رواية عشق ليس ضمن التقاليد الفصل الثامن والعشرين 28 بقلم اسيل الباش
الفصل الثامن وعشرون
حينما تنجرفين في تيار عشقي..
وانك تحلقين كطير شذي في جنة روحي..
سأخبرك مرارًا وتكرارًا بمقدار هائل حبي..
وسترين ان هوسي بك هو حياتي..
وستدركين ببساطة ان عينيك هي بصري..
فطَمْئِني تكهنك وتأكدي يا محبوبتي
انكِ كل خلية نابضة في جسدي..
----------------------
هوى قلبها بين قدميها وهي تتطلع إلى ياقوت الفاقدة لوعيها بين ذراعين شقيقها.. كانت مرتعبة من البداية أن تعرف ياقوت بموت شقيقها وبقتله للرجل التي أحبته.. لذلك كانت بحاجة أن تخبرها رويدًا رويدًا حتى تستوعب بأقل ضرر حجم الفاجعة..
كانت تدري ان لو كان ساري قاتلًا لأحمد ارحم بمئات المرات من أن يكون شقيقها هو القاتل.. على الأقل ساري يبقى هناك عداوة بينه وبين احمد ولكن معتصم...؟
تحركت غزالة بخطوات شبه راكضة نحو ساري محاولة ردع صدمتها وذعرها من القضاء على تعقلها ورزانتها.. فغمغمت بنبرة جاهدت على التحلي بثباتها:
- ساري ضعها على السرير ريثما اعود.
لم تنتظر أن تراه ينفذ ما قالته بل هرولت مسرعة الى الاسفل لتطلب مساعدة والدتها حتى تعلم إذ كان هناك حاجة لطلب الداية، خشيةً أن تفقد ياقوت جنينها وتتأذى..
بعد دقائق عادت برفقة والدتها وشقيقتها عائشة لتزفر بآسى وهي ترى الرعب يزين ملامح وجه شقيقها الذي يضع يدًا على بطن ياقوت ويده الاخرى تعانق كفها بقوة..
تطلع ساري إليهم ثم تساءل بخوف:
- هل اذهب لأحضر الداية؟
- اخرج انت الآن وسنخبرك اذا تحضرها فيما بعد.
قالت هدية بجدية ليهتف بإصرار:
- لن اغادر.. سأبقى حتى اطمئن على زوجتي وطفلي يا أمي.
- لا حول ولا قوة الا بالله! اخرج حالًا يا ساري.. نريد أن نطمئن اذا هناك نزيف لا سمح الله ولن نأخذ راحتنا وانت موجود.. انتظرنا في الخارج.
هتفت هدية بعصبية لتمتعض ملامحه برفض فتهدر هدية بتهديد:
- اذا لم تخرج لن المسها يا ساري.. القرار بين يديك اذا تريد أن تطمئن عليها ام لا.
تأفف بحنق قبل أن يقبل جبينها ويغادر الغرفة..
- انا انتظر في الخارج.
اطمئنت هدية من عدم وجود نزيف ثم تحسست نبضها لتزفر براحة وتنظر إلى غزالة وعائشة وتقول:
- حمدًا لله هي بخير.. احضري يا عائشة عطرًا ما حتى نوقظها.
غمغمت غزالة بتوتر:
- أمي اليس من الافضل ان نحضر الداية؟ هي فقدت وعيها بعد أن سمعت الحديث الذي دار بيني وبين ساري.. أخشى أن تكون تلقت صدمة قوية فهي عرفت بموت شقيقها وقتله لابن عمها احمد.
قالت هدية بهدوء:
- هي حامل منذ ما يقارب الخمس شهور كما فهمت يا غزالة منك في الاسفل.. تقريبًا منذ أن حملت شقيقتك عائشة.. اي ان حملها ثابت.. هي لا تعتبر في الشهور الاولى الان من حملها.. اطمئني لن تجهض.. ولكن ربما فقط تدخل في حالة اكتئاب بعد الولادة أو أن تكون ولادتها صعبة إذا بقيت في هذا الحال التي هي به.. والله يكتب لها كل الخير ويسهل لها حملها وولادتها.
- اللهم امين!
همست غزالة برجاء صادق لتدخل عائشة الغرفة وفي يدها زجاجة من العطر تناولتها منها هدية سريعًا..
تطلعت عائشة الى غزالة وهمست بحزن:
- اخشى أن اكون أنا ايضًا سبب حالتها هذه.. حملي على ما يبدو أوجعها بشدة.
تنهدت غزالة بتعب وهي تفرك عينها اليسرى بآسى على الحال التي كلما تؤول إليه هذه الصغيرة.. من سيء الى أسوأ..
تأوهت ياقوت بألم حينما بدأ وعيها يعود إليها فتوجهت غزالة نحوها سريعًا بينما بقيت عائشة مكانها، خائفة من رد فعلها اذا اقتربت منها..
تساءلت هدية بحنو:
- هل انت بخير يا ياقوت؟ هل هناك ما يؤلمك؟
وضعت يدها بوهن على وجهها لتجهش ببكاء عنيف وتغمغم بنبرة صادقة مريرة تقطع نيّاط القلوب!
- قلبي! قلبي يؤلمني!
أسرعت غزالة بضمها الى صدرها لتستسلم ياقوت لعناقها وتكتفي بالبكاء على صدرها.. بكت عائشة وهدية لم يطاوعها قلبها على تحمل حزن هذه المسكينة فشاركتهن البكاء بصمت..
همست ياقوت بعد دقائق قصيرة:
- اريد ان ابقى لوحدي.
امتثلن لطلبها ليدلف ساري الى الغرفة بلهفة دون أن يبالي سوى بجملة "هي وطفلك بخير".. غير تلك الجملة لم يسمع ولم يود ان يستوعب من الاساس..
جلس ساري بجانبها ثم أخذ جسدها الضعيف بعناق قوي وقال بصدق:
- رغم كل غضبي من هروبك وحقدي على شقيقك وغيرتي من ابن عمك عليك لم اريدك ان تعرفي.. لآجلك فقط! كنت ادري انك ستنهارين.. رحمهما الله رغم كل ما دار بيننا من عداوة وكره.
تجاهلت ياقوت كل كلمة تفوه بها وهتفت بجمود ودموعها تتعارض مع نبرتها من شدة حرارتها والمها:
- خذني الى بيت اهلي.. اريد ان أراهم.
- اخشى أن لا تقدرين الان على التحرك؟!
قال ساري بتوتر لتبتسم بسخرية مؤلمة وتهمس:
- اذا كنت قادرة على تحمل كل هذا الالم حتى الآن ولم اموت بعد فأنا بكل تأكيد قادرة على التحرك يا ساري.
عقد حاجبيه بضيق وقال:
- حينما ترتاحين قليلًا سنغادر.
ثم وهي لا تزال في حضنه استلقى على السرير دون أن يحرر جسدها ولو لثانية.. اغمض عينيه بعد أن وضع رأسه على الوسادة وهمس بحب:
- احبك يا ياقوت.. يشهد الله انني احبك!
أغمضت ياقوت عينيها هي الأخرى دون تنبس ببنت شفة.. جل ما تتمناه هو أن تعود طفلة صغيرة يزجرها شقيقها للهوها خارج المنزل دون حجاب فيدافع عنها احمد ويمنعه من ضربها.. ليتها تلك الأيام تعود وتبتعد عن كل هذه المآسي التي مرت بها..
لم يغفو لها جفن بسبب الأفكار المقيتة التي كانت تعصف بقلبها وعقلها.. وبالنسبة لها كان كله يهون أمام فكرة أن شقيقها هو من قتل احمد.. الآن من مجرد ذكر اسم الشخص التي أحبته تشعر بالخجل.. تمنت لو كان قاتله أن يكون اي شخص حتى ولو ليس ساري.. ولكن معتصم؟!!!! محال أن تتقبل أن الغدر أتى من شقيقها.. ومع ذلك دعت له هو الأخرى بالرحمة..
*******************
كانت تشعر بإرتياح مؤقت لقضاء أدهم وسيف الاسبوع الذي مر في منزل جدتهما.. اطمئنت قليلًا على سلامة طفلتها على الرغم من أن الانقباض لم يغادر قلبها قط.. فلا بد أن والدة آيات بقيت طيلة أيام الأسبوع تبث سمومها في عقول الطفلين..
لا تدري ماذا ينبغي عليها أن تفعل.. فإذ كانت تلك المرأة بقادرة على بث سمومها في عقل زوجها لينقلب عليها وتلعب الهواجس به كما تشاء ماذا بوسعها أن تفعل؟!
أغمضت وهج عينيها بضيق شديد حالما سمعت صوت الباب يتحرك فأدركت أنه قد عاد.. تكره وجوده بالمكان التي تتواجد به.. رغمًا عنها تحس بالنفور منه والضيق يجثم فوق قلبها فور أن يتحدث معها.. ما فعله صفوان في حقها ليس هيّنًا.. هي فعلت الكثير لأجله ولاجل طفليه وزوجته الراحلة وفي المقابل يكون جزاء احسانها ماذا؟ غير القهر والضيق والخوف لم تستقبل.. تفتقر الامان.. رباه كم تفتقره وهي معه ومع طفليه..
انشغلت حواسها كلها بطفلتها التي تقوم بإرضاعها.. وسرحت عيناها بجمالها الساحر للقلوب.. كالملاك تمامًا بملامحها الطفولية.. قاومت وهج ابتسامة امومية تود الارتسام على ثغرها فور أن وفاها صوته:
- السلام عليكم.
ردت تحية السلام ببرود قبل أن تسير متوجهة إلى خارج الغرفة برفقة صغيرتها التي لا زالت ترضع من صدرها ليوقفها صوته:
- انتظري!
استدارت وهج لتطالعه بتساؤل فابتسم صفوان بحنو وهو ينظر إلى طفلته.. زلف منها لتتراجع خطوة إلى الخلف بضيق واختناق من اقترابه.. رمقها صفوان بنظرات مبهمة ثم قال:
- متى تودين أن أعيد سيف وادهم؟
دون ان تدري كانت تتقلص ملامح وجهها بخوف شديد.. راقب صفوان بتمعن انفعالاتها الظاهرة بضم طفلتها بقوة واحتقان ملامح وجهها بخوف..
بصعوبة حاولت وهج التحكم بانفعالاتها وقالت بهدوء لاذع:
- هذا منزلك ومنزلهما.. متى اردت ان تعيدهما افعل.
علّق صفوان باستهزاء:
- وهذا منزلك أيضًا.. على ما يبدو أن ولادتك أثرت على عقلك فلم تعدي تعرفين ما هو الكلام التي تقولينه! انت زوجتي وهذا منزلك الأبدي يا وهج.. هل تفهمين ما اقوله؟
سالت دمعة من عينها مسحتها سريعًا واستدارت لتغادر دون أن تهتم بالرد عليه.. اي كلمة يوجهها نحوها تحسها تجرحها بعمقٍ.. لا تطيقه ولا تطيق لسانه الحاد.. تخشى على طفلته حتى منه.. الامان التي توهمت في البداية انها تشعره معه اضمحل وصار الرعب يحتل مكانه.. الرعب على طفلتها منه ومن طفليه ومن والدة آيات..
شعرت بيده توقفها مكانها وهو يديرها إليه بعصبية خفيفة.. تمسكت بطفلتها النائمة بخوف ليستغفر الله ثم يهتف:
- دعيني احملها عنك وأضعها على السرير.
استدارت مرة أخرى وغطت جسدها الذي كان من الاساس مكشوفًا له ثم قبّلت ثغر صغيرتها ورأسها وناولتها له..
تفرست حدقتاه النظر بها لوهلة ثم همس بهدوء:
- يجب أن نتحدث.. انتظريني في غرفة الجلوس.
انصاعت لما قاله لتجده بعد عدة دقائق يتبعها ويجلس على الفراش الارضي بجوارها..
قال صفوان بجدية:
- هل من الممكن أن أعرف يا وهج ما هو سبب هذا الخوف الذي لا يفارق عينيك وسبب معاملتك الباردة لي؟
- انت سبب تصرفي هذا فلا تسألني لماذا.
ردت وهج بحزن ليقول صفوان باستنكار:
- انا يا وهج؟ هل بإمكانني أن اعرف ماذا فعلت لك؟
- لا شيء يا صفوان عدا اتهامك لي بأنني اتصنع الحجج لكي لا اعتني بطفليك بينما انا في شهري الاخير من حملي على وشك الولادة.. لا شيء عدا كرهك انت وطفليك الواضح لطفلتي.. سأقولها لك بكل صراحة انا لا اشعر بالامان في هذا المنزل.. لا على نفسي ولا على طفلتي.. أعدني إلى منزل اهلي يا صفوان.. كان أكبر خطأ ارتكبته بحق نفسي هو التضحية بنفسي!
غمغمت وهج بألم لتضيق حدقتاه ويسألها بنبرة قوية مخيفة:
- هل تدرين حجم الكلام التي تفوهت به يا وهج؟
همست بمرارة وهي تنظر الى وجهه المكفهر:
- لم اكذب بأي كلمة نطقتها.. الحقيقة تجرح ولكن عليك أن تتقبلها مثلما لا زلت انا اتقبل الكثير من الامور منذ زمن طويل.
هدر صفوان بنبرة قاسية ارعدت كل خلية في جسدها:
- وهج لا تدعيني امنعك عن ابنتي نور.. اتهامك لي ولأدهم وسيف لن يمر مرّ الكرام.. وتضحيتك بنفسك هذه التي تتحدثين عنها بإمكانني أن اصلحها في التو.
ابتسمت وهج بجمود يتناقض مع وجعها الذي يهرس كل خلية نابضة في جسدها قبل أن تقول بإستهزاء مؤلم:
- وانا لا اريد ان يمر اتهامي الواقعي مرّ الكرام لان هذه هي الحقيقة يا زوجي وسندي! وإذا أردت أن تطلقني بإمكانك أن تفعل ولكن بالمقابل لا تحلم أن اتخلى عن طفلتي.. من المستحيل أن أفعل!
- وهج!!
صاح صفوان بعصبية مفرطة وهو يقترب بجسده المخيف اكثر منها فإرتدت سريعًا إلى الخلف ودموعها تنهمر على وجهها بسبب خوفها منه..
ازدرمت ريقها حالما توقف قبالتها لا يفصل بينهما إلا انشات صغيرة.. جذبها صفوان من ذراعها بخشونة ليرتطم وجهها في صدره..
هتف صفوان بأنفاس ثائرة بالقرب من اذنها:
- كل كلمة تفوهت بها سيتم عقابك عليها.. وسأعرف بنفسي من الذي عبث بعقلك!
بشجاعة مزيفة تمتمت وهج بينما الرعب يعصف بقلبها دون رحمة:
- انت تقصد من تعبث بعقلك وعقل الطفلين.. تلك المرأة التي لم ينفع الخير معها ولا تستحقه لتقابل خيري الحساني لابنتها بكل سوء وحقد.
رفع صفوان وجهها إليه بينما أحاطت يده الأخرى ظهرها لتقيدها بين ذراعيه.. رغمًا عنها ظهر النفور بمقلتيها المرتعبتين لتقسو ذراعه على جسدها بينما عيناه لا تفارق عينيها..
أحست وهج بتوتر رهيب فحاولت أن تدفعه بعيدًا عنها وهي تشيح بحدقتيها بعيدًا عن عينيه الحادتين.. فثبّتها صفوان بين ذراعيه بقوة أكبر لتتأوه بألم وخوف من صمته..
أخيرًا بعد لحظات كادت أن تنهار بها من شدة رعبها همس:
- اذهبي إلى الغرفة حاليًا.. ولا زلتِ ستتعاقبين يا وهج على الكلام التي تفوهت به.. سأذهب لأعيد أدهم وسيف من منزل جدتهما.. ولن تخرجي من الغرفة إلا حينما اسمح لك.. هل فهمت؟
اومأت وهج سريعًا منتظرة أن يحرر جسدها وحينما لم يفعل قالت بإرتباك:
- دعني لكي اذهب الى الغرفة.
ترك ذراعيها لتفر هاربة منه سريعًا..
********************
منذ أن استيقظت خنساء وهي تشعر بكره شديد تجاهه.. كل ما تريد فعله في هذه اللحظة هو نهش جلده بأظافيرها بكل قساوة.. لن تنسى أبدًا كيف مثل الغبية تنصاع له من همسة ولمسة ولكن ليلعنها الله اذا سمحت له بعد الان أن يفرض سيطرته عليها إذا لم يغير رأيه حول زواجه بابنة شقيقة وسيم العثماني..
رمقته بنظرات إجرامية وهو يتناول الطعام التي اعدّته له.. كم ترغب بجذب الطعام من امامه ورميه في وجهه.. ما هو ذنبها بكل هذه المهزلة التي تحدث بينه وبين وسيم العثماني؟ ما هو ذنبها ليتزوج زوجها من تلك الفتاة المريضة عقليًا بحجة أن يعالجها؟ شقيقه عمران هو من عليه الزواج بها وليس زوجها! ولكن زوجها لن يكون قسورة الفهدي اذا لم يتباهى بشهامته لاسعاد شقيقه الصغير على حساب تعاستها هي..
وثبت خنساء عن المقعد التي تجلس عليه بعصبية مفاجئة ليغمض قسورة عينيه بحنق لعدة ثوان ثم يفتحهما ليطالعها بهدوء.. وقفت خنساء بشموخ أمامه وقالت بنبرة قاطعة لا تقبل الجدال:
- عليك الاختيار الآن.. انا وطفلك أم شقيقك عمران وتلك المجنونة التي تدعى غالية!
وقف قسورة بهدوء وقال بنبرة تحمل الكثير من الغضب والتهديد:
- إياك يا خنساء أن تكرري كلامك هذا.. انت زوجتي الى أن تصبحي أرملة أو إلى أن أقوم بدفنك بيدي! وأسلوب التهديد هذا التي تحاولين أن تتبعينه معي لن يجدي نفعًا.. انا متفهم لموقفك وشعورك ولكن انتبهي جيدًا الى نفسك حتى لا يكون لي تصرفًا اخر معك.
ابتسمت خنساء بسخرية وقالت ببرود:
- اسلوب التهديد الذي تحاول أن تخضعني به والأسلوب الهمجي الذي تعاملت به معي البارحة لن يتكرر أيضًا يا قسورة.
رفع قسورة حاجبه الأيمن بأعجاب بشراسة لبؤته اخفاه سريعًا وهو يقترب بخطواته منها ليتلبث أمامها ويهتف بنبرة خطيرة:
- هل تهدديني يا زوجة قسورة الفهدي؟!
- لا سمح الله حبيبي.. انا لا اهدد بل انفذ!
قالت خنساء ببساطة ثم أضافت وهي تنظر الى عينيه بتحدي:
- دع عمران يتزوج من غالية وتكفل انت بعلاجها وانا بنفسي سأعمل على علاجها وبعد ذلك هناك كامل الحرية لعمران اذا كان يريد البقاء معها ام يريد أن يطلقها.. ولكن عليك أن تعرف يا قسورة أن خنساء الفهدي من المستحيل أن تسمح لامرأة ولو كانت عجوز أن تشاركها زوجها.. مستعدة أن اخسرك ولا اسمح لك بالزواج بأخرى بينما لا أزال على ذمتك!
- هاتِ من الاخر خنساء ما الذي تريدين الوصول إليه؟
تساءل قسورة بهدوء بينما وجهه يتسم بتعابير عجزت عن قراءتها فبنبرة صريحة عازمة بالوصول إلى هدفها ردت:
- انا ام هي؟ زواجك منها يقابله طلاقك مني.. والطلاق قبل الزواج يا قسورة!
بصوت مشتعل بنيران الغضب هدر قسورة:
- خنساء اغربي عن وجهي في الحال!
عندما لم تتحرك صاح قسورة بصوت مرعب ليرتجف جسدها للحظات فتلعن خوفها اللا إرادي من غضبه وتتوجه بسرعة إلى غرفتها بينما الابتسامة ترتسم ببطء على ثغرها..
جلست خنساء على طرف السرير بابتسامة انتصار.. قسورة لن يتخلى عنها ويطلقها حتى لو تزوج الف امرأة وهي تدري ذلك جيدًا.. ولكن حينما تضعه أمام أمر الواقع وتتوجه الى جدها لطلب الطلاق وتثير شفقة الجميع بحملها وتعبها سيصبح الجميع ضد قسورة وسيمعنون زواجه من غالية ويفضلون أن تتزوج بأحد اخر من القبيلة لحل الخلاف القائم حتى الآن بين قسورة ووسيم العثماني..
همست بمكر ووعيد:
- والله على موتي يا قسورة أن اسمح لك بالزواج بأمرأة غيري.. ليس على اخر الزمان تقوم امرأة بمشاركتي ما املك! انا منحتك الحل قبل قليل والقرار بين يديك قبل أن اقوم بتنفيذ ما يدور بعقلي واعمل على جعلك تعاني مرارة بعدي.
********************
وقفت ياقوت بجانب ساري قبالة باب منزل اهلها والخوف والقلق من رد فعلهم على عودتها بعد معرفتهم بهروبها وبرفقة ساري العرّابي يكاد أن يهلك أوصالها.. انتظرت الباب أن يُفتح بساقين متهالكتين بالكاد تتحكمان بنفسهما حتى لا تخور قواها وتقع بين ذراعيه..
حالما سمعت قفل الباب يتحرك أبعدت يده بسرعة عن خصرها.. وإتسعت عيناها رغمًا عنها وخفق قلبها بطريقة موجعة فور أن قابلها وجه والدها ذو الملامح الذابلة.. لم يتعرف والدها عليها بسبب الغطاء الاسود التي تضعه على وجهها حتى تحجب الانظار عنها..
- انت!! ما الذي تريده؟ ما الذي أتى بك الى منزلي الآن؟
هتف والد ياقوت بعصبية فور أن رأى ساري لتغمغم ياقوت بنبرة ضعيفة متوترة:
- ابي انها انا.. ابنتك ياقوت!
البهجة باستماعه لصوت ابنته نزلت قليلًا كالبلسم على قلبه المكلوم فقال بلهفة ظهرت بصوته وبأبتسامته التي زينت شفتيه:
- ياقوت! ادخلي بسرعة.. هيا حبيبتي.. امك ويوسف سيفرحان كثيرا برؤيتك.
ابتسمت ياقوت بتوجس ودلفت برفقة ساري الى الداخل.. ليرفع والدها عن وجهها الغطاء ويتأملها قليلًا حتى يتأكد من كونها بخير ثم يقبل جبينها قبلة طويلة ويجذبها الى صدره ويردد بهمس:
حمدًا لله.. حمدًا لله..
ثم هتف بصوت عال:
- أم معتصم.. يا ام معتصم.. ياقوت أتت لزيارتنا.
انكمش قلبها وهي ترى والدتها تسرع نحوها بلهفة.. بينها وبين والدتها حكاية عتاب ليس لها مدى!.. بادلت والدتها العناق القوي بينما دموعها تنهمر على خدّيها باحتياج حقيقي لحضن دافئ.. ولكن يبقى حضن الأم هو أكثر ما يحتاجه كل طفل.. وامها لا زالت على قيد الحياة ومع ذلك لم تنعم بعناقها منذ أكثر من سنة!
بكت بألم.. بضعف.. بخوف.. أمامه بكت وفي حضن والدتها التي شاركتها البكاء.. فهذه طفلتها وهي خسرت طفلها الكبير وليست مستعدة الان على خسارتها هي الأخرى بعد أن عادت إليها سالمة..
لم تطاوعه حدقتاه بالابتعاد عنها.. دموعها التي هو سببها معظم الأحيان كانت تقتله في هذه اللحظة.. تفتك به دون هوادة!
بدت هشّة.. طفلة بكل ما للكلمة من معنى.. تتشبث بوالدتها وكأنها تخشى أن تهرب.. لم تسعفها الكلمات وتتحدث فقط كانت تبكي على صدر تعرفه منذ أن ولدت ولم تزهق منه ابدًا.. تعرف حنانه ولو العالم بأكمله عاملها بقسوة..
نزلت دموع والدها فها هو أخيرًا ارتد جزءًا من روحه إلى جسده بعد معرفته بقتل ابنه لابن عمه وخطيب ابنته السابق وبعد قتله أمام عينه دون أن يسعه فعل أي شيء.. وما زاد الطين بلّة معرفته بهروب ابنته من زوجها وعدم معرفته إذ كانت على قيد الحياة ام لا..
احس بتأنيب الضمير يفتك بقلبه بينما يسمع زوجته تغمغم ببكاء:
- ليلعنني الله على عدم سجنك في صدري وافراطي بك يا فلذة كبدي.. ليتني عرفت كيف احتويكِ! سامحيني يا حبيبة قلب امك! سامحيني!
لم تعقب وهي تحس انها على وشك الانهيار وفقدان وعيها بأي لحظة.. تطلعت والدتها إلى ساري الذي عيناه لم تتزحزح عن زوجته فتنهدت قبل أن تعاون ابنتها وتجلسها على الأريكة بجانبها..
رفعت ياقوت رأسها حالما وفاها صوت شقيقها يوسف الملهوف:
- ياقوت! حبيبتي! اين كنت؟ وكيف عدت؟
انتبه يوسف الى وجود ساري ليرمقه بكراهية قبل أن يجلس بجانبها الآخر ويسرقها من بين حضن والدته الى حضنه هو.. إبتسم يوسف بحنو حينما سمعها تهمس بصوت منخفض لم يسمعه غيره:
- لا تتحدث كثيرًا حتى لا تتسبب بالمتاعب لي ولك.. اريد ان اجلس معك لاحقًا لنتحدث وأعاتبك على ما فعلته بي!
اومأ يوسف بموافقته وهو يشعر بنظرات ساري المراقبة لهما.. ثم أخيرًا سمع والده يتساءل بحيرة:
- اين كنتِ طيلة الوقت يا ابنتي؟ ارادنا أن نعيدك الينا ولكن عرفنا بأمر هروبك! لماذا لم تأتي الينا؟
بشماتة أتى الرد من يوسف:
- كانت في منزل شقيقته زوجة فؤاد ابن قاضي العشائر طيلة الوقت يا ابي.
- هل حقًا كنتِ هناك طيلة الوقت؟
تساءل والدها بذهول لتهز ياقوت رأسها بتعب قبل أن تنظر الى ساري وتغمغم:
- سأبقى الليلة هنا في منزل اهلي.. هل بإمكانك أن تغادر الان وتعود غدًا؟
رباه ما تطلبه منه اصعب ما يكون عليه!.. أن يبتعد عنها بعد أن وجدها أخيرًا.. نظراتها كان تشع اصرارًا وهو كان يدري انها بحاجة للانفراد بعائلتها حتى تتحدث معهم بحرية عن موت معتصم وقتله لأحمد.. فلم يكن أمامه اي خيار عدا الامتثال لطلبها فهتف بموافقته:
- أن شاء الله سأعود غدًا لأعيدك إلى منزلنا.
ثم نهض وألقى تحية السلام وغادر..
تساءلت امها بحنو بعد أن غادر:
- كيف حالك حبيبتي؟ ما هي اخبارك؟
رمقتها ياقوت بنظرات تلومها على جفائها معها فيما مضى بصمت ثم غمغمت:
- حمدًا لله على كل حال يا أمي.. انا فقط حامل!
لم تلقي أهمية لرد فعل والدها ووالدتها اللذان أخذا يباركان لها وهي تنظر الى يوسف الذي أدرك ما تريد قوله قبل أن تفعل..
تابعت ياقوت بنبرة مرهقة حد الموت:
- لماذا لم تخبرني؟ انت الوحيد الذي كنت تزورني ومع ذلك لم تخبرني!
نهض يوسف وساعدها على النهوض هي الأخرى وقال:
- تعالي لنتحدث في الداخل!
هتف والده بحزم:
- تحدث أمامنا يا يوسف! من حقي انا ووالدتك أن نسمع أيضًا حديثكما!
ازدرد يوسف ريقه وقال:
- انا اعرف مكان ياقوت منذ فترة.
أضافت ياقوت بدلًا عنه:
- ولكنني طلبت منه أن لا يخبر احد بمكاني.
تنهد يوسف بآسى قبل أن يسمح لوالده أن يعاتبه على عدم إخباره بمكانها:
- انتِ كنتِ في الفترة الأولى من حملك ونفسيتك المتعبة لم تساعدني على اخبارك.. إذ كنت أنا لم اتحمل ماذا حدث فكيف انت يا ياقوت!
ضمها إلى صدره بقوة وعيون والده ووالدته تراقب الذي يجري.. ثم استرسل:
- معرفتي بكون معتصم هو قاتل احمد قضت عليّ حرفيًا.. ومع ذلك خفت ان اخبرهم فأخفيت ذلك السر خشيةً أن يقتله قسورة فلا يبقى لي احد.. ثم إنهارت قواي حينما اتى وسيم العثماني برفقة ساري وأثبت أن معتصم وعزيز هما سبب الحرائق وهما من قاما بقتل احمد بدافع الطمع ورغبتهما بالتخلص من زوجك ساري.
اختنق صوته ودموعه تسيل رغمًا عنه وهو يتذكر مشهد قتل قسورة لشقيقه:
- ثم تمنيت ان أفقد بصري وانا ارى قسورة يثأر لموت احمد من معتصم بسيفه.. إذ كنت أنا يا ياقوت لم اتحمل فكيف انت التي أضعف مني بكثير؟! اردت ان اخبرك وان اشكو لك وجعي ولكن لم يطاوعني قلبي أن أزيد عليك اوجاعك واتسبب بتعريض حياتك للخطر.. لن اتحمل أن افقدك انت الأخرى! والله لن اتحمل!
بادلته ياقوت عناقه القوي وهي تنتحب بألم على صدره دون أن تنتبه لبكاء والديها:
- يا ليتني لم اعرف ابدًا! يا ليتني لم اسمع حتى بالصدفة أن معتصم مات وهو الذي قتل احمد.. طمعه بمكانة قسورة وكرهه لساري ليس مبررًا يجعله يقوم بقتل الشخص الوحيد الذي كانت طفولتي تدور حوله! انا اشعر بالعار كلما ينتشر في جسدي.. كنت أدعو لأحمد بالرحمة واطلب منه العفو لكل ما فعلته في حقه.. ولكن الآن كيف افعل ومن قتله هو شقيقي! والافظع من ذلك أن ليس بوسعي لوم معتصم وكرهه لأنه حاليًا تحت التراب يرجو الرحمة! أخشى أن أزيد عليه عذابه.. هذه النار ستبقى خالدة الى الابد في صدري! الى الابد يا يوسف!
شعر يوسف ان قدميها بدأت تخور.. لن تتحمل المزيد من التعب وتلقي الصدمات.. إذا بقيت تنهار هكذا الله وحده يعلم ماذا سيحدث لها..
اجلسها يوسف سريعًا برعبٍ وأسند رأسها على صدره قبل أن يشعر بها تهمس بوهن وألم شديد:
- هناك رائحة من أحمد يا يوسف.. عائشة حامل! اخر ما تبقى منه تحمله هي!
