رواية علي دروب الهوي الفصل العشرين 20 بقلم تسنيم المرشدي
***
ترجل من السيارة بعد أن قام بصفِها داخل الفيلا، ثم قام بالدخول فاستقبلته الخادمة بترحاب حافل:
_ اتفضل يا قاسم بيه، أهلًا بحضرتك
_ أهلًا بيكي يا عزيزة، لو سمحتي بلغي حد يدخل الشنط بتاعتي من العربية..
_ أمرك يا فندم..
قالتها بطاعة، في تلك الأثناء جاءت حورية وسمعت ما أمر به قاسم للخادمة، فتوجهت نحوه بحاجبان معقودين متسائلة باستفسار:
_ أنت ناوي تقعد معانا على طول؟
أخذ قاسم يتنفس بعمق، قبل أن يعطيها إجابة بنبرةٍ جامد:
_ أيوا...
ابتهجت حورية وإلتوت شفتيها ببسمة سعيدة دقت طبول قلبها وهي تطالعه بعيون متلهفة لعودته إليها يومًا لطالما تمنت ذلك، بينما تابع قاسم إحضار الحقائب من قِبل العاملين فأمرهم:
_ طلعوهم الأوضة القبلية..
اختفت ابتسامة حورية بالتدريج، وانتظرت حتى ذهاب العاملين واقتربت منه بِضع خُطوات وسألته باهتمامٍ:
_ ليه الأوضة القبلية؟ دي مش أوضتنا!!
أدار قاسم رأسه ناظرًا إليها بنظراتٍ ثاقبة؛ ثم استدار بكامل جسده وأرف بنبرة جافة:
_ إحنا عمر ما كان لينا أوضة يا حورية!!
شعرت بغصة في حلقها، ازدردت حورية وحاولت مسايرة الأمر كما لو انها لا تشعر بشيءٍ من الحزن:
_ طب ما نخلي فيه أوضة وفيه حياة، مش أنا مراتك وليا حقوق عليك؟!
تشدق قاسم ساخرًا وهتف بنبرة مشدودة رغم هدوئها:
_ حقوقك إنك قاعدة في بيتك مع ابنك، من سيدات المجتمع الراقي، مرات قاسم القاضي من أهم رجال الأعمال في البلد، ستات مصر تحلم بمكانتك دي، دي حقوقك عندي، غير كدا متحلميش..
لمعت عينيها بالدموع لقساوة قلبه؛ ولم تستطع تمرير كلامه دون الرد عليه، فخرج صوتها مشحونًا بالعصبية التي اكتسبتها من رفضه الدائم لها:
_ خد كل اللي قولت عليه دا مش عايزاه.. أنا عشت عمري كله بحلم بيك أنت، بستنى رجوعك ليا ندمان على العمر اللي ضيعته بعيد عني..
_ أنا لو ندمان على حاجة فهي على ثقتي ليكي زمان، ندمان إني آمنت لك، ندمان إني لغاية دلوقتي مش حاسس إني مخدتش حقي منك، تمن وجع قلبي العمر كله لسه مكفهوش هجرك السنين دي كلها..
تساقطت عبرات حورية كألامواج العنيفة التي تتسابق لوصولها على اليابسة، حاولت الحديث مرارًا لكنها فشلت، فكانت تهاجمها موجة من البكاء تمنعها من التحدث، لكنها جاهدت لتخرج كلماتها تاني حبُست داخلها فخرجت بصوتٍ مهزوز متحشرج:
_ كل دا ومختش حقك مني؟ كل الجفا والحرمان والنوم في بيت عريض لوحدي ومختش حقك!!
هاجمها بقسوة وقلبٍ ينفطر حزنًا على أولاده المتفرقة وعمره الضائع:
_ كل ما هبص على ولادي وألاقي بينهم عداوة يبقى أنا لسه مختش حقي، وكُرهي ليكي بيزيد، أنا الحاجة الوحيدة اللي خايف منها إني ملحقش أخليهم يحبوا بعض قبل ما أموت، وأنا بقولها أهو بأعلى صوت، أنا عمري ما هسامحك يا حورية لو ولادي فضلوا يكرهوا بعض.. ولو دخولك الجنة متوقف على مسامحتي ليكي عمري ما هسامح.. اللي عشته مش هين أبدًا!
انتهت الكلمات هنا؛ مر بجوارها دون أن يأبى بدموع التماسيح التي تجدر في استخدامها، إزداد الغضب داخل حورية وهاجمته ببغضٍ في سؤالها:
_ وأنت إيه اللي رجعك طلاما مش هيكون فيه حياة بينا؟
دون أن يتطلع عليها رد:
_ راجع أربي ابني
تشدقت ساخرة وهتفت بتهكمٍ:
_ وعلى كدا هتحبسه في الأوضة لغاية ما يسمع الكلام؟!
تجمدت قدمي قاسم ولم يواصل صُعوده؛ التفت إليها ورمقها بنظراتٍ احتقارية قبل أن يُردد مشمئزًا من تفكيرها الساذج:
_ دا يثبت إنك متعرفنيش، وإنك بتفكري بطريقتك وبأسلوبك، لكن أنا لأ، أنا هسد لابني خانة ناقصة عنده، هعيشه جو أُسري بين أب وأم، عشان يكون إنسان سوي ويعرف يحب غيره، يقدر يتخلى عن كُرهه اللي اتزرع فيه سنين طويلة.. هعالجه بطريقتي مش بطريقتك، فأنتِ مضطرة أسفة تمثيل إنك سعيدة بالوضع..
أولاها ظهره وعاود الصعود من جديد، حتى وصل غرفته الذي أمر بوضع حقائبه بها، جلس على الفراش ثوانٍ ونظر حوله وهو يشعر بعدم انتمائه لذلك المكان، لكنه مُجبر على العيش فيه حتى يُوطد علاقة الأخوين.
***
طُرق باب المنزل، انتبهت عليه فكانت شاردة الذِهن، توجهت بأقدامٍ لا تقدر على حملِها، فهي لم تنم دقيقة واحدة، وقفت خلف الباب متسائلة بنبرة مُنهكة:
_ مين؟
_ أنا زكريا..
قالها فزمت ليلى شفتيها حزنًا، وصل تلك اللحظة والد ليلى الذي ربت على كتفيها وقال:
_ ادخلي جوا يا ليلى..
لم تتردد لحظة؛ بل أسرعت نحو الداخل فهي ليست على استعداد لمواجهته بعد ما فعله البارحة، بينما فتح له والدها واستقبله:
_ اتفضل يابني..
ولج زكريا وعينيه يبحثان عن ليلى، فلقد استمع إلى صوتها إذًا أين هي، ابتسم الآخر لرؤية عيني زكريا التي تجوب المكان، جلس على أقرب أريكة وقال:
_ لما أنت بدور عليها كدا، زعلتها ليه؟
شعر زكريا بالحرج الشديد، نكس رأسه وحاول إيجاد الكلمات التي هربت منه، أشار له والد ليلى بالجلوس فلم يطيل زكريا وجلس، بينما بدأ الآخر كلامه وهو يلومه:
_ أنا معرفش حصل إيه؟ ليلى مردتش تقولي، بس أنا ليا عتاب عندك يابني.. أنت من يوم ما دخلت هنا وأنا معتبرك ابني، وإديتك حتى من روحي، المفروض تحافظ عليها مش تزعلها، وأنا متأكد إن ليلى مش البنت اللي حاجة بسيطة تزعلها فتجري تسيب بيها، ليلى دي بالذات ليها معزة خاصة عندي، دايمًا بحس بتأنيب ضمير من نحيتها، ومهما عملت لها مش بكون راضي رضا كامل وكأنها دايما ناقصها حاجة..
رفع يده ووضعها على فخذ زكريا واستأنسف:
_ ليلى ملحقتش تشبع من أمها، ماتت وهي صغيرة، مخدتش حنانها زي أختها الكبيرة، وسنين بسيطة واختها اتجوزت وهي شالت مسؤولية نفسها، ملحقتش تشبع من عيلتها، لما أنت جيت ولقيتها ملهوفة عليك وعايزاك قولت هو دا عوض ربنا ليها، ويشهد ربنا إني عمري ما شوفت منك حاجة وحشة وكان قلبي مطمن، بس أنا دلوقتي قلقان يا زكريا، قلقان على ابنتي، قلقان إني أسيبها وأمشي وأنت متصونش الأمانة ولا تراعي ربنا فيها..
أسرع زكريا بالرد عليه مستنكرًا حديثه:
_ ربنا يديلك طولة العمر يا عم أسعد، ويبارك في صحتك..
قالها ثم طأطأ رأسه في خذي وخجل فأراد أسعد استغلال الفرصة وأردف بنبرة رزينة:
_ قوم راضيها يابني، وبلاش الزعل بينكم يوصل برا البيت، خلوا حيطان بيتكم ستر عليكم، ازعلوا واتصالحوا جواها مش براها..
رفع أسعد رأس زكريا بأصابعه التي وضعها على ذقنه واسترسل برجاء:
_ أنت الراجل، يعني أنت القائد، أنت اللي تمسك زِمام الأمور، أنت اللي تقدر تخلي بيتك جنة أو نار..
لمعت عيني أسعد وهو يشير إلى البيت من حوله:
_ خليه جنة بدل ما القدر يجي يخليه قبر عايش فيه.. أنت عندك نعمة حافظ عليها عشان متندمش بعدين..
تأثر زكريا بكلماته، وجاهد على إمساك دموعه التي تريد التحرر والإنطلاق، بينما نهض أسعد وأردف موضحًا سبب نهوضه:
_ أنا همشي عشان اتاخرت على الشغل.. ربنا يصلح بينكم يارب
غادر المنزل بينما رفع زكريا عينيه على باب غرفة ليلى، أخذ نفسًا عميق وزفره بهدوءٍ ثم توجه نحوها، فتح الباب دون سابق إنذار، فحدجته ليلى بعيون متورمة، لم يحب زكريا رؤيتها في ذلك الوضع، اقترب بخُطاه منها وجلس على الفراش مقابلها محاولًا كسبها من جديد:
_ قومي يا ليلى إلبسي عشان نرجع بيتنا..
تشدقت ساخرة وهتفت بتذمرٍ:
_ دا بيتك مش بيتي..
قاطعها زكريا دون الإنصات لبقية حديثها:
_ ملكيش دعوة بكلام أمي..
لم تعطه الفرصة لإكمال حديثه حيث قاطعته بحدة:
_ أنت اللي حسستني بكدا مش هي، هي قالت كلام، بس أنت عملت الفعل، أنت أثبت لي إني مش فارقة لك ولا وجودي مهم، أنت سبتني أبات برا بيتك ودا كفيل أوي إني أعرف إني مش مهمة وإن وجودي زي عدمه..
كاد ينفي حدسها لكنها لم تعطه فرصة:
_ متحاولش تذوق الكلام عشان مش هصدقه..
انتبهت ليلى على ما قالته فأطلقت ضحكة ساخرة وهي تتابع:
_ حتى دي مش بتعرف تعملها، أنا آسفة نسيت..
نهضت مبتعدة عن الفراش وأولته ظهرها ثم واصلت وهي ترميه بعيوب أسلوبه الجاف:
_ زكريا أنت مبتعرفش تصالح، مبتعرفش حتى تضحك عليا بكلمتين زي أي راجل، بتعدي الموقف حتى من غير عتاب.. الموقف بيعدي شكليًا بس، لكن بيفضل موجود جوايا ومع أول مشكلة بتحصل تاني بيتجدد القديم والجديد مع بعض..
نظرت في عينيه وأردفت متابعة:
_ لأن القديم متحلش أصلًا، هو اتركن على الرف زي غيره.. امبارح بجد حسيت لأول مرة إني مليش ضهر، وإني مُعرضة في أي وقت اتساب ومش هتكون باقي عليا.. أنا من أول يوم لينا مع بعض وأنا قولتلك إنك كل حاجة ليا، بس الظاهر مقدرتش دا.. أنت عشان ضامن وجودي زي ما قولتلي امبارح فبتعمل اللي أنت عايزه وأنت متأكد إني همشي وهفضل موجودة مهما حصل..
أغمضت عينيها تُجاهد على عدم إظهار ضعفها له؛ عن طريق أخذ شهيقًا وزفيرًا، ثم أعادت فتح عينيها وأردفت كلماتها بهدوءٍ بالغ:
_ بس المرة دي وجودي لازم يفرق معاك.. لازم تحس إنك فعلًا محتاجني.. وإلا بقى لو محستش بفرق يبقى الكلام وقتها هيكون مختلف..
أثناء حديثها نهض زكريا وتوجه نحوها ودون سابق إنذار ضمها إلى حضنه بكل ما أوتي من قوة مرددًا بصوتٍ أجش:
_ ششش، أنا بكل جواحي محتاجك..
دخلت ليلى في حالة ذهول تام، إزدادت دهشتها من ذلك العناق المختلف، لم يعانقها بحنانٍ كهذا من قبل، بل دومًا ما تشعر بحاجته لها كرجلٍ وامرأته، لا عناق حبيب لحبيبته، شعرت بنبضاته التي تخترق صدرها لكنها لم تبادله العناق على الرغم من تطوقها لفعلها.
بعد لحظات؛ تراجع زكريا للخلف ورفع بيده رأسها فأرغمها على النظر إليه، وقال بصوتٍ رخيم هادئ لا يُشبهه:
_ أنتِ أول واحدة في حياتي يا ليلى وأنتِ عارفة كدا كويس، متعاملتش مع حريم قبلك غير أمي واخواتي، ودول معاملتهم مختلفة خالص عنك، قولت هتعلم معاكي واحدة واحدة، وأنتِ معترضتيش مرة واحدة على أسلوبي عشان أحس إني غلط..
_ أنت مكنتش بتديني فرصة اتكلم، على طول بتتعصب وتنهي الحوار، طريقتك واخدة وضع الهجوم دايمًا.
هتفتها ليلى لتخرج نفسها من موضع الحمقاء التي لم تعارض أسلوبه الفظ، فحاول الآخر لململة الأمر دون مُماطلة:
_ خلاص يا ليلى، بجد هحاول أسمع أكتر ما بتكلم،
هحاول أغير طريقتي وأسلوبي عشان خاطرك، المهم متبقيش زعلانة..
رفعت ليلى عينيها عليه، لا تصدق السهولة التي يتحدث بها، كأنه شخصًا مختلف، نسخة أخرى منه لم يسبق وتعاملت معها، بينما أحاط زكريا كتفيها وحاول ملاطفتها:
_ البيت كان وحش من غير صاحبته.. عمال يعيط هناك ويقول عايز ماما
كان مزاحًا ثقيل لم تتقبله هي بل تعمدت النظر إليه بحاجبين معقودان فضحك زكريا وداعب أنفها بإصبعه قبل أن يُردد:
_ يا لول، ميبقاش دمك تقيل..
قلبت ليلى عينيها بتزمجرٍ وهتفت مستاءة:
_ أيوا كفاية واحد فينا..
تفاجئ زكريا بما قالته، وردد متقبلًا مزاحها بمزاج سوي:
_ مقبولة، بس بعد كدا لو اتقالت هـ..
_ هـتعمل إيه؟
تساءلت ليلى وهي تعقد ذراعيها على صدرها بتحدٍ وقوة اكتسبتهما حديثًا، فانهال عليها زكريا مقبلًا ثغرها بحرارة وأردف:
_ هعمل كدا..
دفعته ليلى بعيدًا عنها بعنفٍ، وحذرته بسبابتها:
_ أنا لسه مضايقة، متقربش مني..
تفقد زكريا ساعة هاتفه ثم أعاده في جيبه وحاول الإسراع:
_ طب يلا عشان أروحك وأروح شغلي، اتاخرت
رفعت ليلى كتفيها للأعلى وكذلك حاجبيها وهي تُردد ببرودٍ:
_ ما تتأخر وأنا مالي..
نفذ صبر زكريا على تحمل ذلك الدلال المبالغ، فقام بحملها بين ذراعيه دون أن تستشعر هي ذلك فصاحت ليلى وهي تراه يتوجه باتجاه الباب:
_ أنت رايح فين؟
أجابها وهو يتابع سيره:
_ بنجز..
ركلت ليلى قدميها في الهواء محاولة التحرر من بين يديه هاتفة بإقتضاب:
_ نزلني.. بقولك نزلني
قام زكريا بإنزالها ثم بحث عن حجابها فلم يجد سوى حجابًا ملونًا قديمًا لم يعرف لمن يعود، فقام بإلتقاطه ووضعه على رأسها محاولًا ضبطه جيدًا تحت ذهولها مما يفعله:
_ أنت بتعمل إيه؟ دي مش بتاعتي
لم يكترث لها بل ألقى نظرة متفحصة على مظهرها ثم احتضن يدها وفتح الباب وسرعان ما قام بغلقه قبل أن تعود إليه مجددًا، هبط السُلم راكضًا وهي تحاول اللحاق بخُطواته السريعة حتى وصلا إلى الشارع فتريث في سيره عائدًا إلى منزلهما.
صعد حتى وقف أمام باب شقة والديه، وقام بقرع الجرس، فسحبت ليلى يدها وتراجعت للخلف قليلًا وهي تردف متسائلة:
_ أنت جايبني هنا ليه؟
قالتها ثم حاولت الإسراع إلى الأعلى لكنه لحق بها وأمسك يدها مانعها من مواصلة صعودها، وقال برجاء:
_ اصبري بقى، وتعالي
أجبرها على العودة، في تلك الأثناء فتحت خلود الباب لهما وتفاجئت بوقوف ليلى، ابتسمت لها بخفة ثم انتبهت على سؤال أخيها الجاد:
_ أمك وابوكي صاحيين؟
أماءت بتأكيدٍ، فولج زكريا إلى الداخل بصُحبة ليلى التي تدلف بعدم رغبة منها، كادت تغلق خلود الباب لكنها تريثت عندما استمعت إلى صوت نزول أحدهم على أمل أن تجده وليد، وقد تحققت أمنيتها، رأته من ثقب الباب التي بالكاد يُظهر عينيها.
تسارعت نبضاتها بقوة؛ عندما كان قريبًا للغاية، خرج له صوت أنفاسٍ فلاحظها وليد ووجه عينيه تلقائيًا على الباب وسرعان ما اختبئت هي خلفه حتى لا يراها حابسة أنفاسها، لم يجد وليد مصدرًا للصوت لكن الأمر مريبًا بالنسبة له، شعر بأنه مُراقب فتابع هبوطه مرتبًا خطة ليعلم بها حقيقة ظنونه.
تأكدت خلود من ذهابه ففتحت الباب وقامت بإلقاء نظرة أخيرة على ظِله، فتفاجئت به واقفًا في زاويه السُلم، انقبض صدرها من هول المفاجأة ناهيك عن صدمتها بظهورها أمامه مُحررة الشعر.
لم يطيل وليد النظر بل غض بصره عنها سريعًا وردد:
_ صباح الخير يا خلود
قالها مبتسمًا على تأكيد حدسه، فلمحت خلود ضحكته وهو يترجل مهرولًا ووقفت جامدة لمدة، محاولة استيعاب أنه تم كشفها.
أغمضت عينيها مستاءة من تصرفها الغير محسوب
وعادت إلى الداخل ليُعيد إليها عقلها تحيته لها فلم تمنع ابتسامتها التي غزت شفتيها، وسرعان ما أخفتها عندما انتبهت لعائلتها التي تتوسط الردهة.
وقف زكريا مُمسِكًا ليد ليلى عندما اجتمع من في البيت حوله، حمحم أولًا ثم زفر أنفاسه على مهلٍ وتحدث بهدوءٍ حذِر:
_ البيت اللي فوق دا بيت ليلى قبل ما يكون بيتي، ليها كامل التصرف فيه حتى لو مرجعتش ليا في حاجة، أظن دي حاجة ترجع لينا ومتخصش أي حد مهما كان درجة قُربه..
شد على يدها وتابع:
_ أنا وليلى شخص واحد، وقبل ما حد يفكر يقولها كلمة وهو متأكد إنها هتزعلها فهي هتزعلني قبل منها، أنا مش بحب المشاكل، ومش حابب أكون طرف في النص، والمفروض إني اختار صف حد فيكم، إحنا طول عمرنا عيلة واحدة، وليلى من وقت ما دخلت حياتي وهي غلاوتها من غلاوتكم، وفرد له حقوق زي أي حد فينا، عشان خاطري وبقول لكل الأطراف بلاش مضايقات هتضيف لنا مشاكل وقلة راحة.. مش عايز حد من اللي بحبه يكون زعلان أو حتى سبب الزعل..
أنهى زكريا حديثه، فتوجه إليه والده وربت على كتفه بحنو وأردف بخذي:
_ معاك حق يابني، إحنا عيلة والمفروض العيلة متعملش كدا مع بعض..
رفع نظره على ليلى الساكنة وأضاف بنبرة طيبة:
_ أتمنى يا ليلى متكونيش لسه زعلانة مننا..
كادت تجيبه إلا أن تدخل زكريا منعه بقوله:
_ أنا محتاج منكم تتصافوا بجد، مش مجرد كلام يمشي الموضوع واللي جوا يفضل مستخبي ويكبر مع الوقت..
توجه إلى والدته برفقة ليلى ونظر إليهن واسترسل:
_ ليلى بنتك التالتة يا ماما، اللي يزعلها تاكليه بسنانك زي ما بتقولي لنا دايمًا، مش نكون إحنا سبب زعلها
ثم وجه بصره على ليلى وتحدث بنبرة رزينة:
_ ماما مش أمي بس يا ليلى، أمك أنتِ كمان، والأم ليها احترامها، ومينفعش نكلمها بأسلوب مش كويس، ونعدي لها أي كلمة لو خرجت غصب عنها..
تناوب بالنظر لكلتاهن وأضاف آخر ما لديه مُمازحًا:
_ اتصافوا ومتكرهوناش في عيشتنا معاكم..
_ زكريا
_ ولد عيب كدا
هتفن بهم هناء وليلى في آنٍ واحد، فضحك الجميع، ثم تبادلن النظرات الخجولة والمُخزية من تصرفاتهن اتجاه بعضهن، وأسبقت هناء بمد ذراعيها لها قائلة:
_ متزعليش مني يا ليلى..
زمت ليلى شفتيها وبعيون لامعة ارتمت بين أحضانها، تبادلن العناق بحميمية حتى بكت كلًا منهن متأثرات بهذا الموقف، تراجعت هناء للخلف وقالت:
_ من النهاردة تقوليلي يا ماما.. ويارب أكون قد الكلمة دي..
على الرغم من صعوبة نطقها لغير مكانها إلا أنها نطقتها لتنهي الأمر، ابتسمت بخفة وقالت:
_ ماشي يا ماما..
_ الله أكبر
هلل زكريا بفرحة ثم أراد الإنسحاب من بينهم فأردف وهو يتفقد الوقت:
_ همشي أنا بقى، عندي شغل ومش فاضي..
توجه إلى ليلى وقام بتقبيل وجنتها اليُمنى فتفاجئت بفعلته وقد احمر وجهها فتدخلت هناء مُعقبة:
_ مش معنى إننا اتصالحنا يبقى الدنيا سداح مداح كدا، قولنا الحاجات دي في بيتكم مش هنا
خرج محمد من خلف زكريا معلقًا بسخرية:
_ هناء مراتي ومش هتتغير..
قهقه جميع الواقفين بينما انسحب زكريا متعمدًا ترك ليلى في بيت والديه ليذيب الجليد بينهم ويبدأن عهدًا جديدًا معًا.
***
وقف ينظر إليه وهو مُكبل الأيدي والقدمين، ثم قام بعمل اتصالًا، وتحدث فور إيجاب الطرف الآخر:
_ عبدالله، أنا لقيت حمادة، كان بيحوم حوالين الفيلا عندي.. هبعت لك اللوكيشن تيجي عليه
نظر عبدالله إلى الهاتف، يطوق إلى الذهاب حالًا، لكن عليه التريث، يجب عليه إعادة ڤاليا أولًا، قام بتوصيلها إلى الفيلا ثم أخذ إذن ليغادر تحت نظرات فاليا المتابعة له.
خرج والدها وتعجب من وقوفها بالخارج، صوب نظره نحو ما تنظر إليه فكان عبدالله، شعر بالريبة داخله ومال على أذنها هامسًا ليجذب انتباهها:
_ واقفة عندك بتعملي إيه؟
دعب الرعب أوصال ڤاليا، كما تملكها الإرتباك، وشعرت بشعورٍ مبهم حينها، حمحمت وحاولت تجميع كلماتٍ لتجيب والدها الذي ضحك وهلل مازحًا:
_ في إيه يا فيفو لكل دا؟
حاولت الهرب من أمامه سريعًا فقالت بإقتضاب:
_ لا مفيش.. أنا راجعة تعبانة وعايزة أنام، تشاوو
وقف عز يتناوب النظر بين الإتجاه التي ذهبت فيه ابنته والإتجاه الذي اختفى منه عبدالله، وكأن داخله يخبره بثمة أمرًا يحدث لا يعلمه.
في مكانٍ آخر وبعد مرور فترة ليست بقصيرة؛ وصل عبدالله إلى العنوان الذي أرسله إليه والده، دلف بهيئة تود الثأر كثيرًا، لكن وقوف والده منعه من مواصلة سيره، نظر إليه وحذره بلطفٍ:
_ أنا جبته زي ما أنت طلبت، هتاخد منه اللي أنت عايزه بهدوء، مش عايز شعره منه تتلمس..
لم يجيبه عبدالله بل كانت عينيه مُصوبة على حمادة، من خلف قاسم الذي تنحى جانبًا ليمُر الآخر ويصل إلى حمادة، لكنه كان حريصًا بألا يبعد عنه مسافة بعيدة ليمنع أي تطاول قد يُحدثه عبدالله.
وقف عبدالله أمام حمادة، طال الصمت لثوانٍ، لم يعرف بأي يبدأ، وأخيرًا خرج صوته هادئًا أكثر من اللازم:
_ صبا فين؟
استنكر حمادة سؤاله وأجابه مستاءً:
_ وأنا أعرف منين هي فين؟ يكنش مخبيها في بيتي؟
_ انطق وقول أنت عملت كدا فعلًا؟ ولو أه عملت كدا ليه؟ شوفت مني إيه يخليك بالحقارة دي معايا؟
أردفها عبدالله متعمدًا الثبات أمامه، فقهقه حمادة وردد كلماته بتهكمٍ:
_ يعني أنت بعد كل اللي عملته دا ومش متأكد كمان إني عملت حاجة؟ طب ما صحيح ما يمكن هي سابتك عشان مش بتحبك، ما أنت برده يا عُبد مش عاصي الحلاني عشان تموت في دباديبك.. أنت حيالله حتة سواق، حتى لو البيه دا أبوك بيطس برده هتفضل سواق
اقترب عبدالله منه خُطوة فوجد ذراع والده أمامه مانعه من الوصول إلى حمادة، فأدار رأسه ناظرًا إليه، فعمِل قاسم على تهدئته بإشارة من عينيه مرددًا بخفوت:
_ أهدى، بيحاول يستفزك..
أخذ عبدالله نفسًا عميق ووقف دقيقة يحاول التحلي بالصبر ثم عاد إليه ثانيةً وسأله:
_ أنت اللي عملت كدا؟ رد وقولي في وشي قولي آه يا عبدالله عملت كدا..
إلتوت شفتي حمادة مشكلًا ابتسامة سمجة على محياه فأظهرت أسنانه الصفراء القذرة، ازدادت ضحكته اتساعًا وهتف:
_ ما كانت أختك عندي، هبص لبرا ليه؟
اتعب نفسك أنت بس وعيد تفكيرك في علاقتكم يمكن تلاقي حاجات كدا ولا كدا تبين لك هي غلطت مع مين وبتتهمها في حمادة الغلبان؟
خرج عبدالله عن طوره وكاد يفتك به إلا أن قاسم كان حائلًا مانعًا إياه من الوصول إليه، فأضاف حمادة بقلبٍ يتشفى في عبدالله:
_ تصدق أنا متكيف أوي باللي بيحصل دا، عشت طول عمرك وحيد من غير أب ودلوقتي من غير حبيبة القلب ومش قادر توصل لي ولا تمسك حاجة عليا.. وكأن ربنا بيجيب لي حقي منك..
دفع قاسم عبدالله بكل ما أوتي من قوة للخلف واستدار بجسده ورمق حمادة بنظراتٍ مشتعلة أحرقته، لم يعد يحتمل كلماته التي استفزته، وأسرع نحوه بعينين لا ترى سوى أخذ روحه، انهال عليه باللكمات العنيفة في وجهه حتى أبرحه ضربًا يجهل من أين استمد قوته تلك.
تناثرت الدماء من وجه حمادة الذي لم يتوقف عن الصراخ، كان عبدالله متفاجئًا بما يحدث، للمرة الأولى يرى والده خارجًا عن هدوئه ووصوله إلى ذروة غضبه مثلما يحدث الآن، توجه نحوه وبعدما كان يمنعه قاسم من لمس حمادة، فأبعده عبدالله عنه بصعوبة بالغة.
نجح عبدالله في إبعاد والده، فبصق قاسم أرضًا وتوعد لذلك الوغد اللعين:
_ والله ما هتشوف نور الشمس قبل تعترف بعملتك، أنا هوريك مين هو قاسم القاضي، هندمك على اليوم اللي فكرت تبص بصة وحشة لابني
وجه قاسم نظراته إلى عبدالله ورفع سبابته في وجهه وهو يضيف من بين أنفاسه اللاهثة بغضبٍ:
_ الموضوع دا بقى بتاعي، ملكش دعوة بيه نهائي
أولاهما ظهره ووضع كلتى يديه في منتصف خصِره، يحاول ضبط أنفاسه المضطربة، متوعدًا لذلك الوغد أشد وعيد.
على الجانب الآخر، لم يرفع عبدالله عينيه من على والده، شعورًا لا يُضاهى بثمن، كيف عاش عمرًا بدونه؟ كيف لم يقبل به وترك نفسه يتخبط بين المهالك والصِعاب في وجوده، تأثر كثيرًا وراوده الندم لحظتها لأنه أضاع بيده ليالٍ وحيدًا بلا عائل.
تحولت نظراته إلى غريقًا يبحث عن طوق نجاته، أخرج تنيهدة مُحملة بالكثير من المشاعر المتناقضة، تشتت أفكار عبدالله ولم يعد يزن الأمور جيدًا، فقرر الهرب والخلوة بنفسه حتى يعرف ماذا يريد.
***
صعدت عليا مُتعمدة رفقة ليلى، التي رحبت بوجودها، جلست عليا تتنقل في هاتفها بين مواققع التوصل خاصتها لحين تبديل ليلى ملابسها بأخرى مريحة، عادت إليها من جديد متسائلة باهتمامٍ:
_ تشربي عصير ولا شاي؟
رفضت عليا ذلك مُعللة:
_ مش عايزة أشرب حاجة تعالي عايزة أتكلم معاكي شوية عشان أنزل أشوف اللي ورايا
شعرت ليلى بالقلق وفد انعكس على تقاسيمها فاستشفت عليا ما يدور في عقلها وأردفت مطمئنة إياها:
_ لا هو كلام عادي مش محتاج القلق دا كله..
اقتربت منها ليلى وقامت بالجلوس جوارها، فبدأت عليا حديثها التي تود التحدث به معها:
_ ليلى إحنا اخوات وصحاب، وكلامي دي بعشم مش إني بدخل في خصوصياتكم ولا لا سمح الله
بعدل على شخصيتك، بس هي نصيحة أتمنى تتقبليها..
_ أنتِ كدا بتقلقيني أكتر على فكرة..
قالتها ليلى على أمل بدئها للحديث فورًا، فابتسمت عليا بخفة لتبُث فيها الطمأنينة وأردفت:
_ أنا عارفة إن زكريا صعب شوية، ودماغه مقفلة حبيتين تلاتة، بس اللي متأكدة منه إنه بيحبك وزي ما عارفة أنه بيحبك عارفة برده إن الحب لوحده ميفتحش بيت، لازم تحابيش كدا جنبه تدي للحياة طعم
إحنا اتربينا في بيت الأم فيه بتقدس الراجل جدًا وبتهتم إنها تكون مريحاه، حتى في عز تعبها كل حاجة خاصة بـ بابا لازم تكون متاحة وجاهزة، اتعلمنا نحترم الطرف التاني من غير ما يأثر على شخصيتنا
كل راجل له ثغرة تقدري تدخلي له منها، وأنتِ أكيد عارفة زكريا بيحب إيه أو ميوله لإيه، أكيد السنين اللي فاتت دي عرفتك على الحتة دي فيه، والشطارة إنك تلعبي عليها مش عشان تكوني أنتِ المسيطرة والكلام دا
لا خالص، بس عشان الحياة تكون سهلة وبسيطة ويقدر إنك بتعملي اللي هو بيحبه ومحتاجه فيقدرك أكتر ويعدي لك لو غلطتي..
تاني حاجة الأهل مش لازم يكونوا صح طول الوقت، بس الكلام عليهم بيأثر جدًا على العلاقة، أنا مش بقول إن تصرفات ماما مكنتش بتضايق، بس ممكن نعديها أو نتعامل معاها بهدوء واحترام ومن غير ما ندخل زكريا فيها، تخيلي زكريا يجي يطلع غلط على باباكي، هتحسي وقتها إنك مش مُتقبلة الكلام عليه خالص ومضايقة من زكريا رغم إن ممكن يكون هو فعلًا غلطان..
ابتلعت عليا ريقها وتابعت بنبرة أكثر ليونة:
_ خُلاصة كلامي، الحياة بتكون فيها مشاكل طلاما الطرفين مش فاهمين بعض أو دخلوا حد من اهلهم، إبني معاه ذكريات حلوة، افهميه أكتر، أخرجوا واكتشفوا نفسكم مع بعض، وقت المشاكل تجنبوا بعض لحظة العصبية عشان محدش يزعل من التاني، لو حصل تصرف من الأهل نحاول نحلها بهدوء من غير مشكلة للطرف التاني مش هيتقبلها.. فهماني يا ليلى
كانت تصغي إليها باهتمامٍ وإنجذاب كبير، تقوس ثغرها بابتسامة هادئة ثم قالت وهي تحرك راسها:
_ فهماكي..
ازدادت ابتسامة ليلى عندما جمعت الخيوط ببعضها وأردفت متسائلة:
_ أنتِ اتكلمتي مع زكريا صح؟!
نكست عليا رأسها هاربة من عينيها ولم تمنع رسم ابتسامتها التي أكدت حدس ليلى، فاقتربت منها وربتت على يدها وقالت:
_ يا بخت حازم بيكي..
احمرت وجنتي عليا وما زادها خجلًا كلمات ليلى المُمتنة:
_ انا ربنا عوضني بيكي يا عليا، أنتِ أكتر من اخت ليا
بادرت ليلى باحتضانها فبادلتها عليا المشاعر الصادقة، ثم نهضت واستأذنت منها لتنهي ما ورائها من مهام منزلية، بينما وقفت ليلى في حيرة من أمرها، تود توطيد علاقتها مع زكريا بلمسة خاصة منها.
فتوجهت إلى غرفتها وقامت بفتح خزانتها ووقفت تنتقي من الملابس أحسنهم، ليكون يومًا مميزًا لهما يتذكرونه في المستقبل، لكنها فوجئت بتعكر معدتها فجأة وشعورها المُلح في الغثيان.
تضاعف شعورها فهرولت نحو المرحاض وقامت بتقيأ جميع مافي معدتها حتى فرغت وشعرت بضعف حيلتها، فعادت إلى الغرفة محاولة تناسي ذلك التعب والإستعداد لما خططت له.
***
بعد مرور شهرين، وفي المساء؛ كان عبدالله جالسًا في حديقة الفيلا يُرسل ما فعله اليوم إلى حبيبته كعادته الأيام الماضية على أملاٍ أن تفتح يومًا وتقرأه، يعيد محاولات اتصالاته بأخيها لكن النتيجة ذاتها لا يجيب، لم يكن لديه عمل كثيرًا اليوم.
توجه إسلام ناحية عبدالله مسرعًا فقلق عبدالله من ركضه، انتصب في وقوفه منتظرًا كارثة في طريقه قد اعتقد حدوثها من هرولة إسلام، وقف أمامه وهتف:
_ عبدالله تعالى معايا، هنروح المطار دلوقتي..
توجه إسلام نحو موقف السيارات فتبعه عبدالله وهو يتساءل مستفسرًا عن الأمر:
_ ماشي بس هنعمل إيه في المطار؟
أخبره وهو يقف أمام السيارة الخاصة بالسفر حيث أنها أكثرهم طولًا وأبوابها الخلفية تتحرك للأمام وإلى الخلف لا إلى اليمين و اليسار مثل بقية السيارات، ذات عدة مقاعد خلف بعضها:
_ هنجيب ابن عز بيه من المطار.. وصل وبعدين بلغنا أنه محتاج عربية على ما يخلص الإجراءات
أماء عبدالله بتفهمٍ، ثم تناول من إسلام مفتاح السيارة وقام بركوبها، تحرك خارج الفيلا ومنها إلى المطار، بعد مرورٍ وقتٍ لا بأس به وصلا إلى وجهتهم، ترجل إسلام من السيارة وأمر عبدالله:
_ اقفل العربية وتعالى معايا..
تنهد عبدالله بمللٍ، وقام بغلق السيارة من الريموت خاصتها وقام باتباع إسلام سريعًا قبل أن يفقده، وقف إسلام باحثًا بعينيه في جميع الإتجاهات حتى وقع بصره عليه فتوجه إليه وكذلك عبدالله.
_ باشمهندس عاصم، حمدالله على السلامة
قالها إسلام فأجاب عاصم بابتسامة هادئة:
_ الله يسلمك يا إسلام..
تناول إسلام الحقيبة من يد عاصم وأشار إلى عبدالله الذي يقف خلفه وأمره:
_ عبدالله، تعالى..
اقترب منهما عبدالله فقام إسلام بتعريف هويته له:
_ عبدالله، سواق الأنسة ڤاليا..
مد عاصم يده إليه ليصافحه وتساءل:
_ أنت بقى أخو آدم؟!
تجهم وجه عبدالله لكنه اضطر إلى التحدث على مضضٍ:
_ أيوا، حمد لله على سلامة حضرتك..
تعمد عبدالله تغير الحوار حتى لا يأخذ مسارًا لا يود المضي به، تدخل إسلام وأردف سؤاله:
_ حضرتك جاهز، نتحرك؟
تلفت عاصم حوله كأنه يبحث عن شيءٍ وهو يجيبه:
_ لا ثواني، مراتي معايا.. بس دخلت التويلت
لحظات فاصلة حتى ظهرت زوجته فتوجه عاصم نحوها ليُعلمها بمكانه، عاد إليهما وردد:
_ كدا نقدر نتحرك..
تلك اللحظة نادى إسلام عبدالله الذي يعطيهم ظهره ليمنع أي أسئلة عن علاقته بأخيه، فعاود عبدالله النظر إليهم ليتفاجئ بوقوفها أمامه.
لكن تلك المرة كانت حقيقة ملموسة، رآها بوضوحٍ، تمتعت عينيه برؤياها، وخفق قلبه المُشتاق لماضيهما، اختفى لهيب صدره المحترق ألمًا على غيابها، لمعت عينيه بالدموع واقترب خُطوة منها ليؤكد لنفسه حقيقة ما يراه مرددًا بخفوت:
_ صبا!!
كانت صدمة لصبا عند رؤيتها له فور عودتها، ذلك مالم ترتب له البتة، لم ترفع عينيها عنه مذهولة، ناهيك عن جميع حواسها التي تجمدت من فرط ذهولها، أخذت وقتًا لا تشعر بشيءٍ سوى أنها في حلمٍ حتمًا.
خرجت من حالتها على اقترابه منها ناهيك عن قرائتها لحروف اسمها التي همس بها من بين شفتيه فأسرعت الأخرى بمسك يد عاصم لتمنعه من الإقتراب منها، فالتفت عاصم برأسه ناظرًا إليها وابتسم ثم عرف هويتها:
_ الدكتورة صبا، مراتي!
***
دلف زكريا غرفته فوجد ليلى نائمة، تأفف بضجرٍ وحاول إيقاظها:
_ ليلى، يا ليلى فوقي بقى أنتِ بقيتي غيبوبة نوم..
بصعوبة رفعت رأسها وقالت:
_ مش قادرة أقوم عايزة أنام..
_ نوم إيه؟ أنتِ نايمة ليل ونهار، أنا معتش عارف أقعد معاكي..
نهضت عن مكانها وأمسكت رأسها تحاول مقاومة ذلك الدُوار اللعين الذي أصابها فجأة، حتى شعرت بحاجتها للتقيأ، فهرولت إلى المرحاض وهي تمسك ببطنها متألمة.
أفرغت مافي معدتها وهتفت بتعبٍ شديد:
_ أنا تعبانة مش قادرة..
انفجرت باكية من فرط تعبها فردد زكريا متأثرًا بصوتها المذري:
_ أنتِ بقالك فترة تعبانة، إحنا لازم نروح لدكتور..
نظرت إليه بعيون واسعة تخشى الذهاب إلى طبيب، فأصر زكريا مهتمًا لأمرها:
_ تعالي إلبسي وننزل نشوف أي دكتور فاتح دلوقتي..
رفضت ليلى الذهاب بحركة من رأسها:
_ لا مش هروح في حتة..
أبعدته بيدها بعيدًا عنها ومرت بجانبه خارجة من المرحاض، فتبِعها زكريا مُرتابًا من رفضها، وسألها مستفسرًا:
_ هو إيه اللي مش هتروحي، هتسيبي نفسك تعبانة كدا؟
توقفت ليلى عن السير فلقد أرهقها الكتمان وإخفاء الأمر كثيرًا، لم تعد تحتمل حمل ذلك السر بمفردها بعد، توجهت ناحية الكومود وقامت بسحب شريطًا بيدها وعادت إليه، ثم رفعته في وجهه وأردفت بنبرة مُنهكة تريد الخلاص:
_ أنا حامل!!
