة دولية، فأسرعت في الرد بلهفة:
_ جلال يا حبيبي
_ إزيك يا ماما، وحشتيني
قالها متسائلًا فردت عليه إجلال بأعين دامعة:
_ أنا كويسة الحمدلله، وأنت كمان يا حبيبي وحشتني أوي
_ أخبار بابا والدكتورة بتاعتنا إيه؟
بإيجاز أجابته:
_ كلنا كويسين يا حبيبي، طمني عليك وعلى عيالك عاملين ايه؟
_ الحمدلله يا ماما كويسين اطمني، بحاول أكلمكم فيديو من امبارح على موبايل صبا بس ظاهرلي إن الموبايل مقفول فقلقت قولت أكلمك أطمن عليكم، هي في شغلها ولا إيه؟
ارتخت ملامح إجلال، وأخذت تتنفس بعض الهواء فشعر جلال بثمة شيئًا فواصل استرساله متسائلًا:
_ في حاجة حصلت ولا إيه، متقلقنيش..
بترددٍ في إخباره هتفت:
_ والله ما أنا عارفة أقولك ولا لأ
توجس جلال خيفة في نفسه وصاح:
_ في إيه يا ماما متخوفنيش أكتر من كدا
تنهدت ثم بدأت تخبره بالأحداث التي جرت مؤخرًا، بعد قليل، طرقت باب غرفة صبا وولجت بعد أن سمحت إليها، وقفت أمام الفراش وهي تناولها الهاتف موضحة:
_ جلال أخوكي عايز يكلمك..
اتسعت حدقتي صبا، وقد اجتاحها مزيجٍ من الخجل والخوف، ابتلعت ريقها وقامت بأخذ الهاتف منها فقامت إجلال بالإنسحاب إلى الخارج، ثم أجابت صبا أخيها بإستيحاء شديد:
_ جلال..
_ عاملة إيه يا صبا؟
تساءل باهتمامٍ فأجابته مختصرة:
_ الحمدلله
_ إيه اللي أنا سمعته دا يا دكتورة؟
قالها جلال بعدم تصديق، بينما عضت صبا على شفتيها بخجلٍ آكل جوفها، فكانت في وضعٍ لا تُحسد عليه، لم تعرف للإجابة سبيل، ففاجئها جلال بسؤاله:
_ بتحبيه؟
للحظة توقف عقلها، لم تستوعب سؤاله بعد، حمحم جلال وأعاد سؤاله:
_ بتحبيه يا صبا؟
اكتفت صبا بقول:
_ أيوا..
دار بينهما حوارًا كان مفاجأة بالنسبة لصبا، فكانت تصغي لأخيها برهة من الوقت ثم تتأكد من اسمه الظاهر على شاشة الهاتف، فلم تصدق ما يقع على أذنيها.
***
كان يجلس على الأريكة، رافعًا رأسه للأعلى يطالع سقف البيت، لا يصدر منه صوت، على الرغم من الضجة المحدثة في عقله، اقتحمت والدته أفكاره بسؤالها:
_ إيه اللي شاغلك بالشكل دا؟
وجه بصره نحوها وظل فترة يطالعها دون تعقيب ثم ردد:
_ كان ضروري يعني تعرفي محمود؟
_ أيوة كان ضروري، أصل هو لو فاكر إنك ملكش أصل يبقى لازم يعرف ويغير فكرته دي، أنت عبدالله القاضي مينفعش حد يقلل منك أبدًا لا بكلمة ولا بتصرف..
هتفتها بعدم ندم لما فعلته بينما لم يعلق عبدالله وغاص بين أفكاره ثانيةً، فلم يعجبها حالته الذي كان عليها منذ فترة، وتساءلت باهتمامٍ:
_ بتفكر في إيه تاني؟
انتبه عليها وأعدل من جلسته، ثم أجاب:
_ لازم ألاقي شغل بدل قعدتي دي..
بقلبٍ حنون دعت له أحلام:
_ ربنا يفتح أبواب الرزق في وشك يارب
آمن عبدالله على دعائها لكن عقله لم يهدأ وقرر مهاتفه وليد، ربما يستطيع مساعدته:
_ بقولك يابني ما تشوف لي شغل عندك في المصنع اللي بتشتغل فيه..
_ ولو أنه صعب بسبب زيادة العمالة فيه بس هشوفلك حاضر، عنيا ليك يا صاحبي
قالها وليد فردد عبدالله ممتنًا:
_ تسلم يا دود
أنهى الإتصال وقام بإلقاء الهاتف جانبًا، لم يكاد يفعل ذلك حتى صدح رنينه فقام بسحبه بفتورٍ، انعقد جبينه بغرابة حين قرأ اسم المتصل، لاحظت والدته غرابته فتساءلت مستفسىرة عن الأمر:
_ مين بيتصل بيك؟
رفع بصره عليها واجاب بريبة:
_ دا جلال أخو صبا!!
حثته والدته على الإيجاب بقولها:
_ افتح ورد عليه شوفه عايز إيه؟
نهض عبدالله مبتعدًا عن المكان، فضل الوقوف في الشرفة، ليتحدث على راحته دون حرج، أجاب على المكالمة بقلبٍ يخشى سماع أي توبيخات، زفر أنفاسه وقال:
_ جلال، أخبارك إيه؟
_ الحمد لله يا عبدالله، أنت أخبارك إيه طمني عليك
رد بصوتٍ هادئ على عكس ما انتظره عبدالله، وذلك ساعده في الكلام بودٍ دون تكليف وحرج:
_ أنا تمام الحمدلله
تنهد جلال وبدأ حديثه الذي قام بإجراء المكالمة من أجله:
_ أنا ليا عتاب عليك يا صاحبي، كدا برده متصونش الأمانة اللي أبويا أمنك عليها؟
طأطأ عبدالله رأسه خجلًا سيطر على خلاياه، ولجّم لسانه فلم يستطع مواصلة الحديث، بينما واصل جلال حديثه المسترسل:
_ أنت بتحبها بجد يا عبدالله؟
دون تفكيرٍ أجاب بلهفةٍ ونبرة مُتيمة:
_ بحبها!! والله دي كلمة قليلة على اللي في قلبي ليها..
تابع جلال قائلًا بجدية:
_ يعني مستعد تعمل أي حاجة عشانها؟
_ أختك دي لو قالولي أطلع القمر مشي عشانها مش هتردد لحظة
هتفها بفيض من المشاعر الصادقة الذي أحسها جلال، وأردف بصوت رزين:
_ دا اللي كنت عايز أسمعه، أنا هتكلم مع بابا وأقنعه يوافق..
برقت عيني عبدالله بوميضٍ مختلف، وصاح دون تصديق:
_ قول والله؟
_ والله
هتفها جلال من بين ضحكه على أسلوبه الطريف، ثم أضاف بجدية:
_ بس لازم تفهم إن المشوار هيكون طويل، الحج محمود مش بسهولة يوافق على حاجة يقول عليها لأ
بمزاجٍ سوي رد عبدالله:
_ وأنا نفسي طويل، وهفضل وراه لغاية ما يوافق، أصل صبا دي مينفعش تكون لغيري، مقدرش أعيش لحظة من غيرها..
ابتسم جلال بسعادة لسماعه ذلك الكلام، وقبل أن ينهي المكالمة قال له عبدالله ممتنًا:
_ متعرفش أنت ريحتني بمكالمتك دي إزاي يا جلال والله، أنا من وقت ما عم محمود عرف وأخد منها الموبايل ورفض الموضوع كله وأنا حاسس إن كل حاجة قفلت في وشي..
بنبرة رخيمة تحدث جلال:
_ صبا دي بنتي قبل ما تكون اختي، وعلاقتي بيها علاقة صحوبية وسعادتها تهمني حتى لو اللي عملته دا غلط، الإنسان مش معصوم من الغلط المهم ميكررش غلطه تاني، وأبويا مش فاهم إن رفضه دا هيخلي الغلط مستمر، عمومًا أنا هتكلم معاه وربنا يقدم اللي فيه الخير
انتهت المكالمة، وقد انعكس مزاج عبدالله، وغزت البسمة شفتاه، استند براحتي يده على سور الشرفة وأخذ يستنشق بعض الهواء بأريحية.
***
حل المساء سريعًا، عاد محمود إلى منزله؛ أغلق الباب خلفه ونادى بصوتٍ أجش حاد:
_ صبا..
ارتعبت صبا من صوته المرتفع وخرجت تهرول، وقفت أمام الباب ترمقه دون حديث، بينما سحب محمود الهاتف من جيب جلبابه وقام بإعطائه لها مرددًا:
_ خدي الموبايل، وارجعي شغلك، وإوعي تفكري إني سامحتك على اللي عملتيه فيا!!
دمعت عيناي صبا واقتربت منه بِضع خُطوات وأردفت بحزنٍ يطغوا على نبرتها:
_ مش عايزة موبايل ولا شغل طلاما أنت زعلان مني، هما مش أهم عندي منك
دنت منه وتعلقت في ذراعه متوسلة إياه متلهفة لمسامحته:
_ أنا آسفة يا بابا، عشان خاطري سامحني، عمري ما زعلتك قبل كدا لأن رضاك عندي مهم جدًا، أنا موافقة أعمل أي حاجة تطلبها بس تسامحني
صوب محمود بصره عليها وردد سؤاله:
_ يعني لو قولتلك مسامحك هتنسي موضوع عبدالله دا؟!
تفاجئت صبا بحديثه، آلمها قلبها للغاية فلم تكن معادلة منصفة بالمرة، اغرورقت عينيها بالدموع ولم تعقب، تنهد محمود وبهدوءٍ تابع:
_ اتكلمي يا صبا، أنا سامح لك تقولي اللي عندك، مش هزعل من كلامك..
بصوتٍ مهزوز يكسوه حشرجة البكاء قالت:
_ يا بابا أنت أغلى حاجة في حياتي وزعلك مهم أوي عندي، و...
صمتت من تلقاء نفسها و أخذت شهيقًا عميق ثم واصلت:
_ وعبدالله غالي على قلبي، أنا آه غلطت إني سمحت نتكلم من وراك بس ميبقاش العقاب إنك تكسرلي قلبي
نكست رأسها في آسى شديد وأضافت من بين دموعها التي تنهمر:
_ بس لو دا يرضي حضرتك، أنا هعمله...
تفاجئت صبا بجذب والدها لها فارتمت بين ذراعيه، مُطلِقة آناتٍ وشهقاتٍ موجوعة كانت حبيسة داخلها، شد محمود علي ظهرها بقوة وهتف:
_ ما عاش اللي يكسر لك قلبك يا دكتورة..
إزداد نحيب صبا بسعادة حينما تيقنت أنه سامحها من خلف كلماته، احتضنته بشدة وظلت تقبل وجهه ويديه بحميمية وسألته بفضولٍ:
_ يعني سامحتني صح؟
رمش محمود بأهدابه مرات عديدة ليُثبت صِدق مسامحته لها، أعاد إعطائها الهاتف فأخذته بسعادة ثم عضت على شفاها فلم تتحلى بالجرأة التي تطرح عليه سؤالها، فاستشف محمود ما يوجد خلف حركاتها وقال:
_ بفكر لسه يا دكتورة..
اتسع ثغرها ببسمةٍ وصلت إلى آذانها من شدتها، اقتربت منه مرةً أخرى وقامت بتقبيل وجنته ثم قالت بحبٍ:
_ ربنا يباركلي فيك بابا..
عادت إلى الغرفة تقفز وتغني في الهواء، فالسعادة أسيرة قلبها الأن، كادت ترسل رسالة إلى عبدالله إلا أنها تراجعت، فستأخذ عهدًا مع نفسها بألا تعيد تكرار خطئها، وتترك الأمور تسير في مسارها الصحيح، أخرجت تنهيدة مُحملة بين طياتها سعادة لا تكفي الكون بأكمله، استقلت بجسدها على الفراش وطالعت السقف وهي تحتضن بيدها الهاتف، فعلى ما يبدو أن أمر ارتباطهما على وشك التحقيق.
***
دلف آدم غرفته بعد يومٍ شاق في العمل، جلس على الفراش وقام بعمل اتصال عليه إجرائه، وتحدث فور إجابة الطرف الآخر:
_ هتنفذ اللي اتفقنا عليه امتى يا حمادة؟
_ كمان يومين كدا يا آدم باشا، وهو مشغول في فرح صاحبه هقدر وقتها أنفذ..
قالها حمادة بنبرة تطمح في الإنتقام من عبدالله، ثم واصل حديثه:
_ متنساش أنت بس اللي اتفقنا عليه..
