اخر الروايات

رواية علي دروب الهوي الفصل العاشر 10 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل العاشر 10 بقلم تسنيم المرشدي

الفصل العاشر
' على دروب الهوى '
بقلمي تسنيم المرشدي
***
دومًا ما تسير الأمور جيدة للغاية قبل النهاية؛ حتى يقتنع عقلك ويرسُم لك نهاية سعيدة، لكنها حيلة تقع في براثينها ثم تكتشف أنه تم خداعك، النهايات ليست سعيدة دائمًا.
***
بعد مرور عدة أيام؛ صباح يوم الزفاف، يقف زكريا برفقة عبدالله ووليد يتابعون بناء السُرادق وبعض الترتيبات داخله، ضرب عبدالله يد زكريا بخفة فانتبه عليه الآخر ليردف عبدالله اقتراحه بنبرة رخيمة:
_ أنت واقف هنا بتعمل إيه، مش لسه قدامك تجهيزات تعملها، روح خلص اللي وراك وأنا ووليد وافقين هنا..
كاد يعارض زكريا اقتراحه:
_ بس..
لم يعطيه عبدالله فرصة للإعتراض وأصر على ذهابه:
_ مفيش بس، امشي ومتقلقش هو أنت سايب وراك كتاكيت..
غمزه وليد مازحًا:
_ إحنا دُكُرة
قهقه زكريا وكذلك عبدالله ثم انسحب زكريا عائدًا إلى منزله لينهي ما عليه فعله قبل بدء حفل الزفاف، بينما نظر عبدالله إلى وليد وشاكسه بنبرة مرحة:
_ شوف شغلك يا كتكوت
تقوس ثغر وليد بإبتسامة طريفة وردد:
_ ماشي يا دكر..
تفحص عبدالله المكان من حوله بمللٍ؛ وصاح عاليًا:
_ هو مفيش حاجة تتسمع في أم المكان دا
توجه إلى أحد الشباب المسؤولة عن تنظيم الحفل وحادثه:
_ أنت مش بتجرب سماعاتك ليه يا غالي؟ شغل لنا حاجة رايقة كدا
أماء الشاب بقبول وسأله مستفسرًا:
_ عايز تسمع إيه؟
_ حاجة لميادة الحناوي، مثلًا أنا بعشقك
هتفها بحماسٍ ثم استدار برأسه مُصوبًا عينيه على منزل صبا، ينتظر ظهورها الفريد بفروغ صبر.
***
تململت في الفراش بكسلاٍ، لم تستطع النهوض من أسفل الغطاء وترك الفراش، أغمضت عينيها بفتورٍ حين اهتز هاتفها الموضوع إلى وضع الصامت، سحبته من أعلى الكومود فوجدته ذلك الرقم يعاود اتصالاته من جديد.
نفخت بضجرٍ وأجابت بعد أن أعدلت جلستها:
_ ألو..
_ أخيرًا رديتي
قالها بصوتًا متحمس لوصوله إلى هدفه، بينما تنهدت وهتفت مستاءة:
_ أنت عايز مني؟ رنيت وأنا مردتش؟ مصمم ترن تاني ليه؟
_ أنتِ بتعامليني كدا ليه يا صبا؟
تساءل مستفسرًا فلم تتحمل صبا تعديه حدوده وهدرت به مندفعة:
_ صبا!! مسمحلكش تتعدى حدودك معايا، أنت مجرد كنت مريض عندي، يعني بالنسبة لك دكتورة صبا يا... باشمهندس
أخذ عاصم نفسًا زفره على مهل وردد:
_ تمام، طب إيه مش هتسألي جبت رقمك منين؟
_ اللي وصل لعنوان بيتي مش صعب عليه يوصل لرقمي!
أردفتها بتهكمٍ، فضحك عاصم وهو يحك مؤخرة رأسه وردد بصوتٍ ضاحك:
_ عندك حق..
ساد الصمت لثوانٍ ثم قطعته صبا بسؤالها الصارم:
_ أنت عايز مني إيه؟ خليك واضح لو سمحت
_ عايزك!
قالها دون تفكير، فرددت صبا بصدمة:
_ برده؟!
أسرع عاصم بتوضيح غايته من كلمته:
_ متفهميش غلط، أنا معجب بيكي ونفسي تديني فرصة أعرفك عليا..
لم تتفاجئ كثيرًا فما قاله كان ضمن اعتقاداتها، أغمضت عينيها لترتب حديثها قبل قوله، شهيقًا وزفيرًا فعلت ثم قالت بلهجة جافة:
_ أنا مخطوبة، ومعتقدش في شرعنا ينفع إن الست ترتبط باتنين، ياريت حضرتك متكلمنيش تاني ولا تعمل أي تصرف مش محسوب عشان متعمليش مشاكل في حياتي..
لم تضيف المزيد وأنهت المكالمة على الفور ثم وضعت رقمه في قائمة المحظورين، عادت بظهرها مستلقية على الفراش، حدقت بالسقف وقد قادها حنينها إلى ساكن قلبها، تنهدت بشوقٍ فلقد فاق اشتياقها له حد السماء.
انتبهت على صوت الموسيقى الصادر من الخارج، اتسعت عينيها حين عرفت الأغنية، شعرت بالغرابة حيال ما يحدث ولم تتردد في الذهاب ومعرفة من أين تاتي، لم ترى شيئًا من شرفة غرفتها فالبيوت حاجبة الرؤية.
أسرعت إلى الخارج ووقفت في أحد النوافذ التي تطل على الشارع، فتفاجئت بنصب السُرادق، وحبيب فؤداها يقف هناك لكن عينيه مُصوبة على نافذتها، غمزها فور رؤيته لها فانشرح ثغرها ببسمةٍ سعيدة.
انضمت إليها والدتها عندما وصل صوت الأغاني إلى مسمعها، فعضت صبا على شفتاها خافية ابتسمامتها، وتابعت ما يحدث في هدوء، لا يشبه الضجة المُحدثة داخلها، فقلبها يتراقص على أنغام الموسيقى وكلمات الأغنية المحببة إلى قلبها.
لاحظت إجلال نظرات عبدالله التي تُرفع عليهن من حينٍ لآخر وقالت:
_ مجنون..
خفق قلب صبا بخوفٍ وتساءلت مصطنعة عدم فهمها:
_ تقصدي مين؟
رفعت إجلال إحدى حاجبيها وأخفضت الآخر، وهتفت مازحة:
_ اللي مشغلك ميادة الحناوي، تقولك أنا بعشقِك
تفاجئت صبا بانكشاف أمرهما، تلونت وجنتيها بالحُمرة، زادت من عض شفاها بخجلٍ بائن، كما فشلت في إخفاء ابتسامة وجهها التي غزت شفتيها دون إرادة منها.
بينما إلتزمت إجلال الصمت لكي لا تزيد من خجلها، وتابعن ما يحدث في الخارج دون تعقيب، حمدت صبا ربها أن والدتها قد توقفت عن إلقاء الكلمات التي تثير حيائها وتزيد من توترها.
فلم يتوقف قلبها عن النبض بقوة وهي تراه يتراقص بجاذبية مع ألحان الموسيقى كأنه يُهديها كلمات الأغنية التى تُرددها بخفوت مستندة برأسها على جانب النافذة حتى انتهت الأغنية فقامت بإغلاق الناقذة وعادت للداخل.
سؤال والدتها قد أوقفها قبل دلوفها الغرفة:
_ أنتِ مش بتروحي شغلك ليه؟ مش أبوكي سمح لك تنزلي؟
لم تتحلى صبا بالشجاعة لكي تخبرها بالسبب الحقيقي، فاختقلت كلماتٍ تُسكتها:
_ محتاجة أخد هُدنة شوية وبعدين هرجع تاني..
_ ودا مش هيأثر عليكي؟ أنتِ حتى مش أخدة إذن من مديرك؟
قالتها إجلال خشية أن تخسر ابنتها عملها، أخرجت صبا تنيهدة بطيئة، فداخلها تناقُض يُشتِت قراراتها، فجزءًا يأبى العودة إلى المستشفى دون حبيبها، والجزء الآخر يود كثيرًا عودتها لعملها، فلم تصل إلى مكانتها في تلك المستشفى بسهولة، وخسارتها حتمًا ستكون كبيرة.
عادت إلى أرض الواقع مستمعة لنصيحة والدتها:
_ خلي بالك أصل غيابك يقلب ضدك، وتخسري شغلك، وأنتِ أكتر واحدة عارفة أبوكي عمل إيه عشان تشتغلي في مستشفى ليها اسمها زي دي
أومأت صبا مرارًا فهي على دراية كاملة بعواقب الأمور، زفرت أنفاسها وأردفت عازمة أمرها:
_ هرجع بكرة إن شاء الله
أسرعت إلى غرفتها هاربة من عيون والدتها، أغمضت عينيها ووضعت راحة يدها على صدرها داعية بتمني داخلها أن تسير الأمور كما تريدها.
***
بعد ساعاتٍ، وقف عبدالله أمام المرآة يرتدي سترة حُلته ذات اللون الكحلي القاتم، وضع من قنينة عطره على ثائر حُلته، ثم قام بتفقد نفسه للمرة الأخيرة قبل أن يذهب، خرج من غرفته على عجالة من أمره، فقابلته والدته بإبتسامة عريضة وهتفت عاليًا وهي تتغزل به:
_ دا لو أبو صبا موافقش بعد الطلة دي يبقى راجل مبيفهمش صحيح..
قهقه عبدالله ثم قال وهو يتنهد بنفاذ صبر:
_ ربك يسهلها يا أحلام، ادعيلي أنتِ بس
_ وأنا يواد مستنياك تقولي ادعي لك
هتفتها متذمرة فصاح عبدالله ممازحًا إياها:
_ يعني أنتِ بتدعيلي وكل حاجة واقفة كدا، طب بطلي تدعي بقى يمكن تظبط
تفاجئت أحلام بمزاحه الثقيل، وقامت بلكز ذراعه ثم قالت مستاءة:
_ بقى كدا يا عبدالله، ماشي
ابتسم بخفة ثم انحنى على جبينها واضعًا قُبلة عليه وأردف وهو يتراجع:
_ أنتِ الحب كله يا أحلام، هو أنا ليا غيرك
توجه نحو الباب وأضاف على عجالة:
_ أنا نازل عشان متأخرش على زكريا، كلميني لو احتجتي حاجة
أومأت برأسها بينما غادر عبدالله سريعًا حتى لا يتأخر على صديقه.
***
انتهت عليا من عقد رابطة عنُق أخيها، ثم ألقت نظرة متفحصة أخيرة ورددت بإعجاب شديد:
_ زي القمر يا روح قلبي، ربنا يجعل يومك جميل شبهك
داعب زكريا أنفها بمشاكسة وهو يهتف:
_ حبيبتي يا لولو، عقبال يومك
اكتفت بابتسامة خجولة، بينما خرج زكريا من غرفته فأطلقت والدته الزغاريد عاليًا، تهافت عليه الجميع وقاموا بالمباركة له، انسحبت خلود خارج المنزل عندما سمعت رنين الجرس، ابتسمت لوليد وحدجته بنظرة سريعة ثم رددت مازحة:
_ اش اش اش، شكلك حلو وأنت نضيف
فغر وليد فاهه فلقد فاجئته بوقاحتها، ضيق عينيه ورمقها بغيظٍ ثم قال وهو يحدق بكل أنشٍ بها:
_ وأنتِ ناقص لك حزام وتبقى رقاصة
_ رقاصة!! أنا رقاصة يا وليد؟
هتفت خلود بصدمةٍ يشوبها الغيظ الشديد، بينما قهقه الآخر عاليًا وغمزها بمشاكسة:
_ أخوكي جِهز يا رقاصة ولا لسه؟
وضعت خلود كلتى يديها في منتصف خَصِرها وضربت الأرض بتزمجر شديد ثم صاحت بملامح مشدودة ناهيك عن إبهامها الموجه في وجه وليد:
_ بطل تقول الكلمة المستفزة دي..
أسرعت في إنزال إصبعها عندما استمعت لصوت والدتها القريب، تنحت جانبًا ووقفت ترتدي حذائها وكأنها لم ترى وليد، انضمت هناء إليهما ببسمةٍ باهتة حينما وجدتهما يقفان معًا، رمقت خلود بنظراتٍ متوعدة ثم وجهت حديثها إلى وليد:
_ اسم الله عليك أنت وابن عمك ربنا يحميكم من العين
بحرجٍ وامتنان رد عليها:
_ دا من ذوقك من مرات عمي، العريس فين، خلص؟
تولى زكريا الرد عندما وصل إلى الباب:
_ أيوا خلصت، عبدالله جه؟
أماء وليد بتأكيد قبل أن يردد:
_ واقف تحت مستنيك تنزل..
أومأ زكريا برأسه وقال:
_ هجيب موبايلي ومفاتيحي ونازل
عاد إلى الداخل بينما رفعت خلود عينها على والدتها وأردفت بهدوءٍ خشية أن تنال غضبها:
_ هسبق أنا زكريا تحت يا ماما، عشان رجلي تاخد على الكعب دا ..
لم تعترض هناء بل سمحت لها ثم ولجت للداخل عندما نادها زكريا، بينما تحركت خلود بذلك الكعب الذي آلم قدمها وأعاق سيرها، جاهدت نفسها بأن تسير بخُطواتٍ مستقيمة لكنها فشلت، فكانت خُطواتها عرجاء تميل إلى جانبيها، تأففت بضجرٍ وصاحت:
_ لا مش وقتك خالص..
تابعت نزولها تحت نظرات وليد المتابعة لها، فكان يبتسم على حالتها المثيرة للضحك، ترجل الدرج خلفها فأسرعت هي من خُطاها فانزلقت قدمها اليُمنى، رفعت يدها في الهواء محاولة التشبث بشيءٍ قبل أن تقع، فتفاجئت بذراع وليد يلتقطها ويُعيدها إليه في حركة سريعة.
تقابلت أعينهما معًا فخفق قلبها بشدة، حتى شعرت أنه سيمزق فستانها من شدة تدفقه، أعدلت وقفت فأزاح وليد يده عنها مرددًا باسيتاء واضح:
_ لما أنتِ مش بتعرفي تمشي في الحاجات دي بتلبسيها ليه؟
حدت من ملامح وجهها وحدثته بهجومٍ:
_ بعرف أمشي عادي، بس الهيلز جديد ولسه مش متعودة عليه..
حرك رأسه متفهمًا أمرها قبل أن يردد:
_ طب انزلي يلا...
رفضت النزول وتحدثت بعنادٍ صريح:
_ انزل أنت الأول..
_ خليني وراكي، يمكن تحتاجيني لما تقعي تاني..
قالها وليد وهو يضحك، فزاد من غيظها وهتفت متذمرة:
_ بطل ضحك، وأدي الهيلز أهو..
انحنت على قدميها وقامت بخلع حذائها وأمسكته في يدها ثم أضافت وهي تحدق بعينيه:
_ يلا اتفضل انزل بقى..
لم يكف وليد عن الضحك، تخطاها إلى أن اختفى من أمامها، بينما وقفت خلود تستنشق الصعداء، أغمضت عينيها محاولة التحكم فيما يحدث داخلها، لكن بائت محاولاتها بالفشل، فكان قلبها ينبض بصورة عنيفة كلما تذكرت أنها كانت قريبة للغاية منه، حاولت ضبط أنفاسها بأخذ شهيقًا عميق وزفره على مهلٍ حتى هدأت قليلًا، تابعت نزولها إلى أن وصلت إلى المدخل، وقفت ترتدي حذائها ولم تبرح مكانها في انتظار ترجل أخيها.
***
بعد قليل، ظهر زكريا بهيئته الجاذبية، دعس الشباب الذين في انتظاره على زمور السيارات خاصتهم مهللين عاليًا بفرحة، غزت الإبتسامة وجه زكريا واقترب من سيارة عبدالله بعد أن أشار للجميع شاكرًا إياهم على لطفهم، فتح عبدالله ذراعيه على مسرعيه هاتفًا بحماسٍ:
_ صاحبي يا صاحبي
دخل زكريا في أحضانه وشد عبدالله على ظهره بحبٍ واضح:
_ مبروك يا حبيبي
تراجع زكريا وهو يجيبه:
_ الله يبارك فيك
غمزه ولكز ذراعه بخفة ثم أضاف:
_ عقبالك يا صاحبي
تنهد عبدالله بحرارة وآمن بقلبٍ يتمنى بشدة:
_ يارب، يارب
أشار زكريا إلى شقيقته فجاءته راكضة، قام بفتح باب السيارة الخلفي لها، فهمت بالركوب، بينما استقلا الشابين المقاعد الأمامية للسيارة، ظل زكريا متابعًا ركوب عليا سيارة خطيبها ثم تحركوا أولًا وتلاهم حشد من السيارات محدثين ضجة كبيرة في المكان.
وصلا إلى أحد مراكز التجميل، ترجل زكريا من السيارة وانضممن له شقيقتيه، ثم ولجوا المركز، لحظاتٍ فارقة تفصل بين زكريا ورؤياه لـ ليلى.
هبطت الدرج بحذرٍ، حتى وقفت خلفه ثم أخذت نفسًا وقامت بإصدار صوتًا يخبره بوصولها، التفت زكريا بجسده لتظهر له تلك الفاتنة في ثوبها الأبيض الذي لاق لها كثيرًا وكأنه صُمم لها فقط، إلتوت شفتي زكريا للجانب فشكل ابتسامة جذابة زادته وسامة، دنا منها وقام باحتضانها متغزلًا بها:
_ إيه الحلويات دي بس
ابتسمت ليلى برقة واستكانت بين ذراعيه، لكن سرعان ما تجدد خوفها فانقبض قلبها وشحب وجهها، تراجع زكريا للخلف فلاحظ ملامح وجهها المتوترة فأسرع في سؤالها:
_ أنتِ مش فرحانة ولا إيه؟
ابتلعت ريقها وأجابته مختصرة:
_ خايفة يحصل حاجة والفرح ميكملش!!
وقف زكريا مشدوهًا مستنكرًا خوفها، ولم يستطع منع لسانه الذي قال:
_ أعملك إيه أكتر من كدا عشان متخافيش، النهاردة فرحنا وأنتِ العروسة وأنا العريس، افرحي بقى يا بومة
فغرت فاها بصدمةٍ؛ ورددت مستاءة:
_ أنا بومة يا زكريا؟!
نكست رأسها بحزنٍ وقد راودها شعورًا سيء لحظتها، قلب زكريا عينيه بنفاذ صبر لكنه تحلى ببعض الصبر لكي يمرق اليوم بسلام، اقترب منها وقام برفع رأسها ثم قبل جبينها وأردف بتوسلٍ:
_ أنا اللي بومة متزعليش، بس عشان خاطري مش كدا بقى، النهاردة فرحنا مفيش مكان للزعل ولا للخوف.. ممكن؟
أطالت ليلى النظر به ثم أومأت رأسها بقبول، فعاد زكريا مبتسمًا وناولها باقة الزهور، التقطتها منه وتعلقت في ذراعه فخرج بها زكريا من المكان وقام بمساعدتها للدخول إلى السيارة.
ثم حاول الركوب فلم يجد مكانًا له، انحنى بجسده ومال لكي يراها وهي الداخل وقال مازحًا:
_ طب إمشي أنت يا عبدالله وأنا هاجي مواصلات، أصل الفستان قاعد مرتاح وأنا مش لاقي مكان أقعد فيه..
انفجرا الجميع في الضحك، وبعد محاولاتٍ نجح في الجلوس بجوارها، تحركت بهم السيارة فمدت ليلى يدها وقامت باحتضان يد زكريا الذي شد على يدها ثم غمزها ومال على أذنها وهمس:
_ فات الكتير وما بقى إلا القليل...
اكتفت برسم ابتسامة خجولة ثم تابعت الخارج هاربة من نظراته الوقحة التي يطالعها بها، عاد زكريا ناظرًا إلى صديقه وصاح:
_ شغل لنا حاجة يابني..
بعد فترة، كان الجميع يقف في انتظار إنتهاء العروسين من التصوير، اقترب وليد من خلود وحادثها:
_ ما تروحي تقعدي في العربية بدل وقفتك دي..
_ أنا مرتاحة هنا..
قالتها بصرامة ثم أبعدت نظريها عنه غير آبية لنظراته المُستشاطة غيظًا من أسلوبها الهجومي، ثم راودها سؤالًا وأرادت سماع إجابته منه، أخذت نفسًا وعاودت النظر إليه وبأسلوبٍ لطيف لا يشبه صوتها منذ قليل سألته:
_ هو أنا فعلا شكلي مبالغ فيه؟ شكلي رقاصة بجد؟!
ضحك وليد ثم أشاح نظره عنها وأجابها بصوتٍ رخيم:
_ لأ، شكلك حلو..
أدار رأسه نحوه وأضاف:
_ أوي..
ابتسمت خلود برقة، ثم استدارت بجسدها سريعًا متصنعة تأملها الحديقة من حولها، وسرعان ما ازدادت ابتسامتها بهجة، ظلت تتنقل من مكانٍ لآخر وبين سيرها تختلس نظرة سريعة على وليد الذي يتابع تحركاتها حتى سقطت عينيه على أحد الشباب الذين ينظرون إليها بعيون وقحة.
جرت الدماء في عروقه وتوجه نحوها بملامح مشدودة، وهتف أمرًا عند وصوله إليها:
_ روحي اقعدي في العربية..
كادت تعارضه إلا أنه منع ذلك بانفعاله:
_ سمعتي أنا قولت إيه؟!
تجهمت تعابير خلود ورمقته بغيظٍ شديد ثم رفعت طرف فستانها ليسهل عليها التحرك، فظهرت قدميها بوضوحٍ لعيني وليد فصاح بضيق:
_ نزلي الفستان دا..
تركت خلود الفستان وهتفت بغيظٍ:
_ أووف
توجهت نحو السيارة ثم استقلت المقعد، عقدت يدها أمام صدرها وصوبت بصرها على وليد وظلت ترمقه بنظراتٍ ثاقبة تتوعد له دخلها.
بعد مرور بعض الوقت، انتهوا من التصوير ثم تحركت السيارات متجهين إلى المنطقة حيث المكان المُقام به الحفل.
***
عِند حلول المساء، كان يجلس على الأريكة يستعد لبدء خِطته، صوب بصره نحو زوجته التي وضعت أمامه الطعام ثم انصرفت إلى الغرفة مُسرعة دون أن تلتفت، نهض وتوجه إليها، أمسك ذراعها وأرغمها على الإلتفاف إليه، وبنبرةٍ نادمة تحدث:
_ هتفضلي مش بتكلميني كدا كتير؟ أنا معتش قادر استحمل تجاهلك دا، خانقني يا زينب
سحبت ذراعها بهدوء وأعادته إلى جوارها وبنبرةٍ جافة من أي مشاعر قالت:
_ وأنا المفروض كمان مخدش من موقف؟ يعني تضربني وتوصلني للحالة اللي وصلت فيها وكمان تتهمني في أخلاقي وأجي أبوس راسك وأقولك سامحني ولا إيه مش فاهمة؟
طأطأ حمادة رأسه بخزيٍ مصطنع وحاول الإتيان بكلماتٍ ترضي كرامتها حتى يكون سهل عليه إرضائها:
_ أنا عارف إني غلطان، وغلطي كبير ومش عارف أعمل إيه عشان تسامحيني..
أمسك يديها بتلهفٍ؛ طالبًا العفو والسماح منها:
_ لو ليا خاطر عندك سامحيني، دا أنا حمادة حبيبك، مقدرش أبدًا على زعلك
تشدقت زينب ساخرة وهي تردف بتهكم:
_ متقدرش على زعلي لكن تقدر تمد ايدك عليا، أنا كنت هموت في ايدك، أنت أذتني وأذيت ابني كان ممكن ينزل من قبل ما أعرف أصلًا إنه موجود!!
تراجعت للخلف وأولته ظهرها هاتفة ببغضٍ:
_ أنا آسفة مش قادرة أسامحك بسهولة كدا..
صر حمادة أسنانه وتجهمت تقاسيم وجهه بضيقٍ؛ فهي تُشكل عائقًا أمام خطته، أخذ نفسًا عميقًا ووقف أمامها ثم جسى على ركبتيه محاولًا تقبيل قدمها:
_ أنا أسف، عشان خاطري إنسي وسامحيني
صعقت زينب من تصرفه، لم تتوقع اعتذارًا مهين هكذا، أسرعت في الإنحناء عليه وقامت بإجباره على الوقوف قائلة:
_ بس بس خلاص.. متعملش كدا
وقف حمادة وطالعها بعيون لامعة تهدد بالبكاء مردفًا كلماتًا تثير شفقتها:
_ أنا بحبك، ومش قادر على زعلك مني، أنا آسف لو لسه بتحبيني سامحيني، آخر مرة صدقيني مش هعمل كدا تاني
رأت زينب الصدق في عينيه؛ فلم تره يتوسل لها مثل ما يفعل الأن، تأثرت بحالته وشعرت بألمٍ في قلبها لنفسه الضعيفة في ذلك الوقت، وقررت بألا تطيل الأمر، فهو قدم لها وعدًا بألا يعد فعلته ثانيةً.
_ خلاص مفيش حاجة، بس أنت قولت آخر مرة تعمل كدا
أردفت متآملة خيرًا فيه، بينما أكد حمادة على حديثها:
_ دا أنا اقطع ايدي قبل ما تتمد عليكي تاني..
ابتهج حمادة وانعكس ابتهاجه على شفتيه التي اتسعت ببسمةِ انتصار، اقترب منها وقام باحتضانها بقوة فلم تبادله زينب العناق فجرحها لم يُشفى بعد.
تراجع حمادة للخلف ثم أمسك بها وأرغمها على السير حتى وصل إلى الفراش وقال:
_ اقعدي ارتاحي أنتِ وأنا هعمل لنا اتنين عصير نشربهم سوا..
خرج من الغرفة تحت نظراتها المتابعة له؛ شعرت بريبة داخلها تجاه تصرفاته الذي يتعامل بها معها للمرة الأولى، ربما نادم حقًا، هذا ما أقنعت به عقلها.
بينما وقف حمادة في المطبخ، لم تختفي الإبتسامة من على شفتيه، فلقد نجح في أولى خُطواته التي ستقربه من خطته، أخرج من جيب بنطاله عُلبة بحجم الإصبع، ثم قام بوضع حبة منها داخل العصير الخاص بزينب، وقام بتقليب العصير جيدًا حتى لم يعد هناك آثارً لها ثم عاود إلى الغرفة، مبتسمًا بحب، ناولها خاصتها ثم ارتشف كوبه وكذلك فعلت هي.
وحينما انتهوا من العصير؛ جلس حمادة أمامها ومشى أصابعه على ذراعها بحركات طولية فسبب لها القشعريرة، دنا منها حتى لم يعد يفصلهما سوا الهواء الذي يمر من بينهما وهمس أمام شفاها برغبة تعمد إظهارها، ثم سمح لنفسه بتقبيل شفتيها بحرارة مواصلًا همسه:
_ وحشتيني أوي..
كان جسدها يرفضه وبشده، لا تنجح في مسايرة رغباته وإسداء جوارحه، شعرت بدُوار مفاجئ في رأسها ثم تشويش في رؤيتها حتى غابت عن الوعي، توقف حمادة وناداها مرارًا ليتأكد من ذهاب عقلها.
ثم نهض مبتعدًا عنها وأعاد هندمة ملابسه، وغادر المنزل ليبدأ في تنفيذ الجزء الأخير من خطته.
***
وقفت أمام المرآة تتفقد فستانها ذو اللون البنفسجي، بدت رقيقة الملامح وجاذبية المظهر، قلبها يخفق بقوة كلما تذكرت أنها ستتقابل مع حبيبها بعد لحظاتٍ عن قُرب بعد أيامٍ عجاف لم تره بها، خرجت من الغرفة فابتسمت والدتها تلقائيًا لمظهرها الحَسِن ورددت بحب:
_ اسم الله عليكي، ربنا يحميكي من عيون الناس
تقوس ثغر صبا ببسمةٍ خجولة ثم لاحظت نظرات والدها المتأملة بجمالها لكنه لم يعقب، شعرت بالضيق داخلها لأنه لم يعد مثل السابق، تنهدت بحزنٍ ثم انتبهت عليه وهو يخبرها:
_ عايز أتكلم معاكي في حاجة بعد الفرح..
أماءت بقبول، ثم تبخر حزنها وتجدد عنفوان قلبها، فعلى ما يبدوا أنه يود محادثتها عن عبدالله، أسبق محمود إلى الأسفل بينما ترجلت صبا ووالدتها السُلم معًا، تسارعت نبضاتها فجأة حين رأت عبدالله يقف في زاويةٍ قريبة يشاهدها، حمحمت لتجذب انتباه والدتها وقالت:
_ أنا نسيت موبايلي، هطلع أجيبه وأجي، روحي أنتِ وأنا جاية وراكي
رفضت والدتها الذهاب مُعللة:
_ لا اطلعي هاتيه بسرعة وأنا واقفة مستنياكي هنا عشان ندخل مع بعض
ابتلعت صبا ريقها وبإصرارٍ واضح أردفت:
_ اسبقيني أنتِ عشان تحجزي مكان نقعد فيه وأنا مش هتأخر..
زفرت إجلال أنفاسها ثم قالت قبل أن تذهب:
_ تمام، متتأخريش
تصنعت صبا عودتها إلى الداخل حتى تأكدت من ذهاب والدتها فخرجت مسرعة، وتوجهت ناحية عبدالله الذي أسبق خُطاه إلى ذلك الزُقاق الذي اعتاد محادثتها منه.
تَبِعته صبا حتى وقفت أمامه، فيض من المشاعر قد انتابهما، كانا ينظران إلى بعضهما بشوقٍ حار، لمعت عيني عبدالله حينما ارتوت من رؤيتها وقال بهُيام:
_ وحشتيني يا دكترة
ابتسمت برقةٍ وهي منكسة الرأس لا تستطع مواجهة عينيه من فرط خجلها، وأجابته بخفوت:
_ وأنت كمان
ود عبدالله كثيرًا لو لديه الصلاحية لجذبها إلى حضنه ربما يطفئ لهيب عشقه، استنكر عبدالله تفكيره، فلم يفكر هكذا من قبل، حرك رأسه يطرد أفكاره، وعاد إليها بنظراتٍ بريئة يكسوها الحب، تفحص فستانها الرقيق وغازلها بلطفٍ:
_ أنتِ من شارع الحلوين؟
رفعت صبا رأسها عاقدة مابين حاجبيها بغرابة فأوضح عبدالله ما وراء سؤاله المُبهم:
_ أصلك حلوة أوي
تفاجئت صبا بغزله، فحركت عينيها يمينًا ويسارًا هاربة من عينيه، فضحك عبدالله على وضعها ثم انتبه على القلادة التي تغزو صدرها فعقب قائًلا:
_ هي مالها السلسلة احلوت كدا ليه؟
أخفضت صبا بصرها على القلادة وقامت بتحسسها
متسائلة بعدم فهم:
_ إزاي يعني؟
أوضح عبدالله ما يعنيه من قوله، وهو يغمزها:
_ من وقت ما لبستيها وحلاوتها زادت حتة
أسرعت صبا في إخفاء وجهها بيُمناها وهتفت بتوسلٍ:
_ بطل كلامك دا لو سمحت، مش بعرف أرد عليه وبيوترني..
لم يطيل عبدالله حتى لا يزيد من خجلها، وقال بإيجاز:
_ خلاص بطلت ، بُصيلي بقى
أزاحت صبا يدها عن وجهها فقام عبدالله بتخلل قميصه وأخرج القلادة خاصته وبتمني في نبرته أردف:
_ يارب القلوب تتلاقى قريب
لمعت بؤبؤتي صبا وأعادت تحسس قلادتها مجيبة إياه بثقة:
_ هيجتمعوا قريب، أنا واثقة من كدا
مال عبدالله برأسه رامقها بعذوبة وبصوتٍ رخيم قال:
_ وأنا فيه حاجة مصبراني على اللي بيحصل دا غير ثقتك دي
سحبت صبا نفسًا زفرته بحماسه، ثم اقتربت منه قليلًا وأخبرته بالأحداث الأخيرة:
_ بابا رجع لي الموبايل، وسمح لي أرجع الشغل، والنهاردة قبل ما ننزل قالي عايز أتكلم معاكي بعد ما نرجع من الفرح، أنا متأكدة إنه هيقولي إنه موافق على ارتباطنا..
دقت أسارير السعادة قلب عبدالله الذي انشرح صدره وابتسم ببلاهة وهو يردد:
_ بالله؟
ضحكت صبا بصوتٍ لم يتعدى مستواه كليهما وأكدت حديثها:
_ بالله
دار عبدالله حول نفسه وهو يردد بسعادة عارمة:
_ يا أحلى يوم في حياتي..
توقف فجأة وتفقد تاريخ اليوم في هاتفه ثم أعاده في جيب بنطاله وشكل بيديه مربعًا على الهواء وهو يردد:
_ ٢-٢ يوم مميز في حياة شابٍ، حيث أن العم محمود قام بالموافقة على ارتباطه بإبنته المصون، كان معكم العاشق الولهان عبدالله القاضي
هنا لم تستطع السيطرة على ضحكاتها التي خرجت عفويًا ذات صوت أنثوي رقيق، إلتوت شفتي عبدالله للجانب مشكلًا ابتسامة عذبة، وحلق بين ثنايا شفتيها الباسمة، غرق بهما، فلقد راودته حالة لم يستطع فهمها، فابتسامتها كانت مخرجًا له من ضيق صدره الذي بلغ حده في الأيام الأخيرة، لم يكف قلبه عن الخفقان بصورة عنيفة، فكان يزداد حبًا وهُيامًا لها مع مرور الوقت.
توقفت صبا عن الضحك وتعجبت من حالته الغير مفهومة، قطبت جبينها بغرابةٍ متسائلة باهتمام:
_ أنت سرحت في إيه كدا؟
_ فيكي..
خرجت منه عفويًا، فابتلع ريقه وتابع بهدوء:
_ صبا أنا بحلم إني أمسك ايدك وأدخل بيكي الفرح وأقول للناس كلها إنك ملكي، عارف إنه حلم بعيد بس معتش قادر، حاسس إني مش هقدر استنى لسه موافقة أبوكي وبعدها تحصل كل الرسميات اللي ملهاش لازمة دي، أنا عايزك أتجوزك على طول..
_ بتحبني للدرجة دي؟
تساءلت بعينين لامعتين ونبرةٍ متلهفة لسماع إجابته، فتفاجئت بعبوس تقاسيمه؛ ولام سؤالها الساذج:
_ أنتِ لسه بتسألي يا صبا؟
اختلس عبدالله نظرةً على المكان من حوله وهو يردد:
_ دا المكان دا يشهد على حبي ليكي، دا اتقال فيه
أول كلمة بحبك وأول كلمة وحشتيني، دا اللي كنت بشوف منه عيونك اللي بتوحشني وأسمع صوتك اللي بيروي قلبي، بعد كل دا ولسه مش واثقة في حبي ليكي؟
أسرعت صبا في توضيح سوء الفهم الحادث:
_ معنديش شك واحد في حبك..
بملامح مقتضبة سألها:
_ أومال إيه السؤال دا؟
انعكست نبرة صبا ومالت إلى الرقة المبالغ في قولها:
_ بدلع، عشان أسمعك وأنت بتقول بحبك
تفاجئ عبدالله بلهجتها المُدللة، ورُفِع حاجبيه وهو يردد بدون تصديق:
_ أوبا، بتدلعي مرة واحدة، دا النهاردة هنايا بحق وحقيقي بقى، دا إحنا وصلنا لمستوى تاني خالص
عضت على شفاها وهي تبتسم بحياء وهتفت:
_ الله! مش هتبقى خطيبي؟
فغر عبدالله فاهه مندهشًا، فلم تكن متساهله معه هكذا من قبل، بل اعتاد صارمتها وحدتها حين يتعدى حدود حديثهما، وضع يده في جيب بنطاله وصاح بعجرفة:
_ كدا هتغر ومحدش هيقدر يكلمني بعد كدا..
اكتفت بإبتسامة خجولة، ثم صدح رنين هاتفها فاتسعت حدقتيها وهي تقرأ اسم المتصل، شهقت بذعرٍ مرددة:
_ دي ماما، أنا لازم أمشي، اتاخرت أوي، سلام
أولته ظهرها ومشت بِضع خُطوات ثم توقفت وأدارت رأسها ناظرة إليه بنظرة متفحصة ثم أردفت بإعجاب شديد:
_ بالمناسبة شكلك حلو أوي النهاردة
ثم تابعت هرولتها متجهة إلى حفل الزفاف، بينما وقف عبدالله يضبط من هيئته بثقة مضاعفة اكتسبها من كلمات صبا المتغزلة به، لم يجد لوقوفه داعٍ فتوجه أيضًا إلى الحفل.
لم يشعر أحدهما بمن كان يسترق السمع على بعد مسافةٍ قريبة، خرج من وراء باب إحدى البنايات التي وقف بها هاربًا قبل أن يراه أحدهما.
عاد إلى المكان الذي كانا يقفان فيه وردد من أسنانه المتلاحمة ببغضٍ:
_ أول وآخر مكان ليكم مع بعض على إيدي.. مش هيطلع عليك صبح عادي يا عبدالله، عشان تعرف يعني إيه تمد ايدك على حمادة!
***
بدأ الحفل برقصة رومانسية بين العروسين، كانت ليلى خجولة طيلة الوقت، لا تقدر على مواجهة عينين زكريا ولا الآخرين، فأسندت رأسها على صدره متعمدة غلق عينيها، بينما لف زكريا ذراعيه حول خصرها مستندًا برأسه على رأسها في لحظة حميمية للغاية.
وقف عبدالله ووليد وبعض الشباب الآخرين، أطلق عبدالله صافرات معلقًا بها على حالة صديقه، رمقه زكريا بغيظ متوعدًا له بعد الحفل بينما كان وليد يتذكر زينب من آن لآخر، يتمنى لو كان الزمان غير، وهي زوجته وليست ملك لرجل آخر.
انتهت الرقصة فحملها زكريا ودار حول نفسه بسعادة لا توصف، أنزلها بحذر خشية أن يقعا، ثم بدأ يرقصان مع بعضهما على أغانٍ عديدة، ساعدها زكريا على محي خجلها بمسكه ليديها ووضعهما على حُلته فأمسكت بسترته وبدأت تفتحها تارة ثم تعاود غلقها تارة أخرى.
لم يتوقف زكريا عن الرقص أمامها؛ حتى تبخر خجلها تمامًا وبادلته الرقصات لكن دون مبالغة، انتهوا من رقصاتهم وتفرقا كل منهما إلى أصدقائه، استغل عبدالله تلك الفرصة وقام بحمل زكريا بمساعدة وليد والآخرين وظلا يرفعونه للأعلى ويعاودن التقاطه، أعادوا تكرارها مرارًا ثم أنزلوه.
وقف عبدالله أمامه وقام بخلع سترته، وقام بإلقائها بعيدًا ليسهُل عليه مشاركة صديقه الرقص، كانا يدخلان إلى أحضان بعضهما ويبتعدان ويتراقصون بتناغمٍ على الأغانِ الشعبية، ثم انضم إليهما وليد لكنه كان رزين عنهما فرقصه هادئ يخلوا من حركاتهم المجنونة.
تلك الأثناء، كانت تتابعهما صبا فلم ترفع عيناه من على عبدالله الذي حاز رقصه على إعجابها، فكانت تحاول جاهدة إخفاء ابتسامتها على رقصه المجنون، حمحمت ثم مالت على أذن أبيها وقالت:
_ بعد إذنك يا بابا ممكن أطلع مع ليلى
وجه محمود نظره نحو عبدالله وكاد يرفض لكن زوجته تدخلت وأردفت:
_ سبيها تقف جنبها يا محمود، البت يتيمة حرام
زفر محمود أنفاسه ثم قال بإيجاز:
_ تمام، بس مش عايز رقص
أماءت صبا ثم نهضت وتوجهت نحو ليلى، لمحها عبدالله ورمقها بنظراتٍ متسائلة، لكنها هربت بنظرها بعيدًا عنه قبل أن يلاحظها والدها، وقفت بجوار ليلى التي جذبتها من يدها فور رؤيتها لتشاركها الرقص، شعرت صبا بالحرج ولم تود إحزانها فقررت مشاركتها لكن دون مبالغة في الحركة.
شعر عبدالله بالضيق ولم يستطع إبعاد نظره عنها،
حتى تلاقت أعينهم معًا فحرك رأسه يمينًا ويسارًا رافضًا ما تفعله، فتجمدت مكانها ولم تواصل، انسحبت بهدوءٍ إلى أن تخطت الفتيات ووقفت خلفهن.
كان محمود متابعًا لما يحدث من على بُعد، شعر داخله براحة دون سابق إنذار تجاه عبدالله، صوب نظراته نحوه فلم يراه سوى يشارك صديقه رقصه، لا يرفع عينه في أعين ابنته، تنهد براحة وهو يعيد ترتيب أفكاره في أمر ارتباطهما.
بعد فترة، تفقدت صبا مكان عبدالله فلم تجده، انسحبت من بين الفتيات حين أصاب الصداع رأسها، فلم تتحمل الوقوف بجانب الأصوات الصاخبة لوقتٍ أكثر، اقتربت من والدتها وهمست بصوتٍ مرتفع لكي تسمعها:
_ أنا صدعت جدًا هرجع البيت أخد مسكن، لو بقيت أحسن هاجي تاني..
اكتفت والدتها بإيماءة من رأسها ثم انصرفت صبا سريعًا هاربة من الضجة التي تزيد من صداع رأسها، تفاجئت بجسدٍ أمامها يقطع طريقها، رفعت عينها عليه لتعلم هويته، طالعته بإزدراء عندما اتضح لها من هو، قابلها الآخر بملامح مشدودة ولهجة متوترة لا تبشر بالخير:
_ دكتورة صبا، عبدالله تعب أوي، وراح المكان بتاعكم، أنا قولت أعرفك لو تقدري تساعديه..
شعرت صبا بثمة أمرًا غير مألوف، أطالت النظر به ثم تراجعت عدة خُطوات عائدة إلى الحفل تتفقد عبدالله، فلم تجده في الأرجاء، فانتابها القلق عليه، عادت إلى حمادة وهتفت بقلقٍ:
_ حصله إيه؟
أجابها بلهفةٍ:
_ مش عارف وقع فجأة ومعتش قادر يقف على رجليه، وقالي أساعده يروح المكان اللي متعودين تتقابلوا فيه دا
حديثه كان بمثابة دليلًا قطعيًا لها، فلا أحدٍ يعرف ذلك المكان وما يحدث به سوى عبدالله، حتمًا هو من أخبره، حينذاك آكل الخوف قلبها وهرولت بخُطواتٍ متعرقلة سابقة حمادة.
مرت من الزقاق حتى بلغت المكان خاصتهم فوجدته فارغًا، لا يوجد به عبدالله كما أخبرها ذلك المختل، استدارت بجسدها وسألته بريبة:
_ عبدالله فين؟
ظهرت ابتسامة خبيثة على محيا حمادة قبل أن يردد وهو يحك ذقنه:
_ مفيش عبدالله بس فيه حمادة!!
***
في نهاية الحفل، طلب عبدالله تشغيل أغنية خصيصًا لهم، فقام منظم الحفل بتشغيل ( بحبك يا صاحبي)، بات المسرح خاليًا إلا من ثلاثتهم، بدأوا يتراقصون على أنغامها، ثم وقفوا بجوار بعضهم البعض يستند كلاً منه بذراعه على كتف الآخر حتى باتوا كشخصًا واحد، يرفعون أقدامهم للأمام تارة وتارة أخرى يقفزون للأعلى، وفي الأخير قاموا باحتضان بعضهما وتابعوا رقصهم دون أن يبتعد أحدهم عن الآخر حتى انتهت الأغنية، فتعالت تصفيقات الحضور لحبهم الظاهر.
توجه زكريا ناحية ليلى وقام باحتضان يدها بقوة وغمزها قبل أن يهمس بقرب أذنيها:
_ يلا يا عروسة..
خفق قلب ليلى ورجف جسدها، فشعر زكريا بذلك، رفع حاجبيه وشكل ابتسامة مستنكرة على محياه وأردف:
_ أللاه!! خوفتي كدا ليه؟
احتدت تعابيرها وهي تحثه على التوقف:
_ زكريا!!
قهقه عاليًا لكنه إلتزم الصمت، فانضممن إليهما عليا وخلود، ووقفن بجوار أخيهن، وكذلك سمر شقيقة ليلى جاورتها لتساعدها على رفع الفستان حتى تسير بسهولة.
توقف زكريا عند البناية خاصته، انحنى برأسه ومال على أذن ليلى وقال:
_ ادخلي مع اخواتي وأنا هكلم عبدالله وراجع لك..
أماءت برأسها ثم ولجت ردهة السُلم برفقة الفتيات، بينما عاد زكريا إلى عبدالله وقام بإعطائه ورقة مطوية، حدجها عبدالله دون فهم وتساءل بجدية:
_ إيه دا؟
أجابه زكريا مختصرًا:
_ فلوسك..
قطب عبدالله جبينه وكاد يرفض أخذهم إلا أن زكريا قطع عليه اعتراضه بقوله:
_ مش عايز كلام كتير، أنا جالي نقوط الحمد لله النهاردة كويس، خدهم أنا مش عارف هردهم امتى تاني..
_ بس..
لم يُكملها عبدالله فقاطعه زكريا بجدية:
_ مبسش، خدهم بقى، يمكن تجيلك الموافقة بكرة وتروح تجيب الدهب بيهم
لم يعارضه عبدالله بل أخذهم منه، وشكل بسمةٍ عذبة على محياه زادت من جمال ملامحه السمراء الذكورية، انعكست نبرة زكريا ومالت للجدية:
_ يلا بقى أنا هقضي الليلة معاك ولا إيه؟ سلام..
تركه وغادر بينما قهقه عبدالله وأردف:
_ سلام..
عاد إلى وليد الذي يقف مع العمال لحين انتهائهم من جمع السُرادق، بينما عاد زكريا إلى ليلى وكاد يصعد الأدراج إلا أن خلود قطعت عليه سيره بقولها:
_ المفروض تشيل ليلى لغاية بيتكم، العريس بيعمل كدا
لم تتقبل والدتها اقتراحها السخيف وهتفت معنفة إياها:
_ بس يابت بلاش كلام فارغ، ضهره يوجعه إوعى يا زكريا تعمل الهبل دا
لم يكترث زكريا لتحذيرات والدته ورمق ليلى بطرف عينيه متسائلًا باهتمامٍ:
_ عايزة تتشالي يا لولا؟
نكست ليلى رأسها في خجلٍ ورددت بخفوت:
_ بلاش..
لكزت خلود عليا وأشارت إليها تحثها على تشجيع أخيهن فلم تعترض عليا وضحكت ثم هتفن معًا بصوتٍ عالٍ:
_ شيلها، شيلها
قهقه زكريا عاليًا بينما تضاعف خجل ليلى ولم تقدر على رفع نظريها على الواقفين، فازدادت هناء حنقًا من ابنتيها وصرت أسنانها بضيقٍ تملك من صدرها، ووقفت تتابع ما يحدث بملامح عابسة لا ترضى ما يحدث.
انحنى زكريا بجسده وقام بحمل ليلى وهو يهلل:
_ يا معين يارب
خفق قلب ليلى بقوة ودفنت رأسها في صدر زكريا خافية وجهها حتى لا ترى الآخرين، تابع زكريا صعوده بأنفاس لاهثة حتى بلغ درجات السُلم، كانت الفتيات خلفه حتى دخلا بيتهم ثم انصرفن، فبات المكان خاليًا إلا منهما، أغلق زكريا الباب ووقف يستنشق الهواء، لا يصدق أن جميع الفترات العصيبة قد انتهت الآن.
***
شعر عبدالله بالتعب يصيب جسده، فاليوم كان طويلًا مليئًا بالأحداث، فرك عينيه وتثاءب لكن سرعان ما استدار بجسده حتى لا يراه وليد ويدعوه للذهاب، فلا يريد تركه بمفرده قبل أن ينتهوا العمال من عملهم.
سقطت عينه على شخصًا منحني الظهر يخرج من الزقاق خاصته، تعجب من أمره فذلك المكان لا يدخله ولا يخرج منه سواه وبعض الحيوانات الضالة، فاقترب منه عبدالله بخطىً ثابتة حتى ظهرت ملامحها بوضوحٍ له وهتف:
_ صبا!!
اقترب منها أكثر فرفعت رأسها حين استمعت لصوته، تجمدت قدميه حين رأى علاماتٍ زرقاء تغزو وجهها، أسقط نظره على ثيابها فوجد آثارًا ظاهرة لجسدها من خلف فستانها الممزق.
توقف عقله وربما قلبه حينها، وكأنما بات جسده خاويًا من أي حواس، لحظاتٍ وعاد قلبه يخفق بشدة حين نادته بصوتٍ هزيل منكسر:
_ عبدالله..


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close