رواية علي دروب الهوي الفصل الرابع عشر 14 بقلم تسنيم المرشدي
***
يجلس الجميع يتناولون أطراف الحديث سويًا، يتحدث كل اثنين معًا وكأنهم سربًا من الطيور يحلقون في مجموعاتٍ متفرقة، مال عز بقرب قاسم وسأله باهتمامٍ يشوبه الفضول:
_ إيه الحوار دا يا قاسم، وإيه موضوع عبدالله اللي عمرك ما قولت عنه دا؟
أخذ قاسم نفسًا وزفره على مهلٍ وأخبره بالقصة التي يجهلها الجميع متعمدًا عدم ذكر بعض التفاصيل:
_ أنا كنت متجوز قبل والدة آدم واحدة وانفصلنا ومعرفتش أنها حامل غير بعد فترة كان هو كبر من في أب ومن وقتها بحاول أكسبه وهو مش راضي..
رفع عز حاجبيه بغرابة، فرويه للقصة حتمًا لم يكتمل، ولابد من أن هناك ثغراتٍ لم يخبره بها، حمحم عز وقال بصوته الأجش:
_ يعني هو مختارش أبوه قاسم القاضي أغنى أغنياء البلد واختار وضعه اللي هو فيه دا؟
تراجع عز بظهره للخلف وأعدل من سترته ووجهه متعحبًا مما يسمعه ثم أضاف بعدم تصديق:
_ غريبة دي..
استنكر آدم حديثهما عن عبدالله وتدخل بينهما ناهيًا الحوار:
_ إيه يا بابا مش هنتكلم عن الموضوع اللي جايين عشانه؟
لم يعطه قاسم أهمية، لكنه حرص على عدم التقليل منه أمامهم، تنفس بعض الهواء قبل أن يشرع في قول ما جاءوا لأجله، أعاد النظر إلى عز وشكل بسمةٍ ودودة وتحدث:
_ أنا كلمتك يا عز قبل كدا واديتك خلفية عن الموضوع وأنت رحبت بينا، إحنا هنا النهاردة عشان آدم طالب ايد ڤاليا.. ويسعدني إننا نكون أصدقاء ونسايب..
بادله عز ابتسامة سعيدة هادئة وقال وهو يتناوب النظر بين قاسم وآدم:
_ وأنا أكيد مش هلاقي أحسن من حضرة الظابط يكون خطيب بنتي..
ابتسم الجميع بسعادة، ثم نظر عز إلى زوجته وأمرها بلطفٍ:
_ فين ڤاليا يا نهال؟ هاتيها لو سمحتي
أماءت بقبول ثم نهضت مستأذنة من حورية:
_ بعد اذنك يا حبيبتي..
صعدت إلى الطابق العلوي، وقامت بالدخول إلى غرفة ابنتها التي وجدتها تجيب الغرفة ذهابًا وجيئا ويبدو عليها التوتر والإرتباك، اقتربت منها والدتها وهتفت:
_ تعالي يلا باباكي عايزك..
تشنجت عضلات وجه ڤاليا وتراجعت للخلف وتحدثت بإنفعال:
_ مش فاهمة أنتوا بجد عقلكم فين وأنتوا بتخطبوني لواحد معرفوش..
أجابتها نهال بهدوءٍ:
_ يا حبيبتي اهدي وبلاش استريس، مش اتفقنا إنها مجرد قاعدة تعارف بين العائلات، وأنتِ لو مش مرتاحة خلاص هنقول لباباكي والموضوع هينتهي، بس مش هينفع يقولهم لأ من غير أسباب وخصوصًا إن هما أصدقاء العيلة..
وقفت ڤاليا تستشنق الهواء، فحثتها والدتها على فعلها:
_ يلا يا فيفو، اهدي وتعالي معايا..
خرجت نهال من الغرفة وتَبِعتها ڤاليا بقدمين تترجفان من شدة التوتر، نزلن الدرج فظهرت ڤاليا من خلف والدتها بفستانها القصير ذو اللون الرمادي، الذي يتماشى مع جسدها الحليبي المتناسق، نهض آدم فجأة ورمقها بنظرةٍ شغوفة، ألقى نظرة سريعة على ملابسها فشعر بالضيق قليلًا لجسدها الظاهر وحمد الله داخله أنه لا يوجد غريب بينهم.
اقتربت ڤاليا وقامت بمصافحة الجميع ثم وقفت أمام آدم بتوترٍ واضح ومدت يدها فصافحها الآخر بثباتٍ فشعر برجفتها، ابتسم بهدوء وأردف بنبرته الرخيمة:
_ إزيك يا ڤاليا؟
أخفضت بصرها في خجلٍ وردت هامسة:
_ I'm fine..
وسرعان ما هربت من أمامه وجلست بجوار والدها، فضحك الجميع على تصرفها، فتدخلت حورية معلقة:
_ قليل أوي ما بقينا بنشوف الكسوف دا الأيام دي.. البنات بقت عينهم وقحة، ربنا يباركلك فيها يا حبيبتي
قالت جملتها الأخيرة وهي تربط على قدمي نهال، بينما لكز آدم ذراع أبيه وقال بخفوت:
_ مش هنقعد لوحدنا أنا وهي؟
أعاد قاسم النظر تلقائيًا إلى عز دون أن يجيب آدم، وبابتسامة قال:
_ الولاد مش هيتعرفوا على بعض الأول ولا إيه يا عز؟
_ أكيد طبعًا
نظر حيث ابنته وسألها:
_ تحبي هنا يا حبيبة بابي ولا برا في الجنينة..
_ هتخرج الجنينة كدا؟
تفاجئ الجميع بتعليق آدم المفاجئ، فقهقه عز وأضاف حديثًا مرحًا إلى سؤاله:
_ مالها كدا يا حضرة الظابط؟ أنت هتتحكم كمان من الأول، وقدامي!! لأ طول ماهي بيتي ملكش حكم عليها، أنت تحكم في مكتبك هناك..
أحاط عز كتف ڤاليا بذراعه وضمها إليه ثم استأنف:
_ ولا إيه يا فيفو؟
نكست ڤاليا رأسها في حياء شديد ولم تعقب، فلم يطيل عز لكي لا يخجلها أكثر وقال وهو يحثها على النهوض:
_ تعالي يا فيفو..
ثم اقترب من آدم وقام بإمساك يده فبات ممسك لكليهما وتوجه إلى الحديقة الخلفية حيث لا يوجد هناك أشخاصًا ونظر إلى آدم وقال:
_ إحنا برده بنحب الخصوصية يا آدم باشا، مش سايبنها مفتوحة على البحري كدا يعني..
غمزه عز بمشاكسة وهمس له:
_ خليك لطيف معاها..
ضرب كتفه بخفة ثم عاد إلى مجلسه، ممازح الجميع، بينما مالت نهال بقرب حورية وقالت وعينيها مُثبتة على ڤاليا وآدم:
_ شكله دمه حامي حبتين؟
صوبت حورية نظرها عليه وشكلت ابتسامةٍ وهي اجيبها:
_ في الآخر إحنا صعايدة، والدم واحد بس متقلقيش آدم مش صعب زي ما أنتِ فاكرة هو بس غيران عليها، واعتقد دا من حقه، ودا ميخوفش أبدًا..
إلتوى ثغر نهال ببسمةٍ سعيدة وأردفت:
_ بالعكس أنا احترمته جدًا، أنتِ متعرفيش أنا تعبت معاها إزاي أنها تتحجب، وهي رافضة تمامًا، وكل ما أقول لعز على أساس يضغط عليها يقولي سبيها براحتها هي هتعيش لها يومين وبعدين هتلبسه..
_ واحدة واحدة هتلبسه، كل حاجة بتيجي بالصبر والهدوء، وخصوصًا الحجاب لازم عن اقتناع عشان متقلعهوش تاني..
هتفت بهم حورية، ثم تناولن بعض الأحاديث في مختلف المجالات، في الخارج؛ لم يتكلم أي منهما إلى الآن، فالخجل مسيطرًا عليهما، لام آدم نفسه، فحتمًا لن ينتظر بِدئها للحديث، أخذ نفسًا عميقًا ثم زفره وبدأ كلامه بنبرة مهزوزة:
_ أنتِ في سنة كام السنة دي؟
دون أن تنظر إليه ردت مختصرة:
_ في السنة الأخيرة..
أماء آدم برأسه وتابع أسئلته:
_ اشمعنا اختارتي تخصص هندسة؟ دي شطارة؟
قالها وهو يضحك فشعرت ڤاليا بالنفور منه وأجابت بإقتضاب:
_ بابي اللي عايز كدا، عشان أساعده في شغله..
حك آدم خلف أذنه بتوترٍ، فلم يعد لديه أسئلةٍ، لكن مظهرها يثير ضيقه، ويحاول قدر استطاعته عدم النظر إليها، تنهد وهتف ببنرة متسرعة:
_ مش ناوية تغيري استايل لبسك، أو مثلًا تلبسي الحجاب؟
تفاجئت ڤاليا بما قاله، وحدقته بعيون واسعة من هول الصدمة، ثم صاحت بعصبية:
_ لا مبفكرش، ومش من حق أي حد يعلق على لبسي، أنا حرة وألبس اللي أنا عايزاه..
تركته واقفًا بمفرده وعادت إلى الجميع، فتبِعها آدم وداخله يستنكر انفعالها الذي ليس له داعٍ، كان مجرد سؤال عابر، تعجب الجميع من عودتهما بتلك السرعة وأسبقت نهال بالسؤال:
_ إيه يا يولاد رجعتوا بسرعة كدا ليه؟
تعمد آدم الإيجاب حتى لا يعطيها فرصة رفضه:
_ الجو برا مش ألطف حاجة، فجينا نقعد معاكم..
رمقته ڤاليا بغيظٍ شديد ثم انتبهت على قاسم الذي قال:
_ نقرأ الفاتحة يا عز؟
دون العودة إلى ابنته أجابه:
_ نقرأها يا قاسم..
بدأ الجميع في قراءة سورة الفاتحة، إلا من ڤاليا التي ترمق والدتها بصدمةٍ، لا تصدق ما يحدث، فلم يكن هذا ما اتفقن عليه، لقد وضعوها موضع الحمقاء ليتمموا تلك الخطبة السخيفة، بينما كانت نهال تحثها على الهدوء من خلال نظراتها حتى لا يلاحظها أحدهم.
***
عاد عبدالله إلى المنطقة بواسطة أحد سيارات الأجرة، ترجل منها وسار متجهًا إلى بيته، فأثار ريبته ذلك المُلثم الذي يتلفت حوله كمن ينوي على سرقة أحد المنازل، فلم يتردد عبدالله في إتباعه ومعرفة ما يوجد خلفه.
تلك الأثناء صعد الآخر إلى منزله وقام بطرق الباب بخفة ففتحت له زوجته التي ألقت نفسها بين ذراعيه مشتاقة له:
_ حمادة، وحشتني أوي..
بادلها العناق بفتورٍ شديد، ثم دفعها برفق مبررًا:
_ ادخلي قبل ما حد يشوفني..
أغلقت زينب الباب واقتربت منه هاتفة بشوقٍ حار:
_ وبعدين في اللي إحنا فيه دا؟ هتفضل مستخبي كدا كتير؟
التفت إليها حمادة وقد انعكست تقاسيم وجهه إلى الشر وهتف وهو يصر أسنانه بغضب:
_ روحي قولي لأخوكي الكلام دا، روحي قوليله سيب حمادة في حاله، سيبه يعيش حياته عادية بدل ماهو بينط كل شوية من مكان لمكان وبيجي سرقة يشوفني.. روحي قوليله يبعد عن طريقي ويرجع عن حلفانه
دنا منها وأضاف ببغضٍ واضح:
_ أنا مش هموت على إيدين أخوكي زي ما وعدني!!
كانت تستمع لكلامه بخوفٍ يزيد داخل قلبها من عبدالله خشية تنفيذ قسمه الذي اتخذه عهدًا على نفسه، لكنها قاومت ذلك الخوف وأردفت:
_ طول عمري أسمع إن صاحب الحق عينه واسعة، أنت إيه اللي يجبرك على الهروب دا طلاما معملتش حاجة، خليك هنا وأنا بنفسي اللي هقف له، أنا اللي هحميك منه، دا لو طلبت نعمل فيه محضر عدم تعرض بس أنت متشميش وخليك هنا..
أنهت جملتها ثم تفاجئ كليهما بالطرق العنيف على الباب، اتسعت عينيهما بصدمةٍ حلت على وجهيهما، وازدادوا رعبًا حين استمعوا إلى صوت عبدالله الغاضب الذي يريد الإفاء بوعده والخلاص من ذلك المعتدي:
_ افتحوا الباب وإلا هكسره.. افتحوا
تجمدت أقدامهم وعُلِقت أعينهم على الباب، ابتلع حمادة ريقه بخوف ثم همس مذعورًا:
_ اوعي تفتحي له يا زينب..
استنكرت زينب خوفه الواضح، دنت منه وأمسكت يده وشدت بقبضتها عليه وهدرت:
_ ميقدرش يعملك حاجة طول ما أنا واقفة له، بلاش الخوف دا، خليك أقوى من كدا، أنت كأنك بتثبت له إن كلامه صح!!
خرج حمادة عن طوره، وسحب يده بقوة وهو يرمقها بنظراتٍ ساخطة، ثم توجه ناحية الباب متصنعًا لباس القوة، وقام بفتح الباب حارصًا على ترك مسافة كافية ليستطيع الهرب إن تطلب الأمر.
هاجمه عبدالله وأمسكه من ملابسه معنفًا إياه وهو يهزه بقوة:
_ أنت فاكر لما تهرب مني مش هعرف أجيبك؟! فاكر إني مش هقدر أوصلك؟!
أسرعت زينب في الوقوف بينهما مشكلة حائل لتمنع وصول عبدالله لحمادة، أبعدها عبدالله عنهما محذرها بوعيدٍ:
_ خليكي بعيد..
رفضت الرضوخ له، وعادت إليهما هاتفة دون رأفةٍ لمشاعره المهشمة:
_ قولتلك حمادة ميعملش كدا، روح شوف هي غلطت مع مين وبتتهمها في جوزي!!
_ لحظات صمت مرت؛ ظل عبدالله مشدوهًا مما سمِع، أزاح يده عن حمادة وحدق بشقيقته قبل أن يهدر بها شزرًا:
_ صبا دي أشرف منك أنتِ يا زينب، أنتِ إزاي سودة كدا من جوا؟ إزاي قلبك قادر يقسى عليا للدرجة دي؟ شوفتي مني إيه وحش عشان متقفيش في صفي لمرة واحدة؟ أنا كنت لك أب وأخ وصاحب، ربيتك على إيدي، استحالة دي تكون نتيجة تربيتي!!
بنبرةً قوية ونظراتٍ لا تخشاه رددت:
_ انا بحمي بيتي!!
قهقه عبدالله ساخرًا وأشار إلى البيت من حوله قبل أن يردف مشمئزًا:
_ هو فين البيت دا؟ دي عشة فراخ معيشك فيها، وفين الراجل اللي بتحميه مني؟
رمق حمادة باستعلاءٍ وواصل مقللًا من شأنه:
_ هو دا؟ حرامي وبلطجي وآخرتها اغتصب حقي!! أخد مني أحلى حاجة كنت عايش عشانها، في الأول أخدك مني غصب وأخد مني صبا اللي معرفش أراضيها فين..
صاح حمادة من الخلف متصنعًا عدم تحمله اتهامات عبدالله:
_ أستغفر الله العظيم، حرامي وبلطجي وكمان مغتصب، دا أنت هبت منك على الآخر
نظر إليه عبدالله ببغضٍ ومقت، انقض عليه ولكمه بقوة في وجهه حتى أسقطه أرضًا وتوعد له:
_ جوايا كره ليك لو خرج والله ما هيسيبك دقيقة عايش، بس أنا مش عايزك تموت، عايزك تعيش العذاب اللي عيشتني فيه بسبب عملتك القذرة، هخليك تحلم بدقيقة واحدة راحة ومش هنولهالك
دون أن يأباه بصق حمادة في وجهه وهمس بخفوتٍ:
_ بكرهك يا عبدالله، بكرهك..
رفع الآخر ذراعه ليبرحه ضربًا لكن زينب صرخت عاليًا وهي تمسك ببطنها متألمة:
_ اااه بطني مش قادرة.. حد يلحقني بطني بتتقطع...
نهض عبدالله مسرعًا؛ وتوجه نحوها بلهفة وخوف فأشارت زينب بعينيها إلى حمادة الذي استجاب لها وفر هاربًا، لم يستطع عبدالله اللحاق به وتركها في حالتها هذه، لكنه لم يقدر على عدم التعقيب وهو يراه جبانًا يركض هاربًا إلى الخارج:
_ هو دا اللي بتحامي له؟ سابك وهرب!!
تمسكت زينب في ذراعه بقوة وانحنت بجسدها تكور على نفسها فلم تستطع تحمل ذلك المغص الذي هاجمها فجأة:
_ مش قادرة بموت.. مغص هيموتني يا عبدالله..
سحب عبدالله هاتفه من جيبه بعد أن ساعدها على الجلوس وهاتف صديقه:
_ اتصرف لي في عربية يا وليد حالًا وتعالى عند بيت زينب، بسرعة..
أنهى الإتصال معه وقال وهو يساندها:
_ قومي ننزل تحت على لما العربية تيجي..
رفضت النهوض معه معللة:
_ بلاش وليد، وليد لأ ..
أغمض عبدالله عينيه، للحظة شعر أنه لا يجيد التصرف، أعاد فتح عينيه وصاح بغضبٍ:
_ متفكريش في حاجة دلوقتي.. قومي
ساعدها على النهوض ثم ترجلا السلم ووقفا في انتظار إحضار وليد للسيارة.
على الجانب الآخر، خرج وليد كالمجنون يبحث عن سيارة أحدهم، حتى استعار سيارة من جاره، توجه بها إلى منزل زينب، وترجل منها متأثرًا بحالة زينب التي يرثى لها.
فتح الباب الخلفي فاعترض عبدالله وأوضح:
_ هتقعد قدام..
أسرع وليد في فتح الباب الأمامي حتى استقلته زينب برفقٍ بمساعدة أخيها، بينما توجه وليد إلى المقود لكن أوقفه عبدالله معارضًا ذهابه معهما:
_ خليك أنت يا وليد، لو احتجت لحاجة هكلمك..
ثم تحرك عبدالله بالسيارة مبتعدًا عن المكان، تحت نظرات وليد المتابعة له، كيف لم يصر ويذهب معه؟ كيف سيستطيع الإنتظار دون معرفة ما أصابها وما سيحدث معها، أغمض عينيه لبرهة يستعيد عقله الذي ذهب وظل يردد بينه وبين نفسه:
_ مبقتش تخصك، أخبارها متخصكش..
ثم فتح عينيه وبصعوبة رفع قدميه عن الأرض وحاول إلهاء عقله عن التفكير بذهابه إلى المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه، فوجد زكريا هناك فانضم إليه وروى عليه ما حدث منذ ثوانٍ.
****
ودعت عائلة عز قاسم وعائلته قبل أن ينصرفوا،
ثم توجهت النظرات على ڨاليا التي ضربت الأرض تمردًا وهرولت إلى غرفتها بوجهٍ محتقن.
فتساءل والدها وأخاها في نفسٍ واحد:
_ في إيه مالها؟
أخذت نهال نفسًا وزفرته وعينيها مُثبتة على السُلم التي صعدت عليه ورددت:
_ أنا هتكلم معاها...
تبادلا الآخرين النظرات قبل أن يتساءل عز وهو يتابع تحركات إبنه:
_ على فين يا أستاذ عامر؟
توقفت قدمي عامر ورمقه بطرف عينه مستاءً من سؤاله:
_ رايح لصحابي، وبعدين إيه السؤال دا هو أنا لسه صغير؟
_ صغير ولا مش صغير، أنا لازم أعرف كل واحد في البيت دا فيه وبيعمل إيه؟ ولا أنت عندك اعتراض؟
هاتفها عز بجدية فرفع عامر ذراعيه للأعلى قبل أن يردف ساخرًا:
_ معنديش يا عز بيه، تسمحي لي أمشي؟
سايره عز في مزاحه الثقيل وتصنع تفكيره ثم قال:
_ طيب روح بس متتأخرش!!
قلب عامر عينيه ولم يعلق بل انصرف سريعًا، في الأعلى؛ ولجت نهال غرفة ابنتها وتفاجئت بثورتها فور دخولها:
_ أنا عايزة أعرف إيه اللي حصل تحت دا؟ مكنش دا كلامك، بابا متفقش معايا على كدا!
أنتوا قولتوا مجرد قاعدة تعارف بين العيلتين، تروحوا تقرأوا فتحتي من غير ما تاخدوا رأيي حتى!!
مش قادرة أصدق بجد اللي أنتوا عملتوه، لأ وكمان فيه خطوبة بعد ما أخلص امتحاناتي، لا كتر خيركم أوي، كنتوا عملتوها كمان يومين واختاروا لي الفستان والأكسسورز والهيلز حتى تسريحة شعري، هو لسه فيه كدا بجد؟
لسه فيه حد بيجبر حد على الجواز؟!
أخذت تتنفس نهال بعض الهواء، ليكون في صدرها متسع تحادثها بها دون انفعالٍ، جلست على طرف الفراش وأشارت إليها بالجلوس:
_ تعالي اقعدي يا فيفو نتكلم بهدوء..
بغضبٍ شديد لم تكبحه صاحت:
_ مش قاعدة، أنا مش قادرة أكون هادية زيك كدا!
أصرت نهال على جلوسها بنبرةٍ حادة:
_ قولتلك اقعدي..
وقفت ڤاليا تحدجها بنظراتٍ مشتعلة تكظم غيظها، ثم جلست بجوارها ونظرت إلى الفراغ أمامها دونًا عن والدتها كنوعٍ من التمرد وعدم طاعتها، فلم تعقب نهال وسألتها بترقب:
_ هو فيه حد في حياتك يا ڤاليا؟
تفاجئت ڤاليا بسؤالها وهبت واقفة رافضة سماع المزيد من الهراء:
_ إيه السؤال دا؟ لا طبعًا مفيش حد في حياتي..
تنهدت نهال وأردفت:
_ متأكدة؟ لو فيه مش هتلاقي أحسن مني تعرفيه عشان ميحصلش مشاكل بعد كدا..
_ مفيش حد والله..
هتفتها بنبرة تريد الخلاص فأضافت نهال بنبرةٍ رزينة:
_ يعني مفيش عائق قدام علاقتك بآدم، ليه متديش فرصة لنفسك معاه؟ آدم شاب كويس ومكانته محترمة وأهله اصحابنا من زمان وطلاما مفيش حد في حياتك، يعني مفيش سبب يخليكي تكون رافضة بالشكل دا، أنتِ في آخر سنة ليكي وامتحاناتك هتنتهي بعد أيام بسيطة وهتخلصي دراسة وطبيعي لأي بنت في عمرك تتخطب وتعيش الحياة دي..
تأففت ڤاليا فلم تقتنع بحرفٍ مما سمعته من والدتها، أولتها ظهرها وصاحت متذمرة:
_ مش مرتاحة، مش بتقولوا المواضيع دي قبول ورفض، أنا مش متقبلاه، وأنا واقفة قدامه مكنتش مستلطفاه خالص.. كلامي كان بيخرج غصب عني ومقدرتش أقف معاه أكتر من عشر دقايق..
نهضت نهال وتوجهت نحوها حتى وقفت مقابلها وقالت:
_ يا حبيبتي طبيعي كل دا، في النهاية أنتوا متعرفوش بعض أوي، ومقابلاتنا مكنش بيكون موجود فيها، فأنتِ متعاملتيش معاه قبل كدا فآدم بالنسبة لك شخص غريب، وعقلك هيخليكي تحسي بالنفور والخوف منه في الأول لأنك متعرفيهوش، كلنا كنا كدا في الأول بس بعد ما بندي للشخص فرصة نظرتك له بتتغير تمامًا، بتحسي إنه بقى وسيم فجأة ومش قادرة تشوفي حد أحلى ولا أحسن منه، أقل تصرف منه بتكوني مبهورة بيه بعد ما كنتي حاسة أنه مش مناسب ليكي، أنا بتكلم معاكي عن تجربتي وتجربة أي بنت..
عقدت ڤاليا ذراعيها أعلى صدرها مِعلنة عدم قبولها للأمر فخرجت نهال عن هدوئها وعنفتها بصوتٍ مرتفع:
_ أوف منك، مش بتحاولي حتى تقتنعي بالكلام، أنتِ منك لباباكي أنا أوت، ومترجعيش تعيطي لي ..
ولج عز على صوت زوجته الغاضب، متسائلًا باهتمامٍ:
_ في إيه، صوتك عالي ليه كدا؟
بتذمرٍ واضح هتفت وهي تخرج من الغرفة:
_ مش عايزة تدي لآدم فرصة، اتصرف أنت معاها عشان أنا تعبت
اختفت نهال خلف الباب، أخذ عز نفسًا عميقًا قبل أن يحاور مُدللته:
_ حبيبة بابي مالها، إيه اللي مضايقها؟
نظرت إليه وهتفت بعبوسٍ:
_ مش عايزة اللي اسمه آدم دا، مش متقبلاه...
أومأ عز برأسه بعد أن فهم مشكلتها وأردف وهو يسحب هاتفه من جيبه:
_ مفيش مشكلة خالص، أكلم قاسم وأقوله فيفو حبيبتي مش مرتاحة والموضوع يكون خلص..
تفاجئت ڤاليا بهدوئه المبالغ ورد فعله الذي بدى لها مريبًا ورددت دون استيعاب لما يحدث:
_ بالسهولة دي؟
_ محدش يقدر يغصبك على حاجة خالص، بس لو أنتِ مثلًا حابة تسمعي رأي عز صاحبك فأنا ممكن أديلك نصيحتي بس دا طبعًا لو تحبي..
قالها عز مستعطفًا قلبها، وقد نجح فهي شعرت بالحاجة إلى سماعه ربما ينجح في حل شفرات عقلها المعقدة وقالت:
_ حابة أسمع..
ابتسم عز ثم جلس على طرف الفراش وأشار إليها بالجلوس فلم تعارضه وأطاعته، جلست إلى جواره بينما وضع عز قدم على الأخرى وبدأ حديثه بنبرة عملية:
_ بغض النظر عن إن قاسم صاحبي وبينا شغل وشخصيته محترمة وعملية، وبغض النظر برده عن آدم وشخصيته القوية ومكانته المرموقة وجاذبيته وإنه شيك وراقي، وإن أي بنت تتمناه بس كل دول ميهمونيش قصاد عدم راحة بنوتي حبيبتي..
حدجته ڤاليا بطرف عينيه، ولم تنتبه لابتسامتها التي تشكلت على ثغرها الوردي ورددت:
_ أنت كدا بتثبتني صح؟!
إلتوى ثغر عز ببسمةٍ وهو يحدق بالسقف متصنعًا عدم فهمه لكلامها، لحظاتٍ وأعاد النظر إليها وربت على ظهرها بحنانٍ وأردف بنبرة رخيمة:
_ إديله فرصة يا فيفو.. وصدقيني لو مرتاحتيش معاه بعد ما تتعرفي على شخصيته كويس أنا بنفسي اللي هقوله معندناش بنات للجواز..
أطالت ڤاليا النظر على والدها؛ تُفكر بكلامه قبل إعطائه رد، بينما غمزها عز بمشاكسة:
_ نديله فرصة؟
أماءت بقبولٍ فأسرع عز في ضمها إليه وهتف:
_ Good girl
***
داخل المستشفى؛ انتهى الطبيب من فحص زينب ثم قال لها بجدية:
_ أنا فاكرك كويس، كنتي هنا من أقل من شهرين كدا، وأنا نبهت إنك تكوني حريصة، يا مدام حصلك تشنج بسيط، لو زاد عن كدا هتجهضي الجنين، لازم تبعدي عن أي توتر نفسي وخوف، وراحة تامة وإلا متلوميش غير نفسك بعد كدا..
توجه الطبيب إلى الخارج بثباتٍ وقبل خروجه مال على أذن عبدالله وهمس:
_ ياريت تاخد الموضوع بجد، وضع الجنين في خطر..
خرج الطبيب بعد أن قام بتحذير عبدالله على وضع زينب وجنينها، أغمض عبدالله عينيه قبل أن يتوجه إليها بملامح جامدة، وقف أمامها وعينيه لا تريدان النظر إليها، فقلبه لم يصفى من تصرفاتها بعد وخصيصًا بعد مواجهته لها قبل مجيئهم إلى هنا.
حك أنفه بإصبعه عدة مرات قبل أن يبدأ كلامه:
_ يلا هتروحي معايا على بيت ابوكي..
رفضت زينب عرضه بنبرة مُنهكة يتملكها التعب:
_ لأ أنا هرجع بيتي ولجوزي
صعق عبدالله من ذِكرها لذلك الجبان الهارب، خرج عن طوره وصاح:
_ هو فين جوزك دا؟ اللي هرب وسابك في حالتك دي؟
نهرته زينب بهجومٍ:
_ أنا اللي شاورت له يمشي.. لو مكنتش موجود مكنش مشى
دنا منها وتحدث وملامحه مشدوهة تميل إلى الإشمئزاز:
_ هل دا مبرر؟ وجودي مبرر لهروبه؟ لو بينا إيه وشاف مراته في وضعك دا مكنش مشى وجرى بيكي على هنا، دا أنا حتى كنت شفعت له جزء عندي، لكن هو جبان مصلحته ونفسه أولى عنده منك، نفسي تفوقي بقى..
سقطت عبرة على مقلتيها وهتفت بصوتٍ متحشرج:
_ ليه كل دا؟ ليه مش بتحبه؟ إيه اللي وصلك تكره صاحبك وجوز اختك؟ كل دا عشان مكنتش موافق على جوازتنا وأنا أصريت عليه؟
وضع عبدالله كفه على جبينه يقاوم بركان غضبه الذي لن يرأف بها إن ثار، حاول قدر استطاعته إخماد غضبه المتأجج وأجابها على أملٍ أن ترى ما تتعمد التغافل عنه:
_ حمادة على يدك كان صاحبي وأقرب ليا من زكريا ووليد، كنت بعتبره أخويا، وعوضي عن الأيام البهدلة اللي شوفتها، كان راسم عليا الدور أنه بيحبني وخايف على مصلحتي، بس الحقيقة إن دا كان وش لابسه قدامي ومن ورايا كان بيإذيني.. حمادة عمره ما حبني والكره كان مالي قلبه من نحيتي
قاطعته زينب غير متقبلة كلامه الذي يُدين زوجها:
_ ليه؟ يكرهك ليه؟ مين اللي وصلك كدا؟ زكريا ووليد صح؟ هما اللي وقعوا بينك وبينه وفهموك إنه بيكرهك!!
_ لا يا زينب محدش وقع بيني وبينه ولا حاجة، ومش شرط يكون فيه سبب عملته عشان يكرهني، فيه بني آدمين كدا النقص وقلة الأصل بتجري في دمهم، حمادة مكنش بيكرهني، كان مستكتر عليا حياتي وشقايا اللي بوصله بعرق جبيني وتعبي، كان دايمًا يقولي بلاش تعيش دور الشريف والواد اللي كرامته ناقحة عليه وروح خد حقك من أبوك، ولما كنت برفض كان بيتخانق معايا ويمشي ومعرفش عنه حاجة بالأيام، ولما كنت أكسب قرشين من أي مصلحة كان يتلكك ويعمل أي مصيبة عشان أجري عليه وأقوله خد ظبط دنيتك، مفيش مرة شجعني على خطوة كنت عايز أخدها، كان دايمًا بيقلل مني وبيحبطني ويسود أي حاجة كنت بكون متحمس لها في عيني، حتى زكريا ووليد اللي بتقولي وقعوا بيني وبينه، كان مخليني شايفهم اندال ومش صحاب وياما قال كلام عنهم وحش، كان مخليني متجنبهم طول الوقت، وكل دا كنت بالع له الزلط، لغاية ما راح يدور على قاسم القاضي وياخد منه فلوس بأسمي، دي كانت الناهية بيني وبينه، وبعدها كل حاجة اتكشفت لي عنه وعرفت قد إيه كان تِعبان وكنت معمي بيه زيك كدا، أنا رفضت جوازك منه عشان عارف إنه مش هيصونك، حتى أنتِ استكتر علاقتي بيكي وأخدك وخلاكي زي ما أنتِ بتعملي كدا!! وياريت على قد كدا...
نكس رأسه في حزنٍ وحاول تملك عبراته لكن جراحه كانت أقوى من نفسه الضعيفة وسقطت دموعه مُتحسرة على حبيبة فؤاده التي حلقت مع الريح ولا يعلم إلى أي سماءٍ صفت:
_ حتى العلاقة البريئة اللي كانت في حياتي، اللي رسمت وخططت كتير لحياتنا سوا مسلمتش من آذاه، استكترها عليا..
أبت كل ثغره بزينب سماعها لذلك الهراء وصرخت رافضة:
_ بس كفاية، كفاية حرام عليك
لم يضيف عبدالله المزيد، واكتفى بإفراغ ما كان في جوفه حتى وإن كان القليل منه، رمقها يآمل إزالة الغشاوة من على عينيها، وتراه على وجهه الحقيقي، لكنه وجدها تنكس رأسها وتبكي فتراجع عن شدته وتذكر تحذيرات الطبيب، أخذ شهيقًا عميق وزفره بهدوءٍ ثم قال بجدية:
_ يلا عشان نرجع البيت، ومش عايز أي رفض، أنتِ بنفسك سمعتي كلام الدكتور قال راحة، وأنا استحالة أدخل أمك بيت القذر دا..
كادت تعارضه إلا أنه منع ذلك بنبرة حادة أمرها بها:
_ مش هقبل أي اعتراض، فكري في اللي بطنك قبل ما تفكري في نفسك!!
صمتت الأخرى فلقد فاض بها وطفح الكيل، لقد أهلكت روحها، فقط تريد حياة هادئة تخلو من المشاكل، أغمضت عينيها في محاولة استجماع نفسها قبل أن تخبره بقبولها لذهابها معه.
***
وصلوا إلى المنطقة، وقف أسفل البناية وأمرها وهو يتحاشى النظر عنها:
_ اطلعي لمي الحاجات المهمة دلوقتي.. وأنا هستناكي هنا
أماءت بقبولٍ ثم صعت إلى منزلها، بينما رد عبدالله على هاتفه الذي لم يكف عن الرنين منذ فترة، تنهد قبل أن يجيب بفتورٍ:
_ إيه يا زكريا؟
_ أنت فين؟ أختك كويسة؟ محتاجنا نجيلك؟
هاجم زكريا عبدالله بأسئلته فجأة، فرد الآخر مختصرًا:
_ لا، أنا أصلًا رجعت..
_ طيب كويس، تعالى اقعد معانا على القهوة شوية..
هتفها زكريا على أملاٍ أن يقبل وينضم إليهما لربما يخرجه من قوقعته الذي وقع بها، لكن أتاه رده المتوقع:
_ لا مش قادر مرة تانية..
أصر زكريا على مجيئه قائلًا:
_ يا عُبد القاعدة مبقتش حلوة من غيرك، يلا تعالى مستنينك..
تعمد زكريا إنهاء الإتصال ليغلق أمام عبدالله أي سُـبل للإعتراض، ونظر إلى وليد الذي يراقب ما يحدث في صمتٍ وتساءل:
_ هيجي؟
رفع زكريا كتفيه ووجه بصره ناحية الشارع الذي سيأتي منه عبدالله وأردف:
_ هنشوف..
انتهت زينب من جمع الأغراض التي ستحتاج إليها مؤقتًا، وعادت إلى عبدالله الذي حمل عنها الحقيبة وأسبق خُطاه إلى منزله، فتح الباب فهرولت والدته نحوه وتفاجئت بصحبته لزينب.
وقفت تطالعهما دون فعل، بينما حاول عبدالله توضيح الأمور لها:
_ زينب تعبانة ومحتاجة راحة، وأنا جبتها هنا تاخدي بالك منها..
مال على والدته وأضاف هامسًا:
_ بلاش أي كلام يضايقها..
ترك الحقيبة على الأرض وتوجه إلى الباب فتساءلت والدته مستفسرة:
_ على فين متأخر كدا؟
_ هقعد مع زكريا ووليد شوية وراجع..
أجابها ثم انصرف سريعًا فتقوس ثغر أحلام بابتسامة أمل في عودته إلى حياته السابقة ودعت له بقلبٍ صادق:
_ اللهم أخرجه من حوله وقوته إلى حولك وقوتك،
ومن ضعفه إلى قوتك ومن انكساره إلى عزتك، يارب
انتبهت على زينب التي تراقبها دون تعليق، قلبها حزين للغاية من أفعالها التي تأخذ عنها جائزة في النذالة وقطع الرحم، تشفق عليها أحلام لوضعها التي باتت فيه لكن سرعان ما تهاجمهما أفكارها التي تذكرها بالمرات التي قامت باختيار زوجها اللعين دون عائلتها.
هزت رأسها تطرد أفكارها فليست في أوقاتها الصحيحة، انحنت على الحقيبة وحملتها ثم قالت:
_ تعالي، متقفيش عندك كدا..
جرت زينب قدميها بتعبٍ حتى وصلت الغرفة وقامت بالاستلقاء على الفراش بأمرٍ من والدتها التي أضافت قبل خروجها:
_ هعملك حاجة تاكليها وراجعة..
لم ترفض بل استكانت مكانها حتى عودة والدتها، فهي جائعة وتشتهي من الطعام أطيبه، فلا تتذكر متى آخر مرة تناولت بها وأشبعت معدتها.
****
أسرع وليد في إحضار كرسي فور وصول عبدالله؛ غزت الإبتسامة شفتيهم لرؤيته يعود إليهما من جديد، ربت زكريا على فخذ عبدالله وصاح عاليًا:
_ ليك شوقة يا عُبد والله، روق يا صاحبي بكرة تتحل
كان منكس رأسه لا يتطلع في أعينهما، تبادلا الآخرين النظرات المشفقة ثم حاول وليد كسر ذلك الملل بقوله:
_ ها هتشربوا إيه؟ المشاريب على حسابي النهاردة
شاكسه زكريا بمرحٍ:
_ إذا كان كدا اطلب لنا فرخة..
قهقه وليد وهلل من بين ضحكه:
_ لا طلاما آكل يبقى أخركم كبدة هوهو من عند عم حسن
انفجروا ضاحكين، وكذلك عبدالله الذي انفرجت شفتيه مبتسمًا على دعابة وليد، فانشرحت قلوبهم لرؤياهم ابتسامته، لم يتردد زكريا في إحاطة كتف عبدالله وضمه إليه بحركة عفوية تظهر حبه له قبل أن يردف:
_ مكنتش اعرف إن ضحكتك غالية كدا، يا جدع ولا كأنك مراتي
دفعه عبدالله بعيدًا عنه وهلل:
_ مراتك دي فوق في البيت، اتلم كدا
قهقه الشباب ثم نهض وليد فتساءل زكريا عن سبب نهوضه:
_ رايح فين؟
بمزاحٍ رد عليه:
_ رايح أطمن على كلب حفيد عم حسن، أصل يطلع الموضوع بجد
لم تخلو الجلسة من الضحك، حتى انصرف وليد وانتبه زكريا على عبدالله الذي شرد فجأة وأراد إخراجه من حالته فتساءل باهتمامٍ:
_ وليد قالي إن كان عندك مقابلة شغل النهاردة، عملت ايه؟
دون أن ينظر إليه أجاب بإيجاز:
_ هبدأ من بكرة
هلل زكريا بفرحة:
_ طب ما دا حلو يا صاحبي، ربنا يوفقك
تقوس ثغر عبدالله ببسمةٍ لم تتعدى شفتاه، مرت بضع دقائق حتى حضر وليد حاملًا الطعام، جلس على كرسيه وأردف من بين أنفاسه اللاهثة:
_ الحمد لله لقيت الكلب زي ماهو
أضاف زكريا مازحًا:
_ فيه الخير عم حسن مش بيجي على اللي منه
_ كفاية بقى خلينا ناكل
قالها وليد مشمئزًا من أحاديثهم المنفرة، ثم بدأ يتناولان مرغمين عبدالله على مشاركتهم الطعام بعد رفضه المستميت، كان يتناول قضمة ويتذكر ذكراه ذلك اليوم عندها آلمته معدته وتصنع التعب ليطفئ لهيب قلبه المشتاق برؤية صباه، والآن كيف يستطيع أن يُمتع نظريه بعد أن فاق شوقه إليها حد السماء.
انتبه على صوت ميادة الحناوي وكلمات أغنتيها التي اخترقت أذنيه من داخل تلفاز المقهى:
مهما يحاولوا يطفوا الشمس، مهما يزيدوا علينا الهمس
مهما يقولوا مهما يعيدوا، إنت في قلبي إنت وبس
كل كلامهم مش هيأثر، وأنا ولا هبعد ولا هتغير
يمكن حتى هقرب أكتر، مهما يحاولوا الناس بالعكس
حبنا جوة قلوبنا بيكبر، مهما يحاولوا يطفوا الشمس
يا اللي حياتي بتحلم بيك، وبشوف كل الكون بعينيك
إنت العمر الحلو اللي زمان كان متأجل
عشته وشفته جوا عينيك في معاد وبيوصل
ليه عايزين ياخدوه من قلبي، ليه يلومني الناس على حبي
لم ينهي شطيرته بعد، أعادها بين البقية وتناوب النظر بين صديقيه اللذان ينظران إليه باستغرابٍ شديد، لمعت عينيه وفشل في استجماع نفسه أمامهما ففر هاربًا على الفور.
نهض وليد فجأة وحاول إعادته بالنداء عليه:
_ يا عبدالله، أنت رايح فين يابني، مكملتش أكلك!!
أخفض بصره على زكريا عندما فشل في إعادة صديقه، وضع ما تبقى معه من الشطيرة على الطاولة ثم جلس فانتبه على زكريا الذي هتف وهو يتابع هروب عبدالله:
_ الموضوع دا فيه إن، مش معقول أبوها اخدها ومشى ومحدش يعرف لهم طريق عشان مش موافق على عبدالله، حكاية متدخلش العقل بنِكله!
نهض زكريا وقال:
_ شكرًا يا وليد على العشوة.. أنا طالع البيت
ذهب وترك ابن عمه في حيرة مما يحدث، نظر إلى ما تبقى من الطعام وقام بتجميعه وأعطاه إلى الصبي الذي يعمل المقهى ثم عاد إلى منزله أيضًا.
***
حل الصباح، وأشرقت الشمس، فنهضت لتؤدي صلاة الضحى، وبعد أن فرغت منها انتبهت على رنين هاتفها فأجابت دون تفكيرٍ:
_ قاسم!!
_ صباح الخير يا أحلام
قالها بصوتٍ متحشرج لم يزول منه النعاس بعد، حمحمت أحلام وردت بإيجازٍ:
_ صباح النور، فيه أخبار جديدة؟
أخرج قاسم تنيهدة مطولة تأكدت أحلام أن هناك أمرًا قد علم به، لم يطيل قاسم ثم قال:
_ أنا عرفت مكان صبا!
