اخر الروايات

رواية علي دروب الهوي الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم تسنيم المرشدي



الفصل الثاني والعشرون
على دروب الهوى
بقلمي تسنيم المرشدي
***
قلِق قاسم من نومته، فالنوم على الأريكة لم يكن مريحًا لعضلات جسده التي آلمته، فتح عينيه ببطءٍ فوقعت عينيه على صديقي عبدالله، لكنه لم يجده بينهما.
انتفض من مكانه مذعورًا وركض يبحث عنه في الأرجاء وفي النهاية وقف يلتقط أنفاسه وهو يستند برحتي يده على ركبتيه، ثم أعاد انتصاب وقوفه ونادى بصوتٍ عالٍ لكنه لم يكن مزعج:
_ يا شباب..
انتبه عليه وليد أولًا ثم هز زكريا التي استفاق ونظر إليهما بالتناوب، فقال قاسم بيأسٍ:
_ عبدالله مش موجود، شكله راح ينفذ اللي قال عليه..
نهض وليد فجأة وهلل:
_ طب يلا نلحقه بدل ما يإذي نفسه
_ يلا..
قالها قاسم وأسبق خُطاه إلى الخارج بعد أن لَقِف مِعطفه، نهض زكريا وهو يتأفف بضيق وردد بخفوت:
_ مش فاهم بيعمل كل دا ليه عشان واحدة باعته، ما تغور في داهية، من قلة البنات في البلد يعني
كلماته بأسلوبٍ فظ غليظ لم يتقبله وليد ونهره مستاءً:
_ إيه اللي بتقوله دا يا زكريا، أنت مالك من امبارح من مظبوط؟
نفخ زكريا بصوتٍ مسموع وصاح بنبرة حادة:
_ أنا فيا اللي مكفيني، ومش ناقص مشاكل
_ فيك إيه أهم من صاحبك؟ دا عبدالله يا زكريا فوق واظبط كلامك كدا
أردفها وليد وهو يقترب من السيارة بينما علق الآخر بمزاجٍ غير سوي:
_ أنا هروح، أنا لو كملت معاكم وأنا بالحالة دي هعك الدنيا خالص..
وضع وليد يده على ظهر ابن عمه وقال بهدوءٍ:
_ أنا بقول كدا برده، اركب وابقى انزل لما نطلع على الطريق العمومي..
ركب ثلاثتهم السيارة؛ وتحرك بهم السائق حيث يريدون.
***
استيقظ الجميع إثر صوت إطلاق النيران؛ كانوا في حالة هلع أصابهم ولا يدرون من أين يأتي فهرع البعض إلى شُرف غرفهم، بينما انتفض عاصم من مكانه قلِقًا، نظر حيث تنام صبا التي نظرت إليه بخوفٍ متسائلة:
_ إيه الصوت دا؟
_ مش عارف..
قالها وتوجه إلى الشرفة بينما تابعت هي خُطاه في انتظار معرفة مصدر الصوت، وقف عاصم يستمع إلى حديث إسلام الذي يخبر به والده:
_ عبدالله اتصاب وهو بينضف السلاح..
_ حضر العربية بسرعة وأنا نازل حالًا نوديه المستشفى..
هتفها عز وسُرعان ما عاد إلى الداخل ليُبدل ملابسه سريعًا ويتوجه إليهما، عاد عاصم إلى الغرفة متجهًا إلى الخارج فتساءلت صبا بريبة:
_ في إيه؟
أجابها وهو يُدير مِقبض الباب:
_ بيقولوا عبدالله اتصاب وهو بينضف السلاح..
برقت عينيها بصدمةٍ وخفق قلبها رعبًا، نهضت مكانها مسرعة فتعجب عاصم مما تفعله وسألها مستفسرًا:
_ في إيه مالك؟
دون رقابة لحديثها خرجت كلماتها عفويًا:
_ مش بتقول اتصاب.. هشوفه
انتبهت صبا لحديثها، ابتلعت ريقها وهربت بعينيها وهي تحاول تصحيح ما استشتفه من وراء كلماتها:
_ مش أنا دكتورة، ولا أنت نسيت، هساعده..
ولجت غرفة الملابس وارتدت إسدالًا سريعًا وخرجت مُتلهفة للإطمئنان على عبدالله، لكنها كانت تخفي قلقِها قدر استطاعتها حتى لا يُكشف أمرها.
كانت تُقدِم قدم وتُؤخر قدم عندما ينظُر إليها عاصم، مُحاوِلة تصنُع عدم مبالاتها، تجمع جميع من في البيت حول عبدالله الذي يخفي آلمه أمامهم، تخطت صبا جميع الواقفين حتى وقفت أمامه.
شعرت بنفسها تتأثر، وتضعف، أخفت شهقتها التي هزت كيانها فور رؤيتها لذراعه الذي ينزف، نظرت حولها وأردفت:
_ عايزين ننقله جوا.. ولو فيه هنا أدوات..
قاطعها عز بنادائه على الخادمة وأمرها بإحضار الأدوات الطبية التي في مِكتبه، نهض عبدالله برفقة إسلام وقاموا بإدخاله أحد غرف الفيلا، جلست صبا أمامه متحاشية النظر في عينيه، شعرت بمحاصرة الجميع لها وكأنهم يعرفون ما مروا به.
فالتفت برأسها إلى اليمين وقالت:
_ عاصم أنا مش بعرف أشتغل وسط لمة..
نظر عاصم إلى الجميع فاستشفوا ما يوجد خلف نظراته، فكان عز أول من انسحب قائلًا:
_ طب يلا يا جماعة نستنى برا..
خرج جميعهم ما عدا عاصم الذي رافق صبا، بدأت تمسح الدماء أولًا فظهر الجرح لها، وقد وجدته خدشًا خارجيًا ولم تُصيبه الرصاصة، فرفعت عينيها في عينيه فجأة عندما جمعت الخيوط، تلاقت الأعين وتحدث القلب، كان هناك الكثير من الكلمات التي تطغو على نظراتهما لبعض، عتاب، خذلان، حزن وألم وجراح لم تلتئم.
ازدردت صبا ريقها وتحاشت النظر عنه ثانيةً ثم أدارت رأسها ووجهت حديثها إلى عاصم بهدوءٍ:
_ عاصم لو سمحت محتاجة مية، ريقي ناشف
انسحب عاصم ليُجلب لها الماء فتابعت صبا تعقيم جرحه وتساءلت دون النظر إليه:
_ عملت كدا ليه؟
_ أنتِ اللي بتعملي كدا ليه؟
هتف عبدالله سؤاله وعينيه لا تُرفعان من عليها، فتابعت الأخرى ما تفعله وردت ببرودٍ متصنعة عدم فهمها:
_ عملت إيه؟
سحب عبدالله ذراعه بقوة من بين يديها فتألم للغاية لكنه لم يكترث بل أردف سؤاله بنبرةً مستنكرًا جفاء أسلوبها:
_ أنتِ فجأة مشيتي، ولما رجعتي راجعة بجوزك!!
مين الراجل دا؟ وتعرفيه منين وإيه سرعة النسيان دي؟ إيه اللي بيحصل أنا مش فاهم حاجة؟
أعادت صبا ذراعه بقُربها؛ وأكملت ما لم تُنهيه، ثم قالت:
_ متتحركش، عشان أخلص اللي بعمله
رفعت خضروتيها عليه وأضافت:
_ وبطل توصلي بالطريقة بتاعتك دي، أنت بتإذي نفسك
أنهت جملتها وإلتزمت الصمت عند عودة عاصم، قامت بارتشاف بعض المياه ثم قامت بتضميد ذارع عبدالله ونهضت متوجهة إلى الخارج دون إضافة المزيد.
فنظر عاصم إلى عبدالله الذي يتابعها وأردف مازحًا:
_ حظك إن فيه دكتورة في البيت.. خلي بالك بعد كدا..
لم يُعقب عبدالله فأثار قلق الآخر وسأله بجدية مهتمًا لأمره:
_ أنت كويس ولا نروح لمستشفى أفضل؟
نهض عبدالله مُبتعدًا عن مكانه ورد قائلًا:
_ أنا تمام..
مضى خُطوتين للأمام ثم عاود النظر إلى عاصم وأضاف:
_ اشكر لي الدكتورة، ملحقتش اشكرها بنفسي..
تقوس ثغر عاصم ببسمة هادئة وهو يؤمئ برأسه، فتابع عبدالله خروجه، تلك الأثناء اقترب منه الجميع ليطمئنوا عليه فكان عز أول من تساءل عن وضعه:
_ أنت كويس يابني، متأكد إنك مش عايز تروح مستشفى نطمن عليك؟
_ أنا كويس، مجرد خدش..
قالها عبدالله ورفع بصره على تلك الواقفة على سُلم الفيلا وأظهر امتنانه لصبا:
_ الدكتورة عملت الواجب وزيادة
تلك اللحظة وجه عز بصره نحو إسلام وهاجمه بغضبٍ:
_ إسلام قدامي على المكتب..
نكس إسلام رأسه بحرجٍ فكان في وضعٍ لا يُحسد عليه، فمنع عبدالله ذهابهما لكي لا ينال إسلام توبيخًا ليس له ذنب في سماعه:
_ إسلام ملوش علاقة باللي حصل، أنا اللي خدت منه المسدس والطلقة خرجت غصب عني..
لم يتقبل عز دفاع عبدالله عنه وصاح مندفعًا:
_ ولو، دا سلاحه هو مينفعش أي حد يمسكه ونتيجة استهتاره شوف حصلك إيه؟
توجه عبدالله مُسرعًا ناحية إسلام وقام بالوقوف أمامه ليُمحي أي أثر إتهام من عليه:
_ صدقني هو مكنش راضي يعطهولي أنا اللي أصريت.. لو سمحت يا عز بيه بلاش تكلمه لأن فعلاً أنا السبب مش هو..
أخذ عز نفسًا وأخرجه على مهلٍ، وحاول تهدئة غضبه وقال ناهيًا الحوار:
_ آخر مرة، لو الموضوع اتكرر تاني هيكون فيه كلام تاني..
انسحب عز من بينهم، بينما غادر إسلام على الفور وكذلك تبِعه عبدالله، فأسرعت ڤاليا خلفه حتى خرجت من الفيلا ونادته:
_ عبدالله..
في الخلف رأت صبا ركض ڤاليا وشعرت بالريبة، فلم تتردد في الذهاب خلفها ومعرفة إلى أين هي ذاهبة
في الخارج؛ وقف عبدالله ونظر إلى ڤاليا التي سألته مُهتمة به:
_ أنت كويس؟
_ الحمد لله
قالها وهو يومئ برأسه وكاد يغادر لكنها أوقفته ثانيةً:
_ لحظة يا عبدالله..
حمحمت واقتربت منه تتفقد ذراعه، رفعت يدها تتحسس ذراعه لكنه تراجع للخلف مرددًا بضيق:
_ أنا قولت لحضرتك إني كويس..
انتابها الضيق لتلك الحدود المبالغة التي يضعها؛ وهتفت مُبدية تذمرها من الأمر:
_ ليه بتقولي حضرتك؟ مش إحنا المفروض عيلة؟
ناديني بإسمي عادي.. قولي ڤاليا
أطال عبدالله النظر بها، فلقد باغته شعورًا مريب، لكنه نفض تلك الأفكار عن رأسه وحاول إظهار الحدود التي بينهما بوضوحٍ:
_ بس أنا هنا شغل وبس، وحدود شغلي بترفض اني أشيل التكليف بينا.. عن إذنك
أولاها ظهره وغادرها، بينما عقدت فاليا حاجبيها باستياء صريح، تأففت بضجرٍ وعادت إلى الفيلا فوجدت صبا واقفة على بابها، ابتسمت بخفةٍ لها وقالت:
_ متعرفيش أنا مبسوطة قد إيه إني لقيت بنت تانية في البيت دا قريبة من عمري..
تعلقت ڤاليا في ذراعها بمرحٍ وأردفت:
_ حاسة إن هيكون فيه Chemistry حلوة بينا..
لم تُعلق صبا، فڤاليا لم تروق لها بعد وقوفها مع عبدالله، وشعرت بثِمة ما تجهله، لكن عليها معرفته بالتأكيد.
في الخارج، ولج عبدالله غرفة إسلام وحاول تخفيف همومه:
_ متزعلش مني، مكنتش أقصد اللي حصل...
رفع إسلام عينيه على عبدالله وقال بندم:
_ أنا اللي آسف، كنت لازم أكون حريص أكتر من كدا
أسرع عبدالله في نفي وجود أي ذنبٍ يتعلق به بصوتٍ أجش:
_ أنت عملت اللي عليك ونبهتني، بس أنا اللي كنت غشيم، سماح بقى..
تقوس ثغر إسلام بسمةٍ لم تتعدى شفتيه، فبادله عبدالله ابتسامة باهتة ثم التفت بجسده وسُرعان ما تجهمت تعابير وجهه، فلم يصل إلى إجاباتٍ تريح عقله، كيف يأخذ منها ما يود معرفته الآن؟
جلس على الكرسي بذهنٍ شارد، يفكر في طُرقٍ أخرى للوصول إلى صبا وأخذ منها كل ما يريد.
انتبه عبدالله على وصول سيارة أبيه، قلب عينيه بضجرٍ فهو لا يمتلك طاقة لتلقي توبيخًا منه، نهض ووقف على باب الغرفة فاقترب منه قاسم على الفور برفقة وليد.
نظر قاسم إلى ذراعه مباشرةً ثم تفقده جيدًا وهو يردد بحنقٍ لا يصدق فعلته:
_ أنت برده عملت اللي في دماغك، مكنش فيه أي طريقة تانية غير إنك تإذي نفسك!!
أسرع عبدالله في إسكات والده مشيرًا بعينه إلى إسلام وفضل الإبتعاد عن الغرفة ليتحدثا على راحتهم، تدخل وليد بسؤاله المهتم:
_ اتكلمت معاها؟
نظر إليه عبدالله لثوانٍ قبل أن يُبعد نظريه إلى الإتجاه المعاكس لهما فوجدها تقف في الشرفة تطالعهم، فحرك رأسه نافيًا قبل أن يرد:
_ مقدرتش أفهم حاجة.. كانت غريبة وكأنها واحدة مختلفة، مش معقول دي اللي حبيتها في يوم!
أحاط قاسم ذراع عبدالله وجذبه إليه وأردف بنبرة مشحونة:
_ طبعًا أنت مش هتكمل هنا؟!
وجه عبدالله نظره نحوه وقال بهدوء:
_ لا طبعًا مش همشي من هنا..
جن جنون قاسم لحظتها؛ وخرج عن هدوئه الذي يلبس ثوبه منذ حضوره وحادثه بلهجةٍ حادة مندفعة:
_ إيه اللي يخليك تفضل هنا بعد ما هي اتجوزت!! ليك إيه هنا عشان تفضل متبت بالشكل دا؟
أيد وليد رأي قاسم بقوله:
_ عمي معاه حق يا عبدالله، أظن كدا خلصت يا صاحبي
رفض عبدالله قبول تلك النهاية الظالمة، وصاح بانفعالٍ وعروقٍ متشنجة:
_ لا مخلصتش، لما أعرف منها ليه عملت كدا وفعلًا الجوازة دي باختيارها ولا اتغصبت عليها وقتها أقدر أقول خلصت.. أنا اللي أحدد امتى تخلص مش أنتوا
لم يعجب قاسم حديثه الذي رآه خارج عن المألوف ولا يتقبله عقل، وهدر به:
_ تفرق في إيه؟ اتغصبت على الجوازة ولا برضاها طلاما كدا كدا بقت في عصمة راجل تاني! ولا فاكر إنها ممكن ترجع لك لو فعلًا اتغصبت على الجوازة دي؟
دنا عبدالله من والده حتى كاد يلتصق به وقام بوضع يده على صدره المُحترق وهتف من بين أسنانه المُتلاحمة بنبرةٍ تعكس لهيب نيرانه المتقدة داخله:
_ تفرق في إن حرقة قلبي منها وعليها تروح، أنتوا مش حاسين بيا، مش حاسين أنا قايد نار إزاي من جوا، غيران وغضبان و١٠٠ إحساس جوايا عايز أطفي نارهم.. فمهم أوي عندي أعرف إيه اللي حصل، تمام! كدا الرؤية وضحت لكم، امشوا بقى
صمت حل لبرهة قبل أن ينسحب عبدالله من أمامهم ليعود إلى غرفته التي سيبقى بها الليالي القادمة، بينما لم يروا هناكِ داعٍ لبقائهما فذهبا كليهما عائدين إلى منازلهم.
***
عاد زكريا إلى بيته؛ فاستقبلته ليلى التي كانت جالسة في إنتظار عودته متسائلة بتوجسٍ:
_ أنت مكنتش بترد عليا ليه، أنا مُت من القلق عليك
دون أن يجيبها ولج الغرفة الخاصة بالأطفال ودون أن يبدل ملابسه قام بالإستلقاء أعلاه متصنعًا النوم، فلم تتقبل ليلى هروبه واقتربت منه تحاول كسبه من جديد:
_ عشان خاطري رد عليا، أنا عارفة إني غلطت بس متتعاملش كدا، في الآخر دا مش حاجة وحشة اللي حصلت، أنت هتكون أب
رفع زكريا رأسه وهلل بانفعالٍ:
_ مش عايز أكون زفت.. دلوقتي، أنتِ مبتفهميش
راود ليلى حينها شعورًا سيء، ألا وأنه ناقم لـ نعمةٍ رزقهم بها الله، نظرت إليه طويلًا ثم عاتبته بهدوءٍ لكي لا يزداد حُنقًا:
_ متقولش كدا يا زكريا.. أصل ربنا يحرمنا من نعمته
قلب زكريا عينيها بإزدراء، وهتف وهو يوليها رأسه:
_ اطلعي برا يا ليلى
نهضت ليلى عن الفراش مُبتعدة ولم تتقبل نومه في غرفة أخرى، فهتهت برجاء:
_ طب تعالى نام في اوضتنا بلاش تنام هنا..
_ قولت اطلعي برا يا ليلى
قالها بنفاذ صبر، فتوجهت ليلى ناحية الباب لكنها تريثت، ابتلعت ريقها وقالت بتوجس وقلبٍ يتمنى قبوله:
_ طب أنا هروح النهاردة للدكتورة، هتيجي معايا؟
_ لأ
قالها بقسوة فترقرقت الدموع من عيني ليلى، وجاهدت على الثبات للنهاية، ابتلعت ريقها لتخرج كلماتها بصوتٍ غير مهزوز، وأضافت مُتأملة لين قلبه:
_ يعني هروح لوحدي؟
هب زكريا من مكانه، انتفض بصورة أخافتها، وانتظرت حدوث لا يُحمد عُقباه، اقترب منها وهو يُهلل غاضبًا:
_ مش رايح معاكي في مكان، أنتِ أخدتي القرار مع نفسك وهتكملي مع نفسك برده، متستنيش مني حاجة..
أنهى جُملته وقام بدفعها بيده حتى باتت خارج الغرفة فققام بغلق الباب في وجهها ثم عاد إلى الفراش، مُلقيًا جسده أعلاه فانهمرت ليلى في البكاء، وعادت إلى غرفتها تجر أذيال خيبتها بحزنٍ عارم، جلست على طرف الفراش تبكي بمرارة تحسرًا على ما يجعلها تعيشه.
رفعت يدها تتحسس بطنها، وأغمضت عينيها محاولة البحث عن أي شعورٍ يخبرها أن الأيام القادمة ستكون بخير، لكنها لم تجده، فازدادت همومها وتضاعف حزنها.
تراجعت للخلف حتى استقلت بظهرها على الفراش، وحدقت بالسقف تسأل الله الهداية لزكريا.
***
وصل وليد بيته بتعبٍ يشعر به في ثائر بدنه، استقبلته والدته مُهرولة والخوف مشكلًا على تقاسيمها وسألته بخيفة:
_ أنت كنت فين؟ أنت كويس
أماء برأسه مؤكدًا، ثم توجه إلى الأريكة وردّ بصوتٍ مُنهك:
_ أنا كويس، كنت مع عبدالله، متقلقيش
ربتت عزة على ذراعه بعد أن اكتسبت بعد الطمأنينة ورددت:
_ ربنا يطمنا عليكم يارب
ثم تساءلت مستسفرة:
_ أحضر لك الفطار ولا هتنام؟
_ لا لا هنام، مش شايف قدامي، صحيني على صلاة الجمعة
قالها بنعاسٍ وتوجه إلى غرفته لينعم ببعض الراحة، فسقطت عينيه على الشكولاتة التي تعتلي الكومود خاصته، فابتسم بخفة وأخذ واحدة ثم توجه إلى الخارج فتعجبت عزة من خروجه وسألته مستسفرة:
_ محتاج حاجة يا حبيبي؟
نفى بحركة من رأسه، وقال مختصرًا:
_ راجع على طول..
خرج من البيت وقام بالنزول إلى الطابق الكائن به شقة عمه، ثم قام بوضع الشكولاتة أمام الباب وعاد مُسرعًا قبل أن يراه أحد.
بعد فترةٍ، خرج محمد من بيته ذاهبًا إلى عمله فوجد الشكولاتة، تعجب من موضعها، انحنى بجسده وقام بأخذها ثم التفت فوجد عليا تخرج من غرفتها، فنادها وقال:
_ لقيت الشكولاتة دي قدام الباب، الظاهر زكريا حطها متأخر ومحبش يقلقنا..
ناولها إياها وذهب، بينما نظرت إليها بغرابة وحاحبين معقودان وعادت إلى الغرفة وهي تُتَمِتم:
_ زكريا إيه اللي هيجيب شكولاتة في حالته دي.. جت منين دي بقى؟
قلقت خلود اثر صوتها فالتفتت ناظرة إليها بعيون ضائقة لا تستطع فتحهما بالكامل وتساءلت بصوتٍ متحشرج لم يخلو منه النعاس بعد:
_ بتبرطمي بإيه على الصبح؟
_ رفعت عليا الشكولاتة لتظهر بوضوحٍ لها وأردفت موضحة:
_ بابا لقى الشكولاتة دي قدام الباب، وفاكر إن زكريا اللي جابها بس أنا متأكدة إنه مش هو
ألقت خلود نظرة متفحصة على الشكولاتة، فوجدتها ذاتها من أرسلها وليد بالأمس، ناهيك عن أن الطريقة ذاتها، فنهضت مسرعة وأخذت الشكولاتة من بين يدي عليا ورددت:
_ دي بتاعتي..
رمقتها عليا باستنكارٍ، وهتفت مستاءة وهي تعقد ذراعيها عند صدرها:
_ وأنتِ عرفتي منين يا أم العُريف إنها بتاعتك؟
عادت خلود جالسة على الفراش وأكدت حديثها بثقة:
_ أنا عارفة..
قطبت عليا جبينها وتساءلت بتهكمٍ ظنًا أنها تدعي بأن الشكولاتة تعود لها فقط لتتناولها بمفردها:
_ ومين اللي جابها على كدا؟
هربت خلود بعينيها بعيدًا عن شقيقتها ونظرت إلى الجانب المُعاكس، حمحمت وأجابتها بخفوت:
_ وليد..
تفاجئت عليا بردها، ورُفِع حاجبيها تلقائيًا، لم تستوعب بسهولة ذلك الرد وتوجهت نحوها، جلست مقابلها وأردفت بريبة:
_ وعرفتي إزاي؟
اخذت خلود نفسًا زفرته بقوة وأخبرتها ما حدث البارحة:
_ سمعني وأنا نازلة امبارح ببرطم بالكلام وكنت مضايقة عشان أنتِ أكلتي الشكولاتة بتاعتي.. وبعد ما دخلت البيت لقيت الباب بيخبط بفتح لقيت شكولاتة قدامي.. بصراحة كلمته أعرف منه هو اللي جابها ولا مين واتاكدت أنه هو... بس
بعدم راحة لما يحدُث، تحدثت عليا:
_ طيب شكولاتة امبارح وفهمناها، إيه دي بقى، هو كل يوم؟
رفعت خلود كتفيها للأعلى ظاهرة عدم معرفتها بالأمر وهي تردف:
_ معرفش، أنا لسه صاحية قدامك معرفش حاجة
نظرت عليا أمامها لبرهة ثم عاودت النظر إلى خلود بطرف عينيها فصاحت الأخرى متسائلة:
_ إيه، بتبُصيلي كدا ليه؟
_ ولا حاجة..
قالتها ونهضت ثم أضافت بهمسٍ:
_ لما نشوف آخرة الموضوع دا إيه؟
_ بتقولي حاجة؟
تساءلت خلود بعفوية فنفت عليا بحركة من رأسها مرددة:
_ مش بقول..
وقفت على باب الغرفة تتابع تلك البلهاء التي تتناول الشكولاتة بسعادةٍ كما لو أنها تتناول وجبة دسمة مليئة باللحوم، ازدادت التساؤلات في عقلها وفضلت أن تترك الأيام تُريها نهاية ما يدور الآن.
***
وضعت الصينية جانبًا عندما فشلت في إطعامها، وأبدت تزمجرها مما تُحدثه تلك الفتاة دون الإهتمام لصحتها:
_ يا بنتي تعبتيني معاكي، كُلي لك لقمة، فطار مش عايزة، وغدا مش قادرة وعشا شبعانة، في إيه يا زينب، أنتِ هتفضلي على حالتك دي لغاية امتى؟
الناس بتنسى يابنتي وبتعيش حياتها، مش أول واحدة تفقد جنينها..
نظرت أحلام أمامها وببغضٍ انعكس على تقاسيمها التي تجهمت وأيضًا أثر على صوتها الكاره لذلك الوغد قالت:
_ احمدي ربنا يابنتي إن دا حصل، بدل ما كنتي تجيبي عيل للحياة يتمرمط فيها والناس تعايره بأبوه، وأنتِ كنتي هتدوقي المُر وأنتِ لوحدك بيه، مسئولية طفل عايزة زوج وزوجة على الأقل بيحترموا بعض عشان يطلعوه سوي
لكن في حالتك دي المفروض تسجدي لله ركعتين شُكر وتقولي الحمدلله على نعمتك يارب
بكت زينب بغزارة، كان كلامها قاسيًا ولم يتحمله قلبها، فهي أصبحت هاشة ولا تحتمل كلماتٍ تزيد من حزنها الذي تبدد داخلها، شعرت أحلام بالآسى حيالها وقامت بجذبها إليها وضمتها إلى صدرها وهتفت ببعض الكلمات لتخفف عنها:
_ فيه بعض الابتلاءات بتكون صعبة، بس بنحمد ربنا إنها جت تفوقنا وتورينا اللي مكُناش قادرين نشوفه، أنتِ قلبك جميل ونضيف بس الشيطان غاواكي، والحمدلله إنه معتش موجود
آن الأوان بقى تخرجي من قوقعتك اللي قفلتي على نفسك فيها دي
ملست أحلام على خُصلاتها بحنانٍ ونعومة وأضافت لتربط على قلبها بأخذها عبرة من حياة غيرها:
_ حاسة بيكي والله يا حبيبتي، الخذلان دا وحش أوي، إنك تثقي في واحد وتحبيه وتبيعي الدنيا عشانه وفي الآخر هو نفسه اللي يبيعك صدمة وقهرة وبتحسي إنك خلاص مش قادرة تكملي وحياتك انتهت
بس خدي حكايتي عبرة ليكي عشان تقدري تكملي، أنا اتخذلت واتبهدلت زيك بس الفرق إن مكنش ليا أهل يطبطبوا عليا
مكنش عندي أخ حنين زي عبدالله يواسي حزني، ولا أم تاخدني في حضنها زي ما أنا عاملة دلوقتي
كنت لوحدي معايا عيل على إبدي بجري بيه في الدنيا بطولي..
وضعت أحلام يدها على ذقن زينب وقامت برفع رأسها لتتقابل مع عينيها الحمروين من شدة البكاء وتابعت بإبتسامة راضية:
_ شوفي الفرق بيني وبينك واعرفي إنك في نعمة غيرك مكنش طايل ربعها..
أنتِ لسه صغيرة وفي عز شبابك، وقلبك زي ما قدر يحب أولاني هيتخطى ويحب تاني بس أنتِ اختاري صح
اختاري اللي يشتريكي قبل منه، متقفليش عقلك قصاد الحب بس، لأن الحياة مش حب وغرام، الحياة عايزة مودة ورحمة وتفهُم واحترام وحاجات كتير غير الحب..
تحسست أحلام وجهها بخفة وقالت بحنانٍ:
_ يلا بقى كُلي..
أماءت زينب بالقبول فناولتها أحلام الصينية وبدأت تتناول بعض اللقيمات الصغيرة ثم رفعت رأسها في والدتها وقالت بصوتٍ بالكاد سمعته احلام:
_ كُلي معايا
إلتوى ثغر أحلام بإبتسامة فرحة لتفاعل زينب معها ولم تتردد وشاركتها الطعام لتكون أجواءً دافئة لها تُشعِرها بالطمأنينة.
انتهوا من تناول الطعام فأخذت أحلام الصينية وخرجت من الغرفة وقامت بعمل اتصالًا حتما سيساعد زينب في الخروج من حالتها المذرية:
_ صباح الخير يا هناء، أخبارك إيه؟
وبعد أن انتهوا من الترحيب والسؤال عن بعضهما البعض أخبرتها أحلام بسبب اتصالها قائلة:
_ كان ليا عندك طلب
باهتمامٍ رحبت هناء بسماع طلبها:
_ اتفضلي يا حبيبتي
حمحمت أحلام وألقت نظرة سريعة على باب غرفة زينب وعندما تأكدت أنها لن تخرج، فقامت بالتحدث على الفور:
_ أنتِ طبعًا عارفة اللي حصل لزينب الفترة الأخيرة، وهي من يومها نفسيتها مش أحسن حاجة، كنت عايزة البنات يرجعوا يتكلموا معاها ويخرجوها عن اللي هي فيه..
استقبلت هناء طلبها بصدرٍ رحب وأردفت:
_ طبعًا طبعًا هقولهم، متقلقيش سيبي الموضوع عليا..
شكرتها أحلام مرارًا ثم أنهت المكالمة وقامت بالإتصال على قاسم الذي أجاب على اتصالاتها تلك المرة فهتفت أحلام بهجوم:
_ مش بترد عليا ليه؟ أنا هموت من القلق على ابني، وأنت قولت هتكلمني واختفيت من وقتها..
بهدوئه المعتاد بدأ يخبرها عما حدث وما عاشه عبدالله منذ البارحة، متعمدًا عدم ذكر جرح ذراعه حتى لا يزيد قلقها.
***
مساءً، يجلس آدم برفقة ڤاليا وعائلتها يُخطِطُون لحفلة الخِطبة، وبحماسٍ هتف آدم:
_ تمام، كدا المكان واختارنا جنينة الفيلا وأنا ليا واحد مراته Wedding planner شاطرة جدًا هديلك رقمها يا ڤاليا تتواصلي معاها وتقولي لها كل اللي أنتِ نفسك فيه..
لم يجد آدم ردًا منها، بل كانت شاردة الذهن، تعجب والديها من وضعها فلوح آدم بيده أمام عينيها ليجذب انتباهها:
_ أنتِ فين كدا؟
قطع عليها حبال شرودها، نظرت إلى جميع الجالسين فتقابلت مع أعينهم المُصوبة عليها، تنهدت بقوة فقال عز:
_ حبيبتي آدم بقاله ساعة بيتكلم عن ترتيبات الخطوبة، وأنتِ مقولتيش رأيك خالص..
عضت شفاها وبلا مبالاةٍ أردفت موجهة حديثها إلى آدم:
_ اعمل اللي أنت شايفه وأنا موافقة عليه..
كان ردًا مريبًا للبعض، فلم تكن ڤاليا تعيش حماسها المعهود في المناسبات كتلك، تبادل عز النظرات مع زوجته ثم انتبه على آدم الذي طغى عليه الإحباط وصمت، بينما نهضت ڤاليا وأرادت الهرب من بينهم فقالت:
_ أنا حاسة إني مش مرتاحة هنا، أنا هخرج برا..
خرجت تحت ذهول والديها من تصرفها الوقح، فلقد تركت آدم وذهبت، حرك عز رأسه باستنكار شديد وحاول تلطيف الأجواء المشحونة:
_ معلش يا آدم بس ڤاليا شخص قلوق جدًا وأكيد متوترة وهي داخلة على خطوة الخطوبة دي..
بعدم اقتناع لتبريرات عز أردف آدم مبديًا انزعاجه:
_ يا اونكل دي خطوبة مش فرح عشان تقلق، بصراحة أنا معتش فاهمها، أوقات بحس إنها متقبلاني وبتتعامل بلطافة وأوقات بحس إنها رفضاني تمامًا ودي النسبة الأكبر اللي بحس بيها
إلتقط آدم أنفاسه وحاول إخماد عصبيته التي ظهرت في صوته وعاود الحديث بنبرة عاقلة:
_ أنا بحاول أرضيها بكل الطرق، لكن مش بحس إنها مبسوطة، كنت في الأول بقول عشان متعرفنيش ومش أخدة عليا، لكن دلوقتي مش لاقي ليها مبرر..
نهض آدم عن الأريكة وقال بعد أن زفر أنفاسه بضيق واضح للآخرين:
_ بس عشانها هستحمل الطريقة الجافة دي.. عن إذنكم هروح أشوفها..
انتظرت نهال خروج آدم وأبدت ضيقها من تصرفات ڤاليا المُدللة:
_ بجد الولد عداه العيب، ذوق ومتفهم وصبور، مش فاهمة ڤاليا بتعامله كدا ليه؟ لو سمحت يا عز اتكلم معاها هي بتسمع منك عني..
اكتفى عز بإيماءة من رأسه ووجهه بصره إلى الباب الذي خرج منه آدم، في الخارج؛ وقف آدم خلفها وتساءل:
_ ها بقيتي أحسن ؟
أومأت برأسها فابتسم لها وقال:
_ طب ينفع نكمل اختيار الترتيبات، الحاجات دي مش بفهم فيها أوي ومحتاج لمسة منك..
كانت عينيها تختلس نظرةً بين آدم وغرفة عبدالله على أمل رؤيته، كم أرادت الإطمئنان على وضعه كثيرًا، أخرجت تنهيدة حارة وهتفت كأنها لم تستمع لما قاله:
_ أنت مسألتش على عبدالله ليه؟ أنت مش عارف إنه اتصاب النهاردة..
بجفاء ردّ:
_ عرفت
أسرعت ڤاليا بمسك ذراعه منتهزة تلك الفرصة:
_ تعالى أسأل عليه..
أرغمته على السير بِضع خُطوات ثم تفاجئت بيد آدم تُجبرها على التوقف وقال بصوتٍ يكسوه الضيق:
_ ڤاليا، سبيني على راحتي هبقى أسأل عليه بعدين..
نظرت إليه بيأسٍ، فكان هو سبيلها الوحيد لرؤيته، وقفت عابسة قليلًا فشعر آدم بالإختناق يغلف صدره وأراد إنهاء المقابلة حتى لا تجبره على التعامل مع عبدالله فقال:
_ أنا همشي، بكرة نكمل الباقي بعدين، تصبحي على خير
لم ينتظر ردها بل هرب سريعًا تحت نظراتها المُشتعلة، فلم يعمل لها ذلك المعروف، تأففت بضجرٍ وعادت إلى الفيلا بعد أن فقدت الأمل في رؤية عبدالله.
***
طرق عاصم باب الغرفة أولًا قبل أن يدلف، سمحت له صبا بالدخول، ثم أنهت مكالمة الفيديو التي تُجريها بتحدُثها الأجنبية:
_ Bye Doctor, see you later
( وداعًا دكتور، أراكِ لاحقًا )
أغلقت الحاسوب، فبدأ عاصم بالحديث:
_ الجلسة كانت تمام المرة دي؟
أماءت صبا فساد الصمت قليلًا، حتى قطعه عاصم بفضوله وهو يجلس على طرف الفراش:
_ ليه يا صبا فيه جلسات مينفعش أحضرها معاكي؟
أجابته ببرودٍ:
_ لان أنت متعرفش كل حاجة عني، ومن حقي احتفظ بجزء من الخصوصية لنفسي...
تراجع عاصم للخلف قليلًا مستندًا براحتي يده على الفراش، أطال النظر عليها يتردد في قول سؤاله، لكن في النهاية دفعه الفضول حول معرفة الإجابة:
_ الخصوصية دي خاصة براجل؟
سؤال فاجئ صبا، وشعرت ببعض الإرتباك، لكنها حاولت بالا تُظهر، وأن تبدو طبيعية، نهضت عن مكانها وردت وهي تضع الحاسوب على الكومود:
_ هو عشان قولت خصوصية يبقى خلاص فيه راجل!
نهض عاصم واقترب منها وحاول تحسس ذراعها فنفرت صبا منه، استدارت بجسدها وحذرته:
_ متقربش..
_ أيوة ليه مقربش؟ طلاما الخصوصية دي مفيهاش راجل؟!
تساءل بفضولٍ شديد، فحاصرها بسؤاله فازدردت صبا ريقها وأرادت الإنسحاب من أمامه لكنه حاصرها بذراعيه الذي وضعهما على الحائط وأرغمها على النظر إليه قائلًا:
_ أنا محاولتش أخد منعطف تاني في علاقتنا عشان الظروف اللي كنتي فيها، صبرت وساعدتك تكوني أحسن وتنسي اللي حصل، بس برده مش قادر استوعب إني راجل وأنتِ ست ومع بعض بقالنا ٣ شهور ومفيش أي حاجة بينا لغاية دلوقتي..
تسلل الخوف إلى قلبها؛ ولم تود فهم ما يقصده، فتصنعت الجهل:
_ وهو إيه المفروض يحصل بينا؟
_ مش حاجة بعينها، بس على الأقل علاقة طبيعية
زي أي زوجين
هتف بهم متأملًا فهمها لحاجته إليها، لكنها أبت القبول وذكرته باتفاقهما:
_ بس دا مكنش اتفاقنا، قبل ما نكتب الكتاب أنا قولت لك جوازنا دا ملجأ لهروبي، موعدتكش إن يكون حقيقي وأنت قِبلت
هاجهم عاصم اتفاقهما السخيف بندمٍ يعيشه الآن:
_ قِبلت، على أمل إننا في يوم نقرب لبعض، مفيش راجل وست بيكونوا في مكان واحد ويفضلوا زي ما هما، على نفس وضعهم، تفضل مشاعرهم جافة متتحركش لبعض، حتى رغباتهم في الوصول لبعض متزديش..
ممكن يحصل كدا بس في حالة واحدة بس..
ابتلعت صبا ريقها مرارًا وهي تُطالع عينيه بخوفٍ خشية أن يتم كشفها، فتفاجئت به يضع يده على قلبها ويستأنف حديثه:
_ يكون فيه واحد ساكن هنا، وهو الحاجز اللي بيني وبينك!
لحظتها خفق قلب صبا بعنفٍ حتى شعر به عاصم، تفقد ملامح وجهها وقلبه يخبره أنه ينبض من أجل آخر، فعاود طرح اسئلته بتوجسٍ خيفة:
_ قلبك بينبض جامد ليه يا صبا؟ فيه حد صح؟
أغمضت عينيها مُحاولة الثبات، فأصر الآخر على معرفة ما إذا كان في قلبها أحد:
_ ردي عليا، فيه حد؟
خرجت صبا عن هدوئها وصرخت نافية:
_ مفيش، مفيش
سكنت الراحة جوف عاصم حينها؛ أزاح يده من جانبيها فحاولت صبا الهرب لكنه منع ذلك بجذبها إليه فتحاشت النظر عنه وقالت برجاء:
_ لو سمحت يا عاصم سيبني..
لم يصغي لتوسلها بل سمح لنفسه بالإقتراب منها فحاولت صبا دفعه بعيدًا:
_ ابعد، ابعد
لم يتأثر برجائها وحاول التودد إليها وتقبيلها رغمًا عنها، فرجف جسدها واهتزت بقوةٍ متذكر حادثتها عندما فشلت في إبعاد ذلك الوغد الحقير، تذكرت توسلاتها إلى اللعين حمادة ولم يتركها وكذلك عاصم يفعل مثله الآن، لا يآبى لخوفها وإصرارها على تراجعه.
فصرخت عاليًا حتى فاجئته بحالتها وتراجع، فلم تتوقف عن الصراخ فحاول تهدئة روعها برفعه لذراعيه معلنًا ابتعاده وهو يردد:
_ خلاص، أنا بعدت، اهدي..
حاول الإقتراب ثانيةً فازدادت سوءًا فأُرغِم عاصم على التراجع وهتف بعض الكلمات ليبث فيها الطمأنينة:
_ أهدي والله مش هقرب لك تاني غير برضاكي..
قالها ثم توجه إلى الدرج الخاص بالأدوية وقام بسحب أحد الحبوب كما سكب لها كوبًا من الماء واقترب منها تاركًا مساحة بينهما لا بأس بها وقال:
_ خدي المهدئ.. لو سمحتي
أطالت النظر إلى يده ثم مدت يدها فوضع عاصم لها الحبة وكذلك الكوب، ثم انسحب إلى الخلف قائلًا:
_ أنا هخرج من الأوضة، حاولي تهدي..
ألقى نظرة سريعة عليها قبل ذهابه متأثرًا بحالتها التي باتت عليها منذ زواجهما، أغلق الباب خلفه فانهمرت صبا باكية، وضعت يدها خافية وجهها ودعت العنان لعبراتها تتسلل من بين ثغرات أصابعها حتى شعرت بحاجتها إلى النوم، فتمددت على الفراش حتى باتت في ثُباتٍ عميق.
***
قارب الوقت على آذان الفجر، لم يرف لها جفن، فكان عبدالله شاغلها الأساسي، تريد الإطمئنان عليه، لكن كيف؟ لا تدري، نهضت ووقفت في شرفة غرفتها تختلس نظرةً على غرفته فوجدتها مضيئة.
ابتسمت ڤاليا بخفة لعدم نومه بعد؛ وحينها راودها فكرةً ترددت في تنفيذها في البداية، لكنها عزمت في النهاية على الذهاب إليه، خرجت من غرفتها تتلفت حولها متفقدة المكان فلم تجد آثرًا يدل على استيقاظ أحد.
فخرجت تسير على أطراف أصابعها حتى بلغت خارج الفيلا، تلك الأثناء راود صبا كابوسًا أزعج نومها فاستيقظت تلتقط أنفاسها التي شعرت لوهلة أنها لا تتنفس في الحُلم.
نهضت مُسرعة وتوجهت إلى الشرفة ورفعت رأسها للأعلى تستشنق الهواء الذي امتلأ به رئتيها وشعرت ببعض الراحة، سقطت عينيها على غرفة عبدالله المضيئة وشعرت بحاجتها للإطمئنان على جرحه.
حتمًا لن يهتم به ولن يقوم بتعقيمه إلا إذا ذكّره أحدهم مثلما كانت تُذكّره هي دومًا، حاولت طرد تلك الفكرة التي هاجمت مِخيلتها وجاهدت على تناسي الأمر فهو الآن لا يمت لها بصلة.
ذلك ما تُظهره لكن قلبها لم يعرف العشق إلا على يديه، لم يخرج منه بعد، فهو ما زال ساكنًا داخلها، أخرجت تنيهدة محملة بالحزن ثم عادت إلى الغرفة، ألقت نظرة على عاصم الذي ينام على الأريكة ثم خرجت من الغرفة بحذرٍ، كانت تتفقد المكان من آن لآخر خشية أن تتقابل مع أحد سكان الفيلا.
وصلت كلتاهن في نفس اللحظة عند باب الغرفة الخاصة عبدالله، وتفاجئن بل وصعقن برؤية بعضهن البعض، طالت النظرات المرتابة بينهن وداخل كلتاهن خوف من السؤال الذي سيأتي لاحقًا..
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close