رواية علي دروب الهوي الفصل الحادي عشر 11 بقلم تسنيم المرشدي
الفصل الحادي عشر
على دروب الهوى
بقلمي تسنيم المرشدي
***
هرول نحوها برعبٍ دب أوصاله منحنيًا بجسده ليكون في نفس مستوى طولها وتساءل مذعورًا:
_ إيه اللي حصلك؟
انفجرت صبا في البكاء الغزير، ثم اهتز جسدها بقوة أخافت عبدالله، وماهي إلا ثوانٍ معدودة حتى خارت قواها ووقعت مغشي عليها.
خفق قلب عبدالله بخوفٍ عارم؛ وأسرع في خلع سترته محاولًا إخفاء معالم جسدها الظاهر، حمد لله أن الشارع خاويًا لا يسير به أحد، حملها بين ذراعيه وركض نحو منزله، صعد الأدراج وبالكاد تحِمله قدميه.
طرق الباب بقدمه فأتت والدته مذعورة، شهقت بصدمةٍ حين رأته يحمل صبا، ناهيك عن وضعها المذري، ولج بها عبدالله إلى غرفته وقام بوضعها على الفراش بحرص، فجائت والدته من خلفه متسائلة بتوجسٍ:
_ في إيه يابني، إيه اللي حصلها؟
_ معرفش معرفش لقيتها كدا في الشارع
هتفها بعصبية وهو يدور حول نفسه، ثم صاح عاليًا:
_ دكتور، كلمي دكتور..
هرولت أحلام إلى الخارج باحثة عن هاتفها لتلجأ إلى أحد الأطباء الذين تعرفهم، بينما اقترب عبدالله من صبا متحاشيًا النظر على جسدها، لكنه لم يقدر، ففضوله حول ما تعرضت له أجبره على تفقدها بعناية حتى وقعت عينيه على دماءٍ متناثرة على ملابسها.
المئات من التخيلات المأساوية راودته، نفض عنه أفكار عقله بضربه لرأسه مرددًا بصوتٍ مهزوز:
_ ششش بس بس كفاية
خرج مهرولًا يبحث عن والدته وسألها بانفعالٍ:
_ فين الدكتور؟ محدش جه ليه؟
بإرتباكٍ واضح أجابته:
_ جاي في السكة..
عاد عبدالله إلى حبيبة فؤاده، وعقله يجن جنونه، وبات في حالة يرثى لها، سحب الغطاء ودسره أعلاها ليمنع نفسه من النظر إليها والتفكير بسوداوية.
بعد مدة؛ وصل الطبيب وقام عبدالله بإدخاله الغرفة ثم خرج منها وأمر والدته:
_ خليكي معاها..
أماءت والدته بقبولٍ وأسرعت إلى الداخل، مرافقة لصبا حتى انتهى الطبيب من فحصها، ثم خرج من الغرفة فاقترب منه عبدالله على عجالة متسائلًا بتوجسٍ:
_ مالها؟ حصلها إيه؟
أجاب الطبيب بآسى:
_ الآنسة اتعرضت لإعتداء جسدي، وضعها الصحي مش كويس لازم تروح المستشفى..
وكأن كلماته خنجرًا غرز في قلب عبدالله فأنهت حياته، توقف الكون من حوله وارتفع صفير أذنيه فلم يسمع شيئًا مما يقوله الطبيب، بات ضريرًا أصمًا لا يقوى على فعل شيء وكأنه تحول إلى جثة مُحنطة.
غادر الطبيب؛ تحت صدمة أحلام التي تقف واضعة يدها على فمها تكتم شهقاتها بعد سماعها اتلك الكارثة، انتبهت على صوت رنين أحد الهواتف وعندما بحثت خلفه وجدته يعود إلى صبا، أخذته وعادت إلى عبدالله قائلة بعقلاٍ لم يستوعب بعد:
_ أبوها بيتصل، لازم يعرف..
أعادت تكرار قولها لكن دون فائدة، آلمها قلبها على حالته وعزمت أن تخبر والديها، فعليهما معرفة ما حدث لها عاجلًا أم آجلًا، قامت بالإجابة على اتصال محمود، لُجم لسانها فكيف ستخبره بذلك؟ الأمر يصبح أكثر صعوبة ولسانها لا يريد النطق كأنه شُل، أغمضت عينيها في محاولة استجماع قوتها، ثم ألقت بالحديث دفعة واحدة دون مماطلة وأنهت الإتصال على الفور دون السماع للطرف الآخر.
يصعُب عليها سماع كلماتهما المصدومة، تجمدت مكانها تبكي في صمت حزينة على ما تعرضت له الفتاة، وأيضًا على فلذة كبدها الذي تحطم قلبه، لم تمر إلا دقائق قليلة حتى وصلا والدي صبا، فقامت بفتح الباب لهما.
دلفا المنزل وعلامات الذعر مشكلة على تقاسيهما، هتف محمود أسئلته دون تصديق لما أخبرته به أحلام:
_ إيه اللي حصل لبنتي؟ وهي فين ومين عمل كدا؟
رفعت أحلام كتفيها معلنة عدم معرفتها بالأمر واكتفت بقول ما تعرفه:
_ عبدالله لقاها في الشارع وجابها على هنا.. دا اللي أعرفه
توجه محمود ناحية عبدالله وظل يضرب صدره بقوة وهي يلقي عليه أسئلته:
_ حصل لبنتي إيه؟ انطق ورد عليا، قول اللي سمعته دا كدب، رد يابني بالله عليك
لم يصدر منه صوتًا؛ بل فرت دمعة على مقلتيه تسببت في إنقباضة قلب محمود، فصرخت إجلال متسائلة:
_ بنتي فين؟
أشارت أحلام إلى الغرفة، فاندفعت إجلال راكضة إلى الداخل، شهقت بصدمةٍ حين رأت ما أصاب إبنتها، وصرخت بألمٍ وحسرة:
_ لا لا لا
انضم إليها محمود ولم يقدر على التطلع فيها، لم يستطع رؤيتها بهذا الشكل، يصعب عليه ذلك، فجلس على طرف الفراش يبكي بضعف حيلة.
في الخارج؛ لم تعد قدمي عبدالله تقدر على حمله، فهوى أرضًا، ثم ضم ركبيته أمام صدره محاوطهم بذراعيه وظل يهُز جسده للأمام وللخلف، ثم انفجر باكيًا.
خرجت والدته على صوت بكائه، لم تتمالك دموعها التي انهمرت بغزارة، وركضت نحوه، جلست بجواره وضمته إلى صدرها بكل ما أوتيت من قوة، شاعرة بوهنه وقلة حيلته، إزداد نحيبه المتألم وبدأ جسده ينتفض بشدة.
حاولت والدته تهدئته بكلماتها:
_ اهدى يا حبيبي، متعملش في نفسك كدا، هيجرالك حاجة..
قبض عبدالله على ملابس والدته متعلقًا بها كفتى صغير فقد أمه وعاد إلى حضنها من جديد، ملست أحلام على رأسه وهي تردد:
_ اللهم إن مصاب ابني جلل، فاربط على قلبه بالصبر وأعذه من الهم والحزن والعجز وغلبة الرجال
شدت من إحاطتها له وأسندت جبينها على رأسه ثم أضافت بضعفٍ:
_ يارب، يارب
***
في مكانٍ آخر؛ بالتحديد عُش زكريا الجديد، أمسكت ليلى بيده لتجبره على المشي معها قائلة:
_ تعالى نتصور..
توجها إلى المرآة المموجة خاصة التصوير ووقفا أمامها، أعددت ليلى الكاميرا بينما قام زكريا بدفن رأسه داخل عنقها فأخذت ليلى صورة لهما، ثم قام بتقبيل وجنتها، فأخذت لهم صورة على ذلك الوضع، وغيرهم من الأوضاع المختلفة الرومانسية.
شعر زكريا بالملل وقام بالتقاط الهاتف منها مرددًا باسيتاء:
_ إحنا مش هنقضي الليلة في التصوير يا لول، ورانا حاجات أهم نعملها..
برقت عيني ليلى مذهولة من وقاحته فضحك زكريا وأوضح:
_ إيه دا أنتِ دماغك راحت لفين، أنا قصدي نصلي..
ارتخت تعابيرها ورمقته دون تصديق، فواصل زكريا استرساله:
_ دماغك بقيت قليلة الأدب أوي
رفعت ليلى حاجبها الأيسر وقالت:
_ أنا برده؟!
أولته ظهرها لتغادر فأعادها زكريا إليه محاوطًا خصرها بذراعيه وقال مشاكسًا إياها:
_ أنا عايزك كدا، طول ما أنت معايا مسمعش عن حاجة اسمها الأدب نهائي
انحنى على ثغرها لكنه لم يصل إليه فلقد تراجعت ليلى برأسها ثم وضعت يديها على ذراعيه تُبعده عنها، وأردفت وهي تفر هاربة منه:
_ يلا عشان نصلي..
تملك الضيق من زكريا، فرفضها له أشعره بالسوء، حمحم وردد:
_ وماله..
توضأ كليهما وشرعا في الصلاة، وسرعان ما أن انتهت ليلى حتى ابتعدت عنه فلحقها زكريا متسائلًا بحاجبين معقودان:
_ بتهربي مني ليه؟
تصنعت ليلى عدم الفهم ورددت:
_ وههرب منك ليه؟ أنا كنت هغير الفستان
إلتوت شفتي زكريا للجانب وقال بخبثٍ:
_ وأنا روحت فين؟ أنا هساعدك تغيريه
دفعته ليلى عنها بوضعها يدها على صدره، وقالت وعينيها تهربان من نظراته التي تخترقها:
_ لا لا سيبني أنا هغير لوحدي، لو سمحت أخرج من الأوضة
بغرابةٍ واضحة تساءل:
_ أنتِ بتتكلمي جد؟
ردت عليه وهي منكسة الرأس:
_ أيوا، هغير وأخرج لك..
وليه أنا مساعدكيش تغيري الفستان؟ وليه أصلًا أخرج من الأوضة هو أنا غريب؟!
هتف سؤاله بتذمر، فرققت ليلى من نبرتها تستعطف قلبه:
_ عشان خاطري يا زيكو سيبني على راحتي..
أطال النظر بها ثم انسحب من الغرفة بهدوءٍ، لكنه سرعان ما عاد من جديد وأخذ له ملابسًا ثم خرج، بدل حُلته بسروال قصير وفضل عدم ارتداء بقية الملابس، لكنه شعر بالبرودة تتخلل جسده حتى حتى تجمد من البرد، فأسرع في إشعال المدفئة ووقف أمامها يفرك يديه ببعضهما مساعدًا حرارة جيده على العودة.
في الداخل، وقفت ليلى أمام المرآة، نظرت لصورتها المنعكسة برعبٍ يخالطه التوتر، حاولت تهدئة روعها عن طريق استنشاق الهواء وزفرته على مهلٍ، أعادت تكرار فعلتها حتى شعرت بسعة صدرها.
توجهت نحو الخزانة وقامت بسحب أحد القيمصان من القماش القطيفة المُعلقة خصيصًا لتلك الليلة، وبعد صعوباتٍ قابلتها نجحت في التخلص من فستانها، وكذلك إزالة مساحيقها التجميلية، ثم قامت بارتداء القميص الذي شعرت بتماشيه مع انحناءات جسدها، كأنه صُمم لها خصيصًا.
دست الروب أعلاه ثم وضعت من قنينة عطرها ذات الرائحة الهادئة؛ واضعة خُصلات شعرها على الجانب فباتت مثيرة المظهر، أخذت نفسًا قبل أن تدير مقبض الباب، وبعد مواجهةٍ مترددة مع ذاتها قررت الخروج.
انتبه عليها زكريا، ووقف يطالعها بنظرة متفحصة انتهت بابتسامة راضية عن مظهرها الذي حاز على إعجابه، اقترب منها وهو يردد متغزلًا بها:
_ إيه يا حتة، الحلويات دي كلها بتاعتي، كدا نفسي تموع
اكتفت بابتسامة خجولة؛ وأسرعت في التحدث عندما رأته يخطو نحوها:
_ أنا جعانة.. مش هناكل؟
بدأ صبره ينفذ، لكن سيتحمل قليلًا بعد، رمقها وهو يحرك لسانه بحركاتٍ دائرية حول شفتيه قبل أن يردف بنفاذ صبر:
_ وماله، ناكل..
جلسا يتناولان الطعام الذي اشتراه والدها خصيصًا لهما، لم يتناول زكريا الكثير، عاد بظهره مستندًا على الأريكة وداعب بأنامله خصلات ليلى، ثم مرر يده على ظهرها بحركاتٍ طولية سببت لها القشعريرة، فاضطرت إلى ترك الطعام التي تهرب به منه.
دنا منها زكريا وقام باحتضانها من الخلف ثم أدار رأسها إليه محاولًا التعامل معها بلطفٍ ليمحي أي عنفٍ قد تعامل به في المرة السابقة، لكنه لم يكن مسرورًا، ضاق صدره فجأة وتراجع للخلف ناظرًا إليها بعبوس قبل أن يهتف بعصبية:
_ في إيه؟ أنتِ متخشبة كدا ليه؟
أخرجت ليلى أنفاسها التي حبستها داخلها فور اقترابه، هبت واقفة وظلت تردد:
_ أنا خايفة، مش عارفة اتعامل..
هرولت إلى الغرفة وارتمت على الفراش، ثم دفنت رأسها في الوسادة وذرفت دموعها بغزارة، تلك الأثناء وقف زكريا وبدأ يدور حول نفسه، يجهل التعامل مع الأمر، إزداد ضيق صدره وشعر بغصة في حلقه.
فلم يستسلم لحالته، محاولًا استجماع نفسه وظل يردد بخفوت:
_ عادي عادي عادي، بتحصل..
عاد إلى الأريكة واستلقى أعلاها، لم يود الدخول إليها قبل أن يهدأ كليهما حتى يمكنهما التعامل مع بعضهما دون توترٍ.
***
عند بزوغ الفجر، استفاقت صبا، تفقدت المكان حولها فجهلت معالم الغرفة، وقعت عينيها على والديها اللذان يبكيان في صمت، فتجددت ذاكرتها معيدة إليها ما عاشته، انتفضت صبا من مكانها وصرخت حتى بح صوتها، ركضا إليها والديها محاولين تهدئتها لكنهما فشلا.
انتباها نوبة عصبية من خلف ما عاشته، احتضنها والدها بقوةٍ على أملٍ أن تهدأ بين ذراعيه، لكن دون جدوى، لم ينفعها بشيءٍ، بينما وقفت إجلال مقيدة الأيدي لا تفقه على فعل شيء، فقط تبكي بحسرة على حالتها.
في الخارج؛ وأثناء صراخها الاول، انتفض عبدالله من جلسته، ابتعد عن والدته وتوجه نحو الغرفة لكنه لم يتحلى بالشجاعة التي تجعله يقف أمامها في ذلك الوضع، كور يده وظل يضرب الحائط بقوةٍ تتضاعف كلما ازداد صراخها، فكان قليل الحيلة يُفرغ ضعفه في إيذاء نفسه.
لم يستمع لتوسلات والدته التي تحثه على التوقف، سالت الدماء من عظام يديه فتدخلت أحلام بكل قوتها ومنعت يده من الوصول إلى الحائط ثانيةً، هاتفة بنبرة باكية:
_ أبوس ايدك كفاية اللي بتعمله دا، مش هيصلح حاجة أنت بتإذي نفسك بس..
_ عبدالله فين؟
هتفها محمود وهو يهرول خارج الغرفة، متوسلًا إياه:
_ تعالى يابني الله يباركلك حاول تهديها أنت يمكن تستجيب ليك..
نظر إليه عبدالله بتيه؛ فكيف يفعل ذلك ولا يستطع السيطرة على نيران قلبه المتقدة، عاد محمود للداخل بينما لم يبرح عبدالله مكانه، يطلب منه أن يواسيها ويضمد جروحها وجراحه لم تلتئم بعد.
كيف لطيرٍ جريحٍ أن يواسي طيرًا بلا جِناح؟
صراخها يدوي في رأسه يفقده صوابه، انتبه لصوت والدته التي ولجت الغرفة ووجهت حديثها لوالدي صبا:
_ يا جماعة بنتكم عندها انهيار عصبي، الله أعلم اتعرضت لإيه لازم تروح المستشفى زي ما الدكتور قال يدوها حاجة تهديها شوية..
تحدثت إجلال بآسى وهي تطالع ابنتها بشفقة:
_ وإحنا هننزل بيها إزاي كدا وهي في الحالة دي؟
_ خلاص يبقى تجبولها حقنة مهدئة من الصيدلية..
هتفت أحلام اقتراحها، فأنارت فكرةً لعقل محمود الذي هم على فعلها:
_ أنا هروح أجيب لها حقنة وراجع..
غادر المنزل بينما توجه عبدالله إلى أقرب أريكة واعتلاها بإهمالٍ، لم يمتلك القدرة على رؤيتها في تلك الحالة ثانيةً، حتمًا سيفتك بدماء الجميع إن رأى ضعف حيلتها وهوان نفسها.
نظر إلى يديه التي تسقط منها الدماء متفاجئًا بما أحدثه بها، فإن ألم قلبه فاق ألم يده.
بعد لحظاتٍ؛ عاد محمود وقام بملأ الحقنة ثم أعطاها في وريد ابنته بمساعدة زوجته، هدأ صراخها تدريجيًا حتى بات آنينًا خافتًا يعكس خوفها وآلامها.
من بين بكائه قال بنبرةٍ مهزوزة:
_ يلا بينا يا أم جلال ناخدها من هنا قبل ما النهار يطلع علينا والناس تنزل من بيوتها
أماءت بقبول ثم ساعداها على النهوض، فظهر فستانها الممزق من آسفل الغطاء، شهقت إجلال مذعورة من مظهرها المُشين، ثم نادت بصوتٍ منكسر:
_ أم عبدالله لو سمحتي تجيبي أي عباية من عندك نسترها بيها..
أتت أحلام بعباءةٍ لها، وناولتها لإجلال وانصرفت حتى لا يكون هناك حرج، ثم قامت إجلال بإلباسها لصبا واضعة حجابها على رأسها، ثم خرجا وهما يسندان صبا من الجهتين.
لم يرفع عبدالله رأسه قط، لم يقوى على النظر في عينيها، بينما لم تكن في وعييها بل كانت مغيبة تسير بالإجبار، هب عبدالله واقفًا ومن بين أسنانه تساءل بغضبٍ لو تحول لبشري لحرق الناس أجمعين:
_ مين اللي عمل كدا؟
زمت صبا فاها بحزنٍ يشوبه الخذي والخجل، سقطت عبراتها ألمًا وهي تخبره بفاعلها:
_ حمادة!!
عمت الصدمة وجوه الواقفين؛ إلا من عبدالله الذي غلف الكره قلبه، وسكن الثأر عقله، وعزم على قتل ذلك الكلب الذي انتهك عرضه، ركض إلى الخارج وسط توسلات والدته الخائفة:
_ بلاش تروح وأنت في حالتك دي، أبوس ايدك متنزلش من البيت دلوقتي
دفعها عبدالله بكل ما أوتي من قوة هاتفًا بعصبية بالغة:
_ اوعي ياما..
فقدت أحلام توازنها وكادت تقع اثر دفعه لها، لكنها وازنت جسدها ووقفت تهلل بحسرة:
_ يا حسرة قلبك على الواد اللي هيضيع يا أحلام..
في الخلف هز محمود رأسه بضعفٍ، فمصابه عظيم، إلى الأن لا يصدق ما مرت به ابنته، كأن عقله توقف تمامًا عن الإستيعاب، يشعر بأن يديه مُقيدة بالأصفاد، لا يقدر على فعل شيء، نكس رأسه وبضعف حيلة وجه حديثه لزوجته:
_ يلا نمشي..
سارت إجلال تساند ابنتها بأعين متورمة لم تكف عن البكاء حتى جف دمعها، وصلا إلى منزلهم وساعدا صبا على الإستلقاء في فراشها، وقفا ينظران إلى جسدها المنتهك حتى قطعت ذلك الصمت إجلال بسؤالها:
_ المفروض نعمل إيه يا محمود؟
فرت دمعة على مقلتيه وهو يردد بشجن:
_ حاسس إني إيدي مربوطة، وعقلي واقف مش قادر أفكر ولا قادر أقتنع إن اللي إحنا فيه حقيقي، المفروض بعد ما عرفت الكلب اللي عمل كدا في بنتي دمي يفور وأروح أقتله، بس مش عارف، عقلي بيقولي ادخل نام وأنت هنقوم الصبح تلاقيك كنت في كابوس وحش أوى، يارتني مت ولا عشت اللحظة دي، يارتني كنت مت ولا بنتي يحصلها اللي حصل دا!
فقد محمود توازنه وترنح يمينًا ويسارًا فأسرعت إجلال بإسنداه وهي تهتف بذعر:
_ خلي بالك على نفسك يا محمود
استند بيده على ذراعها وبظهرٍ منحني أردف:
_ ضهري اتكسر يا إجلال..
انهمرت دموع إجلال حزنًا على حالتهم التي يرثى لها وظلت تردد:
_ لا حول ولا قوه إلا بالله
***
وقع على مسامعه طرقات الباب العنيفة، وكأنه في إنتظار تلك اللحظة منذ وقتٍ، دب الرعب قلبه، وسكن الخوف أوصاله، وسرعان ما تصنع نومه عندما وجد زوجته تتحرك أعلى صدره.
بينما استيقظت الأخرى قلِقة على صوت طرقات الباب المزعجة، لوهلة شعرت أنها تحلم، فألقت نظرة سريعة على الغرفة فوقع نظرها على زوجها النائم عاري الصدر.
نظرت إلى حالتها فتعجبت من ارتداؤها قميصًا خاص بالنوم، شعرت بالتخبط فهي لا تتذكر متى ارتدته وكيف غفت وما الذي حدث قبل ذلك، قرع الباب أخرجها من حالتها وأعاد إليها رشدها، فهتفت مذعورة:
_ حمادة، قوم فيه حد بيخبط جامد على الباب
تمهل في فتح عينيه، ثم نظر إليها بعيون لا تقدر على الفتح جيدًا في الإضاءه، متصنعًا عدم سماعه بما قالته:
_ بتقولي إيه يا حبيبتي؟
_ الباب، مش سامع..
قالتها ثم نهضت مسرعة وقامت بارتداء إسدالها بينما نهض حمادة وتوجه ناحية الباب متعمدًا الظهور بسرواله القصير ليُبعد الإتهام من عليه، وقف أمام الباب وتفقد العين السحرية يتأكد من مخاوفه؛ ثم قام بأخذ نفسٍ قبل فتحه للباب.
لم يكاد يفعل حتى تفاجئ بضربة مبرحة على وجهه أفقدته النطق، ولج عبدالله كالثور الهائج لا يرى سوى هدفه، أبرحه ضربًا في وجهه حتى سالت الدماء من فمه وأنفه، ثم غرز أظافره في ذراعه ليُمسك به وظل يهزه بقوة قد اكتسبها من وراء انتهاك جسد حبيبته.
_ أنت بتعمل إيه؟ نزل ايدك عنه
صرخت زينب بخوفٍ وصدمة شديدين، حاولت أن تفصل بينهما لكن هيهات لإصرار عبدالله في القضاء عليه.
جاهدت زينب في الفصل بينهما بكل قوتها؛ هاتفة بعدم تصديق لتصرفات أخيها:
_ ابعد عن جوزي، أنت بتعمل كدا ليه؟
توقف عبدالله عن ضربه لكنه لم يُفلته من يده، أخفض بصره على زينب المُسكلة حائلًا بينهما وصرخ بصوتٍ اهتزت له أعمدة البيت:
_ الحيوان دا اعتدى على صبا!! وأنا مش هسيبه إلا لما أحسرك عليه..
وقعت كلمات عبدالله على زينب كالسيف الذي اخترق قلبها، استمعت إلى نبض قلبها الذي كان يتردد صداه في أذنها فلم تسمع شيئًا سواه. لحظاتٍ فارقة أعادتها إلى الواقع وبنبرة مرتعدة تساءلت:
_ إيه اللي بتقوله دا؟
_ زي ما سمعتي، راجع من الفرح لقيتها.. لقيتها..
لم يستطع المواصلة فخرجت نبرته مهزوزة تهدد بالبكاء:
_ قالت إن الحيوان دا هو اللي عمل كدا، جوزك مصانش الأمانة اللي فضلت احافظ عليها لنفسي، جوزك اغتصب صبا يا زينب، جوزك أخد حقي يا زينب؟!
كز أسنانه وانعكست نبرته إلى الغضب وهو يتوعد له:
_ هو أخد حقي، وأنا هاخد روحه..
لا يقتنع قلبها، حتمًا ذلك هراء، تآبى أذنيها التصديق، كان تعيش حالة لا وعي، نظرت إلى عبدالله الذي يواصل ضربه وصرخت فيه:
_ أنت كداب، حمادة مسابنيش لحظة، منزلش من البيت
_ هتصدقيه برده يا زينب وتكدبيني أنا؟ المرة دي غير، المرة دي مصيبته مختلفة، مصيبته كبيرة وكبيرة أوي متدافعيش عنه، متخلنيش أخدك بذنبه!!
قالها برجاء لألى تصدق ذلك الكلب المتعدي على عرضه، أبت ورفضت التصديق، ليس أمرًا يسهُل تصديقه.
وضعت زينب يديها على صدر أخيها وهتفت لتؤكد له براءة زوجها:
_ قولتلك حمادة منزلش من البيت، كان معايا طول الوقت، كان في حضني، كنا مع بعض زي أي راجل ومراته، فاهم يعني ايه؟؟؟ يعني مفيش الكلام اللي قولته دا، وبطل تلبسه أي مصيبة تحصل.. كفاية بقى كفاية
لكن كيف؟ لابد وأن اتهام صبا صحيحًا، لكن ما تخبره به زينب غريبًا وشتت أفكاره، شعر بالتخبط مع نفسه، لم يقدر على وزن الأمور ومعرفة أيهما الصائب أم الخاطئ.
خرج من شروده على صوت زينب الغاضب:
_ أخرج برا، سيبنا في حالنا
دفعته إلى الخارج فمشى بضعف حيلة دون الالتفاف إليهم، بينما انتصب حمادة في وقفته وصاح متوعدًا له أشر وعيد:
_ هدفعك تمن اللي عملته دا غالي أوي يا عبدالله
أغلقت زينب الباب واستدارت بجسدها تطالع حمادة بنظراتٍ ثاقبة، فهي وقعت في حيرة من أمرها، داخلها تناقض بين اتهام عبدالله والآخر يدافع عنه بمنطقية.
خشى حمادة نظراتها، وخاف أن تصدق اتهام عبدالله فهتف سؤاله بنبرة لا تحتمل النقاش:
_ أنتِ بتبصيلي كدا ليه؟ أنتِ صدقتي كلامه؟
خرجت زينب عن هدوئها بصراخها المنكسر:
_ معرفش معرفش
توجهت إلى الغرفة واعتلت طرف الفراش ناظرة أمامها بعقلٍ مشوش، كانت أسفل تأثير الصدمة، تتهم زوجها وتنفي اتهامها على الفور، فكيف سيفعل ذلك وهو لم يتركها؟ أمسكت برأسها لاعنة أفكارها التي لا تتركها وشأنها:
_ اسكتي بقى اسكتي
في الخارج، قام حمادة بعمل اتصالاً في أبعد مكانٍ في المنزل لكي لا تقع كلماته على مسمع زينب وقال عندما أجابه الطرف الآخر:
_ أنا عملت اللي عليا، دورك أنت بقى، وبسرعة عشان عبد الله مش هيسيبني في حالي..
***
بعد الكثير من الوقت قضاه بمفرده حتى يهدأ؛ نهض وتوجه إلى الغرفة، وجدها تبكي ويصدر منها شهقاتٍ حزينة، لم يتردد ومشى بخُطاه حتى وصل إليها جلس خلفها وقام باحتضانها متسائلًا بحنو:
_ بتعيطي ليه دلوقتي يا ليلى؟
لم تجيبه بل إزداد نحيبها، فأخذ زكريا نفسًا وواصل:
_ بُصيلي يا ليلى..
بعد وقتٍ؛ استدارت بجسدها فباتت ملاصقة لصدره، وضه زكريا يديه على ذقنها ثم رفع رأسها ليقابل عينيها البنيتين وهمس:
_ ششش معتيش تعيطي..
ملس على خصلات شعرها الحريرية، وقبل ثغرها بلطفٍ قبل أن يردف مازحًا:
_ خلاص بقى، كل حاجة هتيجي واحدة واحدة، تاتا تاتا
ضحك وجهه فابتسمت ليلى بعفوية، وسرعان ما اختفت الإبتسامة من على وجهها وسألته بنبرة باكية:
_ مش زعلان مني؟
_ مش هكدب وأقولك إن محصلش حاجة من اللي خططت لها في الليلة دي بس مش لدرجة زعلان منك يعني..
هتفها ممازحها، فهربت ليلى من عينيه سريعًا لكنه أجبرها على النظر إليه مرة أخرى وقال بتوعد صريح:
_ الأيام جاية كتير، بس مش هسمح لك تضيعي عليا ليلة تانية، أه كفاية أوي كدا
تقوس ثغرها ببسمةٍ رقيقة، ثم دفنت رأسها في صدره فشد زكريا على ظهرها حتى أدخلها بالكامل إلى حضنه ولم يعد يفصلهما شيء، حتى أنهم لم يسمحا لمرور الهواء من بينهما.
***
صباحًا في وقتٍ باكر، لم تترك إجلال صبا بمفردها، بل جلست جوارها تأزرها وتقوم باحتضانها كلما استيقظت ودخلت في نوبة بكاء هستيريا، حتى تستكين بين أضلعها وتغفى من جديد.
ظلا على هذا المنوال عدة ساعات، طرق محمود باب الغرفة وولج حين سمحت له إجلال، كان منكس الرأس لا يقدر على مواجهة عينين ابنته ورؤية خجلها بهما.
كذلك لم تواجهه صبا، فكانت تبكي بمرارة، وهي مستندة برأسها على صدر والدتها، وقف محمود أمامهن، لا يعرف للكلام طريق، أخذ يرتب الحديث في عقله أولًا ثم أخرج ضجة عقله في هيئة سؤالٍ:
_ هو عبدالله محاولش يكلمك بعد اللي حصل؟
لم تجيبه بل ازداد بكائها، فتولت والدتها الرد وقالت مختصرة:
_ لا موبايلها مرنش..
ضاقت بعينها عليه وتساءلت بقلقٍ:
_ بتسأل ليه؟
حمحم وحاول تجميع بعض الكلمات التي لا تؤذي مشاعر ابنته:
_ ممكن يكون صرف نظر عن الجواز؟
وكأن صاعقًا كهربائي قد صعق صبا، رفعت نظرها عليه وطالعته بعيون دمعة، فسؤاله قد آلم قلبها وزادها تعاسة، زمت شفتيها لثوانٍ ثم انفجرت باكية، فندم محمود على سؤاله، استشف نظرات اللوم في عيون زوجته ففر هاربًا إلى الخارج.
جاهدت إجلال على تهدئة صبا، ثم نهضت قائلة:
_ هعملك حاجة تاكليها وهرجع لك تاني..
خرجت من الغرفة مسرعة وتوجهت نحو زوجها ولم تكف عن عتابه مستاءة من تصرفه:
_ أنت إزاي تسألها حاجة زي دي في الوقت دا أنت مش شايف حالتها عاملة إزاي؟ وبعدين يهم في إيه إذا كان صرف نظر أو لأ هتفضل بنتنا وحبيبتنا واللي حصل دا لا يمكن يغير حاجة أبدًا..
صاح محمود بصوتٍ عالٍ دون وعي منه:
_ لا مهم يا إجلال، عبدالله لو رفض يتجوز بنتك بعد اللي حصلها هتبقى فضيحة، ومحدش هيعتب باباها أبدًا.. ومش هنعرف نرفع وشنا في الناس تاني..
أسرعت إجلال بوضع يدها على فمه مرددة بخفوت:
_ وطي صوتك إيه اللي بتقوله دا بس؟!
خشيت إجلال من سماع صبا لتلك الحقيقة المؤلمة، وبالفعل وقعت كلمات والدها على مسمعها، وقفت خلف الباب تكتم شهقاتها بيدها، هرولت نحو الفراش ثم أجهشت في البكاء، بحثت عن هاتفها وقامت بالإتصال على عبدالله فور إيجادها إياه.
****
تلك الأثناء، كان يجلس على أرضية الغرفة يستند برأسه على الفراش، انتبه على رنين هاتفه المُلقى أمامه، إلتقطه حين وجدها صبا من تهاتفه، لم يَجرُأ على الإيجاب، ماذا سيقول؟ هل سيواسيها أم يواسي قلبه؟
انتهى الرنين وعاودت الإتصال من جديد؛ فقام بالرد عليها دون أن ينبس بحرفٍ، فأتاه صوتها الباكي الذي ضاعف ألم قلبه:
_ عبدالله..
سقطت عبراته على مقلتيه، كان يرتجف داخله اثر بكائه الصامت، لا شيء يقال، لا شيء.. تابعت صبا حديثها بصعوبة شديدة قابلتها في إخراج الكلمات:
_ أنت مش بترد ليه؟
انهمرت في البكاء وهي تضيف:
_ أنت معتش عايزني؟ معتش عايز صبا يا عبدالله؟!
أسرع عبدالله في إبعاد الهاتف عنه حين فشل في التماسك، اهتز جسده بقوة اثر بكائه العنيف، لم يعد يستطيع التوقف، فلقد فتحت بابًا حساسًا للغاية لا يمكن غلقه بسهولة.
تلك الأثناء؛ شعر عبدالله بضجة في الخارج صدحت فجأة، فنهض وسار باتجاه الباب، وما كاد يدير مقبضه حتى تفاجئ بوقوف آدم أمامه، قابله ببسمةٍ سمجة على محياه، ثم وقع نظره على شاشة عبدالله المضيئة فوجده يهاتف صبا، لم يتردد وسحب منه الهاتف عنوة ثم قام بإنهاء الإتصال.
نجح في إخراج عبدالله عن شعوره، فلقد جاء في أكثر الأوقات الذي يحمل فيها غضبًا وكرهًا للعالم أجمع، استعاد عبدالله هاتفه من بين يدي الآخر وببغضٍ يكنه له هدر وهو يضرب صدره بقوة:
_ أنت عايز مني ايه؟ مبتسبنيش في حالي ليه؟
تراجع آدم للخلف؛ ووجه حديثه إلى العساكر الذين يقفون خلفه:
_ اثبت لي يابني حالة، بيتعدى على ظابط أثناء تأدية عمله
بلغ عبدالله نصاب صبره، فهو من جنى على نفسه، فليذق بعضًا من غضبه، التصق عبدالله بياقة قميصه وهتف وهو يطالع عينيه ببغضٍ:
_ طب نخلي الإثبات بجد بقى، بدل ما اتحبس في شوية كلام على ورق اتحبس على حاجة عليها القيمة
توجس آدم خيفة في نفسه وحاول الفرار من تحت يديه لكن هيهات ليده التي قبضت بقوة على قميصه، ثم بدأ عبدالله في لكمه، كان يفرغ كل ما يشعر به عليه، وكأنه يضرب حمادة وليس آدم، تدخل العساكر وقيدوا حركة عبدالله مُجبِرين إياه على الإنحناء، رفع عبدالله رأسه ورمق آدم بنظراتٍ ثاقبة ثم قام بالبصق عليه.
تفاجئ آدم بفعلته ومد يده يمسح وجهه ثم رفع ذراعه لينسدل على وجه عبدالله بصفعة تعيد إليه رشده ويعلم مع من يتعامل، لكن ما يجهله أنه هو من يجهل مع من يتعامل، تراجع عبدالله بكل قوته مستندًا على ذراعيه الممسكان به العسكريين ثم قام بركل آدم في ركبتيه فسقط أرضًا.
كظم آدم غيظه بصعوبة، فخشى أن يواجهه ثانيةً ويلقى ما يهين هيئته أمام رجاله، نهض وهو يطالعه بغضبٍ شديد متوعدًا له، لكن ليس هنا، ومن بين أسنانه المتلاحمة أمر رجاله:
_ هاتوه..
صرخت أحلام عاليًا وهي تتوسله:
_ سيبوه، ابني معملش حاجة، ابعد ايدك أنت وهو عنه، منكم لله ..
لم يكترث لها أحد، كأنها جرذ لا قيمة له، هرولت نحو الهاتف وقامت بالإتصال بوليد، وبنبرة باكية هتفت:
_ الحقني يا وليد، أخدوا عبدالله..
***
صدح رنين هاتفه، فأيقظه من نومه، مد يده وسحب الهاتف من على الكومود وتفقد المتصل برؤية مشوشة وضحت تدريجيًا، ثم تفقد الوقت فكان لا زال باكرًا، دب القلق قلبه وقام بالرد عليه:
_ في حد يكلم عريس يابني بدري كدا؟
_ أنا مش عارف صح ولا غلط إني أكلمك في وقت زي دا، بس عبدالله اتقبض عليه وأنا بلبس ونازل رايح القسم
قالها وليد فانتفض زكريا مذعورًا وردد سؤاله:
_ ليه إيه اللي حصل؟
رد عليه وليدٍ بإيجاز شديد:
_ قول إيه محصلش، هتقابلني ولا أروح أنا
دون تفكيرٍ:
_ جاي طبعًا، استنى ألبس هدومي ونازل لك
قلقت ليلى إثر صوته، وتضاعف قلقها حين رأته ينهض فجأةً وسألته بتوجسٍ:
_ فيه حاجة يا زكريا؟
أجابها وهو يلتقط ملابسًا له من الخزانة:
_ عبدالله في القسم وأنا ووليد رايحين له
عدلت ليلى من وضعية جسدها، حيث جلست مستندة على جذعيها مستفسرة:
_ ليه هو عمل ايه؟
_ اقترب منها وهو ينهي ارتداء سترته الكحلية وقال:
_ لسه مش عارف تفاصيل
تنهدت ليلى مستاءة من الوضع وهتفت:
_ حلوة الصباحية اللي في القسم دي، هو دا طبيعي؟
رفع زكريا حاجبه بتعجبٍ لاستيائها، وهلل:
_ لا وهي ليلة امبارح اللي مشت طبيعي أوي عشان الصباحية تمشي طبيعي
انحنى بطوله عليه وأحاطها بيديه فباتت حبيسته ثم قال متوعدًا:
_ هنتحاسب، بس لما أرجع
اقترب من ثغرها وطبع قُبلةً حارة عليه ثم أردف:
_ حساب هيزعلك أوي
أعاد انتصاب وقوفه وغمزها وهو يردد:
_ سلام..
_ سلام
همست بها ثم عضت على شفاها بحياء، استقلت على الفراش وحدقت بالسقف لبرهة ثم سحبت الوسادة وقامت باحتضانها لتعود إلى النوم من جديد، وماهي إلا ثوانٍ حتى باتت في ثُباتٍ عميق.
***
مرت بضع دقائق، لم تبرح مكانها، كذلك لم ترفع عينها عن الهاتف، سال دمعها حتى جف، لا تصدق أنه أغلق الهاتف دون إعطائها إجابة صريحة، كيف هرب منها دون أن يلتفت لحبهما الذي كان يُظهره طيلة الوقت؟
ربما كان يتصنعه، لكن كيف؟ بالله كيف ما عاشاه هاشًا ضعيفًا ذعذعه نسيمًا هب في غير شدة، ربما هذا كابوس، وعليها الإستيقاظ منه، إن لم يساعدها أحدًا على الخروج منه فلتساعد نفسها بنفسها، توجهت نحو الشرفة ورمقت الأسفل فتجددت ذاكرتها بالحادثة المؤلمة التي حدثت هنا.
ناهيك عن كونها باتت منبوذة من الجميع، لم يعد يريدها أحد، أصبحت تشكل عبئًا في حياتهم، عائق ثقيل يجب التخلص منه، تشوشت رؤيتها اثر بكائها، لكنها لم تتردد في الصعود والوقوف على سور الشرفة، لا ترى سوى ما تعرضت له في مكانها الحبيب، كان خير شاهدًا على بداياتٍ عاشاها سويًا، فإن كان بداية لهما فسوف يكون لها الخلاص والنهاية للجميع.
***
يقف أمامه مُكبل الأيدي، لا ينبس، لا يتحرك، ولا يمتلك القدرة لفعل أي شيء، فالحزن عم قلبه وضعِف نفسه، حتى بات يشعر أنه ليس رجلًا، فقط جسد يهوى بلا روح.
_ أنت فاكر اللي عملته دا هيعدي كدا بالساهل، إن ما خليتك تمسح بلاط السجون مبقاش أنا..
هتف بها آدم وهو يدور حول عبدالله، ثم نادى بصوتٍ جهوري:
_ أنت يا عسكري يلي برا
جائه راكضًا فأمره بغضبٍ وهو يطالع عيني عبدالله بتحدٍ يخالطه الحقد:
_ خده زنزانة انفرادي، واعملوله أحلى تحية خاصة بآدم باشا..
ضحك العسكري وردد وهو يرفع يده عند رأسه:
_ تمام يا فندم
أمسك بذراع عبدالله وأجبره على السير معنفًا إياه:
_ امشي، اتحرك ولا ندخلك على نقالة؟!
أجبره على المشي حتى تعدى الباب وفوجئ العسكري بيدي أحدهم توضع على كتفه وأمره بحدةٍ:
_ نزل ايدك..
على الرغم من هدوء الرجل؛ إلا أن نبرته الآمرة وملامح وجهه أخافت العسكري للغاية، نظر إلى هيئته وخمن أنه مسؤول مهم، لكنه لم يزيح يده عن عبدالله، في النهاية هو عمله ويقوم به، حمحم وسأله مستفسرًا:
_ حضرتك مين؟
بحدةٍ باغتة قال:
_ أنا قاسم القاضي أبو عبدالله!!
