اخر الروايات

رواية علي دروب الهوي الفصل الثامن 8 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل الثامن 8 بقلم تسنيم المرشدي


الفصل الثامن
على دورب الهوى
بقملي تسنيم المرشدي
***
قليلًا ما نتلاقى مع أشخاصًا نشعر بإنتمائنا إليهم، وكأننا على معرفةٍ سابقة، لكن الحقيقة هي التشابه الكبير في القلوب والنفوس الطيبة، فالطيور على أشكالها تقع، والقلوب مع أشباهها تميل.
***
توقفت قدماه حين وقع الإسم على مسامعه، نظر إلى القائل وناداه بجدية:
_ أنت يااااا... قولت عايز تقدم بلاغ في مين؟
نظر إليه بريبة وخوف وعاد ناظرًا إلى العسكري الذي يقف أمامه وعلامات الإستفهام تتجلى في عينيه فعرّف العسكري عن هويته:
_ دا آدم بيه وكيل النيابة، رد عليه..
اقترب منه بخُطى متهملة فأعاد آدم سؤاله:
_ أنت قولت عبدالله القاضي؟!
أماء بتأكيد فتابع آدم مستغلًا لتلك الفرصة الثمينة:
_ أنت اسمك ايه؟
_ حمادة، حمادة يا باشا..
هتفها حمادة فأمره آدم وهو يتجه نحو مكتبه:
_ تعالى ورايا..
دلف آدم مكتبه بثباتٍ ثم خلع معطفه وجلس على كرسيه، ظهر حمادة بعد ثوانٍ فقال له:
_ اقفل الباب واقعد..
أغلق حمادة الباب وتوجه ناحية المكتب ثم جلس مقابله، فبدأ آدم يتحرى عن الأمر باهتمامٍ وفضول:
_ ها كنت بتقول برا أنك عايز تقدم بلاغ في عبدالله، ليه؟
وقع بصر حمادة على اللافتة الخشبية الموضوعة على المكتب فصعق حينما قرأ الإسم، تضاعف الخوف داخله وأراد التأكد من حدسه فتساءل وعينيه لم تُرفع عن اللافتة:
_ هو حضرتك تبقى...
_ ميخصكش، أنا هنا أسأل وأنت تجاوب، مفهوم؟!
هتفها آدم بحدة فأجبر حمادة على التمثل لأمره، فرفع يده بقُرب رأسه كأنه يلقي التحية وردد بطاعة:
_ تمام يا باشا
نفذ صبر آدم فهو يود معرفة ما يحدث ربما يستطيع مسك ثغرة عليه، تنهد وصاح:
_ ما تخلص يابني وتقول عايز تبلغ عنه ليه؟
على الرغم من أن حمادة أراد التراجع في تلك اللحظة لأنه بالتأكيد لن يساعده ذلك الضابط ضد عبدالله حتمًا، لكنه لم يملك سوى إخباره بالسبب فقال:
_ اتكاتر عليا هو وصحابه وضربوني..
تفقد آدم معالم وجهه جيدًا ثم تساءل:
_ هو اللي عمل فيك كدا؟
أومأ حمادة مؤكدًا سؤاله، فتراجع آدم للخلف مستندًا على الكرسي، وبعد تفكيرٍ أردف:
_ وهو يعمل كدا ليه؟
_ بلطجة يا باشا.. هو وصحابه عاملين عصابة، وكل دا عشان اتجوزت أخته غصب عنه، من وقتها
وهو كل شوية يعمل فيا حاجة، قولت مبدهاش بقى وأجي للحكومة تحميني..
ألقى نظرة على اللافتة وأضاف بخبثٍ:
_ بس واضح إن الحكومة تبعه وحقنا هيضيع..
لم يتقبل آدم الإهانة وصاح بعصبية:
_ ما تظبط كلامك يالا..
خاف حمادة الذي اعتذر على الفور:
_ آسف يا باشا، بس يعني عايز تعرفني أنك هتساعديني ضد عبدالله؟
لم يجيبه آدم بل أطال نظراته عليه ثم نهض فجأة ودار حول مكتبه حتى جلس مقابل حمادة وأردف بعملية:
_ بنحمي كل الشعب يا حمادة، وأنا هجيب لك حقك منه..
بعقلٍ لا يصدق هتف حمادة:
_ بجد يا باشا، بجد هتساعديني؟
اكتفى آدم بإيماءة من رأسه ثم ضغط زر الجرس فدخل العسكري على الفور، نظر آدم إلى حمادة وأمره:
_ هات بطاقتك يا حمادة
تكركب داخل حمادة ولم يطمئن قلبه؛ فانعكس الخوف على تقاسيمه، استشفه آدم وحاول طمأنته:
_ متقلقش دي لزوم الإجراءات
أخرجها حمادة من جيبه فأخذها منه آدم وتوجه إلى العسكري وقام بالتحدث إليه بخفوت:
_ هاتيلي كل حاجة عنه من يوم ما اتولد..
أدار رأسه ونظر إلى حمادة المُتابع لحديثه الخافت وسأله:
_ تشرب إيه؟
_ شاي يا باشا
قالها حمادة فعاد آدم بنظره إلى العسكري وأمره:
_ واحد شاي والقهوة بتاعتي..
ضرب على ذراعه بخفة وأضاف بحسمٍ:
_ يلا بسرعة
_ رفع العسكري ذراعه باتجاه رأسه في وضع الطاعة وردد عاليًا:
_ تمام يا فندم
خرج العسكري وعاد آدم إلى كرسيه، ثم قال:
_ احكيلي بقى من البداية خالص عشان أقدر أساعدك..
بدأ يقص عليه حمادة بعض المواقف التي تدين عبدالله، كما كان يختلق بعض الأكاذيب ليُسيء من سمعته، والآخر ينظر إليه وآذانه صاغية باهتمام شديد.
***
انتهت من ارتداء ملابسها، أمسكت هاتفها أرادت الإتصال به قبل نزولها، فلم تتمكن من الوصول إليه الليلة الماضية، جلست على طرف الفراش داعية داخلها بأن يجيب.
بعد لحظاتٍ أتاها صوته الناعس:
_ ممم إيه؟
تنهدت وحاولت التحلي بالصبر قدر استطاعتها، أخذت نفسًا وبهدوءٍ حادثته:
_ أنت فين يا زكريا، برن عليك من امبارح مش بترد عليا!!
_ كنت في حوارات كدا هبقى احكيلك عليها لما اصحى
هتفها متمنيًا أن تنهي المكالمة ويعود إلى النوم لكنه قد محى أي ذرة صبر لديها بجفائه الذي يتعامل به معها، فارتفع صوتها بانفعال:
_ هو أنا مش من حقي أعرف أنت فين وبتعمل إيه؟ بدل ما أنت سايبني لعقلي يوديني ويجيبني، أنا خايفة وباللي بتعمله دا بتخوفني أكتر
تأفف زكريا وبعصبية بالغة عنفها:
_ أوووف على الصبح، مفيش مكالمة من غير نكد، دي بقت حاجة تقرف
أنهى الإتصال فتفاجئت هي من فعلته ولم تصدق أنه أغلق فصاحت منادية عليه:
_ زكريا.. يا زكريا
نفخت بتزمجر وألقت الهاتف على الفراش بعصبية، انتبهت على طرق الباب فحاولت إرخاء ملامحها ثم سمحت للطارق بالدخول:
_ تعالى يا بابا
ولج والدها بإبتسامة هادئة واقترب منها فتساءل باهتمام:
_ سمعت صوتك عالي قولت أجي اطمن عليكي، أنتِ كويسة
أخرجت ليلى تنهيدة مهمومة وأردفت مستاءة:
_ مش عارفة إذا كنت كويسة ولا لأ، بس حاسة إني لوحدي وكل حاجة جاية عليا، أكتر فترة محتاجة فيها ماما الله يرحمها
ابتسمت بألمٍ وهي تقابل عينيه وأضافت:
_ بس متقلقش هبقى كويسة
جلس مقابلها وربت علي يدها وقال:
_ هي الفترة اللي قبل الفرح كدا، بتكون شدة أعصاب وخناق بس كل دا بيعدي بمجرد ما بتقفلوا عليكم باب بيتكم، بس نصيحة يابنتي بلاش تضغطي على زكريا الفترة دي لأنه عليه التزامات بتخليه مخنوق وعصبي، فلو مش هتقدري تمتصي عصبيته بلاش تتعاملي معاه أحسن عشان متزعليش منه..
نجح والدها في إخماد جزء من غضبها، وتفهمت الأمور بشكلٍ أوضح، تقوس ثغرها ببسمةٍ رقيقة وأخذت يده طبعت قُبلة عليها ورددت بحنانٍ:
_ ربنا يخليك ليا يا بابا..
دنا منها وقبّل جبينها بلطفٍ ثم قال:
_ أنا هكلم أختك تيجي تقعد معاكي الفترة دي، ياريت كان بإيدي أقعد معاكي فترة أطول بس على يدك بروح الشغل باجي أنام زي القتيل..
أسرعت ليلى في محي أي شعور بالتقصير تجاهها:
_ أنا عارفة يا بابا ربنا يعينك يا حبيبي، بس بلاش تكلم سمر سيبها هي لسه ماشية مبقالهاش أسبوع، وحرام بتيجي من سفر بولادها، أنا كويسة صدقني..
أخذت نفسًا وزفرته على مهلٍ واضافت وهي تلقُف حقيبتها:
_ أنا هنزل الشغل عشان متأخرش.. سلام
ترجلت درجات السُلم وحديث والدها يتردد في ذهنها، وشعرت بتأنيب ضميرها فقررت الذهاب إلى زكريا ومصالحته، والتخفيف من عبئه.
قرعت جرس الباب بترددٍ فالوقت مازال باكرًا، ظهرت ابتسامة على شفتيها حين استقبلتها عليا:
_ ليلى، دا إيه الصبح السكر دا اتفضلي..
شعرت ليلى بالراحة لترحيبها الحافل وقالت:
_ حبيبتي يا عليا، زكريا صاحي؟
نفت عليا بحركة من رأسها وهي تقول:
_ لا نايم.. اصحيهولك؟
تملك الحرج من ليلى، فلم تكن شجاعة لتخبرها بأن توقظه، فاكتفت بقول:
_ لا لا خلاص سبيه نايم، حاجة مش مهمة..
وداخلها يتمنى بأن تصر وتوقظه، لكن ما حدث ليس كما تمنت، فلم تبرح عليا مكانها، جاءت هناء وتفاجئت بوجود ليلى، فشكلت بسمة لم تتعدى شفاها ورحبت بها بفتورٍ:
_ ليلى، ازيك
بحرج أجابتها:
_ الحمد لله اخبار حضرتك إيه؟
_ كويسة..
قالتها بإيجاز، فشعرتا الفتاتان بريبة في أسلوبها الجاف، لكنهن لم يبدين أي تعقيب، حمحمت ليلى واستاذنت لتغادر:
_ عن اذنكم، عشان متأخرش على شغلي..
_ أنتِ جاية في إيه وماشية في إيه؟
تساءلت هناء مستفسرة عن سبب مجيئها، فردت عنها عليا وقالت:
_ كانت عايزة زكريا..
_ ممم
رددتها ببرود، فلم تحب ليلى أن تطيل في وقوفها وتوجهت ناحية الباب، أوصلتها عليا فرددت هناء على مضضٍ:
_ بنات إيه دي اللي تيجي بيت خطيبها، ياما لسه هنشوف
وقعت كلماتها على آذان ليلى وعليا، اللتان حلت عليهن الصدمة، وخصيصًا عليا فكانت في موقف لا تُحسد عليه، في النهاية هي والدتها وعليها أن ايجاد حل لتصليح ما قالته، حمحمت وحاولت الإتيان بكلماتٍ تقولها:
_ معلش يا ليلى أنتِ عارفة عقلية الناس الكبيرة مش زينا وكدا..
حاولت ليلى الإبتسام لتمحي الحرج منها لكنها فشلت، فاختصرت حديثها:
_ مفيش حاجة..
أولتها ظهرها وفرت هاربة والكلمات لا تود الخروج من عقلها، فتسببت في ضيق صدرها وندمت على المجيء إلى هنا، توجهت إلى مكان عملها وهي تنعت حظها السيء.
بينما عادت عليا إلى المنزل وعاتبت والدتها بعدم تصديق لتصرفها المُهين:
_ إيه يا ماما اللي قولتيه دا؟ دي سمعت اللي قولتيه؟!! إزاي تحرجيها كدا
قلبت هناء عينيها بضجرٍ وبنبرة ظهرت فيها جبروتها هتفت:
_ أنا مقولتش حاجة غلط، مش كل شوية تنط لنا كدا عيب
تفاجئت بل صعقت عليا بردها، وكأنها فعلت الصواب، وعارضتها بقوة:
_ عيب إيه يا ماما إحنا بنتكلم عن ليلى، مش واحدة غريبة، ليلى اللي بقالها سنين معانا وبقت واحدة مننا ودا بيتها زي ماهو بيتنا، ليلى اللي أكلت معانا على طرابيزة واحدة وفرحت لفرحنا وزعلت لزعلنا، بجد مش مصدقاكي..
دنت منها وعقبت بنبرة منفعلة:
_ أنا ممكن أكون مكانها على فكرة واضطر أروح لبيت حازم هتكوني راضية لو مامته عاملتني كدا؟
لم تقبل والدتها البتة ما قالته، وصاحت بصوت عالٍ:
_ وأنتِ عمرك ما هتروحي هناك لوحدك يا عليا!!
_ بقول ممكن أضطر وأروح لوحدي، ها إيه رد فعلك لو عملت اللي أنتِ عملتيه؟!
هتفت بها بنرفزة، فأجابت والدتها ببغضٍ وهي تطرق بالملعقة التي بيدها على الطاولة الرخامية:
_ كنت أكلتها بسناني..
إلتوت شفتي عليا بتهكم وقالت بنبرة أكثر هدوءًا:
_ وهي ملهاش أم تدافع لها، فلو سمحتي بلاش تعامليها كدا، يا ماما ليلى ملهاش غير زكريا، هو مش بس بالنسبة ليها مجرد خطيب زي ما أنتِ شايفة، زكريا كل حاجة بالنسبة لها، هو بديل لمامتها المتوفية، ولأختها المتجوزة في محافظة تانية وبعيدة عنها، ولباباها اللي طول اليوم في شغله ويجي ينام، ياريت تغيري نظرتك عن علاقتهم ببعض
أغمضت هناء عينيها غير متقبلة حديثها، لم ترضى الإستسلام لها وفرض رأيها، حتمًا لن تسمح لها بإظهار خطأها، تنهدت وقالت متمسكة بمعتقداتها:
_ ولو برده ميصحش تيجي لبيت خطيبها..
علمت عليا أنها لن تصل إلى نقطة ترضيها فقررت الإنسحاب، تركتها وتوجهت نحو الغرفة فقابتلها خلود ورأت علامات الغضب التي تعتلي تقاسيمها فتساءلت بقلقٍ:
_ قالبة وشك ليه على الصبح؟
_ سبيني في حالي يا خلود دلوقتي
قالتها وجلست على الفراش محاولة إخماد غضبها، بينما رددت خلود وهي ترفع كتفيها:
_ أنتِ حرة متقوليش..
لم تستطع عليا المكوث مكانها، ونهضت متوجهة إلى غرفة أخيها، طرقت الباب مرات عديدة إلى أن أتاها صوته الناعس سامِحًا لها بالدخول:
_ تعالي..
دلفت الغرفة وعلامات الضجر مُشكلة على وجهها، وقفت أمامه فأجبرته على الإعتدال، تفقد ملامحها وعلم إن ثمة أمرًا هناك، فتساءل بقلقٍ:
_ مالك في إيه؟
ردت دون مماطلة:
_ ليلى جتلك هنا، وبصراحة ماما ضايقتها بالكلام وأنا من وقتها مضايقة، ممكن تكلمها تراضيها..
فرك زكريا عينيه ثم أماء بقبول فابتسم ثغرها وأضافت قبل خروجها:
_ ربنا يراضي قلبك يارب
بادلها زكريا الإبتسامة فخرجت على الفور، بعد أن لقد سكنت الراحة قلبها، الأن، ثم انتبهت على رنين هاتفها فازدادت بهجة وأجابت برقة:
_ حازم، صباح الخير..
في غرفة زكريا، مال برأسه يمينًا ويسارًا، حتى لانت عضلات عنقه المتشنجة، التقط الهاتف وكاد يهاتف ليلى لكنه تراجع، فلقد تذكر ما قالاه في المكالمة الأخيرة، وفضّل أن يذهب إليها بدلًا من مهاتفتها.
***
استيقظت إثر حركة سمعتها في الغرفة، كانت رؤيتها مشوشة لثوانٍ حتى وضحت تدريجيًا، ورأته يقف يشاهد الخارج من خلال النافذة، تثاءبت بكسلٍ ورددت سؤالها:
ـ أنت جيت امتى يا عبدالله، محستش بيك
التفت إليها واختصر إجابته:
_ اه ما أنا معملتش صوت عشان متصحوش..
استشعرت والدته ضيقه من نبرته، اقتربت منه بعد أن ارتدت حذائها وسألته بقلقٍ:
_ مالك يا حبيبي؟
استنشق عبدالله بعض الهواء ربما يشعر بالتحسن القليل، أغمض عينيه وقال:
_ الموضوع باظ على الآخر..
رمقته والدته بطرف عينيها فلم تعي قصده فأوضح عبدالله ما وراء كلماته:
_ أبو صبا عرف اللي بينا.. وقالي أبعد عنها
نطق آخر كلماته بصوتٍ مختنق يملأه البكاء، صمت ليستجمع شتات نفسه، بينما لمعت عيني والدته تأثرًا بحالته، ربتت على ذراعه وحاولت التخفيف من حزنه:
_ ربك هيدبرها بس أنت قول يارب
_ يارب، يارب ياما
قالها متمنيًا أن يجمع الله بينهما في حلاله، ثم انتبها كلاهما على صحوة زينب، فنظرا إليها، وتوجها نحوها، وأسبقت والدتها بالسؤال عنها:
_ عاملة إيه دلوقتي يا زينب..
أجابت بتعبٍ:
_ الحمدلله
ثم وجهت نظرها على أخيها متسائلة بقلق من حدوث ما خشيته:
_ قابلت حمادة؟
تنهد عبدالله ولم يجيبها فتأكدت من حدسها وأردفت قائلة:
_ عملت له حاجة؟
حرك عبدالله رأسه في الإتجاه المعاكس هاربًا من عينيها المُثبتة عليه، فلم يكن هناك داعٍ لإجابته فصمته خير دليل على فعلته، انتفضت من مكانها فجأة فأسرعت نحوها أحلام معاتبة تصرفها الأرعن:
_ براحة على نفسك يا زينب، الدكتور قال بلاش حركة زيادة
لم تكترث لها وتابعت نهوضها ووقفت تعدل من ملابسها الغير مهندمة، حرك عبدالله رأسه مستنكرًا ما تفعله تلك الخرقاء وتساءل بضيقٍ:
_ أنتِ بتعملي إيه؟
رفعت عينيها عليه وهي تجيبه بحدةٍ ولوم:
_ راحة أشوف عملت إيه في جوزي..
خرج عبدالله عن هدوئه، يكفي ذلك الحد، لقد نفذ صبره على سذاجتها المفرطة وصاح عاليًا بانفعال:
_ جوزك اللي عايزة تطمني عليه دا آذاني، آذاني لما مد إيده عليكي ووصلك لحالتك دي، وآذاني لما راح قال لأبو صبا عن علاقتنا ويا عالم إيه اللي هيحصل بعد كدا، وأنتِ مصممة تكوني جنبه برده! عاندتي في الأول وروحتي اتجوزتيه وأنا مش موافق وأخرتها مد ايده عليكي ، وبتعاندي دلوقتي وهتروحي له ووقتها هيعرف أنك ملكيش ضهر باختيارك ليه كل مرة، والمرة دي ضربك المرة الجاية هيقتلك، ما أنتِ ملكيش راجل يقف لك ويمنعك عنه!!
أنهى آخر كلماته وأخذ يلتقط أنفاسه التي هربت من رئتيه، أولاها ظهرها ولم يضيف المزيد، تاركًا إياها تتخذ قرارها وبناءًا عليه سيُقيم العلاقة بينهما، إما أن تختاره ويحميها من ذلك المختل، وإما تختار زوجها وتخسر أخيها للأبد.
لم تستطع أحلام رؤية اولادها يخسرون بعضهما البعض من أجل ذلك البغيض الذي يحسبونه رجلًا بين الرجال، تنهدت وحاولت جذب استعطاف ابنتها بقولها:
_ اسمعي كلام اخوكي يا زينب، أخوكي بيحبك وخائف عليكي، ومش هتلاقي حد يخاف على مصلحتك قده، اسمعي الكلام ومترجعيش للبني آدم دا تاني..
أغمضت زينب عينيها ثم وضعت يدها تتحسس بطنها، سقطت دمعة من مقلتيها حزنًا على مستقبل جنينها الغامض، ربتت أحلام على ذراعها بحنانٍ فأردفت زينب بنبرة متألمة:
_ معتش ينفع، لازم ابني يتربى مع أبوه...
أعادت فتح عينيها وتوجهت إلى أخيها، وقفت مقابله وأضافت بحزنٍ يغزو كلماتها:
_ أنت أكتر واحد عارف يعني إيه تعيش من غير أب، عارف الحياة بتكون صعبة وقاسية إزاي؟ يمكن أنا محستش إني محتاجة أبويا عشان كنت أنت موجود لكن أنت....
قاطعها عبدالله باحتضانه لوجهها براحتي يده وقال بعينين لامعتين:
_ ابنك دا هيبقى ابني، أنا متكفل بيه بس بلاش ترمي نفسك للبني آدم دا، أنا أكتر واحد عارفه وعارف قد إيه مش كويس..
أزاحت زينب يديه بهدوءٍ، وقالت بنبرةٍ متحشرجة تهدد بالبكاء:
_ ابني له أب ملزوم منه، أنت ملكش ذنب تشيل شيلة مش شيلتك، كفاية عليك شيلتك أوي..
أولته ظهرها وتوجهت نحو الباب بخُطوات عرجاء، بينما اشتعل فتيل الغضب داخل دماء عبدالله فلم يسيطر على لسانه الذي قال:
_ لو رجعتيله انسي إن ليكي أخ اسمه عبدالله
تجمدت قدمي زينب مكانهما وانقبض صدرها، أخذت شهيقًا عميق وألقت نظرة أخيرة على أخيها ثم أسرعت إلى الخارج دون أن تلتفت، انهمرت في بكائها ولم تتوقف، حتى تشوشت رؤيتها وبالكاد ترى أمامها.
تعرقلت قدميها وكانت ستقع إلا أن يده منعت حدوث ذلك، رفعت زينب عينها تتفقد هويته فتفاجئت بوليد أمامها، ابتلعت ريقها وسرعان ما سحبت يدها من بين قبضته ورددت باستغراب:
_ وليد!! أنت بتعمل إيه هنا؟
كان الآخر يشعر بالإرتباك، أخذ نفسًا ليجاريها وقال:
_ كنت جاي أشوف عبدالله..
هزت رأسها متفهمة ولم تطيل الوقوف أمامه ومرت بجواره متابعة سيرها حتى خرجت من المستشفى، تبِعها وليد دون أن تشعر به، وجدها تبحث عن شيءٍ في جيبها ثم نفخت بضجرٍ بائن فأعتقد أنها تبحث عن نقود.
دون تفكيرٍ توجه بقُربٍ منها وأشار إلى إحدى السيارات التي وقفت أمامه، تعمد النظر إليها فوجدها ترمقه بنظراتٍ تطمح في اصطحابها معه، وبابتسامة هادئة حادثها وليد:
_ لو راجعة البيت تعالي ممكن متلاقيش تاكسي تاني هنا..
لم تتردد زينب وقبلت عرضه، اقتربت منها فقام وليد بفتح الباب الخلفي لها، شكرته ثم جلست مستندة برأسها على النافذة مُطلقة بعض العبرات التي رآها وليد من خلال المرآة الخارجية، انفطر قلبه حزنًا على حالتها المذرية لكن ما باليد حيلة، فهي الآن منطقة محظورة لا يمكنه الإقتراب منها.
***
وقف خارج المكان، ثم أطلق صافرة من فمه سمعتها من الداخل، فخفق قلبها وشعرت بالتوتر يعصف بها، ابتلعت ريقها وهمت بالخروج سريعًا دون أن يلاحظها أحد.
_ بتعمل إيه هنا؟
تساءلت بحدةٍ حين تذكرت معاملته الجافة معها، تنهد قبل أن يردف ممازحًا:
_ دا أنا مزعل الملبن جامد أوي بقى
عقدت ما بين حاجبيها ورددت كلماته باستغراب:
_ ملبن!!
غمزها بخبثٍ متذكرًا انحناءات جسدها الصارخة:
_ أوووف وأي ملبن
برقت عينيها بصدمةٍ، كست الحُمرة وجهها وعنفته مستاءة:
_ زكريا!!
ضحك ثم أخفاها سريعًا لكي لا يزيد من غضبها، بينما هتفت هي بنبرة جافة مهاجمة:
_ أنت جاي ليه؟
استنشق الآخر بعض الهواء وأجابها وهو يستند بظهره على الحائط:
_ هنعمل إيه في حوار القاعة دا؟ مش عندي أي فكرة بصراحة
تنهدت ليلى بيأسٍ ووقفت إلى جواره تُطالع حركة السير، وبعد لحظاتٍ راودتها فكرةٍ فأخبرته عنها بحماس:
_ نعمله في الشارع، دلوقتي أي منظم أفراح بيحول أي مكان لقاعة وأحسن كمان وهتبقى بنفس التكلفة، إيه رأيك؟
رمقها زكريا لبرهة قبل أن يُبدي إعجابه بفكرتها:
_ حلوة، وأنا اشتريت
انفرج ثغر ليلى بإبتسامة سعيدة مليئة بالحماس، وكذلك زكريا لم يكن أقل منها سعادة، لكن سرعان ما ضاق صدره حينما تذكر أمرٍ آخر وقال بعبوس:
_ الفرح وحليناه، الأجهزة هنعمل فيها إيه؟ وكل ما اتاخرنا بيزيدوا أكتر..
تأفف بصوتٍ مسموع فما كان من ليلى إلا أن ربتت على ذراعه تأزره:
_ إن شاء الله هتدبر، متشلش هم أنت بس
تنفست القليل من الهواء وبترددٍ سألته:
_ بتحبني يا زكريا؟
رمقها زكريا بطرف عينيه متعجبًا من سؤالها، أعدل وقفته وطال النظر إليها ثم قال:
_ يابت أعملك إيه عشان أثبت لك إني بحبك أكتر من إني هلبس نفسي في مصيبة طول عمري واتجوزك
فغرت ليلى فاها بدهشة لذلك الرد الوقح، ورددت دون تصديق لما سمعته:
_ مصيبة!! جوازك مني مصيبة يا زكريا؟
دنا منها زكريا مرددًا بصوت خافت:
_ أنا اتاكدت إن ربنا بيحبني، مش بيقولك المؤمن مُبتلي..
تراجع للخلف بِضع خُطوات وأضاف وهو يوليها ظهره:
_ اقفلي بوقك أصل حاجة تدخل فيه
غادرها فانتبهت ليلى على حالها، أغلقت فمها سريعًا وتفقدت المكان من حولها ثم رددت بغيظ وهي تتابع حركة زكريا:
_ ماشي يا زكريا..
***
كان يشعر بالملل يجتاحه من أحاديث ذلك الثرثار التي لا تنتهي، أفرغ كوب قهوته الثالثة ثم هب واقفًا حين طُرِق باب مكتبه، فر هاربًا منه، أخذ نفسًا وبجدية سأل العسكري:
_ ها عملت إيه عرفت حاجة عنه؟
أماء العسكري وبدأ يخبره ببعض ما وصل إليه ثم أنهى حديثه قائلًا:
_ تمام كدا يا آدم بيه؟
_ تمام أوي
هتف بها آدم وعاد إلى مكتبه بذهنٍ صافِ، وأردف بجدية:
_ بص يا حمادة، دلوقتي هنتفق على كام حاجة كدا لو ساعدتني فيها أوعدك إني هجيب لك عبدالله هنا راكع تحت رجليك، تمام؟
انشرح قلب حمادة وانعسكت سعادته على شفتيه التي غمرتها الإبتسامة وهو يتخيل مشهد عبدالله وهو يركع أمامه يتوسله أن يعفو عنه، عاد بنظره إلى آدم وقال:
_ تمام يا آدم باشا أنا من ايدك دي لايدك دي..
رفع آدم حاجبه الأيسر وحادثه بنبرةٍ متوعدة متصنعًا انشغاله في ورقةٍ على المكتب:
_ طبعًا مش محتاج أقولك أن كل بلاويك في تقرير قدامي، يعني أي لوع أو غدر محدش هيلبس الكلبش غيرك، مفهوم
انتاب حمادة بعض القلق لكنه قاومه حتى لا يُظهِره أمامه ويستضعفه، تنهد وقال باختصار:
_ مفهوم يا باشا
أومأ آدم برأسه مرارًا قبل أن يتساءل:
_ بما إنك كنت صاحبه في يوم من الأيام وجوز أخته يعني أكيد تعرف له أي نقطة ضعف نقدر ندخله منها، نكسره بيها..
أطال حمادة النظر في الفراغ أمامه قبل أن يردد:
_ صبا... الدكتور صبا، حبيبة القلب
تبادلا كليهما النظرات الخبيثة وقد بدأ يُخططان لأفعالٍ دنيئة سوف يرضون بها شيطان غرورهم.
***
وصل التاكسي إلى المنطقة؛ لم تنتبه زينب فعقلها يحلق في سماء أفكارٍ لا تنتهي، تعيش اضطرابًا يوشك أن يُنهيها بسبب تناقضات أفكارها ومشاعرها، لاحظ وليد شرود ذهنها فتولى مهمة إدراكها بالوصول.
حمحم والتفت برأسه قليلًا مردفًا بصوتٍ خافت:
_ زينب.. إحنا وصلنا
نظرت إليه بتِيه، ثم تفقدت المكان من الخارج وترجلت بهدوء، كذلك فعل وليد وقبل أن تغادر من أمامه قال:
_ زينب..
رمقته بغرابة فأضاف ما أراد قوله بنبرة مُلحة:
_ بلاش ترجعي..
اتسعت حدقتي زينب مذهولة من تدخله في شؤنها الخاصة، ولم تتردد في إيفاقه عِند حدِه:
_ أظن أموري الخاصة متخصش حد غيري.. شكرًا على التوصيلة
تركته وغادرت وقد لاحظت تلك الأعين التي تراقبها بجرأة، انتبهت على لمزات النساء وهمزاتهن وهن يتبعن حركة سيرها.
أثاروا الريبة داخلها، وبثوا القلق فيها، فكانت تشعر بشعورٍ سيء، وكأنها دون ملابس من وراء تلك النظرات المخيفة، صعدت درجات بيتها حتى وصلت إليه، قرعت جرس الباب مرارًا وعندما تأكدت من عدم وجود حمادة بحثت عن مفتاح البيت الذي تدسه خلف خزانة الأحذية ثم قامت بالدخول.
خفق قلبها فجأة عندما رأت الدماء على أرضية البيت، آلمها جسدها وكأنها ضُربت للتو، توجهت نحو المطبخ وأتت بأدوات التنظيف ثم جست على الأرض وبدأت تنظف الأرضية بدموعٍ تنهمر منها بغزارة ألمًا وتحَسُرًا على ما مرت به.
***
عادوا إلى منطقتهم؛ لَمِح عبدالله محمود يدخل مكان عمله فلم يتردد وتوجه ناحيته دون تفكير، أخذ نفسًا عميقًا ثم ولج المكان عازمًا بألا يخرج منه إلا عندما يأخذ موافقته على ارتباطه.
تجهمت تعابير محمود وبادر بالهجوم فور رؤيته:
_ إيه اللي جابك هنا؟ أخرج برا
لم يبرح عبدالله مكانه، بل اقترب منه أكثر وبإصرارْ تحدث:
_ اسمعني يا عم محمود الله يكرمك..
رفض محمود السماع له واعترض بحنقٍ:
_ مش عايز أسمع حاجة، وأخرج عشان كل ما بشوفك بفتكر إني كنت مغفل بسببك ودا مش في مصلحتك ولا في مصلحة حد..
لم يهتم عبدالله لأمره بل كان مُصرًا على قول ماجاء لأجله ربما يكسب ثقته من جديد:
_ لازم تسمعني، عشان الموضوع مخلصش على كدا، أنا غلطت وعارف ومعترف كمان، بس أنا بصلح غلطي اهو، اديني فرصة، فرصة واحدة أثبت لك فيها إني استاهل بنتك وإني كويس، ياعم محمود أنا مقدرش أبعد عن بنتك، متكسرش قلبي وقلبها، أنا شاريها وعايزها في الحلال، عشان اللي قبل كدا دا مكنش راضيني ولا مريحني، متصعبش الحلال علينا يا عم محمود..
كان يرى هُيامه لابنته من عينيه اللامعتين، ونبرته المتهلفة للوصول إليها، أخرج محمود تنهيدة بطيئة وأراد إخباره بما يشغل باله فقال بجدية:
_ مش بس كلامكم من ورايا سبب رفضي، أسباب كتير منها فرق المستوى التعليمي بينكم..
لم يدعه عبدالله يُكمل فلقد قاطع حديثه برده على كلماته:
_ تعليمي دا يفرق معاك أو معاها لو أنا نيمت بنتك في يوم من غير عشا، لكن غير كدا ميفرقليش.. تعليمي مش هيأكلنا عيش
أغمض محمود عينيه بنفاذ صبر لإجاباته التي لا تنتهي، أعاد فتح عينيه وأردف باسيتاء واضح:
_ متقاطعنيش يا عبدالله، فرضًا تغاضيت عن التعليم، اتغاضى إزاي إني معرفش لك أهل؟ لا أب ولا حتى خال ولا عم، أنا معرفش عنك حاجة، ودي حاجة تقلقتي أنك غامض بلا هوية..
صُعق عبدالله من كلمات محمود المسيئة له، لم يعرف للرد طريق، بل إلتزم الصمت وطالعه لبرهة قبل أن ينسحب من أمامه، لكنه تفاجئ بحضور والدته التي أمرت عبدالله قائلة:
_ سيبني مع عمك محمود شوية يا عبدالله
رفض عبدالله الذهاب لمكانٍ، وضع يده على ذراعها يحثها على المضي خارج المكان:
_ لا ياما، امشي نرجع البيت
أزاحت أحلام يده عنها آمرة إياه بحسمٍ:
_ قولتلك سيبني يا عبدالله، اسمع الكلام..
أطال عبدالله النظر فأوحت إليه أحلام بإشاراتٍ من عينيها أن يتركها معه على انفراد، بينما وزع عبدالله نظريه بينهما ثم غادر المكان، بادر حينها محمود بالحديث مبديًا استيائه منهما:
_ متحاوليش معايا يا أم عبدالله، انا مِحترم وجودك عشان خاطر إبراهيم صاحبي الله يرحمه، غير كدا كان ليا كلام تاني معاكي بعد اللي ابنك عمله..
شهيقًا وزفيرًا فعلت أحلام ثم سحبت كرسي وجلست أعلاه، وقالت وهي ترفع عينيها فيه:
_ اقعد يا أبو جلال، عندي كلام لازم تعرفه..
بعد نظراتٍ تبادلاها جلس محمود أمامها وبدأت أحلام تقص ما لديها من حديثٍ حتمًا سيغير رأيه بعد سماعه، وبعد فترة؛ أنهت أحلام حديثها قائلة:
_ دلوقتي عرفت كل حاجة، وعرفت أن عبدالله ميعيبوش لا أخلاقه ولا جيبه، طريقته كانت غلط من الأول وهو أهو بيحاول يصلحها، عبدالله بيحب بنتك يا أبو جلال، متوجعش قلب ابني وتبعدهم عن بعض، كفاية عليه يا حبيبي وجع قلب لغاية كدا...
لم يعلق محمود، فكان متفاجئًا لما عَلِمه للتو، أعطته أحلام الحق وتفهمت وضعه فنهضت عن الكرسي وأردفت:
_ خد وقتك واهضم الكلام اللي عرفته، بس متطولش يا أبو جلال.
تركته شاردًا فيما أخبرته إياه، وعادت إلى البيت،
استمعت إلى صوتٍ يتسلل من داخل غرفة عبدالله، فلم تتردد في الإنضمام إليه، حتمًا هو في حالة يرثى لها، عقدت حاجبيها حين رأته يفتح صندوق الأموال الذي خصصه لزواجه من صبا، أسرعت خُطاها نحوه وقالت:
_ أنت يئست بدري كدا؟
أدار رأسه إليها مردفًا كلماته بثقة:
_ لا طبعًا، بس أنا هدي الفلوس دي لزكريا تساعده يجيب الأجهزة..
قطبت جبينها بغرابة وتساءلت بفضول:
_ وأنت هتعمل إيه لو أبو صبا وافق؟ هتصغرنا قدام الناس؟
انتصب عبدالله في وقفته؛ وأجابها بنبرةٍ هادئة:
_ أنا بعمل كدا عشان يوافق، بعمل بالحديث اللي علمتيني بيه، ومَن يسَّر على مُعسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة.
تقوس ثغر أحلام ببسمةٍ وربتت على ذراعه بفخرٍ:
_ ربنا يراضيك ياحبيبتي
_ آمين يارب
هتفها ثم غادر المنزل وهاتف صديقه:
_ قابلني تحت البيت يا زكريا، عايزك
أنهى المكالمة ووقف ينتظر وصول زكريا وعينيه مُصوبتان على منزل صبا ربما يمتع نظره برؤياها صدفة، بعد قليل؛ وصل زكريا وصوب بصره على ما ينظر إليه عبدالله، تنهد وجذب انتباهه بقوله:
_ ربنا هيفرجها يا صاحبي..
_ إن شاء الله
قالها وهو يلقي نظرة أخيرة على المنزل، أعاد النظر إلى صديقه وأخذ كفه وقام بوضع مطوية النقود بها فتساءل زكريا مستفسرًا:
_ إيه دا؟
أوضح له عبدالله حقيقة المطوية:
_ فلوس كنت سايبها على جنب لو حصل نصيب، أنت أولى بيهم دلوقتي، حطهم على اللي معاك وهات الأجهزة
اندهش زكريا من الأمر وأبدى رفضه التام:
_ لا طبعًا مش هاخد حاجة، دا شقاك أنت وبعدين تعمل إيه لو عم محمود وافق..
_ متفكرش في حاجة يا زكريا، خد الفلوس وخلص نفسك الأول..
ابتسم وتابع مازحًا:
_ وبعدين أنت ناوي تاكلهم عليا ولا إيه؟
بادله زكريا الضحك وقال وهو يطالع الأموال بإمتنان كبير:
_ لا يا سيدي دا أنا أزودهملك.. مش عارف أقولك إيه يا صاحبي، ربنا يراضيك
ابتهج عبدالله وشعر حينها بشعورٍ مريح، وكأن جوفه خالٍ من أي هموم، مساعدة الغير وتقديم العون لهم أسمى ما يقدمه الإنسان لنفسه ولغيره.
***
صف سيارته أمام المستشفى، وترجل منها سريعًا متلهفًا لرؤية تلك الطبيبة التي آكلت عقله من التفكير بها، ابتسم بخفة وولج بخُطى واثقة، يبحث بنظره عنها، صعد إلى الطابق الكائن به مكتبها، طرق بابها وولج قبل أن يستمع لسماحها بالدخول.
عبست ملامح وجهه عندما وجد المكتب فارغًا، لكنه لم يمنع نفسه من التطفل واكتشاف مكتبها، أدلف بخُطواته وظل يلمس الأشياء التي تركت أثرها عليها.
لمس القرمة خاصتها وقرأ ما عليها:
_ صبا محمود النجيري..
أخرج زفيرًا حارًا ثم أعاد وضعها، سقطت عينيه على روبها المُعلق إلى الحامل، فتوجه إليه وقام بتناوله، رفعه عند أنفه ليشُم عبيرها الذي تخلل إلى أنفه وتسبب بهياج نبضاته.
خرج من حالته على صوتٍ أنثوي يتساءل:
_ باشمهندس عاصم؟! حضرتك بتعمل إيه هنا؟
شعر بالحرج يتملك منه، رمقها لثوانٍ ثم حاول استجماع شتات نفسه:
_ دكتورة هدى... أنا كنت جاي أشوف دكتورة صبا هي مش موجودة؟
على الرغم من غرابتها من وجوده إلا أنها أجابته بتلقائية:
_ لا مش موجودة، مجتش النهاردة وبتصل بيها موبايلها مغلق..
أماء عاصم بتفهم وقال:
_ ممكن أخد رقمها؟
ضاقت عيني هدى عليه فأسرع عاصم بتوضيح قصده:
_ كنت عايز اسألها على حاجة تخص وضعي..
أومأت هدى بتفهمٍ ثم أملت عليه الرقم، فهاتفها عاصم على الفور لكنه وجد الهاتف مغلق فردد:
_ دا مغلق فعلًا..
بعد تفكيرٍ وترددٍ قابله في البداية، جمع شجاعته وأردف بصوتٍ أجش:
_ هكون ممتن جدًا لو ساعدتيني في حاجة كدا..
بريبة سألته:
_ حاجة إيه؟
أطال عاصم النظر قبل أن يخبرها بمراده، وفي الأخير أخذ ما ود معرفته وغادر المكان سريعًا.
***
تقف تستند بمرفقيها على سور شرفتها، بعقلاٍ شارد لا تعي ما يحدث حولها، تتمنى داخلها بأن يتم أمر ارتباطهما عاجلًا، استمعت لقرع الباب الذي أخرجها من شرودها، أخذت تنظر إلى مكان وقوف عبدالله وابتسمت بحزنٍ ثم ولجت لتقم بفتح الباب للطارق.
وضعت حجابها وأحكمت ربطه، ثم قامت بفتح الباب لتتفاجئ بمن يقف أمامها، برقت عينيها بصدمةٍ وهي تردد حروف إسمه:
_ باشمهندس عاصم!!
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close