اخر الروايات

رواية متاهتنا الفصل الثالث 3

رواية متاهتنا الفصل الثالث 3 

الفصل الثالث: كوني لي!

                                    
   سحبت نسمات عليلة بعض الأوراق الخضراء في أثرها، و حركت خصلات شعر أندريا الداكنة عندما ترجلت من سيارة الأجرة، أعجبها كيف أصبح بيت ليفانوس بعد عمر طويل، ٱستبدل السياج البسيط بأسوار عالية من المعدن الأبيض المشغول، و هالها أن الشرفة الوحيدة قد تحولت لثلاث شرفات واسعة تتوسط بيتا أبيضا جميلا و ضخما أشبه بالقصور! ابتلعت ريقها مستعيدة رشدها و هي تنقد السائق و تتقدم بخطى متثاقلة نحو المجهول، إنها ليست سائحة حضرت لتتمتع بجمال الجو و أبهة البناء، لا يجب أن تنسى سبب وجودها على جزيرة خيوس بعدما أقسمت ألا تطأها ما حيت! إنها هناك لتسترجع الإيصالات! لكنها لا تدري... و لا تستطيع أن تخمن الثمن الذي ستدفعه مقابل حسنة ألكسندروس ليفانوس!

+


   عدَّت لثلاثة و تقدمت نحو البوابة ببطء، فجذبت انتباه الحارس الذي شملها بنظرة تساؤل، و ما إن ذكرت اسمها حتى وجدت نفسها داخل الباحة على رحب و سعة عجيبين! فتحت لها خادمة يونانية باب البيت و قادتها عبر الصالون إلى ممر طويل، طرقت على باب إحدى الغرف قائلة بابتسامة عريضة:

+


   -وصلت الآنسة هيل سيدي.

+


   لم تسمع أندريا جوابا، و حين تراجعت الخادمة مفسحة لها المجال لدخول الغرفة أيقنت أنه منح إشارة صامتة، دخلت أندريا ملصقة عينيها بقدميها المترددتين، منتظرة اللحظة التي ستتشجع فيها و ترفع نظرها إلى صاحب البيت، سحبت نفسا عميقا لما رأت ساقين طويلتين تقتربان منها، و ألفت بصرها خارجا عن سيطرتها و هو يتسلق تلك القامة المذهلة، و يتعلق بوجه ألكسندروس ليفانوس.

+


   مرت لحظات طويلة و هما يتبادلان النظرات، حاولت أندريا أن تتأمله باشمئزاز، لكنها عجزت عن العبوس حتى، ارتخت قسماتها المشدودة توترا و هي تمرر عينيها على شعره الحالك و أنفه المستقيم و فمه المطبق، إنه جميل كما كان دوما، يكسو ذقنه  المدببة شبح لحية زاد من وسامته، و يقترن حاجباه الأسودان الكثان فوق عينين عسليتين راحتا تنزلقان على جسدها بهدوء، كأن ألكسندروس هو الآخر يحاول البحث عما تغير في صديقة طفولته!

+


   -أهلا برفيقة الصبا!

+


   جعلتها لهجته الباردة تستيقظ، سريعا لملمت اعجابها الجلي بنسخة الرجل الناضج منه، و ردت متجهمة:

+


   -تقصد الرفيقة المنبوذة!

1


   -لست كذلك الآن.

+


   تذكرت أندريا سبب حضورها، فقالت بهدوء محاولة السيطرة على رعشة يديها أمامه:

+


   -اسمع! أريد أن ننتهي من هذا بسرعة!

+


   -حقا؟

+


   أغضبها بروده، كانت تلك نسخة مختلفة عن ألكسندروس الصغير الذي عرفته في السابق، نسخة ناضجة مليئة بالتعجرف و القسوة الدفينة... و بالوسامة الطاغية أيضا!

+


   -لا تمطِّط هذا اللقاء! أريد أن نجعل الأمر سهلا على كلينا.

+


   تراجع ألكسندروس خطوة للوراء و شملها بنظرة أرسلت في جسدها رعشة مجنونة.

+




                
   -هل أمضيت الرحلة الجوية تحفظين هذه الكلمات؟

4


   أدار لها ظهره متجها إلى طاولة مكتب سوداء، تناول سيجارة و أشعلها بهدوء مستطردا:

+


   -لا أحب الأشياء التي تأتي بسهولة...

+


   أخذ مجة طويلة من سيجارته فتجوف خداه، ثم نفث سحابة دخان حجبت ملامحه لثوانٍ و أضاف:
   -...لأنها ترحل بسهولة أيضا.

3


   فشلت أندريا في سبر أغواره، في الماضي كانت تكتفي بنظرة واحدة إلى وجهه لتعرف ما يفكر به، أما الآن... فقد نجح ألكسندروس في إحاطة نفسه بهالة قوية من الغموض. أرادت أن تتخلص من المأزق بأسرع ما يمكن، استجمعت قوتها و اندفعت قائلة بنبرة ثابتة:

+


   -لن أقف هنا أكثر لسماع فلسفتك، جعلتني أطير من أثينا إلى خيوس لتراني و كان لك ما تريد، الآن... حان دوري لأنال مرادي، ناولني الإيصالات التي معك!
   اتكأ على حافة المكتب مستغرقا في تفكير عميق و عيناه المذهولتان لا تفلتانها، ثم تمتم مستغربا:

+


   -من أوهمكِ أن مرادي من هذا اللقاء هو رؤيتكِ فقط؟

5


   أشاح عنها ناظرا إلى الفراغ ليستأنف قوله في شيء من السخرية:

+


   -بافلوس بلا شك نقل إليك كلماتي محرفة... و أغفل الجزء الأهم على ما يبدو!

3


   تعرق جسدها بشدة، و أقسمت على خنق بافلوس حين تعود إلى أثينا، لاحظ ألكسندروس أن الغضب بدأ يحوم فوق رأسها، أخذ مجة قصيرة من السيجارة قبل أن يسحقها على المنفضة و يضيف:

1


   -لِمَ لا تجلسين؟

+


   -أنا بخير هنا.

1


   لم تتحرك أندريا من النقطة التي وقفت بها منذ دخولها الغرفة، هز ألكسندروس رأسه بلامبالاة، فسألته بحدة:

+


   -إذا لم يكن هدفك من إحضاري إلى خيوس هو رؤيتي، فما الذي تريده مني إذن؟!

+


   استقام ألكسندروس بخيلاء، و رسم أول ابتسامة منذ بداية اللقاء الجاف قائلا:

+


   -أنتِ.

15


   لم تستوعب أندريا الكلمة التي نطقها، طرفت بأهدابها كمن فقدت البصر فجأة، و هزت رأسها بذهول متمتمة:

+


   -ماذا... ماذا قلت للتو؟

+


   كانت ابتسامته رائعة، مغرية ساخرة و تبرز اعتداده بنفسه! ابتسامة قلبت موازين أندريا، تقدم نحوها بشكل أقرب هذه المرة، فلفها عطره، و أسرتها الرجولة التي قفزت من كل تفاصيله، و قال بهمسة كادت تجزم أنها أكثر الهمسات شاعرية لولا سخريته:

+


   -أريدكِ أن تكوني لي!

14


   شعرت أن الأرض تميد بها، و كأن الجدران ستنهار، و السقف سيهوي على رأسها، ترنحت محاولة التمسك بشيء، فكان ذلك الشيء هو ألكسندروس نفسه، أحاطها بذراعيه ليثبتها، إلا أن ساقاها خانتاها، و فشلتا في حمل جسدها أكثر، حملها ألكسندروس إلى أريكة من الجلد الأسود تستأثر هناك بنصف جدار، و أنزلها برفق فوقها قائلا:

1



        
          

                
   -أعتقد أنك ستفقدين الوعي!

+


   كان محقا، اصفرت سحنتها، كأن جسدها جف من دمه! أبعد شعرها عن عنقها و كتفيها بأصابعه، ثم اتجه إلى طاولة المكتب و رفع سماعة الهاتف ملقيا أوامره:

+


   -نيكيتا! عصير ليمون بارد فورا!

+


   عاد إلى الجلوس قربها، فحاولت أندريا أن تحلل نظرته نحوها بتعب دون جدوى، إنه لا يبدو متأثرا بوضعها على الإطلاق! رفعت جسدها لتقف غير أنها سقطت ثانية مجفلة من الدوار.

+


   -لا تتحركي!

+


   أطاعته بصمت، إنها لا تستطيع تحريك أنملة واحدة! سألها ببرود:

+


   -ماذا أكلت على الطائرة؟

3


   -لا شيء!

1


   تمتمت و هي تدعك صدغيها، كيف سيحلو لها الأكل و هي في طريقها إليه؟ لاحظت أنه ترك مجلسه و تناول السماعة ثانية قائلا:

+


   -أضيفي إلى جانب العصير طعاما مغذيا!

3


   سمعا طرقا على الباب، ففتح ألكسندروس مفسحا الطريق أمام نيكيتا، تقدمت الخادمة الخمسينية داخل الغرفة بقلق و فضول، وضعت الصينية التي تحملها على طاولة زجاج مستديرة أمام الأريكة و انصرفت بعدما رمت أندريا بنظرة متعاطفة!

+


   وقف ألكسندروس فوق رأسها و قال بهدوء:
   -كُلي!

2


   يا لصفاقته و عجرفته! رفعت نظرها نحوه مفكرة، و يا لجاذبيته أيضا!

+


   -لا أريد تناول طعامك!

+


   سخر منها برنة خافتة:

+


   -لن أسممك!

+


   و أضاف بلطف غريب:

+


   -على كل حال... ستعتادين طعامي و شرابي و بيتي.

15


   تجاهلت ما سمعته ظاهريا، لكن قلبها دق بسرعة كطبل بدائي، هل يفكر ألكسندروس في احتجازها هنا؟ شعرت بعياء مهلك يلفها، و أقرت أنها لن تستطيع مغادرة خيوس بجسد خائر القوى، لا مفر إذن من تناول القليل! وضعت لقمتين أو ثلاث في فمها، ثم رشفت بعض العصير البارد فخلصها الليمون من التوتر.

+


   لم يتحرك ألكسندروس من مكانه، ظل واقفا فوق رأسها، و خشيت أن يجبرها على تناول الطعام كله بالقوة، فأخذت لقمة أخرى و نظرت نحوه بخوف. لقد قال أنه يريدها، يريدها أن تكون ملكه! ماذا يفترض بهذا أن يعني؟ تمتمت بخمول محدقة في عينيه:

1


   -قلت... أنك تريدني؟

+


   -قلتُ ذلك و عنيته.

4


   -لكنك تكرهني!

+


   تفرس في وجهها لبرهة، و رد بلهجة غريبة:

+


   -فلندع المشاعر على جنب! ما أريده منك لا يتطلب أكثر من ممارسة دقيقة!

8


   ممارسة دقيقة؟ عمل عقلها بجهد، إنها لا تفق شيئا في مجال عمله، إنها بالكاد تفرق بين سفن الشحن و سفن المسافرين! أعملت عقلها المرهق أكثر، فاستنتجت شيئا ما جعل معدتها تتقلب، وقفت مترنحة و صاحت في وجهه بغضب مستعر:

+



        
          

                
   -لن يحدث هذا أبدا! أنا... أنا... لست ذلك النوع من النساء!

2


   فهم ألكسندروس أي الأفكار خطرت لها، فعلق بسخرية:

+


   -أعرف من أي نوع أنتِ، لذلك اخترتك!

+


   ثم أضاف محدقا بعينيها الدهشتين:

+


   -لا ترهقي رأسك بتفسيرات لا طائل منها، أريدك زوجة لي!

1


   -زوجة؟

+


   -و ماذا ظننتِ إذن؟ أنني أريد ممارسة جسدية على أحط مستوى!

+


   رفع ذقنه مستطردا في حين كانت هي تناضل لتستمر بالوقوف:

+


   -أنا رجل مهم، و زواجي من امرأة مثلك ضروري!

+


   كانت ستقع ثانية لولا أنه التقط يدها، سألته حائرة:

+


   -امرأة... مثلي؟!

+


   -أنظري إلى نفسك!

+


   راح يمسحها بنظرات مدققة، و تابع:

+


   -جميلة، أنيقة، قوية، و سيدة مجتمع لبقة و مهذبة! إنها صفات زوجة مثالية قد يرغب بها أي رجل في مركزي! ثم إنك نجمة محبوبة... و هذه حبة مسك فوق سلعة ممتازة!

15


   حاولت سحب يدها، إلا أنه قسى فجأة و حذرها بنظرة مرعبة، فصرخت باستياء:

+


   -لكنني لست سلعة برسم البيع ألكس!

3


   لمعت عيناه فجأة حين نادته باسمه المصغر كما تعودت أيام الطفولة، و علق هازئا:

+


   -حقا؟ كان بافلوس واثقا للغاية و هو يضعك في الواجهة... و برسم بيع جيد!

4


   جربت مرة أخرى الابتعاد عنه، فلوى ذراعها على حين غرة، و أدارها ليحتجزها بين ذراعيه. لم تكن حركته مؤلمة، لكنه فرض سيطرته عليها، و لم تستطع أندريا مقاومته بسبب ضعف قواها، لو لم تكن تشعر بذلك الدوار، لربما وقعت على وجهه صفعة مناسبة!
   همس بعنف في أذنها:

+


   -أنا مشترٍ جيد أيضا، سأضمن عدم دخول زوج أمك للسجن، كما أنني سأنقذك من الإفلاس!

4


   دفء جسده الملتصق بظهرها أرسل فيها شرارات غريبة، تجاهلت تأثيره عليها و فكرت بحيرة في سرها: إنه إذن على دراية بانهيار شركتها هي و أنتوني كوركيس! أفلتها أخيرا، و دفعها لتجلس على الأريكة، و سار مبتعدا ليشعل لنفسه سيجارة أخرى.

+


   -فكري في العرض على مهلك!

+


   قال بهدوء، فردت مشككة:

+


   -ما أدراني أنك تقول الحقيقة؟ ربما لا تحوز إيصالا واحدا حتى ضد بافلوس!

+


   رماها بنظرة ساخرة، و دون أدنى كلمة، التف حول طاولة المكتب، و سحب درجا ليفرغه أمام عينيها قائلا:

+


   -هل هذه عينة جيدة؟

+


   تقدمت أندريا بحذر، و التقطت ورقة متفقدة، يا للهول! لعنت بافلوس في أعماقها، شعرت بالذل يغمرها في تلك اللحظة، المبالغ خيالية، حتى لو لم تكن مفلسة، ما كانت لتتمكن من تسديد إيصال واحد لألكسندروس! فكرت أن تمزق تلك الأوراق، لكنه قرأ أفكارها، فسحب درجا آخر و ألقى إليها مزيدا من المستندات التي تثبت تورط بافلوس في صفقات مشبوهة! ارتعدت أندريا حين سمعته يعلق بسخرية:

+


   -النسخ الأصلية في مكان آمن.

+


   دنا منها بتؤدة، و همس بعذوبة صادمة، كأن تعذيبها يحلو له:

+


   -حسنا، ماذا قررتِ؟ كوني لي أو دعيني أزف الخبر الحلو فورا للسلطات، إنني في النهاية أنقذ عائلتك من العار!

6


   انعقد لسانها، أرادت أن تبكي بحدة على سوء طالعها، لوى ألكسندروس شفتيه، ثم أطلق تنهيدة خافتة و امتدت يده نحو السماعة، لكن أندريا منعته قائلة بصوت متهدج:

+


   -مهلا! أنا... موافقة، سأكون زوجتك!


15


نهاية الفصل الثالث.

1


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close