اخر الروايات

رواية علي دروب الهوي الفصل الخامس عشر 15 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل الخامس عشر 15 بقلم تسنيم المرشدي


الفصل الخامس عشر
على دروب الهوى
بقلمي تسنيم المرشدي
***
_ تعالي نتقابل في البيت، وأحكيلك اللي عرفته..
هتفها متمنيًا قبولها؛ بينما أبت هي بحدةٍ:
_ أنا مستحيل أدخل البيت دا تاني، أنا مش فاهمة إزاي قِبلت ودخلته قبل كدا..
زفر قاسم أنفاسه وقال بصوتٍ هادئ:
_ دا بيتك يا أحلام تدخلي وتخرجي منه وقت ما تحبي..
خرجت أحلام عن هدوئها وهتفت منفعلة:
_ لا دا مش بيتي ياقاسم ولا عمره كان بيتي، دا بيت أهلك اللي خرجوني منه وأنا بلبس النوم وقالولي بيتنا متدخلوش واحدة من برا العيلة، طردوني عشان خايفين إني أورث معاهم في أملاكهم وأنا غريبة عن العيلة، دا أنا لسه فاكرة رد أبوك وأنا بعيط ومنهارة وبقوله أنا ممكن أكون حامل من ابنك رد بكل قسوة وجبروت وقالي ابنك ميورثش ابني طول ما أنا حي، أرضنا متروحش لغريب أبدًا، ولما شك إني ممكن أكون حامل هددني إني أنزله وإلا هيقهر قلبي عليه، عشان كدا أنا هربت... عشان أحمي ابني اللي ملوش ذنب إنه وقع مع ناس ظالمة المفروض إنهم أهله.. وأنت كنت واقف تتفرج، فاكر يا قاسم ولا الظاهر إنك نسيت؟!
شعر قاسم بالإختناق عند بداية تذكيرها لذلك الماضي الأليم، عاش ألمًا مع كلماتها وكأن جراحه لازالت حديثة، تحشرج صوته وهي يجيب:
_ وهو أنا عمري نسيت؟! أنتِ متعرفيش أنا عملت إيه؟
هاجمته أحلام قائلة:
_ مش عايزة أعرف، مش عايزة أعرف عنك ولا عنكم أي حاجة يا قاسم، أنا بعد أكتر من تلاتين سنة مقدرتش أتخطى، والله ما قدرت، أنا اتعايشت بس، اللي حصل كان ظلم كبير أوي عليا،
مش قادرة أنسى وأنا واقفة بحاول أستر نفسي في حيطة ولا عربية وبقول يارب استرني، في طريق مقطوع، مش قادرة أنسى إني كنت وحيدة وحامل وتعبانة ومليش حد وكنت بتعب وبشقى عشان أعيش يومي بس.. وحتى بعد ما ولدت وأنا لافة ابني في بطانية ومش لاقية له حتى تمن الهدوم اللي يلبسها، كل اللي مريت بيه وعشته كان صعب ومفيش حد يستحمله، أنا لولا ربنا بعت لي إبراهيم عوضني عن اللي شوفته بحنيته وتفهمه لكل اللي عشته كنت مت من قهرتي..
_ وأنتِ فاكرة إبراهيم ظهر فجأة كدا من غير سبب!!
هتفها قاسم فقطبت أحلام جبينها وتساءلت قبل أن تُسيء الفهم:
_ أنت تقصد إيه؟
بإيجازٍ ساومها:
_ لما تيجي هقولك أقصد إيه، هبعت لك العربية تاخدك من نفس المكان..
أنهى الإتصال على الفور ليمنع أي اعتراضٍ سيُقابله منها، أبعدت أحلام الهاتف عن أذنها وحدقت به مذهولة من تلك الأفكار اللعينة التي تراود عقلها، لم تستطع الصمود وهبت واقفة لتبدل ملابسها سريعًا، لكنها تريثت فزينب وعبدالله في المنزل، بماذا ستختلق عذرًا لخروجها؟
حاولت جاهدة على تهدئة نفسها المتسرعة، خرجت من الغرفة باحثة عن أبنائها، ولجت غرفة عبدالله أولًا بعد أن سمح لها بالدخول، شكلت ابتسامة على محياها عندما وجدته يقوم بحلاقة ذقنه، اقتربت منه وأردفت بسعادة:
_ كويس إنك بتحلق دقنك، كانت طولت أوي..
رد مختصرً:
_ بخففها بس..
ربتت أحلام على ذراعه بآسى وهي تسأله:
_ ليه يا حبيبي، دا أنت عمرك ما سيبتها كدا..
_ صبا كانت بتحبها طويلة..
أردفها عبدالله وهو يتابع قص ذقنه، تفاجئت أحلام من رده ورمقته بشفقة متأثرة بحالته الذي بات عليها، تنهدت بحزنٍ وحاولت تغير حديثهما:
_ هتبدأ شغل النهاردة؟
_ أيوة، هخلص وهروح على طول..
قالها دون إضافة المزيد، فاستشفت والدته عدم إرادته في التحدث فلم تطيل وانسحبت بهدوءٍ بعد أن دعت له:
_ ربنا يعينك ويوفقك يا حبيبي
أغلقت باب الغرفة خلفها فترك عبدالله الماكينة من يده عندما انتهى، ثم بدل ملابسه بأخرى، كما حرص على اختيار أحسنهم عاملًا بنصيحة عز.
ألقى نظرة متفحصة أخيرة على نفسه في المرآة، فتقابل مع عينيه المنعكسة فوجد رجلًا لا يعرفه، يجهل ملامحه، وكأنه غريبًا عن نفسه، ولولا أنه عاش بنفسه الأحداث الأخيرة لقال أن أحدهم قد بدل معالم وجهه.
هرب بعينيه بعيدًا عن المرآة، وتوجه خارج الغرفة، تفقد شقيقته من خلال الباب فوجد والدته تحادثها، لم يريد أن يخلق حوارًا بينهما بعد مواجهتهما الأخيرة، وفضل الذهاب إلى عمله سريعًا.
بينما انتهت أحلام من السؤال على صحة ابنتها، ثم أتت إلى مرادها التي تود التحدث فيه منذ وقتٍ، حمحمت قبل أن تردف بترددٍ:
_ أنا عندي مشوار، ساعة أو اتنين بالكتير وهرجع.. مش هتأخر عليكي
باهتمامٍ سألتها زينب مستفسرة:
_ مشوار إيه؟
بهجومٍ أجابت أحلام:
_ مشوار يا زينب مشوار
تفاجئت زينب بأسلوبها الحاد، نكست رأسها في حزنٍ ورددت بنبرة يكسوها الضيق:
_ الظاهر إني بقيت غريبة..
تشدقت احلام ساخرة وهتفت مندفعة:
_ أنتِ اللي اعتبرتينا أغراب مش العكس يا زينب..
تأففت أحلام بضجرٍ فهي لا تريد إحزانها، أغمضت عينيها تلوم انفعالها، ثم هدأت من نبرتها وأضافت قبل أن تغادر:
_ ملوش لزوم الكلام، أنا مش هتأخر عليكي..
نظرت حيث الطعام التي أحضرته لها واستأنفت بنبرةٍ حنونة:
_ افطري كويس..
أولتها ظهرها وأسرعت في تبديل ملابسها ثم غادرت المنزل سريعًا، تتلهف لسماع الحقيقة التي تآبى تصديق ما يُمليه عليه عقلها، وجدت السيارة التي جاءت خصيصًا لنقلها إلى بيت المزرعة، استقلت المقعد الخلفي فتحرك السائق على الفور.
****
استيقظت من نومها، فبحثت بعينيها عن زكريا فلم تجده بجوارها، نهضت فجأة وقد خفق قلبها رعبًا فلم تراه منذ أن تشاجرا معًا في الأمس وغادر المنزل.
هرولت إلى الخارج مذعورة باحثة عنه فتجمدت قدميها حين رأته غافيًا على الأريكة، توجهت نحوه مسرعة وقامت باحتضانه بخفة لتطمئن قلبها بوجوده.
قلق زكريا إثر تصرفها، لوهلة لم يستوعب عقله ما يحدث، تراجعت ليلى بحرجٍ واعتذرت منه:
_ أنا آسفة إني قلقتك..
نهض زكريا وأعدل جلسته متسائلًا بجدية:
_ هو في إيه؟
لم تستطع ليلى مواجهة عينيه، فشعرت بالخجل يعصف بها وخصيصًا أنهما من المفترض متخاصمين، ابتلعت ريقها وأجابته بخفوت:
_ مفيش صحيت وملقتكش جنبي فقلقت عليك..
لم تجد منه ردًا فنهضت دون النظر إليه عائدة إلى غرفتها، فتفاجئت به يُعيدها إليه حتى التصق ظهرها بصدره، دفن زكريا رأسه في عنقها وهمس بحرارة:
_ ممم قلقتي عليا.. طب مكنتيش تسبيني نايم برا
_ أنا نمت غصب عني وأنا مستنياك ترجع، فوقت دلوقتي واتخضيت لما لقيتك مش موجود..
همست بصوتٍ يطغو عليه القلق وهي تشرح له ما حدث معها، أدارها زكريا بخفة إليه، محاوطًا خصرها بذراعيه وأردف:
_ يبقى مكنتيش تزعليني من الأول.. تعالى صالحيني
ضاق صدر ليلى عندما فهمت ما يرمي إليه، وتذكرت أمر حبوبها، حاولت التملص من بين يديه هاربة منه وهي تردف متآملة قبوله:
_ زكريا.. عايزة اتكلم معاك في موضوع
أفلت ذراعيه عندما شعر بإرادتها في الإبتعاد عنه وقال:
_ إيه؟!
سيطر التوتر عليها فانعكس على تقاسيمها وتجلى على صوتها الذي ظهر مهزوزًا:
_ ما تراجع نفسك في موضوع تأجيل الخلفة دا، أنا نفسي في بيبي أوي
أسود وجه زكريا وحاول كظم غضبه، أعاد النظر إليها وسألها بصوتٍ أجش:
_ ليه يا ليلى بتروحي في الحتت اللي تجيب الزعل وتنكدي عليكي وعليا؟ ما إحنا متفقين من الأول وأنا قولتلك بعد سنة نبدأ نفكر في الموضوع مش بعد شهر يا ليلى نزن!!
قلب عينيه وحاول عدم ترك نفسه إلى شيطانه لكي لا يثور ويغضب وتنتهي المحادثة بمشاجرة أخرى، شهيقًا وزفيرًا فعل مرات عديدة حتى شعر بسعة صدره، توجه إلى الغرفة بخطى ثابتة وهتف:
_ هتيجي تصالحيني ولا أكمل نوم؟
أغمضت ليلى عينها لاعنة تسرعها في إلقاء حبوبها، ماذا ستفعل الأن؟ تضاعف خوفها وازدادت سوءًا مع منادات زكريا التي لا تتوفف، ولجت الغرفة محاولة إقناع عقلها أن الأمر لن يأخذ مسارًا غير مألوف حتمًا.
***
وصل عبدالله إلى مكان عمله الجديد؛ وقف أمام الفيلا يلقي نظرةً متفحصة قبل أن يدلف بخُطاه، شعر بوخزة في قلبه وعدم راحة لذلك المكان، كأنه لا ينتمي إليه، عالم آخر غير عالمه، لا يشبهه قط.
أغمض عينيه مرددًا كلماته يقنع بها عقله:
_ شغل زي أي شغل، هتعمله وخلاص..
أخذ شهيقًا عميق وزفره بقوة ثم توجه إلى البوابة فرحب به رجل الأمن ودعاه للدخول برفقة شابًا آخر يرتدي حُلة سوداء، يضع سماعة أذن تحدث بها خلال سيره مع عبدالله:
_ عبدالله السواق الجديد وصل يا فندم، تمام أنا جايبه لحضرتك..
وصلا كليهما إلى إحدى السيارة الفارهة، فنظر الشاب إلى عبدالله وأردف بعملية:
_ دي العربية اللي هتشتغل عليها، دقايق والهانم الصغيرة هتيجي توصلها للجامعة بتاعتها..
ناوله الشاب ورقة وهو يضيف:
_ دا العنوان، وفيها مواعيد الخروج، هتفضل واقف لغاية ما تخلص وترجع معاك إلا إذا أمرتك توديها مشوار تاني، بس طبعًا هنبلغ عز بيه الأول أو تبلغني لو مقدرتش توصله.. مفهوم؟
حرك عبدالله رأسه بتفهمٍ، بينما تنحى الشاب جانبًا عند رؤيته لسيدة عمله تقترب منهما، ورحب بها بجدية:
_ صباح الخير يا ڤاليا يا هانم
عبست ملامحها ولامته بضيقٍ:
_ إيه هانم دي يا إسلام، ما قولنا بلاش جو الستينات دا..
ابتسم الشاب بحرجٍ وزم شفتيه وهو يخبرها:
_ دي أوامر يا فندم مينفعش اتخطاها..
تنهدت ڤاليا بضجرٍ وأردفت باسيتاء:
_ خلاص لو ضروري يعني قولي يا آنسة ڤاليا بس بلاش هانم دي please، أنا قولتلك قبل كدا
هز رأسه بقبول وهو يردد:
_ تمام يا آنسة ڤاليا..
رمقت ڤاليا ذلك الشارد بنظرة ثاقبة وتساءلت مستفسرة وهي تشير بإصبعها نحوه:
_ مين دا؟
وجه إسلام بصره حيث تشير ڤاليا وعرف عن هويته:
_ دا عبدالله السواق الجديد..
أماءت ڤاليا بينما لم يحرك عبدالله ساكنًا كأنه في عالم غير عالمهم، مالت ڤاليا بقرب إسلام وسألته بصوتٍ منخفض:
_ هو ماله؟
_ لسه جديد يا فندم ومش أخد على الوضع..
هتفها إسلام ونادى بصوتٍ جهوري جاد ليجذب انتباهه:
_ عبدالله..
انتبه عليه الآخر وطالعه بتيهٍ فأقبل الشاب في تعريف هوية ڤاليا:
_ الآنسة ڤاليا اللي أنت هتتولى توصيلها..
مدت ڤاليا يدها تصافحه مرحبة به:
_ هاي عبدالله
تفاجئ عبدالله بتصرفها الغير متوقع، نظر إلى يدها الممدودة لثوانٍ ثم وضع راحة يده على صدره رافضًا لمس يدها وقال:
_ أهلًا بحضرتك..
لم تفهم ڤاليا تصرفه، ورمقته باستغرابٍ ويدها مازالت مُعلقة في الهواء، فأسرع إسلام في فتح باب السيارة لها مرددًا بعملية:
_ اتفضلي يا أنسة ڤاليا..
انتبهت عليه لكنها عاودت النظر إلى عبدالله من جديد ترمقه بنظراتها الثاقبة، لا تفهم ما وراء تصرفه سوى أنه غير أخلاقي بالمرة، ركبت السيارة وكذلك فعل عبدالله وتحرك مبتعدًا عن الفيلا تحت نظرات ڤاليا المتابعة له.
كان داخلها يتآكله الغيظ، وتتساءل من ذلك المتعجرف الذي لم يود مصافحتها، شعرت بالإهانة كلما تذكرت أنها تعاملت بتلقائية بينما تعامل هو بعدم ذوق، خرجت من شرودها على رنين هاتفها.
نفخت بفتورٍ حين وجدته آدم وأجابت على مضضٍ:
_ هاي.. أخبارك إيه؟ أنا في الطريق راحة الجامعة، امتحانات الفاينل بدأت، iam fine, مش محتاجة حاجة، باي
قلبت عينيها بإزدراء واضح ثم أعادت وضع هاتفها في الحقيبة، وبعد فترة وصلت إلى الجامعة، ترجلت من السيارة وتوجهت إلى الداخل لكنها توقفت وأعادت النظر إلى ذلك المتعجرف الشارد، وداخلها يتضاعف غيظها من أسلوبه.
صرت أسنانها وتصنعت عدم الإكتراث بشأنه، بينما صف عبدالله السيارة جانبًا واستند برأسه على النافذة، أخرج القلادة التي تخفيها ملابسه وشد عليها، أخذ نفسًا عميقًا حينما ضاق صدره، أسقط نظرة عليها وردد هامسًا بشجن:
_ القلوب افترقت يا دكترة، وقلبي مش مستحمل فراقك عنه!
فرت دمعة موجوعة من عينيه أسرع في مسحها، حاول استجماع نفسه لكنه فشل، وكيف سيفعل ذلك؟ وهو يجهل الطريق إلى استعادة نفسه؟ خرج من السيارة فجأة يستنشق الهواء لعله يكون بخير.
في الجوار، خفق قلب ڤاليا رعبًا حين قطع أحدهم طريقها، وضعت يدها أعلى يسار صدرها ووقفت تلتقط أنفاسها بصعوبة، رمقت ذلك الدخيل بامتعاض شديد وهدرت به شزرًا:
_ أنت مجنون؟ إيه اللي بتعمله دا؟
أتاها صوته الحاد في سؤاله:
_ قرأت امبارح على جروب الدفعة إنك اتخطبتي، الكلام دا حقيقي؟
رمقته ڤاليا بنظراتها المشتعلة واندفعت به:
_ وأنت مالك أصلًا، مين أنت عشان تقف قدامي بكل وقاحة وتسألني سؤال زي دا؟
أجابها الشاب وهو يشير إلى نفسه بنبرةٍ تثير القلق:
_ أنا اللي الجامعة كلها عارفة إني معجب بيكي ونفسي أوصلك من زمان، وأنتِ على طول مش شيفاني، وأخرتها إيه؟ تروحي تتخطبي لواحد غيري، ارفضي الخطوبة دي أحسن لك يا ڤاليا وإلا مش هيحصل كويس
صعقت ڤاليا من كلامه، لوهلة لم يستقبل عقلها صدق تصريحه، تراجعت للخلف وحدجته بنظراتٍ مشمئزة قبل أن تهتف معنفة:
_ إيه الجنان دا، ابعد من قدامي..
سارت بجواره فقطع طريقها ثانيةً مع تعديه حدوده في السماح من الإقتراب منها بجرأة، ارتعب قلبها ولم تشعر بصوتها الذي ارتفع خوفًا منه:
_ ابعد عني يا بني آدم أنت..
تلفتت برأسها باحثة عن أحدهم لينقذها من بين يديه فوقع عبدالله تحت نظرها فلم تتردد في الاستغاثة به:
_ عبدالله، إلحقني...
تطاول الآخر وأمسك بيدها وهزها بقوة وصاح:
_ مين عبدالله دا؟ اللي اتخطبتي له؟
إزداد صراخ ڤاليا والذي تجمع أثره حشد من الطلاب يشاهدون ما يحدث دون تدخل، تلك الأثناء وقع صراخها إلى أذني عبدالله الذي نظر حيث تقف وتفاجئ بما يحدث، هرول نحوها وشكل حاجزًا بينهما بجسده، بينما حاول الشاب استعادتها وهو يردد محذرًا:
_ ابعد من قدامي عشان متزعلش..
رفع عبدالله كلتى ذراعيه في الهواء كحاجزًا إضافي مانعًا وصول ذلك المختل إليها وحذره بتوعدٍ:
_ ابعد وإياك تقرب، أنت شارب حاجة يالا ولا إيه؟
ضرب الشاب بيده على صدر عبدالله وهتف بحقدٍ:
_ ملكش فيه يا أمور، وخرج نفسك برا الليلة دي
أنهى جملته وسرعان ما أعاد استرداد ڤاليا إليه من جديد، نفذ صبر عبدالله على تحمل السخافة الحادثة وقام بدفعه بكل ما أوتي من قوة فتعرقل الشاب وهوى أرضًا، صعق الآخر من فعلته ونظر حوله يتفقد تلك النظرات الضحوكة فلم يقبلها على نفسه وهب واقفًا متوجهًا إلى عبدالله وعينيه ينطق منهما شرًا كرصاصًا اخترق صدر عبدالله.
كز عبدالله أسنانه بغضبٍ وهو يراه يعود إليه من جديد، مال برأسه للجانب وأمر ڤاليا بحدةٍ تعكس ما يحمله من غضبٍ داخله:
_ ارجعي العربية..
لم تتردد ڤاليا لحظة وهرولت نحو السيارة وهي تقوم بالإتصال على والدها وهتفت بذعرٍ فور إجابته:
_ بابي إلحقني
كانت عيني الشاب على ڤاليا التي تفر هاربة وكاد يتبعها إلا أن عبدالله منع ذلك بوقوفه أمامه وحذره للمرة الأخيرة قبل أن ينال غضبه الجسيم:
_ اقف مكانك عشان مكسرش رجليك اللي بتجري بيها دي
تشدق الشاب مستهزئًا من عبدالله واقترب منه كأسدٍ شجاع لا يهاب عدوه وحاول لكم وجهه لكن يد عبدالله منعته من الوصول إليه، أمسك يده وشد عليها فصرخ الآخر عاليًا من الألم، فقام عبدالله بركل قدمه بقوة فتعرقل الشاب وسقط ثانيةً.
تلك الأثناء تدخل رجال الأمن وقاموا بتقيد حركة عبدالله وكذلك فعلوا مع الشاب، وقاموا بإجبارهم على الذهاب إلى عميد الجامعة، كانت تشاهد ڤاليا ما يحدث من خلال النافذة، وترجلت سريعًا وتوجهت خلفهم وطلبت الإنضمام إلى عبدالله لتروى ما حدث تمامًا دون زيادة أو نقصان.
***
استقبلها قاسم عند الباب فور وصولها، وقفت أمامه وهي لا تكاد تطيق الثواني التي تفصلها عن معرفة الحقيقة، دعاها قاسم للدخول فرفضت ذلك واقترحت وهي تجوب المكان بنظرها:
_ خلينا نقعد هنا أحسن
أومأ قاسم بالقبول، فهو يريد راحتها، توجه خلفها إلى الآرائك الموضوعة على جانب الحديقة واعتلى واحدًا وكذلك فعلت هي وهمت بالسؤال بتلهفٍ لسماع الحقيقة:
_ ها عرفت إيه؟
بدأ يروى قاسم ما توصل إليه بعد تحرياتٍ أوصى بها، تحت ذهول أحلام المنعكس على تقاسيمها مما يقع على مسمعها، وضعت يدها على فمها بصدمةٍ عند انتهائه من الحديث ورددت دون تصديق:
_ يا خبر!!
أضاف قاسم سؤاله بعد أن فشل في اتخاذ قرارٍ صائب:
_ أنا خليتك تيجي لأني في حيرة، مش عارف المفروض أعمل إيه باللي عرفته دا؟ أقول لعبدالله ولا لأ؟
أسبقت احلام في الرد رافضة قراره:
_ مش هنقوله طبعًا، لا يمكن ابني يعرف الكلام دا، أنا ما صدقت إنه خرج من البيت ومع الوقت أكيد هينسى اللي عاشه، إوعى يا قاسم تقوله، لو الكلام دا وصله ابني مش هيقوم منها المرة دي..
أطال قاسم النظر عليها وهو يرفض البتة الرضوخ لطلبها، لكن ما باليد حيلة، إن كان هذا سيصُب في مصلحة ابنه فليكن، عليه إخفاء ما علمه.
_ ها موضوع صبا وعرفناه، إيه موضوع إبراهيم وكنت تقصد إيه بكلامك؟
هتفتها أحلام بعدم صبرٍ لمعرفة ما تجهله، بينما أخرج قاسم تنهيدة مطولة قبل أن يبدأ في إخبارها:
_ إبراهيم كان بيتشغل عند عمي، أمرته يعرف لي كل حاجة عنك، وكان بيجيب لي كل أخبارك، وبالصدفة عرفت إنك روحتي تدوري على مكان تعيشي فيه في الحارة اللي ساكن فيها، وقتها خليته يسهلك الدنيا ويدفع لك الإيجار من غير ما يقولك إني أنا اللي عامل كدا، ولما فقدت الأمل إني أعرف أوصلك تاني طلبت منه يتجوزك.. كنت عايز أطمن عليكي وعلى ابني مع حد تحت عيني..
صدمة حلت على وجه أحلام، حتمًا ذلك هراء، كيف ما عاشته كان مجرد خدعة؟ لقد لمست مشاعر زوجها الصادقة، رفعت عينيها في عيني قاسم ولم تصدقه، وآبت تصديق هرائاته:
_ إزاي؟ يعني أنت عايز تفهمني إني كنت مغفلة؟ كنت مخدوعة فيه؟ إزاي بس قولي إزاي؟ إبراهيم كان انسان طيب وفي حاله وبيحبني، كان حنين عليا وعوضني عن أيامي الصعبة، كان أب لابني، كان بيتعامل معاه كأنه ابنه من صلبه مش ابن راجل غريب ميعرفوش؟
هبت واقفة رافضة ذلك الكلام الذي لا يعقل، وهتفت متسائلة:
_ طب فرضًا إني صدقتك، إيه المقابل لكل دا؟ يعني مش معقول واحد يعمل كدا من نفسه؟ محدش كامل للدرجة دي!!
نهض قاسم ووقف مقابلها ثم أجاب سؤالها بآسى لسماعها ما سيجرح قلبها:
كان بياخد فلوس مني..
صرخت أحلام عاليًا، آبية سماع المزيد:
_ أنت كذاب، كلامك دا كله مصدقوش، ميدخلش عقل عيل صغير مش عقلي أنا!
دنت منه وتوسلته بعينين دامعتين:
_ قول إنه كدب، قول إنك بتقول كدا عشان غيران منه!!
هز رأسه نافيًا وجود أي أكاذيب في الأمر، وأوضح أمرًا لم يخبرها عنه:
_ الموضوع كان في الأول مصلحة، أنا أأمن له حياته مقابل إنه يتجوزك ويراعي ابني اللي مش عارف أقرب منه طول ما أبويا موجود، بس بعد كدا جالي ورفض ياخد فلوس تاني، وقالي إنه حبك وعايز يبدأ حياة من غير خداع معاكي.. لسه فاكر اليوم دا كويس أوي، يومها قالي أنك حامل منه.. يومها اتاكدت بجد إنك ضيعتي من بين ايديا..
أطالت النظر عليه وطال صمتها في محاولات منها على هضم ما علمته للتو، شعرت بموجة بكاء ستضربها فجأة فحاولت الهرب من أمامه قبل أن يراها في حالتها الضعيفة، أولته ظهرها وهرولت بخُطوات عرجاء وعقلاٍ مضطرب، حتى انخفض معدل ضغظ دمها فجأة ولم تشعر بنفسها سوى وهي محتضنة الأرض بجسدها.
حالة من الذعر سيطرت على قاسم الذي هرول نحوها وحاول إيفاقتها عن طريق منادته إياه:
_ أحلام، أنتِ كويسة، ردي عليا؟
لم تستجب له فاضطر إلى رفع رأسها للأعلى قليلًا وقام بإمساك حجابها ليكون حائلًا بينهما وهو يضرب وجهها بخفة لعلها تستجيب وتعود إلى رشدها، وبعد محاولاتٍ نجح قاسم في استعادة وعييها فأغمض عينيه مخرجًا تنهيدة يحمد الله داخله باستعادتها لصوابها.
نظرت إليه في تيهٍ وتعجبت من وضعهما وتساءلت بخفوت:
_ في إيه أنا حصلي إيه؟
_ معرفش، تقريبًا حصلك هبوط مفاجئ، الحمدلله إنك كويسة..
أردفها فأعدلت نومتها وجلست، تشعر بدُوارٍ يعتلي رأسها، بينما نهض قاسم وقال:
_ تعالي ارتاحي جوا..
رفضت بحركة من رأسها وقالت وهي تحاول النهوض:
_ لا، أنا هرجع بيتي
_ ما دا بيتك برده يا أحلام..
قالها وتفاجي بثورتها وهي تنهره:
_ عمره ما كان بيتي، دا أكبر غلطة أنا عشتها..
نكس قاسم رأسه وأكد على حديثه التي اعتبرته عابرًا:
_ بس أنا بتكلم بجد، دا بيتك فعلًا، أنا كتبته بإسمك!
دخلت أحلام في حالة اندهاش مُصاحب للصدمة، اتسعت عينيها وهي تطالعه ثم أبدت رفضها التام لامتلاكها ذلك المنزل:
_ مش عايزاه، مش عايزة حاجة تفكرني بيك ولا باللي حصلي فيه بسبب أهلك، بيتك ميلزمنيش يا قاسم بيه
إلتوى ثغر قاسم بابتسامة باهتة وهو يردد:
_ قاسم بيه!!
_ كنت هبلة يوم ما فكرت إنك ممكن تكون غير كدا، طول عمرك بيه ومش شبهي بس أنا اللي عاندت كنت فاكرة الدنيا هتضحك لي على ايدك، ويارتني ما عاندت كله جه على دماغي في الآخر
أنهت جملتها المُتحسرة بنبرة مكلومة وأسرعت في التوجه إلى السيارة لتعيدها إلى حيث جاءت.
تابعها قاسم بعينه حتى اختفى طيفها تمامًا، ثم انتبه على رنين هاتفه فأجاب بهدوءٍ حزين:
_ عز..
***
بعد فترة؛ ولج عز مكتب العميد برفقة آدم وعامر وقاسم الذي انضم إليهم أيضًا، دلف أربعتهم بهيئة تثير خوف الآخرين، ابتلع الشاب ريقه فهو رفض إخبار والده بما أحدثه حتى لا ينال عقابًا لا يوده.
هرولت ڤاليا ناحية والدها وارتمت بين ذراعيه، ربت الآخر بقوة على ظهرها وردد وهو يُملس على خُصلاتها:
_ متخافيش يا حبيبتي أنا جنبك
تجهمت تقاسيم آدم واسود وجهه حينما رأى عبدالله، وما زاد الطين بلة ذهاب والده نحوه متلهفًا عليه:
_ أنت كويس يا عبدالله؟ حد عملك حاجة؟
التفت عبدالله برأسه للجانب الآخر دون إعطائه إجابة تُطمئنه عليه، فلم يتحلى آدم بقدرة الصمت على ما يحدث وصاح معنفًا أخاه:
_ أنت إزاي يا بني آدم أنت تتخانق ومعاك ڤاليا؟ شغل البلطجة دا عندكم هناك في الحارة مش في الحرم الجامعي المحترم..
_ آدم!! ولا كلمة
صاح بها قاسم بنبرة جهورية متوعدة له، بينما تدخلت ڤاليا وحاولت إظهار براءة عبدالله:
_ عبدالله هو اللي دافع عني يا بابي لما المختل دا اتهجم عليا وحاول يتعدى عليا غصب عني، لولا وجود عبدالله معرفش كان ممكن يعمل فيا إيه؟
لم تستطع مواصلة حديثها وانفجرت باكية خوفًا مما قد يمكن أن يصيبها لولا وجود عبدالله، شد عز على ذراعها بحنانٍ وهتف:
_ خلاص يا فيفو اهدي إحنا كلنا جنبك ومحدش يقدر يلمس شعرة منك..
انتبه الآخرون لهجوم عامر على الشاب الذي يقف في زاوية الغرفة:
_ أنت جبت الجرأة منين أنك تتهجم على أختي
ألحق به عز وأبعده عن الشاب بصعوبة مرددًا بعينين تحثه على التراجع:
_ ششش ابعد عنه..
ثم همس محذرًا:
_ متصعبش موقفنا..
صمت الجميع وانتبهوا لصوت العميد الذي قال بجدية:
_ عز بيه الكلام دا مينفعش في الجامعة، سواق بنت حضرتك تخطى حدوده..
قاطعه عز بحدة باغتة:
_ لو طلابك كانوا بيحترموا قوانين جامعتك مكنش دا حصل يا دكتور..
تفاجئ العميد برده ونكس رأسه في خذي ثم أراد استعادة السيطرة من جديد ووجه حديثه إلى الشاب:
_ أنا هكتفي المرة دي برفد اسبوعين وغير مسموح لك بدخولك الإمتحانات، اتفضل اطلع برا
خرج الشاب من غرفة المكتب هاربًا، فلم يقف عز ثانية أخرى في المكان وهرول خلفه، بينما تري قاسم وانتظر خروج الجميع إلا من عبدالله وقام بتوبيخ العميد:
_ إلزم حدودك كويس بعد كدا وأنت بتتكلم عن عن ابني، وإلا هعرفك مقامك كويس..
تفاجئ العميد بتهديد قاسم، وتحولت أنظاره إلى عبدالله قبل أن يردف نادمًا:
_ أنا آسف يا أستاذ عبدالله، مكنتش أعرف إنك ابن قاسم بيه
تدخل قاسم مُعدلًا على كلامه بنبرة مندفعة:
_ لا أنت مضطر تحترمه لشخصه مش عشانه ابني، تمام؟
برأسٍ مُنكس هتف:
_ تمام..
رفع قاسم ذراعه وأحاط بيه عبدالله يحثه على المشي:
_ يلا يا عبدالله..
شعورًا مفاجئ قد راود عبدالله حينها وهو يرى نظرة احترام العميد له بعد توبيخ أبيه له، للمرة الأولى التي يشعر فيها بانجذابه لمن يدافع عنه، رفع عينيه في قاسم لثوانٍ معدودة فاجتاحه حنينًا إليه، أسرع في الخروج لكي لا يتأثر به أكثر من ذلك.
في الخارج؛ ترك عز ذهاب الشاب حتى خرج من الحرم الجامعي وابتعد عن الكاميرات الخاصة بالجامعة ثم أسرع نحوه، وكذلك عامر الذي هجم عليه وقيد حركته بوضعه ذراعيه خلف ظهره فصاح الشاب مذعورًا:
_ في إيه؟ أنتوا عايزين مني إيه؟
وقف عز أمامه وبحقدٍ واضح رفع ذراعه وانسدل عليه بصفعةٍ دوت على وجهه، دنا منه عز وأمسكه من تلابيب قميصه وهمس بتوعدٍ:
_ بنتي خط احمر، قبل ما تفكر تقرب لها أعرف أبوها مين؟
شد عامر على يديه فآنى الآخر بألمٍ ثم أردف عامر بقُرب أذنه:
_ وراها جيش رجالة يودوك ورا الشمس، فخاف على نفسك بقى..
خرج الشاب عن صمته وهلل برعبٍ أصابه من وراء تهديدهم:
_ مش هقرب لها تاني خلاص، سيبوني أمشي..
تركه عامر بإشارة من والده، ففر الشاب راكضًا، بينما هم عادوا إلى الباقين، وجه عز حديثه إلى عبدالله فور عودته:
_ شكرًا يا عبدالله إنك حاميت بنتي.. مش هنسالك موقفك الشهم دا أبدًا..
ربت عز على كتف قاسم وأضاف:
_ من شابه أباه فما ظلم ولا إيه يا قاسم؟
ابتسم قاسم ممتنًا، بينما انتبه الجميع على قهقهة
عبدالله، فارتاب بعضهم من ضحكاته الغير مفهومة، والبعض الآخر منه شعر بالخجل يسيطر عليه، ومنه من ازداد كرهًا وغيرة.
عاد عز إلى ابنته وآدم الذي لم يتحمل الوقوف أمام عبدالله لدقيقة أخرى وكذلك انضم إليهما عامر، فوجدوها ترافق زميلاتها، فأسبق عز وتحدث بلطفٍ:
_ حبيبتي أنا مضطر أمشي، ومتخافيش تاني من الولد، هيفكر مليون مرة قبل ما يحاول يقرب منك تاني..
ابتسمت له برقة وأردفت بشعورٍ من الأمان اكتسبته بوجوده:
_ ربنا يخليك ليا يا بابي، أنا مش خايفة متقلقش عليا، عبدالله معايا..
وقعت كلماتها على أذني آدم فقُبِض قلبه وضاق صدره، ابتلع ريقه محاولًا عدم إظهار رائحة الأدخنة التي أشعلتها نيران الغيرة، انتبه على عز الذي وجه حديثه إليه:
_ يلا بينا إحنا يا ولاد..
بملامح خالية من أي تعابير تحدث آدم ببرودٍ مصطنع يخفي خلفه مشاعره المستشاطة:
_ اسبقني أنت يا اونكل وأنا جاي وراك
تقوس ثغر عز ببسمةٍ عذبة وقال وهو يربت على ذراعه مشاكسًا إياه:
_ ماشي يا حضرة الظابط
قالها ثم وضع يده على ظهر عامر يرغمه على السير بعيدًا عنهما، بينما اقترب آدم من ڤاليا وعاتبها بنبرةٍ هجومية على الرغم من اجتهاده في إخراج نبرة سوية:
_ أنتِ ليه مكلمتنيش أول ما حصلك كدا؟ ليه اتحاميتي في عبدالله وأنا لأ؟
استنكرت ڤاليا أسلوبه الحاد وألزمته حده:
_ أنا المفروض أكلمك والولد بيتهجم عليا أقولك إلحقني وعلى لما تيجي يكون الله أعلم عمل فيا إيه؟ وبعدين ثانية، أنت بتكلمني كدا ليه؟ وإيه الأسلوب دا؟
تراجع آدم عن حدته ولانت نبرته وهو يقول:
_ مش قصدي، بس أنا اضايقت لأنك حطتيني في أخر خانة ولولا إن أونكل عز كلم بابا مكنتش هعرف والمفروض إني خطيبك وأكون عارف عنك كل حاجة..
أرادت ڤاليا إنهاء الحوار فأردفت بنبرةٍ جافة:
_ آدم، إحنا لسه يدوب قاريين فاتحة امبارح، مفيش بينا Strong relationship أو زي ما بيقولوا مفيش العشم اللي يخليني أكلمك في موقف زي دا..
_ وعلى كدا فيه بينك وبين عبدالله عشم؟!
قاطعها بسؤاله السخيف التي استنكرته هي وهتفت بنفاذ صبر:
_ عبدالله الوحيد اللي أعرفه قدامي فطبيعي هستنجد بيه، الحوار بجد بقى سخيف جدًا وبياخد منعطف مش لطيف، أنا ماشية اتاخرت على امتحاني..
تركته دون أن تنتظر رده، بينما وقف يتابعها ورائحة الغيرة التي بلغت نصاب اشتعالها فاحت، استدار بجسده ونظر إلى الخلف حيث يقف أبيه وعبدالله وتوجه إليهما بخُطوات تتسابق في الوصول إليهم.
في الجوار؛ حاول قاسم استعطاف قلب عبدالله ودعاه للتحدث معًا:
_ عايز اتكلم معاك..
قاطعه عبدالله بهجومٍ قبل أن ينهي الآخر جملته وعارض طلبه:
_ مش فاضي.. عندي شغل
_ بعد ما تخلص تعالى نتكلم
هتفها متأملًا قبوله، فرد عبدالله بإقتضاب:
_ ربنا يسهل..
تلك الأثناء وصل آدم الذي عنف عبدالله فور وصوله:
_ أنت يابني أنت، تبعد خالص عن ڤاليا، وعينك دي لو اترفعت فيها أعميهالك، أنت فاهم؟!
صعق قاسم من هجومه فجأة، ناهيك عن تحذيره المهين، فأسرع بوضع يده على فم آدم مانعه من مواصلة حديثه وحذره بعينيه ولسانه:
_ اسكت، مش عايز أسمع صوتك!!
دفعه للأمام وهو ينهره بعنفٍ:
_ امشي قدامي
لم يتوقف آدم عن رمق عبدالله بنظرات مشتعلة، فأجبره قاسم على المشي بدفعه مرارًا حتى أبعده عن عيني عبدالله، بينما التفت هو ووجه إليه حديثه:
_ هستناك، متتأخرش عليا
حرك عبدالله رأسه يمينًا ويسارًا في استنكار شديد لتصرفات ذلك الأخرق، وعاد إلى الحرم الجامعي ووقف بجوار السيارة يستشيط غضبًا مما يعيشه في الأوان الأخيرة، في الخارج؛ أغلق قاسم باب سيارة آدم بقوة بعد أن أرغمه على ركوبها وأمره بانفعال:
_ تعالى ورايا..
حاول آدم معارضته معللًا:
_ بس أنا عندي شغل..
خرج قاسم عن طوره وصدح صوته في الأرجاء:
_ بقولك تعالى ورايا!!
استقل الآخر سيارته وتحرك بها متجهًا إلى وِجهةٍ بعينها، قاد آدم السيارة خلفه وهو ينعت عبدالله بكرهٍ شديد.
****
دلف الفيلا وهو لا يرى أمامه، فالغضب الذي يكمن داخله يفوق الوصف، انتظر حتى جاء آدم خلفه ولم يستطع كبح جماح غضبه لوقتٍ أطول وصاح بصوتٍ اهتزت له أعمدة البيت:
_ أنا مش فاهم إيه الكُره اللي جواك لاخوك دا، إيه السواد اللي مالي قلبك دا؟ جبته منين؟
تلك اللحظة جاءت حورية على صوته الغاضب فكان لها نصيبًا من توبيخه حيث أشار قاسم نحوها واستأنف:
_ دي اللي مليتك كُره وحقد، كانت بترضعك سِمها وبتكرهك في أخوك اللي أنت مشوفتش منه حاجة وحشة، كان كافي خيره وشره ولا عمره قرب منك لا بحلو ولا بوحش، سايب لك المعلب تلعب فيه لوحدك، لا طلب حقه ولا بص على فلوسك ولا كنت يوم في دماغه، نفسي أعرف عقلك فين بعد كل دا عشان تكون بالسواد دا؟ معندكش عقل تفكر بيه إن كلامها متناقض مع الحقيقة؟
معندكش عين تشوف أنه في حاله ومش عايز منك ولا مني حتى كلمة!!
ليه كل دا؟ ليه انطق ورد عليا
بس هترد هتقول إيه؟ هتقول إنك إبن أمك وودني ولاغي عقلك وبتسمع كلامها ومش مهم هو صح ولا غلط؟
أنهى قاسم كل ما لديه فتفاجئ بثورة آدم الذي رفض إلقاء اللوم عليه وحده وثار كالمجنون الذي فقد عقله غير آبه أمام من يتحدث:
_ وأنت كنت فين من كل دا؟ دايمًا سايب البيت ومسافر، تحب أعِد لك كام مرة شوفتك فيهم وطول التلاتين سنة اللي فاتوا من عمري؟
أمي اللي بتلوم عليها دي مكنتش لاقي غيرها، لا لقيت أهل ولا عيلة ولا حتى أب، خليتنا نقطع علاقتنا بكل العيلة عشان خاطر حاجات خاصة بيك أنت، وأنت هربت وسبتني معاها، طبيعي أي كلمة هتقولها هصدقها وهلغي عقلي ماهي اللي قدامي، هي أمي وأبويا وعيلتي، لو قالت كلام غلط فأنت مكنتش موجود عشان تصححولي، فمتجيش بعد كل دا تلوم عليا لوحدي، لو أنا غلط قيراط فأنت غلط ٢٤..
لم يقف ثانية أخرى أمامه وفر هاربًا من الفيلا، قاد سيارته بسرعة جنونية وكلمات والده تتردد في عقله وتآبى الإقلاع عنه، بينما وقف قاسم مذهولًا مما ألقاه آدم على عاتقه، وقفت حوريه ترمقه بنظراتٍ متشفية ثم غادرت دون تعقيب، يكفيه ما ناله من ولدها.
***
صف آدم سيارته، وتوجه إلى قسم الشرطة، تأفف بضجرٍ بائن حين صدح رنين هاتفه للمرة الخامسة على التوالي، انتظر حتى ولج مكتبه وأجاب بانفعال شديد:
_ نعم؟ عايز مني إيه؟
تطاول حمادة في الحديث معه عندما قابله آدم بأسلوبٍ فظ:
_ يعني إيه عايز مني إيه؟ إحنا طبخناها سوى وأنت خِليت بيا وبقالك شهر مبتردش عليا ويوم ما ترد تقولي عايز مني إيه؟ لا دا أنا عايز كتير، أولهم إني وفيت باتفاقي معاك وأنت لأ، عبدالله حر طليق وأنا اللي هربان وخايف يوصلي في أي لحظة، مكنش دا اتفاقنا يا آدم باشا، المفروض عبدالله كان مكانه في السجن دلوقتي ولا إيه؟
خرج الآخر عن طوره وهدر به بغضبٍ عارم:
_ لا دا مكنش اتفاقنا، أنا مقولتلكش تروح تغتصب البنت، أنا قولتلك وقع بينهم، خلي الثقة بينهم مهزوزة لكن أنت حيوان على شكل إنسان، اختارت أقذر طريقة تعملها كأنك كنت مستني اللحظة دي ومحتاج اللي يشاور لك.. معتش تكلمني تاني شيل شيلتك لوحدك..
لم يتقبل حمادة تلك الخسارة بمفرده وهتف بتوعدٍ:
_ أنا لو وقعت مش هقع لوحدي، اسمك هيتقال يا باشا..
_ أعلى ما خيلك اركبه يا حمادة، أنا مبتهددش، بلاويك كلها معايا، أقل حاجة فيهم تلبسك مصيبة، فبلاش تهديد معايا أنا..
هتفها آدم بلا مبالاةٍ لتهديدات ذلك الأخرق، بينما لم يكترث حمادة كثيرًا له بل أضاف تهديدًا حتمًا سيخشاه بعد سماعه:
_ ولا أنا بتهدد برده، كل مكالماتك معايا متسجلة، يوم ما تخلى بيا هطلعهم..
صدمة حلت على وجه آدم، وما الذي سينتظره من ذلك اللعين، بلغ ذروة صبره وقام بإلقاء الهاتف بغضبٍ فاصطدم بالحائط وسقط متناثرًا أشلائه، وقف يطالع بقايا الهاتف بأنفاسٍ لاهثة يفكر مليًا فينا يمكنه فعله مع ذلك البغيض.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close