اخر الروايات

رواية علي دروب الهوي الفصل السادس عشر 16 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل السادس عشر 16 بقلم تسنيم المرشدي

الفصل السادس عشر
على دروب الهوى
بقلمي تسنيم المرشدي
***
انتهت من أولى اختبارتها، لم يعد لديها ما تفعل في الجامعة فتوجهت إلى السيارة، وجدته يجلس شارد الذهن تعجبت من حالاته وشاكسته بمزاحٍ بعد أن تستقل في الخلف دون أن يشعر بها:
_ مين اللي أخدة عقلك كدا؟
انتبه عليها عبدالله والتفت برأسه يتأكد من وجودها، ابتسمت ڤاليا وهتفت:
_ للدرجة دي محستش بيا..
بحرجٍ قال:
_ أنا آسف يا آنسة ڤاليا، مختش بالي منك..
أضافت ڤاليا مزاحها بعد أن استنتجت بعض التخمينات:
_ واضح إنك بتحبها أوي...
خفق قلب عبدالله بقوة وعبست ملامحه وتساءل بجدية:
_ هي مين؟
أجابته بتلقائية:
_ اللي شاغلة عقلك بالشكل دا
إزداد تجهم وجهه ولم يُعلق، بل أدار رأسه وأشعل محرك السيارة وتحرك بها، فشعرت ڤاليا بثمة أمرًا
مريب به، ناهيك عن خجلها من وراء عدم تعقيبه وعبوس وجهه كأنها فعلت شيئًا فادحًا ففضلت الصمت لحين عودتها.
وبعض مرور ما يقرب الأربعون دقيقة وصل عبدالله إلى الفيلا، ترجلت ڤاليا وعينيها تتابعان عبدالله، عضت على شفاها وكادت تخطو بعيدًا عنه لكنها تراجعت ووقفت أمامه وبامتنان أردفت:
_ شكرًا إنك وقفت جنبي النهاردة...
بإقتضابٍ ونبرة جافة رد عبدالله:
_ معملتش حاجة، أي حد مكاني كان هيعمل كدا
انفجرت ڤاليا ضاحكة وهتفت من بين ضحكها:
_ بتهزر صح؟ هو فيه حد بيساعد غيره دلوقتي؟ كله بيقف يصور ويسيب اللي واقع مشكلة مع نفسه وممكن توصل للقتل..
توقفت عن الضحك تمامًا وتحولت نبرتها إلى الإمتنان واللطف:
_ بس أنت بجد جدع، ومعملتش زيهم، أنا كنت خايفة أوي إن محدش يلحقني ومش متخيلة كان الولد دا عمل إيه فيا، بس...
إلتوت شفتيها مبتسمة برقة وتابعت:
_ أنا حسيت بالأمان لما وقفت بيني وبينه ومنعته يوصلي، Thanks عبدالله
تفاجئ عبدالله بتصريحها، وربطه بكلام صبا حينما أخبرته بشعورها بالأمان معه، تأثر قلبه المشتاق لذلك التشابه، وآلمه صدره المكلوم، فجميع خلاياه تتعطش لرؤياها، انعكس حزنه على ملامحه المشدودة، فاتعجبت ڤاليا من شروده المبالغ ناهيك عن حزنه التي استشفته من وراء وجهه القانط.
_ عبدالله، أنا قولت حاجة ضايقتك؟
هتفتها بعد تفكيرٍ لأسبابٍ لتلك الحالة التي أصبح عليها فلم تجد، فاعتقدت أنها أخطأت، بينما أخرجه سؤالها من حالته البائسة فسألها وهو يتحاشى النظر عنها:
_ حضرتك محتجاني تاني حاليًا..
حركت رأسها نافية وهي تردد:
_ لأ..
وما كادت تنهي جملتها بعد حتى انصرف من أمامها مسرعًا، قطبت ڤاليا جبينها بغرابةٍ من شروده المستمر وبات شاغلها معرفة ما يوجد خلفه، تنفست بعض الهواء ثم استدارت بجسدها فتفاجئت بنظرات والدها الواقف خلف الحائط الزجاجي.
عضت شفاها بخجلٍ وتوجهت بخُطى مُتهملة نحو الداخل، ولجت الفيلا فتقابلت معه، أخفضت رأسها في انتظار توبيخًا يليق بما أحدثته، لكنها فوجئت بسؤاله:
_ يومك كان حلو بعد اللي حصل؟
اكتفت بإيماءة من رأسها فربت عز على ذراعها وقال:
_ شوفتي الولد تاني؟
_ لأ مشوفتوش بعد اللي حصل..
قالتها فحرك عز رأسه بتفهمٍ ثم تساءل بجدية يشوبها الإهتمام:
_ سواقة عبدالله كويسة ولا متهورة؟
رفعت ڤاليا كتفيها للأعلى وهي تجيبه:
_ مش عارفة، بس محستش بحاجة غلط يعني، عادي يا بابي
_ تمام
اختصر عز حديثه فانسحبت ڤاليا من أمامه بعد أن استأذنت لكنها تراجعت حين آثارها الفضول حول هدوئه الغير معتاد في مثل تلك المواقف، عاودت الوقوف أمامه وسألته بعينين ضائقتين:
_ حضرتك مش هتعلق على وقوفي مع عبدالله وكلامي معاه؟
هز رأسه مطلقًا صوتًا من فمه:
_ تؤ..
لم تمنع ڤاليا ابتسامتها المتعجبة وهتفت وهي ترمقه بطرف عينيها:
_ اشمعنا عبدالله؟ أنت كنت بترفض كلامي مع أي عامل هنا خارج حدود شغله
أحاط عز كتفيها بذراعه قبل أن يردف بصوتٍ أجش:
_ عشان عبدالله غيرهم..
بحاجبين معقودان تساءلت بفضولٍ مبالغ بعد إجابته المبهمة والمثيرة للتساؤلات حولها:
_ ودا ليه بقى؟
أخرج عز تنهيدة أولًا ثم أجاب فضولها بقوله:
_ عشان عبدالله يبقى ابن اونكل قاسم وأخو آدم!
سحبت ڤاليا نفسها من أسفل ذراع والدها وحدجته بنظراتٍ مشدوهة غير مصدقة ما أخبرها بها ووهتفت دون استيعاب للأمر بعد:
_ What?
***
استيقظ زكريا قلِقًا على ضوء الشمس الذي غازله من خلال النافذة، وضع يده أمام وجهه يحجب الضوء، ألقى نظرة على من تستند برأسها على ذراعه، سحبه بحذرٍ ونهض حين استمع إلى قرع الباب.
سحب سترة شتوية وقام بإرتدائها ثم خرج راكضًا متناسيًا أمر الشورت الذي يرتديه، قام بفتح الباب فوجدها والدته، رحب بها ودعاها للداخل:
_ تعالى يا ماما..
حدقت به هناء بنظرةٍ متفحصة، فارتابت من هيئته الغير مهندمة، استشعر زكريا من وراء نظراتها واجتاحه الحرج، فحاول جذب انتباهها إليه:
_ تعالي اقعدي..
لم يُنهي جملته بعد حتى تفاجئوا بخروج ليلى مرتدية قميصًا رقيقًا يعلوه روب قصير، خصلات شعرها غير مرتبة تتثاءب بنعاسٍ، تفاجئت بوجود هناء فتجمدت في مكانها لثانية ثم توجهت ناحية زكريا محاولة التخفي خلفه قائلة بحرجٍ:
_ صباح الخير يا طنط..
بنبرةٍ جافة قالت هناء:
_ صباح النور..
حمحمت هناء وأضافت بحاجبي مرفوعان:
_ بس كان أولى ترجعي الأوضة تاني، مش تيجي تقفي قصادي كدا، عيب
صعقت ليلى من كلامها المهين، طالعتها بعينين واسعتان، رفعت عينيها في زكريا تنتظر منه ردًا لكنه لم يعلق، فلم تستطع تمرير الأمر كما لو أنها لم تسمع شيء:
_ أنا مكنتش أعرف إن حضرتك هنا، ودا بيتي طبيعي أمشي فيه بالشكل اللي يريحني..
_ خلاص ليلى..
قالها زكريا ناهيًا الحوار فنظرت إليه ليلى بلومٍ فأضاف أمرًا:
_ ادخلي الأوضة..
أطالت النظر عليه غير مصدقة أمره المرفوض بالنسبة لها، ثم انسحبت سريعًا وعادت إلى الغرفة بخطواتٍ منفعلة، بينما تنفس زكريا بعض الهواء وأعاد النظر إلى والدته بملامحٍ مشدودة، وعلى الرغم من ضيقه من تصرفها إلا أنه تخطاه ولم يوجه لها أي عتابٍ وسألها مستفسرًا:
_ كان فيه حاجة يا ماما؟
ألقت هناء نظرة سريعة على باب الغرفة التي اختفت خلفه ليلى ثم عاودت النظر إلى زكريا وأجابته بنبرة قوية لم تتأثر مما أحدثته:
_ أختك عايزة تلبس النقاب، وأنا مش موافقة، عايزاك تنزل تنهي لي الموضوع دا عشان أبوك بيقولي سبيها تعمل اللي هي عايزاه..
أماء زكريا بتفهمٍ واكتفى بترديد:
_ تمام، هنزل ونشوف الموضوع دا..
لم تجد هناء داعٍ للوقوف بعد فانسحبت مغادرة المنزل، ترجلت بعض الدرجات لكنها تريثت حين وصل إلى آذانها أصوات صادرة من بيت زكريا ووقفت تسترق السمع إلى مشادتهما.
في الداخل؛ خرجت ليلى من الغرفة وهي لا ترى أمامها وصاحت بصوتٍ عالٍ:
_ هو إيه السلبية اللي أنت فيها دي؟ أنت سامع بودانك اللي قالته وحتى مكلفتش نفسك ترد عليها، لا وكمان معجبكش إني رديت ومشتني كأني أنا اللي غلطانة!
أغمض زكريا عينيه باسيتاء وهتف بهدوءٍ يخفي خلفه غضبًا يحاول جاهدًا كظمه:
_ أنا مش هعرف أكون بينك وبين أمي يا ليلى، افهمي كدا!! فأنتِ معندكش حل غير إنك تسمعي وتطنشي
وقعت كلماته على مسمع هناء التي ابتسمت بانتصارٍ لفوزها في تلك الجولة، فتابعت نزولها بمزاجٍ صافٍ، بينما نظرت إليه ليلى مشدوهة، فهي سمعت مالا يسُرها، لم تنتظر منه ردًا كهذا..
لم تضيف المزيد فلا شيءٍ يمكنها قوله سيبرد نيران قلبها المتقدة، انسحبت من أمامه فصاح هو متسائلًا:
_ مش هنفطر؟
بلامبالاةٍ ردت:
_ افطر أنت..
نفخ زكريا بنفاذ صبر، توجه إلى الغرفة وتجنب مواجهتها، أخذ له ملابسًا ثم غادر المنزل، فسقطت دموع ليلى حزنًا على حالها، فهذا غير ما تآملت حدوثه، لم ترتب لتلك المشاحنات التي تنتهي دومًا ببكائها ومغادرته المنزل دون أن يلتفت لها، وكأن حزنها شيءٍ لا يهم.
***
ترجل زكريا إلى الطابق الكائن به شقة والديه، طرق بابهم فاستقبلته عليا ببسمةٍ ودودة فأخذها زكريا أسفل ذراعه مرددًا سؤاله المازح:
_ عاملة في أمك إيه؟ ونقاب إيه اللي عايزة تلبسيه؟
حاولت عليا النظر له جاهدة فكان ذراعه مقيدًا لحركتها وقالت مستاءة:
_ مش أنا، دي خلود
_ خلود!!
رددها زكريا بذهولٍ وعدم استيعاب، فالأمر أشبه بالمزحة، سحب زكريا ذراعه وشد تقاسيمه مردفًا دون تصديق:
_ يعني من بناطيل لنقاب، إيه النقلة اللي مش مفهومة دي؟
رفعت عليا كتفيها قائلة:
_ معرفش، وأمك من وقت ما عرفت وهي قالبة الدنيا وخصوصًا لما بابا معترضش..
جاب زكريا المكان من حوله بعينيه ثم تساءل:
_ أومال هي فين؟
أجابته وهي تشير بعينها على غرفتهن:
_ في الأوضة.. بتعيط
دنت منه عليا وأضافت بهمسٍ:
_ بصراحة أمك قامت معاها بالواجب وزيادة
تشدق زكريا بتهكمٍ ثم أخرج تنيهدة ثقيلة قبل أن يردد:
_ أنتِ هتقوليلي على عمايلها، أنا حافظها
أخذ نفسًا عميقًا وزفره على مهلٍ وتوجه بخُطى ثابتة ناحية غرفة خلود، طرق بابها ثم ولج حين سمحت له، جلس على فراش عليا وبدأ حديثه بصوتٍ أجش:
_ إيه الحوار اللي سمعته دا؟
مسحت خلود عبراتها التي تنسدل كالشلال وأجابته من بين بكائها:
_ عايزة ألبس النقاب، إيه المشكلة؟ ماما مش موافقة وشايفة إني بعمل حاجة غلط..
حرك زكريا إبهامه فوق فمه في حركة طولية سريعة، وسألها مستفسرًا عن ذلك القرار المفاجئ:
_ لازم يكون ليكي أسبابك اللي تقوليها على الخطوة الجريئة دي، دا إحنا ياما طلبنا منك تطولي لبسك شوية وأنتِ مكنتيش موافقة، فجأة كدا عايزة تلبسي النقاب، نقاب مرة واحدة يا خلود، ما طبيعي تقلق
إلتوى ثغر خلود ببسمةٍ ساخرة وهتفت موضحة له ما يجهله من خلف رفض والدتها:
_ أنت مش فاهم حاجة، دي مش راضية عشان فاكرة إني كدا مش هتخطب ومحدش هيبص لي..
فغر زكريا فاهه باندهاش، وما كاد يتكلم حتى اقتحمت والدته الغرفة مهللة بانفعالٍ:
_ اسمعي يابت أنتِ، تشيلي فكرة النقاب دا من دماغك خالص، الناس بتلبسه بعد ما يجي لهم عدلهم ويتجوزوا لكن قبل كدا لأ، دا اسمه وقف حال..
نهض زكريا وعاتب والدته باحترامٍ:
_ أنتِ ناديتي عليا عشان أتكلم معاها، يبقى لو سمحتي سيبني معاها من غير ما تدخلي..
بعنادٍ صريح هتفت هناء:
_ مفيش كلام، أنت تقولها إن دا مش هيحصل..
تأفف زكريا بفتورٍ وصاح بضيق:
_ لا الكلام مش هينفع بالأسلوب دا..
التفت برأسه حيث خلود وقال:
_ بليل لما أجي من الشغل هنطلع نتكلم على الروف فوق
ثم نظر إلى والدته وقال:
_ ومن هنا لوقتها بلاش كلام في الموضوع دا
إلتزمت هناء الصمت، بينما انسحب زكريا من الغرفة فلحقت به والدته وأردفت باهتمامٍ تعمدت إظهاره:
_ أنا عاملة كيكة من اللي بتحبها، أجيب لك تاكل يا زكريا؟
توقف قليلًا يفكر في أمر قبوله، تفقد ساعة يده ثم قال:
_ طب بسرعة عشان متأخر..
هرولت هناء إلى المطبخ وهي تأمر ابنتها الكبري:
_ تعالى اعملي لاخوكي كوباية شاي يا عليا..
انضمت لها الاخرى وصنعت له كوب من الشاي ثم أخرجن له الكعك مع الشاي، فجلس يتناول بشهية، أخذ قطعة ثم تريث في أخذ الثانية وسأل والدته بترددٍ:
_ لسه فيه كيك يا ماما؟
أماءت مؤكدة وهي تردد:
_ فيه كتير يا حبيبي، كُل وأنا هجيب لك كمان..
حمحم زكريا قبل أن يوضح ما وراء سؤاله:
_ لا أنا مش عايز، كنت هقولك طلعي لـ ليلى منها.. مفطرتش
حدقت به هناء لثوانٍ دون تعقيب، واكتفت بهز رأسها، عادت إلى المطبخ لتحضر لها بعض القطع، ووقفت تتمتم بغيظ:
_ منزلاه من غير فطار وهو بيفكر فيها..
وقعت همهمتها على أُذنين عليا التي أسبقت في الحديث:
_ هاتي يا ماما لما أطلع الطبق، ربنا يهديكي..
طالعتها هناء بنظرات مشتعلة أحرقتها، بينما لم تكترث لها عليا وصعدت إلى الطابق الكائن به شقة أخيها، قرعت الجرس فأتاها الرد بعد فترة، رحبت بها ليلى ودعتها للدخول، فناولتها عليا الكعك متعمدة إظهار اهتمام أخيها:
_ زكريا طلب مني أطلع لك منها، قال إنك مفطرتيش..
لكزت عليا ذراعها بذراع ليلى مشاكسة إياها:
_ مهانش عليه ياكل من غيرك، مش عارفة بقى حنين كدا امتى
نجحت عليا في تشكيل البسمة على وجه ليلى، التي ضحكت بعفوية ودعتها للجلوس، ثم تناولن بعض الأحاديث المختلفة كما أخبرتها عن اجتماعهم مساءً ليتحدثون حول قرار خلود المفاجئ.
فراود ليلى فكرةً وعزمت على فعلها ليكون مساءًا مميزًا لجميعهم.
***
مساءًا، وبعد انتهاء دوام عبدالله، كاد يغادر إلا أن ناداه إسلام الذي يعمل معه وأردف باهتمامٍ:
_ ليه تروح وتيجي كل يوم المشوار دا، في هنا أوضة للعمال ممكن تقعد فيها..
رفض عبدالله بقائه معللًا السبب:
_ مش هينفع أنا لازم أروح عشان أهلي لو محتاجين حاجة، مفيش غيري..
أماء إسلام بتهفمٍ ثم ربت على كتفه وأردف:
_ تمام، تصبح على خير
_ وأنت من أهله
قالها عبدالله وانصرف سريعًا خارج الفيلا فتفاجئ بسيارة فارهة تقف أمامه، ترجل منها السائق وتوجه ناحية عبدالله وسأله بعملية:
_ أستاذ عبدالله؟
أومأ عبدالله مؤكدًا هويته فتابع الآخر حديثه موضحًا سبب وقوفه:
_ قاسم بيه قالي أكون في انتظارك عشان أوديك عنده..
مد السائق يده فظهر الهاتف المُمسك به وأوضح قائلًا:
_ قاسم بيه على الخط..
أطال عبدالله النظر فيه، ثم سحب الهاتف ووضعه على أذنه دون أن ينبس بشيءٍ، فاستمع لصوت والده:
_ عبدالله، مستنيك يلا متتأخرش..
أغمض عبدالله عينيه ثم أعاد الهاتف إلى السائق دون إعطائه إجابة، وقف يجوب المكان من حوله بنظراته وهو يضع كلتى يديه في خصره يفكر في أخذ قرارٍ سريع، ثم نظر إلى السائق الذي فتح له الباب الخلفي، فاقترب منه عبدالله وقام بإغلاق الباب وتوجه إلى الطرف الآخر من السيارة وقام بالركوب في المقعد الأمامي فأبلغ السائق قاسم بذلك:
_ تمام يا قاسم بيه هو معايا، مسافة الطريق ونكون عندك..
أغلق السائق الخط واستقل خلف المقود، ثم دعس على البنزين فتحركت السيارة وقادها إلى بيت المزرعة، بعد فترة؛ وصلا إلى وجهتهم المقصودة، ترجل عبدالله وعينيه تتفصحان البيت باهتمام، حتى وقع نظره على والده الذي يقف أمام الباب في استقباله فأسرع في خفض رأسه.
أخذ نفسًا وتوجه نحوه بوجهٍ متجهم مقتضب الجبين، وقف أمامه وبحدةٍ تصنعها سأله:
_ عايزني في إيه؟
لم يتفاجئ قاسم بأسلوبه الفظ، بل كان على دراية باستقبالًا كهذا، لقد درب عقله كثيرًا قبل مجيئه حتى لا يصيبه الحزن، ابتلع ريقه وأشار بيده إلى الداخل ثم أردف بنبرةٍ رخيمة:
_ تعالى نتكلم جوا..
قلب عبدالله عينيه مستاءًا وصاح بحنقٍ على الرغم من انخفاض مستوى صوته:
_ مش عايز أدخل، قول أنت عايز إيه هنا
حاول قاسم التحلي بالصبر ليكون لديه متسع أكبر لاستعطافه ربما يرق قلبه، تنهد وقال:
_ أكيد مش جاي المسافة دي كلها عشان نقف نتكلم هنا، لو سمحت يا ابني ادخل نتكلم جوا..
أطال عبدالله النظر فيه ثم توجه إلى الداخل دون مماطلة في الرفض، بينما إلتوت شفتي قاسم مبتسمًا لدخوله دون الإصرار على رفضه بينما تفاجئ عبدالله بتحضيره لكل مالذ وطاب من الأطعمة، لقد قام بتحضير سفرة لا نهاية لها، تجمع بين الأصناف الشهية والحلوى اللذيذة.
لم يتأثر عبدالله بها، بل التفت باحثًا عن قاسم ثم تساءل بنبرةٍ جافة خالية من العاطفة:
_ ها، عايزني في إيه؟
_ طب أقعد ناكل لقمة الأول مع بعض كـ..
لم يُكملها قاسم بعد حتى قاطعه عبدالله باسيتاء يشوبه التهكم مما يحدث:
_ ما بلاش بقى جو الأب والإبن دا عشان متأثرش!!
خرج قاسم عن هدوئه وهدر به بنبرة متألمة وقلبٍ جريح يآمل تغييره:
_ ما أنت ابني وأنا أبوك فعلًا، ليه مش قادر تقتنع بالحقيقة دي؟ ليه كل المسافات اللي بينا دي؟، عمال تبني في حواجز لغاية مبقتش شايفني خالص، وأنا تعبت محاولات، يابني أنا كبرت ونفسي أسمع منك كلمة حلوة قبل ما أموت، نفسي أعيش معاك الأبوة اللي مقدرتش أعيشها زمان؟
خرجت كلمات عبدالله من قلبٍ مفطور حزين يحمل الكثير من القسوة:
_ أنا قولتهالك قبل كدا يا قاسم يا قاضي وعادي هقولهالك تاني، أنا مش ممكن أخليك تعيش الأبوة على حساب زعل أمي، أمي اللي مقدرتش تحميها ولا تصونها، ولا حتى تحمي اللي في بطنها، سبتها وسبتني للأيام تلطش فينا، أنا مش مسامحك على طفولتي اللي ضاعت مني، كنت بقعد أشوف العيال بيلعبوا في الشارع وأنا مش عارفة ألعب زيهم عشان عندي شغل.
مش مسامحك أنك خليت راجل غريب يربيني وأنت حي ترزق، مش قادر أسامحك على دموع وقهرة أمي اللي كل ذنبها أنها حبيتك وآمنت لك وأنت سيبت أهلك يعملوا فيها اللي اتعمل والنتيجة أنا سفيت التراب عشان أثبت لها وليك إني راجل ومش محتاحين وجودك في أكتر وقت كنت محتاجك فيه.. كنت محتاج أبويا اتسند عليه لو وقعت في مشكلة هو يسد، يعيشني في نعيمه وبدل ما أشقى بدري كنت عشت لي أيام لما أكبر احكيها لعيالي وأقول الله يرحم أيام مشلتش ليها هم..
انفجر عبدالله باكيًا وتحشرج صوته الذي واصل استرساله:
_ أنا مشلتش حاجة في الدنيا غير الهم والمسؤولية وكل حاجة كانت أكبر مني.. مش قادر اسامحك.. فمتطلبش مني السماح
تأثر قاسم بكلامه وأكثر ما آلم قلبه بكاء عبدالله، فلم يراه ضعيفًا هاشًا هكذا، لمعت عينيه وحاول جاهدًا حبس دموعه وتحدث بنبرة مهزوزة:
_ كان غصب عني يابني والله، مكنش في إيدي اللي أعمله وقتها، كنت مضطر أبعدكم عني عشان أحميكم، أنت متعرفش أهلي كانوا صعبين إزاي، أهلي كانوا صعايدة وتفكيرهم عقيم، مكنوش بيسمحوا لحد غريب يدخل بينهم، كانوا بيتجوزوا
من بعض عشان الورث ميخرجش براهم، وأنا كنت عارف ومتأكد إني لو ظهرت لهم أمك مكنوش قبلوا، فاتجوزتها من غير عِلمهم...
صمت قاسم وأشار بكلتي يديه على المنزل من حوله ثم استأنف بحنينٍ وشوقٍ لماضيهما:
_ البيت دا يشهد على حبي ليها، كل ركن هنا شهد على اللي بينا، يمكن كانت فترة قصيرة اللي قضيناها مع بعض بس هي دي اللي عايش على ذكراها لغاية وقتنا هذا..
سقطت عبرات قاسم حزنًا على حبه الضائع فتأثر به عبدالله لكنه لم يُظهر، نعت نفسه التي اهتزت وحاول مهاجمته حتى لا يدع فرصةً لضميره يأنبه:
_ وعشان كدا استسهلت ومحاولتش تحميها من أهلك واستسلمت للي حصل وروحت اتجوزت وخلفت مش كدا؟
_ يابني والله أجبروني على الجواز..
قالها قاسم موضحًا ما حدث معه لكن الآخر نهره بتهكمٍ:
_ أجبروك تتجوز وممكن نفهمها، لكن أجبروك برده تخلف؟! مش مبالغة منك دي؟
أكد قاسم على حديثه متآملًا تصديقه:
_ يا عبدالله أنا كنت وقتها أصغر منك، مكنتش بالنضج الكافي إني أقف في وش عيلة بحجم عيلتي، بس دا مش معناه إني استسهلت زي ما قولت، أنا اتمردت بكل قوتي وقتها، منعت أكل وشرب وحلفت إني مش هشتغل معاهم ولا هلمس الفلوس اللي خافوا أمك تورثها منهم ودا وقتها كان بالنسبة لي تهديد قوي لأنهم بيربوا العيال ومن هما في اللفة على شغلهم عشان النسل والإسم ميتقطعتش، بس مهمهمش، حسيت إني لازم أعمل حاجة أكبر وقررت انتحر وفعلًا أخدت كل حباية قابلتني في البيت وكنت بين الحيا والموت، إنهم يتراجعوا أبدًا، هما كانوا عارفين إني بعمل كدا عشان ألوي دراعهم وهما عندهم يقتلوني ولا إنهم يطاطوا راسهم ويقبلوا أمك بينهم، والله يابني عملت كل اللي أقدر عليه عشان بس أرجعها على ذمتي تاني ومقدرتش عليهم، وزي ما أجبروني أطلقها على إيد مأذون أجبروني اتجوز بنت عمي على أيده، حصروني وقتها لو مقومتش بوجباتي معاها زي أي زوج هيجيبوا أمك تخدمها، وبدل ما المفروض تبقى هي ست البيت هتبقى خدامته، والله عملت كدا عشان أحفظ كرامتها ومكسرهاش ابدًا، عملت كل اللي أقدر عليه عشان أخليهم ينسوها وأحميها من شرهم، ومكنش قدامي غير إني أوهمهم بإني نسيتها، وفضلت شهور براقبها عن طريق إبراهيم اللي كان شغال معانا واللي أنا طلبت منه يتجوزها عشان يحميها ويحميك من كلاب الشوارع.. ولما آن الأوان وشديت حيلي ووقفت على رجلي وحوشت مبلغ من شقايا وقولت أرجعها لقيته بيقولي أنه حبها وأنها حامل منه!!
صمت قاسم وتكاثر نزول دموعه، لم تعد تتحمله قدميه فاقترب من الكرسي خلفه واعتلاه، مسح دموع التي شوشت رؤياه وتابع بصوتٍ جريح مهزوز لم يتخطى الماضي بعد:
_ وقتها الدنيا اسودت في وشي، واتأكدت إن الحاجة اللي كنت عايش عشانها ضاعت من ايدي، شوف كل اللي عشته واتعرضت له دا وكان جوايا أمل إننا في يوم نكون لبعض لغاية ما لقيتها قبلت براجل تاني في حياتها، آمالي كلها اتبخرت والحياة مبقاش ليها طعم وقررت انسحب بهدوء واتمنى لها السعادة هي متستاهلش غير كدا
بس طلبت من إبراهيم إني أكتبك بإسمي، يمكن الحاجة الوحيدة اللي كنت شجاع فيها اللحظة دي، كان وقتها عندك سنة.. طلع لك شهادة وأنا سافرت، غبت بالسنين مكنتش برجع غير شهر واحد أقضيه في البيت هنا وأرجع أمشي تاني..
رفع قاسم عينيه في عبدالله الذي يبكي أمامه لمرته الأولى، فلم يُظهِر له ضعفه وقلة حيلته من قبل، تأثر به قاسم لكن داخله كان مرتاحًا، فقلبه يخبره بأن تلك خطوة جريئة منه، وحتمًا لن تضيع هباءًا، فستأنف ما بقى لديه:
_ على فكرة آدم أخوك مش أحسن منك، حياته زي حياتك بالملي، أنا محضرتش ولادته ولا شوفته لمدة خمس، مكنتش قادر أبص في عين بنت عمي اللي غدرت بيا ووصلتني لكل اللي حصل دا، كنت كارها وكاره أي حاجة من ريحتها، وفي يوم هي كلمتني ولامتني وقالتلي ابنك دخل الحضانة ولما علموه كلمة أب وأم جه وسألني يعني إيه أب يا ماما، متتخيلش أنا اتوجعت وقتها إزاي؟ حسيت إني أناني، هربت وسبت طفلين ورايا محدش فيهم يعرفني، وقررت أتغير وأرجع وأحاول لم الشمل، كان نفسي أوي تتربو مع بعض وتكبروا سوا، بس أمك موافقتش، وزي ما حورية عملت مع آدم وكرهته فيك، أحلام عملت بس الفرق إنها كبرت جواك عنادك وحبك لنفسك وليها، خليتك تحط كرامتك فوق الكل حتى لو كان أبوك، حاولت والله حاولت كتير إني أخدك لحضني، بس هي رفضت، ورجعت سافرت تاني ولا كنت أب ليك ولا حتى لأخوك، آدم لسه قايلي تحب أعدلك الكام مرة اللي شوفتك فيهم في حياتي!! حسيت إني صغير أوي قدام نفسي وقدامه..
أخذ نفسًا عميقًا ثم نهض واقترب من عبدالله وقال:
_ أنا كل اللي نفسي فيه إنك تحبني يا عبدالله، تديني فرصة وتسمح لي أدخل حياتك، نفسي أجمع بينك أنت واخوك وتبقوا زي حزمة العصيان اللي محدش قدر يكسرها، نفسي أعمل بوصية الرسول وأسيب ولاد صالحين يفتكروني ويدعولي
بعد ما أموت.
انتهى قاسم لتوه، ووقف يرمقه في انتظار رده، يآمل كل أنشٍ به في سماع ما يَسُر قلبه، يطوق شوقًا لأخذ عناقًا يداوي به عصارة الماضي، يضمد جراح أكثر من ثلاثين عامًا، تراجع عبدالله للخلف وصاح من بين بكائه بنبرةٍ بالكاد فهمها قاسم:
_ مش قادر، مش سهل أبدا أرمي أكتر من تلاتين سنة ورا ضهري، أرمي تعبي وبهدلتي ويُتمي اللي عشت بيه طول حياتي، وحتى لو قدرت مش قادر أتخيل إن أمي بسببك وبسبب عيلتك كانت واقفة في الشارع لوحدها من غير حاجة تسترها، مش قادر أنسى الظلم اللي اتعرضت له من وراك
دنا منه قاسم وحاول إمساك ذراعه مردفًا كلماته بقلة حيلة:
_ فيه حاجات بتحصل غصب عننا، مش بتقدر تمنعها تحصل، قوتك بتكون مش كفاية إنك توقفها، بتكون قليل الحيلة، صدقني كل اللي حصل دا غصب عني يا عبدالله..
سحب عبدالله ذراعه بعنفٍ وتوجه ناحية الباب وهو يلوح بإبهامه غير مصدقًا لما يحاول إقناعه به:
_ أكيد كنت تقدر تعمل حاجة تغير اللي حصل، كنت وقفت في وشهم وحاميت حبك وابنك
لم يضيف المزيد وأولاه ظهره ليغادر المكان.. لكن أوقفه قاسم بقوله:
_ وأنت قدرت توقف اللي حصل لصبا؟ عرفت تحميها من اللي اتعرضت له؟
وقعت كلمات قاسم القاسية كالحجر الذي سقط على رأس عبدالله فجأة كما لو أنه شقها إلى نصفين، فضاعف آلامه النفسية، حل الصمت لبرهة قبل أن يقطعه عبدالله باستدارة جسده وبعيون ضائقة خرجت بحة صوته:
_ أنت جبت الكلام دا منين؟
اقترب قاسم بعض الخُطوات وهو يخبره:
_ مش مهم خالص جبته منين؟ وأنا مش قصدي إني أزود وجعك يابني والله، بس لازم تفهم إن فيه أمور خارجة عن سيطرتنا، مش كل اللي بنحبهم بنقدر نحميهم من شر الدنيا وشياطين الإنس.. فيه حاجات بتحصل تفوق قوتنا وخارج إرادتنا..
قاطعه عبدالله بصراخه وهو يسير نحوه كالمجنون يريده أن يتوقف عن الكلام:
_ ششش اسكت، اسكت مش عايز أسمع حاجة...
لم يتردد قاسم في جذبه وضمه بكل ما أوتي من قوة، حاول عبدالله الفرار من بين يديه لكنه أبى وشد بقوة مضاعفة على ظهره يضمه إلى صدره أكثر، ففشلت محاولات عبدالله في الإبتعاد وترك نفسه بين أضلاع والده يبكي بمرارة متحسرًا على حبه الضائع، كان جسده يهتز بعنفٍ كما لو أن زلزال يحدث بداخله.
شاركه قاسم البكاء، حتى فرغ الآخر بعد مدة وشعر بأن جوفه قد أصبح خاليًا، هدأ وصمت ثم أحس بالوضع الذي كانا عليه، كم أراد أن يذيب جليد السنوات الماضية ويبادله العناق أيضًا، يا ليت ما عاشه كان حُلمًا وليس حقيقة، ياليته حظى
بعناقٍ دافيء كهذا كلما كان بحاجة إليه.
حاول عبدالله رفع ذراعيه في محاولة منه على تخطي الحواجز التي بينهما ومبادلته تلك المشاعر الصادقة لكنه فشل، أعاد يده إلى جواره ثم أبعد أبيه عنه بهدوءٍ، لم يقدر على مواجهة عينيه وظل مُنكس الرأس وهتف دون النظر إليه:
_ أنا همشي..
لم يريد قاسم الضغط عليه، وترك له مساحة كافية يعيد فيها ترتيب أفكاره، خرج خلفه وتابع تحركاته بعينيه حتى خرج من البيت، فأمر السائق قائلًا:
_ روح وراه ووصله ما كان ما يحب..
_ أمرك يا قاسم بيه
قالها السائق وأسرع في ركوب السيارة، ثم قادها خلف عبدالله، قام بالضغط على زمور السيارة فتوقف عبدالله وتفقده، لم يعاند وقام بالركوب على الفور، فجسده منهك وقدميه لن تقدر على حمله لوقتٍ أكثر، استقل المقعد الأمامي وأعاد رأسه مستندًا بها على رأس الكرسي مغمِضًا عينيه بتعبٍ حتى بات في ثباتٍ عميق.
***
أغلقت باب منزلهم، وكادت تصعد الأدراج لكنها تريثت حين وجدت وليد عائدًا من عمله، ابتسمت بخفة فأقدم هو بالحديث:
_ مساء الخير، على فين كدا؟
_ مساء النور..
قالتها ثم أشارت بعينيها إلى الأعلى مواصلة استرسالها:
_ عندنا اجتماع على الضيق، تعالى أقعد معانا..
ابتهج وليد وردد:
_ نقعد وماله..
صعدت عليا السُلم وتلاها وليد حتى وصلا إلى سطح البناية، فوجدوا خلود وزكريا ينظمان المقاعد، انضموا إليهما وساعدوهم على إعادة ترتيب المكان الذي قاموا بتوضيبه خصيصًا لمجالسهم.
جلس أربعتهم فضحك وليد وأردف باشتياقٍ لذلك الجمع:
_ متلميناش كدا من زمان
تنهد زكريا وصاح وهو يضرب على فخذه:
_ ااااه قول للزمان ارجع يا زمان
تعجب وليد من لهجته ومال عليه وتساءل بسخرية:
_ ومالك بتقولها بحرقة كدا ليه؟
غمزه وليد وشاكسه:
_ هو الجواز مطلعش على هواك ولا إيه؟
تلك الأثناء ظهرت ليلى حاملة صنيتان، بإحداهما حلوى قامت بإعدادها والآخرى مشروبات ساخنة تُدفئ قلوبهم في ذلك البرد القارس.
ركضت نحوها عليا حاملة عنها إحدى الصواني ورددت بشهية:
_ يا روايحك يا لولا والله جاية في وقتها..
في الخلف؛ لكز وليد صديقه وهمس:
_ ماهو حلو أهو، حد يبقى عايز في الجو دا غير كيك وحاجة تسخنة تتشرب ونتدفى
حدجه زكريا باستنكارٍ وهدر مستهزأ به:
_ خليهملك إدفى بيهم، لكن اللي بيدفي بجد حضن من اللي يكسر الضلوع دا، عارفه؟
أخذ زكريا كوبًا من الشاب بالحليب الساخن وناوله إلى وليد وتابع ساخرًا:
_ ولا يا حرام تعرفه منين، اشرب اشرب
رمقه وليد شزرًا ثم أخذ منه الكوب وقام بارتشاف القليل، بدأ الجميع في تناول الكيك فساد الصمت للحظاتٍ قبل أن يقطعه وليد بسؤاله:
_ أكيد القاعدة دي وراها سبب
توجهت الأنظار على خلود التي انكشمت في نفسها وصاحت بتمردٍ:
_ إيه؟ بتبصولي كدا ليه؟
قلب وليد عينيه مستاءًا من سؤاله، ثم أردف بتهكمٍ:
_ عيب أسأل وأنتِ موجود، أكيد عملتي مصيبة
تدخلت عليا تروي الحقيقة:
_ المرة دي مش مصيبة ولا حاجة بس الموضوع مريب.. خلود عايزة تلبس النقاب
_ نقاب!!
هتفها وليد دون تصديق وهلل ضاحكًا:
_ نقاب مرة واحدة؟ دي نكتة صح؟
لم تتحمل خلود أي سخافاتٍ واندفعت بهم:
_ مش عايزة أي سخافة بجد، ومش فاهمة أنتوا مستغربين ليه؟
تولى زكريا مهمة الرد عليها بهدوءٍ على غير عادته:
_ يا حبيبتي النقاب دا حاجة جميلة ومش معترضين عليه، بس أنتِ يا خلود بعيدة كل البعد عنه، ولما فجأة تقولي عايزة تلبسيه طبيعي نقلق أو نستغرب، فإحنا محتاجين نفهم إيه السبب إنك عايزة تلبسيه؟
شهيقًا وزفيرًا فعلت خلود قبل أن تجيب حيرتهم:
_ صحابي في الجامعة لبسوه وحببوني فيه، وعلى فكرة أنا مخدتش القرار فجأة كدا، أنا بفكر فيه من فترة واعطيت لنفسي مُهلة أشوف هل قرار مؤقت وهيروح لحاله ولا هفضل مصممة عليه، لغاية ما حسيت النهاردة إني بجد مش قادرة أخرج من غيره، نفسي ألبسه أوي، إيه المشكلة في كدا؟
كان الجميع ينصتون إليها باهتمامٍ حتى انتهت فتعجبت خلود من تلك الإبتسامة التي تغزو شفاه الجالسين، فلم تستطع منع ضحكتها وهتفت:
_ أنتوا بتضحكوا على إيه؟
_ مش مصدقين اللي بنسمعه؟
أردفها وليد بإعجابٍ شديد لقرارها التي تريد أخذه فقطبت خلود جبينها وقالت متذمرة:
_ أنا كنت من قبيلة أبو لهب ولا إيه؟ مالكم يا جماعة بلاش كدا بقى..
عضت خلود على شفاها وأخفت وجهها بكفوفها خجِلة من نظراتهم، فتبادل الجميع الضحكات إلا من وليد الذي شعر بشيءٍ يتحرك داخله دون إرادة منه، شعور انجذاب للتطلع بها، إلتوى ثغره ببسمة عذبة لضحكها التي تخفيه بخجلٍ، وسرعان ما انتبه على حاله وأخفى تلك الإبتسامة، ثم أعدل من وضعية جلوسه محاولًا فهم ما حدث له للتو.
ثم انتبه الآخرين على صوت عليا التي قالت:
_ قرار جريء وأحب أحييكي عليه، بس هتقنعي ماما إزاي؟
ضحك زكريا وقال:
_ شوفوا لها عريس يا جماعة عشان توافق
قهققت ليلى وأضافت مازحة:
_ نعمل هشتاج رحلة البحث عن عريس من أجل النقاب
انفجر الجميع ضاحكين فعبس وجه خلود وزمت شفتيها وهي تردد:
_ يوه بطلوا تريقة بقى، فكروا إزاي أقنعها، أو حد منكم يتكرم ويقنعها هو..
حمحم وليد ومال ناحية خلود تاركًا مسافة بينهما وسألها بجدية:
_ أنتِ أخدة الموضوع بجد ولا مجرد إعجاب لحاجة عايزة تجربيها؟
_ بجد والله..
قالتها خلود بلهفةٍ فعاود وليد متسائلًا:
_ يعني لو اتلبس مش هيتقلع؟
أماءت خلود بتأكيد؛ فقال الآخر بثباتٍ:
_ هقنعهالك
قالها ثم تراجع مستندًا بظهره على الكرسي، وغمزها فتشكلت إبتسامة عفوية على محياها وكادت تهتف عاليًا بسعادة عارمة دقت طبول قلبها الا أنه حذرها بإشارة من عينيه فالتزمت خلود الصمت.
صدح رنين هاتف عليا فنظرت إليهم وقالت بحرجٍ:
_ بعد إذنكم هرد على حازم..
نهضت مبتعدة عنهم مسافة لا بأس بها لتتحدث على راحتها، بينما انتبهوا على ظهور والدة وليد التي انضمت إليهم وأردفت:
_ جيت أطمن على الأستاذ اللي مقالش أنه وصل من الشغل وموبايله مقفول
تفقد وليد هاتفه باستغرابٍ ثم أردف:
_ الموبايل فصل شحن، مختش بالي معلش يا وزة
_ ربنا يطمني عليك يا حبيبي، أنا هنزل أنام طلاما اطمنت عليك..
هتفتها عزة ثم انسحبت لكنها عادت إليهم من جديد وقالت:
_ طب طلاما متجمعين كدا اقنعوا وليد يخطب
قهقهت خلود عاليًا وهتفت مازحة:
_ هو دا فيه واحدة عاقلة ترضى تتجوزه دا؟
ضحكت زوجة عمها بعفوية وأردفت بتلقائية:
_ والله يا خلود بنت خالته موجودة وبحاول أقنعه بيها، دي البت نفسها بس في إشارة منه ..
أخرجت تنهيدة حارة وأضافت:
_ ربنا يهديه.. تصبحوا على خير
_ وأنتِ من أهله
هتفوها جميعهم، ثم انتبه زكريا على صوت عليا المنفعل الذي وصل لآذانه، فنهض منسحبًا من بينهم ليرى ما الأمر، بينما شعرت ليلى بالبرودة فنهضت وقالت:
_ الجو برد هنا أوي، هنزل أجيب الشال بتاعي وراجعة..
بات المكان خاليًا إلا من وليد وخلود التي انكشمت شاعرة ببرودة تتخلل جسدها، فتحسست ذراعيها بكفوفها نافخة هواءًا ساخنًا من فمها وهتفت:
_ فعلًا الجو برد أوي..
لم يتردد وليد لحظة وقام بخلع سترته وقام بوضعه عليها، اندهشت خلود من فعلته الراقية وحاولت الإعتراض:
_ لا لا إلبسه عشان متبردش..
رفض وليد استعادته وعلل:
_ أنا تمام، خليه عليكي يدفيكي شوية..
أعادت خلود وضعه عليها فشعرت ببعض الدفء، أسبلت عينيها وهي تطالعه وقلبها يخفق بشدة، مالت على السترة لتشم رائحة عطره، ابتلعت ريقها وحاولت تهذيب نفسها، حمحمت حين راودها سؤالًا ولم تتردد في سؤاله:
_ أنت مش بتخطب ليه؟
فاجئه سؤالها، أخذ وقتًا يفكر به قبل أن يعطيها إجابة، أطال النظر في عينيها اللمعتان، فهي تطوق لسماع إجابته، خفق قلبه بقوة وشعر بتوترٍ يعصف به دون سابق إنذار، نظراتها تربكه، هربت الكلمات من لسانه وكأنه لا يجيد الكلام، ابتلع ريقه وحاول الإتيان بإجابةٍ، فدنا منها ثم همس:
_ مش لاقي حد شبهك!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close