رواية عزف السواقي الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم عائشة حسين
♡الثامن والثلاثون♡
حالة من التخبط سادت في المنزل، الجميع يُرثى له الكل يدور حول نفسه بتوهة وذهول مسترجعين الأحداث في أفكارهم، عالمهم اهتز فجأة وأصابه الخلل فتفرقوا مكتئبين ، وحدها جدته كانت تبكي دون توقف وتعتذر دون تراخي، تطلب منهم أن يرسلوا في طلبه ويحضروه لتضمه فيخبرونها أن هاتفه مغلق ولا أحد يعرف له وجهة
رنّ جرس الباب فنظر الجميع له بلهفة وترقب بينما هبط يونس الدرج قائلًا بتحفز «أبو آيات بره وعمال يزعق»
هتف عدنان بغيظ وهو ينهض واقفًا «راجل ناقص وله عين ياجي هنا»
قال يونس بإستعداد وقوة «سبهولي يا أبوي»
حذرته والدته برفق «معيزينش فضايح يا يونس الي فينا مكفينا»
انتفض يونس غاضبًا «هو مين الي بيعمل فضايح دلوك؟ هو كيف ياجي برجليه لغاية هنا يزعق ويشتم»
اقترح والده عليه بتفكير «سيبه متستعناهوش ولا تعبره هيجول كلمتينه ويغور»
صاح يونس برفض «وأسيبه يجل أدبه عادي ويشتم»
أوضح والده «متعملوش جيمة لو طلعتله دلوك معارفينش الأمور هيجد فيها إيه لازم نشور أخوك الكلام حساس يا ولدي »
تأفف يونس ضجرًا وهو يقول «يحصل زي ما يحصل احنا معانا دليل عليها وأخوي الكلام مبجاش يخصه لوحده دلوك لاه كلنا»
زجرته والدته بنفاذ صبر «اسمع كلام أبوك يا يونس»
صاح بعصبية «كيف أتداري في البيت زي الحريم وأسيبه وبته هي الغلطانة ما أطلع وأكسر رجله وأفضحها»
توقف صياح والد آيات فتنفس الجميع الصعداء عدا يونس الذي كان يتأفف بضيق وعجز، لكن سرعان ما وصلتهم طرقات والد آيات فوق باب الحظيرة الحديدي وندائه الغاضب، اندفع يونس مبتسمًا بظفر لا يستمع لإعتراضات ولا يتوقف عن الوصول لهدفه وهدفه الآن كان إخراس هذا الرجل الكريه وتلجيمه، و وضع الجمر المشتعل داخل فمه.
فتح يونس الباب بقوة وقبل أن يتفوه الرجل وينطق بعفن لسانه كان يونس يسحبه من جلبابه للداخل بقوة وبذراع واحدة، دفع جسده للحائط وأغلق الباب ثم عاد إليه صارخًا بقسوة «عايز إيه؟»
ابتلع الرجل ريقه باضطراب وخوف ثم أجابه «إيه الي عملتوه في البت دِه؟ هي دي الأصول يا ولاد الأصول»
جز يونس على أسنانه مستفسرًا بتهكم «مسألتش بتك ليه؟»
أجابه بفقدان عقلٍ وتسرع غير محسوب عواقبه«بتجول أخوك اتجنن»
فقد يونس عقله اللحظة صاح به وهو يمسك بتلابيبه في جنون «بتك عايزة رباية وأنا هسيبك عشان تربيها زين»
هتف الرجل باستخفاف وتهكم «عاملين نفسكم تعرفوا ربنا، أنتم لو تعرفوه ترمو بنات الناس كده»
ابتسم يونس ساخرًا من قوله يرمقه بإحتقار قائلًا «لما تبجى أنت ناس وهي شريفة وبت أصل»
انتفض الرجل معترضًا بعصبية «لاه راعي بتجول إيه يا بشمهندس دي أعراض»
تدخل عدنان مبعدًا يونس عن الرجل «امشي يا أبو آيات»
عاتبه بوقاحة «كدا يا ناظر ولدك يفضح البت»
حرك عدنان ذراعه مشيرًا بغضب «أمشي من هنا احنا مفضحناش حد»
صاح برعونة «بتي طالعة من بيتكم عريانة»
هدده يونس بجرأة ونظرات متحدية «لو مطلعتش هنولهالك وأطلعك عريان أنت كمان»
ابتلع الرجل ريقه مُهددًا بحذر «الي عملتوه مش هيعدي بالساهل واصل»
خلصه عدنان من براثن يونس الغاضب ودفعه قائلًا«امشي دلوك»
عدّل الرجل ملابسه ناظرًا إليهما باستحقار ونقمة قبل أن يخرج دافعًا الباب، بصق يونس في أعقابه لاعنًا.
*********
تسلل للحظيرة الخلفية كعادته كلما أراد دخول المنزل دون أن يشعر بمجيئه أحد وأراد إحباط محاولاتهم في الإلتقاء به، يعفي نفسه من لحظات مصارحة وتبرير ويعفيهم من رؤيته هكذا بنزيف روحه الذي يلطخ نظراته الداكنه..
تنهد براحة حين طالع صديقه أمامه، تقدّم منه محاولًا تخليصه من قيوده والهرب به قبل أن يكتشف أحدٌ الأمر أو يستوقفه معاتبًا، رفع نظراته للأعلى بوجل ينازع بين رغبتين متضادتين ، رؤيتها وعدم الإلتقاء بها اللحظة قبل أن يجف جُرحه ويندمل فلا ينقصه خدوشًا أخرى ولا آمال يعلقها فتزروها رياح الخيبة العاصفة، كلما تذكر اعترافها القوي وصدق مشاعرها ووقوفها حصنًا منيعًا ودرعًا حاميًا أمام هجوم آيات اختلج قلبه بمشاعر عديدة وأورقت أغصانه الذابلة، لكنه يخشى الإلتقاء بها، يهاب النظر لعينيها بعدما تعرى أمامها.. بحث عن السرج حتى وجده ووجدها عنده تهمس بشجن «رؤوف»
انحنى مدققًا في وجهها على ضوءالقمر وهو يسألها بقلق «غزل ايه مجعدك هنا دلوك »
أجابته بنبرة مبحوحة «مستنياك كنت حاسة إنك هتيجي لونس»
نهضت واقفة فابتعد عنها متحاشيًا النظر لعينيها هاربًا منها، تأملته بدقة على ضوء القمر قبل أن تندفع لأحضانه معانقة له في اشتياق تبثه الغرام عبر همساتها الخافتة «وحشتني أوي أوي يا حبيبي»
أغمض عينيه بقوة تائهًا عاجزًا ، العجز يعصب بصيرته والغدر ينتزعه بقوة فلا يدري بأي أرضٍ ينغرس.
بللت صدره بدموعها فارتجف مُبعدًا إياها بقلق لا يسأل عن ما يعرفه لكنها تؤثر فيه بشدة وبشكل غير مسبوقٍ له ابتعد خطوة؛ ليتستر بالظلام من نظراتها وضعفه «اطلعي الجو بيبرد في الليل متجعديش هنا»
استدار بسرعة بعدما سحب السرج وهي تتابعه بخوفٍ وعجز تسلل وسيطر، بينما يحاول هو حبس أنفاسه والإبتعاد عن مرمى أنفاسها الثائرة وهالة الدفء المحيطة بها وتجذبه إليها اللحظة بشدة،كما أنه لا يضمن عواقب الأمر التي حتمًا لن ترضيه، ولن يتحمل بقاؤه أكثر قريبًا منها ولا يذوب بين ذراعيها متلاشيًا متناثراً ، سيغرق لا محالة بضعفٍ لا يريده الآن وهزيمة لن يتحملها قلبه وإن كانت حلوة بمذاق العسل، سيكتفي بالمرارة العالقة في حلقه وبمداوة جرحه بعيدًا وحده كما تعوّد ودون تدخل أحد ، قبل أن يمتطي فرسه رمقها ينظرة طويلة معتذرة بحنان فهمست بذعر «متمشيش.. قولتلك مبعرفش اتكلم قولتلي هنحاول أنا هنا، وأنا دلوقت بقولك أنا هنا موجودة متسبنيش ..لو أنت مش محتاجني أنا محتجالك ومحتاجة أكون جنبك»
عبس بحزن وتفكير متجاهلًا بجسده كلماتها لا يمنحها رؤيته بل صمتًا قاتلاً مخزي، امتطى ونس فهمست بترجٍ «رؤوف»
أجابها بتنهيدة عميقة وطويلة شرحت ما بداخله فهمست «لو سألتني في الأول كنت هقولك مقدرش أبعد خلاص .. لكن دلوقت أنا عايزة أدخل جواك وأكون جزء منك مينفصلش مش بس أكون معاك»
ثبتت عينيها عليه تلملم شذرات روحه المتناثرة بنظرة عشق صادقة فمدّ كفه باستسلام تام بعدما حاصرته بأمانها الذي ينشده «تعالي معاي»
مسحت دموعها ضاحكة لحصولها على فرمان مصاحبته، أمسكت بكفه في حماس عاد إليها، فجذبها لأحضانه فوق ظهر ونس، همست وهي تدير رأسها ملتقية بشفتيه في قبلة خاطفة «عايزة أفضل معاك طول العمر»
همس بيأسٍ ونبرة حزينة «معارفش أنا الي جاي فيه كد الي فات منه ولا لاه »
همست وهي تنظر أمامها محتمية بسياج ذراعيه «مش عارفة ،بس أحلى من الي فات يا حبيبي ..دا وعد مني»
***
همست حين خفف ونس عدوه وأصبح صوتها مسموعًا له «متعود تعمل كده» أوقف لهاثه الراكض وأجابها «كل ما أكون تعبان بس أول مرة حد ييجي معاي» استدارت ناظرة لعينيه المتعبة هامسةً بوجد «وحشتني»
نظر لمقلتيها بصمت واحتياج ونزاع، أطال النظر مفتشًا عن سكينته وطمأنينة قلبه في عالمها الخاص فرفعت كفها مزيلةً شاله من حول وجهه برقة لتأخذ الصورة كاملة، وقف ونس في محطته، المكان الذي يعرفه ويرتاده في العادة بعد رحلات صديقه، ابتسمت برقة لملامحه التي ظهرت أمامها على النحو الذي يشفيها من الشوق إليه.
اقتلع نظراته وهبط أولًا ثم ساعدها لتهبط.. بعدها تحرّك ناحية التعريشة التي يقيم فيها ويستوطنها بعد كل رحلة شاقة له من الأفكار أضاء مصباح الهاتف وأشار لكليم قديم مفروش أرضًا «اجعدي هِنا يا غزل»
كانت تتبعه بطاعة وتتأمله كأنها لا تعرفه، جلست أرضًا بخشوع وعينيها المعلقة به والراكضة خلفه تُلقي عليه أروع أبيات الحب، كانت ملامحه غريبة وعجيبة الليلة، ساحرة وجذابة وبه وقار جميل يذهب العقل، كل ما فيه براق ويجذب النظر إليه بسحرٍ خاص، خلع شاله من على كتفيه ووضعه جوارها قائلًا بنبرة هادئة حنون «لو بردتي اتغطي بيه»
نظرت لعدة الشاي الموضوعة في ركن التعريشة ونطقت بسرعة لتبقيه جوارها وأمام عينيها «عايزة شاي»
ابتسم بحنو قائلًا باختصار «حاضر»
تحرك يصنع لها ما طلبته فوق موقد الفحم المشتعل فتركت مكانها واتجهت ناحيته هامسةً «رؤوف»
همس بطمأنينة ساحرة ونبرة رائقة صافية «نعم»
كانت حائرة وتائهة وهي ترى منه جانبًا لا تعرفه اليوم وكأنه تم استبداله بآخر مهيب الطلّة ، في نظراته رضا غريب وبصحبته ونس.
طال صمتها وتاهت في دوربها فمنحها كوب الشاي بصمت وتحرّك ناحية المصحف المعلق في كيس قماشي على جذع شجرة يمثل ركن من أركان تلك التعريشة التي تأويهما الآن، سحبه وجلس في خشوع، فتحه وتركها بعدما وجد نفسه غير مستعدٍ لمناقشات أو حوار يذكّره ، سيعيد تشكيل ملامح روحه بفعل ما يحبه ويفضله، يلقي بأثقاله لجليس لا يمل صحبته، متهيأ لإنهيار بين ذراعيها لا يحبذه لكنه يريده وبشدة ويتوق إليه، يعرف حين ينظر إليها وتنظر إليه أنه سيفعلها رغمًا عنه لأول مرة ولا داعي للهرب والمراوغة لكنه يحتاج مزيدًا من الطمأنينة والسكينة التي تجعله يُلقي بأعبائه دون ندم أو تقريع حاد للنفس الراغبة بمشاركتها تعاسته الخاصة، حين قبل مجيئها عرف أنه سيفعل مالم يفعله لكن يؤجله الآن ليعتدل ميزانه.
جلست أمامه تستمع لقراءته بخشوع، مستمتعة بينما كانت هو نشوته ترتفع وتأثره يزداد ، يخفت صوته في بعض الآيات ويعلو في آخرى، يتحشرج ويتهدج وقد يبكي بخشوع مبهر لها، ظلت صامتة تحترم رغبته وإرادته حتى رنّ هاتفه، تجاهله عدة مرات لكن إلحاح المتصل جعله ينهي القراءة ويضع مصحفه في مكانه ثم يُجيب بسكينة «أيوة يا يونس.. آه.. خدتها معاي.. جول علطول يا يونس.. لاه مش هروح ولا حد منكم يروح.. متفضحهاش أنت يا يونس الي بينا وبينها اتكشف بحكمته والي بينها وبين الناس منكشفهوش ..نستر وربك المستعان، يجول الي عايزه مش فارقة »
رفعت حاجبها مندهشة من كلماته التي يقصد بها بالطبع آيات، التقت نظراتهما فاهتز كأنه للتو أدرك وجودها بصحبته وأمامه، تابع بأعين تريد الهرب من أسرها ولا تقدر،تحول هدوئه فجأة لعصبية «اسمع الكلام متناهتش معاي ولا تفتش تاني فحاجتها» أنهى الاتصال وترك هاتفه متنهدًا، أغمض عينيه بإرهاق وإنزعاج شديد فاقتربت منه وجاورته ملتصقة به تهمس وهي تستدير بجذعها «أنت مش السبب في الي حصل ولا قصرت أبدًا ولا مسئول عن نظرة حد ليك ومطالب تصححها دايمًا وتهتم بيها»
زفر بضيق ثم سعل مرتين وصمت فشبكت كفها بكفه مؤازرة محتوية بلمساتها لتصل كلماتها كما تريد وتتمنى، ضم كفها كأنه ينازع فانحنت مقبلةً لها برقة ليهدأ ويطمئن ثم همست وهي تمرر كفها الآخر على خده الأيمن برقة ونعومه «خيانتها متعيبكش أبدًا ولا ل عيب فيك أنت.. دا دليل على قذارتها وتربيتها ..الي عايز يغلط هيلاقي ألف مبرر»
مسح بكفه موضع قلبه المضطرب فمالت ولثمت خده هامسةً وهي تحشر وجهها في عنقه «أنا سمعتها كتير لما كنت فشقة يونس»
أصابته كلماتها بالفزع ففتح عينيه تحركت قليلًا وعانقت وجهه بكفيها هامسةً بصدق وعاطفة تتجلى واضحة في نبرتها ولمساتها «عادي متأثرتش بيه ولا فكرت فيه كنت كل يوم بحبك أكتر واتعلق بيك أكتر»
بصوت مرتعش همس ونظراته المتلوية تبحث عن الدواء عندها «معشتيش معاي كدها»
مسحت جبهته المرتعشة بأناملها قائلة وهي تغمره بنظرات العشق «مش بالسنين يا حبيبي أنا عرفتك أكتر منها»
بدا لها اللحظة طفلًا تائهًا ينظر حوله بضياع وهو يهمس «مجصرتش معاها يا غزل كنت...»
استراحت أناملها فوق شفتيه مقاطعة له بحنان «متبررش ولا أنا مستنية أفهم حاجة تخص الموضوع دا ميهمنيش غيرك، أنا متأكدة إنك كنت ونعم الزوج»
اختلج قلبه بمشاعرها المسكوبة بإسراف في قلبه، صارحته بضحكة بريئة «تعرف أنا اتمنيت لو كانت طنط سماسم خلفتني أنا وأنت ربتني على ايدك واتجوزنا»
قال بتلعثم وهو ينظر إليها «غزل أنا...»
ضحكت برقة قائلة «أنت حبيبي» عادت لمجاورته قائلة وهي ترفع كفه ملثمة لها بنعومة «إيه رأيك أغنيلك؟ حضرتلك أغنية حلوة أوي هتعجبك خالص»
ظلت نظراته معلقة بها في صمت قبل أن يترجم مشاعره وكلماته لعناق طويل وقوي، دفن وجهه في عنقها هامسًا بتعب «أنا تعبان جوي يا غزل» بدا كطفلًا تائهًا متخبطًا اللحظة يطلب يدها لتعيده وعونها ليأمن طريقه همست بإقتضاب «أنا هنا يا حبيبي»
فصارحها بتهدج متشبثاً بعناقها كطوق نجاة «موجوع»
مسحت على ظهره مؤازرة له بحنان ورقة «سلامتك مفيش حاجة تستاهل وجعك أبدًا أنا هنا مستعدة لأي حاجة تريحك وترضيك»
ابتعد عنها فتحركت قليلًا متناولة رأسه المكدود على صدرها في سكينة واطمئنان مغازلة بحنانها قوته«تعرف إني بحب الأطفال أووي ونفس أخلف فريق كورة وأنت نفسك فإيه؟ »
أغمض عينيه مسترخيًا مستشعرًا لأول مره الاتكاء ، ركن بكل ضعفه عندها، فثرثر دون حساب تاركًا كلماته تتدفق دون قيود أو خوف، أخبرها عن عجزه، دهشته، ووجعه، عن الكلمات التي مزقت الأحشاء وطعنت الكبد، عن القلب المتلوي وجعًا والحيرة، عن شتات نفسه وخذلانه الكبير، ذاب بجرعات حنانها الكبير وانصهر بين ذراعيها بحرارة حزنه وهي تستمع بإنصات مواسية له بحكمة موازنة الأمور، كلما عرى مشاعره دثرتها بالمؤازرة والفهم ولثمت رأسه بتقدير، بعد قليل كان يعدّل من نومته تلقائيًا بصمت كطفل طائع كل ما يهمه هو رائحة أمه والالتصاق بها
أراح رأسه في حجرها ملقيًا بأعبائه، فابتسمت مدثرة نصف جسده بشاله ، مسحت على خصلاته هامسةً برقة «مش حافظة كتير زيك قرآن ولا يمكن بقرأ كويس ولا أنا زيك بس قلبي حاضر معاك » ثم بدأت بالمسح على خصلاته وقراءة ما تيسر لها.
مالت برأسها ملثمةً صدغه تهمس برقة «حبيبي الفجر أذن»
انساب صوتها عذبًا رقراقًا لأذنه فأجابها بتنهيدة «سمعته»
سألته وهي تمشط خصلاته بأناملها «هتصلي هنا ولا هتروح المسجد بونس؟»
سحب كفها ولثمه هامسًا «هصلي معاكي ؟» ضحكت بسعادة فابتسم وفتح عينيه ثم نهض جالسًا يستعيد حيويته ونشاطه مرددًا خلف الأذان ناطقًا بأذكاره، تأملته بابتسامة واسعة قبل أن تخبره بعفوية «رؤوف الليلة أنت مبهر وساحر»
رفع نظراته مندهشًا من وصفها له، قطب بإستفسرار وشفتيه تتوقفان عن الحركة، فأوضحت وهي تميل واضعة كفها على خده مملية بنظراتها على قلبه تراتيل العشق وتعاويذ الغرام «كإني أول مرة أشوفك.. كلك سحر يا متر»
جذبها لأحضانه مغلقًا عليها بذراعيه قبل أن يبتعد قليلًا ويرفع وجهها إليه مُلقيًا على شفتيها أشعاره وأشواقه .. ابتعد عنها لاهثًا فهمست بقرارها وهي تريح جبهتها فوق جبهته «عايزة فستان فرح يا متر» رفع كفيه لوجهها محيطًا له وهو يهمس بابتسامة واسعة «حاضر»
همست من جديد بهيام وأنفاسهما في حالة من السكر والامتزاج «تحبني وبس من غير عقل من غير تفكير من غير ماضي وتحفظني القرآن زيك وتغنيلي كل يوم أغنية»
نثر قبلاته فوق وجهها وهو يهمس بطاعة بينما أغمضت هي عينيها راضية ومتقبلة «حاضر»
همست من جديد حين اكتفى وتوقف «نروح عند الخالة نقعد هناك وتأكلني بإيدك طول العمر زي ما وعدتني»
ضحكت بخفوت مُعلنًا موافقته ففتحت عينيها مضيقةً إياها على ملامحه قائلة بلهجة تحذيرية «تبطل تضرب الناس وتلف وتدور عليا»
قهقه قائلًا وهو يضمها لأحضانه «مش حاضر خالص»
***
عاد للمنزل فسبقته في الدخول وصعدت للأعلى بينما دخل هو مفتشًا عن الجميع، ضم جدته الباكية المعتذرة وواسى عمته الحزينة بلطف، عانق والدته وطمأنها عليه ثم جلس بينهم في المندرة لمناقشة الأمر، ترأس الجلسة شاردًا يمرر أنامله على مسبحته ببطء هبطت غزل بعد قليل بملابس نظيفة مُرتبة ونضارة استأذنت الدخول فسمح لها يونس، دخلت متوردة بخجل وضعت نظراتها عنده وشردت فأيقظها يونس بمكر «ها إيه؟»
أجلت صوتها وسألت بخجل «هتفطروا أجهز؟»
هتف وعينيه تعانق حبات مسبحته العتيقة «مش هفطر دلوك شوية يا غزل بس اعمليلي شاي»
بينما أجابها يونس بخبث«احنا فطرنا يا غزولة »
رمقه رؤوف بنظرة حادة متوعدة فكتم ابتسامته وصمت، أما طاهر فنهض قائلًا «خديني معاكي يا غزل ماليش أنا في الحوار»
نال نظرة تحذيرية من رؤوف وهتاف عالي«اترزع متجومش»
عاد طاهر للجلوس بإستسلام وصمت بينما سألتهم غزل «طيب اعملكم شاي؟»
هتف يونس بأريحية مستفزة أغاظت الآخر «غزولة اعمليلي نسكافيه هتلاقيه في المكان الي قولتلك عليه»
هتف طاهر مثله محتميًا به «وأنا يا غزل»
ضم رؤوف حبات مسبحته بكفه قائلًا بإمتعاض «هي تعمل حاجة واحدة وبس الي عايز على مزاجه يجوم يعمل فيكم رجلين وإيدين»
ابتسم عدنان قائلًا ضاربًا بقراراته عرض الحائط مستفزًا له ببرود «أنا اعمليلي جهوة يا غزولة من يدك الحلوة بتاعة نجاة مبجتش تعجبني»
كتم الشابان ضحكاتهما بينما استغفر رؤوف بصوت خافت مستسلمًا فسأله والده «في حاجة يا متر»
هتف رؤوف بحنق «لاه يا أبوي على راسي»
أشار عدنان لغزل «يلا يا بتي»
تحركت بنشاط وحيوية فنهض رؤوف قائلًا «هغسل وشي ويدي وأرجع»
هتف يونس مشككًا في قوله «بس متحودش ناحية المطبخ مش وقته»
ضربه رؤوف بالمسبحة في رأسه فتأوه متألمًا من بين قهقهاته، غادر رؤوف وعاد مرة أخرى برأس يقطر مياه،وضعت غزل الصينية فوق الطاولة الصغيرة بينهما وسارعت بمنحه منشفة تناولها شاكرًا متحاشيًا النظر إليها وعاد لمكانه قائلا «هاتي ميه يا غزل»
جلبتها وجاءت مسرعة فتجرعها على مراتٍ وبعدها غادرت.
تكلموا بجدية في الأمر وناقشوه بحكمة ورزانة حتى توقفت كلماته ونظراته حين جاءت بأكواب العصير قائلة «طنط نجاة قالتلي أجيب عصير»
تابعها بنظراته حتى خرجت وبعدها مسح وجهه متسائلًا «كنا بنجول إيه؟»
ضحك ثلاثتهم فاستغفر بضيقٍ وحرج وواصل الحديث المنقطع بجدية لكنها دخلت بعد قليل فتعلقت نظراته بها من جديد وتوقف عن الحديث وضاع تركيزه مما جعل يونس يتأفف منزعجًا ضائقًا بينما كان عدنان يتابعهما بمتعة، حمحم رؤوف قائًلا «خدي يا غزل الفوطة» اقتربت منه لتتناولها فمدّ يونس قدمه أمامها فسقطت بين ذراعي الجالس.. ثبتها بكفيه من ذراعيها وصاح بأخيه «ما تاخد بالك يا زفت»
لوى يونس فمه كاشفًا دواخله «والله! يعني مجاتش على هواك الوجعة؟»
أجلسها جواره والتفت ناحيته هاتفًا بغيظ «ما تحترم نفسك»
انسحب طاهر متسللًا للخارج يكتم ضحكاته بينما هتف يونس بغيظ «بالله عليك ارحمنا تركيزك صفر وأنا تعبت مبتجمعش جملتين وألاقيها دخلت طيرتهم، خدها واطلعوا أنا على أخري منكم فوطة إيه! ما تترزع الفوطة جنبك لغاية ما نخلص كلام »
انسحب يونس مغمغمًا بإستياء وكذلك فعل عدنان الذي ترك ضحكاته الساخرة خلفه «عليه العوض» ابتعدت متبرأة بضحكة رقيقة «ماليش دعوة»
سحب مسبحته ونهض قائلًا بابتسامة رزينة هادئة «طيب يالي ملكيش دعوة أنا هطلع استحمي واغيّر وأصلي الضحى تكوني جهزتيلنا فطار حلو من يدك»
تنهدت بهيام قائلة بطاعة«حاضر يا متر»
انسحب للخارج ومن بعده للدرج ليهتف يونس بغيظ «إيه مشيفهاش فيدك؟»
رمقه شذرًا فتأفف وانسحب مغتاظًا يهتف «بجول خد غزل مصر وسبلي الموضوع هخلصه فيوم والله»
هتف رؤوف بحدة وهو يعتلي الدرج «أنت لاه»
جلس يونس قائلًا «طيب خليك أنت الخسران»
***
في المساء
ضرب رأسها بالوسادة هاتفًا بغيظ «بت يا غزل يا مخمرة النوم أنتِ»
تأففت بإنزعاج وهي تتململ في نومتها بعدما أقلق راحتها وطرد النعاس من عينيها «عايز إيه يا جناب المتر»
جلس فوق حافة الفِراش معاتبًا لها «بجالك خمس ساعات نايمة إيه كل دِه» نفضت الدثار نافخة بقوة طيرت غرتها الكثيفة واعتدلت متهكمة من قوله مقلدةً لهجته«فين كل دِه يا متر ما هو دِه الطبيعي يا حب أنت الي مش طبيعي»
ابتسم برقة ونظرة لامعة بالإعجاب والشغف «وليه مش طبيعي يا مخمرة النوم»
هتفت من بين أسنانها منزعجة من لقبه «حبيبي أنت بتنام ساعتين بالليل وساعتين بعد الفجر ودا مش طبيعي وبتاكل قليل على وجبات»
ثم تأملته بنظرة طويلة متفحصة وقالت بقهر «ولو أكلت كتير مبتتخنش أوف»
ضحك معاتبًا لها بسخرية «هو ده الي هجعد معاك وخليني فحضنك»
اعتدلت على ركبتيها مقتربة منه مبررة وهي تحيط عنقه بذراعيها «بقالي كتير منمتش يا متر والله وبعدين عايزة أشترك فجيم»
سحب ذراعيها من على كتفيه مستنكرًا بحدة «نعم ياختي جيم إيه؟ عايزة تروحي تهزي؟»
ضربت وجهها بكفها متأففة من سوء تقييمه وردوده المستفزة «ما تحسن ألفاظك يا بني آدم هز إيه دي رياضة»
نهض قائلًا بحزم «معنديش أنا حريم تطلع بره البيت الي عيزاه يجيلك وبس»
نهضت تاركة الفِراش تحاول إقناعه برفق «يا أوفة لازم مدرب»
التفت صائحًا بغضب «نهار أبوكي أسود كمان مدرب»
صمتت بتفكير مغمضة العينين في استسلام قبل أن تهتف بزهد «خلاص خلاص أنا بناقش مين!» أشهرت سبابتها محذرة بعصبية جلبت ابتسامته
« بس لو اتكلمت نص كلمة على وزني هخبطك بإيد الهون النحاس بتاعة جدتك»
قيمها بنظراته قائلًا برضا تام «لاه مش هجول حاجة»
توددت إليه بعفوية وهي تقترب منه مقترحة «أوفة طيب ما تاكل أنت كمان ميصحش تفضل كدا رشيق وحلو وأنا اتخن وأكعبر»
رفع حاجبه بابتسامة جذابة قائلًا بتعجب«والله! طيب أنا مبحبش أكل كتير»
ابتعدت عنه منتفضة تصرخ بغيظ «خلاص جبلي كم جهاز رياضي»
اتجه ناحية مكتبه يقلب في الأوراق التي أمامه قائلًا «هفكر أصلي مفلس اليومين دول»
اقتربت مستفسرة بعدم تصديق «وإيه مفلسك يا متر»
أجابها بمكر وهو يدّعي الإنشغال بالأوراق «بجهز كم هدية لحد بحبه»
استفسرت منه بغيرة وهي تسحب الأوراق من أمامه «مين دا بقا؟»
ضرب جبهته مستغفرًا فقطبت مستفسرة فقال متهربًا من السؤال وهو يمنحها هاتفه «عارفة مين كلمني دلوك وصحيتك عشانه؟»
سألته بإنتباه وجدية «مين؟»
أوضح لها ببسمة هادئة «الشيف حمزة» بدا عليها الجهل فأوضح «أبو ورد الصغيرة»
ابتسمت له بمعرفة فأكمل ببهجة «كلمني وجالي أمه عايزة تكلمني وتكلمك كلمتها وجالتلي إنها عملتلك فستان بيدها هيعجبك وياريت أجبله منها»
قفزت للأعلى بفرحة ثم توقفت مستفسرة بحيرة «وهي عرفت منين إني عايزة فستان ؟»
أجاب مبرئًا نفسه من اتهام نظراتها «مجولتش أكيد حاجة يعني أنا قولتلهم بس طريقة جوازنا»
هتفت بقلق واضطراب «طيب عيزاني ليه؟»
أجابها وهو يقلّب شفتيه بحيرة «معرفش جولتلها نص ساعة وأرن»
اقترب وضمها لصدره بحنو مستفسرًا «خوفتي وجلجتي ليه يا غزالي»
رفعت له عينيها موضحة له وشارحة ما بعقلها من أفكار «مش عارفة هي ست مريحة ولطيفة جدًا وحنونة بس الي بتقوله بيخوفني موت»
ضحك قائلًا وهو يقرص خدها «عادي متاخديش فبالك هي في ناس كده ربنا منور لهم بصيرتهم»
أحاطته بذراعيها واضعة رأسها على صدره هامسةً «بموت فيك يا متر بجد»
لثم رأسها مؤكدًا بعاطفة «وأنا كمان يا روح وعقل المتر»
*****
هبطت آيات مسرعة بعدما تأكدت من خروج والدها وابتعاده،فمنذ ما حدث وهي تغلق على نفسها الباب بقوة محتمية به من غضبه وثورته،تتركه يزعق غاضبًا يشتمها ببذاءة حتى يتعب وييأس من خروجها فيغادر بملل.
سألت آيات هدى صاحبة النظرات الزائغة والفكر المشتت منذ ما حدث «فين علاء طلع؟»
تأملتها هدى بدقة وحاجبين منعقدين استنكارًا قبل أن تشير لها ناحية المندرة «فمكانه»
هرولت ناحية المندرة بسرعة خائفة تترقب، طرقت منادية بخفوت «علاء»
بينما وقفت هدى متخشبة تتابع الموقف بوجه باهت وضمير حاضر، فمنذ ما حدث وهي تعاني وتخاف من القادم بشدة فرؤوف كان سندًا لها وعونًا فكيف سيتعامل معها بعد الآن؟ كما أنها تخشى معرفة ما حدث وجعله يطرد أختها هكذا كاللصوص.. تنهدت عائدة من أفكارها مُحملة بثقل الافتراضات وخناجر التوقعات الموجهة للقلب تتابع نظراتها الموقف بأسى وحزن عميق، دخلت آيات المندرة بعدما فتحها علاء فعبست بغير رضا وتقدمت لكن آيات أغلقت الباب خلفها
اقتربت هدى بحذر تسترق السمع بعدما ساورها الشك ناحيتهما
هتف علاء بغضب «عملتي إيه؟ اكتشف الي عملتيه؟»
صححت له ببسمة خبيثة «قصدك الي عملناه يا علاء»
ابتلع ريقه بتوتر فقالت ببرود وابتسامة رائقة «اكتشف كل حاجة»
سألها بإضطراب وهو يتأمل قوتها الوليدة وبرودها المغيظ «يعني إيه؟»
لوّحت بإستهانة ولا مبالاة قائلة «متشغلش بالك وخلينا في المفيد »
هتف بإستياء شديد وهو يزدجرها بنظراته الحادة «وإيه المفيد؟ مش مستوعبة المصيبة؟ رؤوف دا محامي وشاطر؟»
تأففت منزعجة من ذكر اسمه مبتسمة بظفرٍ وانتقام «مش هيعمل حاجة هدّيته خلاص»
قيد علاء ذراعها ونفضها بغضب «هو عرف إزاي أصلا يا متخلفة أنا مش نبهتك وحذرتك»
نفضت ذراعها من قبضته وابتعدت عنه قائلة بهدوء «ولا حاجة عمل تحليل لما تعب »
جحظت عيناه عليها بصدمة قبل أن يسألها بشك «وتعب ليه وأنا قايلك تحطي أد إيه وإزاي»
أجابته بنبرة باردة متخففة من أحمال القلق والغضب «أنا زودتله الجرعة علشان ينام ويسيبني»
لعنها بغضب شديد «يخرب بيتك بتتصرفي من دماغك ليه؟ »
زفرت وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها قائلة «ما تسكت بقا الي حصل حصل خلينا في المهم»
استنكر برودها وهدوئها فقال بنظرة مشمئزة «وإيه المهم حضرتك؟»
لانت ملامحها بأسف وهي تخبره بعجزها «محتاجة تليفون ضروري»
نفض كفيه منها لاعنًا داخله غباءها وتهورها الذي أورده المهالك وأفشل خططه «وأجبلك منين؟»
قالت بلطف زائد «يعني مش معاك يا علاء فلوس تجبلي؟»
لوى فمه بتهكم قائلًا «منين مش معايا»
صوبت ناحيته سهام الغضب والحقد قبل أن تخلع ما تلبسه من ذهب وتمنحه له قائلة «بيع دول وجبلي تليفون»
فتح كفه وتناولهم منها مقلبًا لهم بين كفيه أولًا قبل أن يرفع وجهه ويزفر بضيق مستسلمًا«ماشي»
ضربت هدى خديها متفاجئة مصدومة مما سمعت وتفوّه به الاثنان من مخطط شيطاني، ارتخى جسدها وارتجف خوفًا وذهولًا فجلست متعبة تحملق فيما حولها بضياع وهي تضرب فخذيها مغمغمة «يا مري يا مري حصلت يا آيات »
وصلها صوت آيات منفعلًا عاليًا فنهضت متعكزة على الحائط تستمد من ثباتها القوة وهي تنصت بإهتمام للمشاجرة الدائرة
«مش أبوي جالك هيطلجها ويجوزهالك؟»
«ما أنتِ خربتيها بالي عملتيه ومش عارف هيحصل إيه؟»
«ولا حاجة سقطها زي ما كنت ناوي وخلي أبويا يجبرها على الخلع وخدها وأمشي»
ارتعش وجه هدى بصدمة قوية من هول ما استمعت إليه اللحظة وكُشف ستره على مسامعها المتيقظة.. سارت مكتفية بما سمعت،زاهدة في سماع المزيد فليس هناك أبشع مما سمعت ولا أقبح،كتمت شهقات بكائها بكفها المرتجف وهي تواصل التعكز على الحائط حتى وصلت لصنبور المياه فتحته وتناولت المياه بكفيها دافعةً لوجعها علها تفيق أو تستعيد توازن أفكارها لتعرف ماذا عليها أن تفعل وبمن ستستعين قبل أن يحاصروها بشرورهم، تذكرت رؤوف وتحذيره لها من المجيء والبقاء تأكدت اليوم أنه كان على صواب هو وغزل.
صعدت الدرج ببطء حتى وصلت للحجرة التي تقيم فيها، تذكرت تدبيرهم فدبت الحيوية في جسدها وعادت العافية لأفكارها المريضة بسرعة، لملمت ملابسها القليلة وهبطت بسرعة مفتشة عن صغيرها بالشارع مناديةً عليه بلهفة وسرعة، نظر علاء من شباك المندرة فرآها، تحاشت النظر إليه وواصلت النداء بسرعة جعلته يقطب في شك حين رأى حقيبة ملابسها.
اندفع يسأل آيات بقهر «هدى كانت بره لما جيتي؟»
أجابته ببرود «أيوة عند الحوض بتغسل»
هتف وهو يغرس أنامله في خصلاته الطويلة «شكلها راجعة بيتها يمكن سمعت حاجة؟»
هزت كتفها قائلة وهي تقترب من النافذة مراقبة أختها «مظنش الباب مش مفتوح وكمان هدى مش هتتصنت إحنا صوتنا مكانش عالي»
اتجه علاء ناحية النافذة يسألها «محتاجة حاجة يا أم عبدالله؟»
أشاحت بنفور قائلة «لاه»
بينما انزعجت آيات بشدة وعبست قائلة بأنانية «مش وقته تمشي خالص مين هيخدم أبويا وأمي»
هتف علاء بنظرة مشمئزة «أنتِ باردة بجد»
ضحكت مستهينة بكلماته فخطا للخارج تاركًا إياها تكرر خلفه بضحكة وهي تهز كتفها مستخفة «باردة»
*********
طرقت انتصار الباب مستأذنة الدخول فمسحت فيروز دموعها بسرعة قائلة «اتفضلي يا طنط»
ولجت السيدة للداخل ببطء متأملة لهيئة الجالسة المزرية بإشفاق وحنو، جلست قبالها فوق الفِراش مبتسمة «متغدتيش ليه؟»
تمخضت ملامحها بابتسامة مهزوزة باهتة وهي تجيبها بضعف «ماليش نفس يا طنط لما أجوع هاكل»
مصمصت السيدة بحسرة وعجز قبل أن تسألها مراقبة دموعها التي لا تتوقف ولا يقيدها ثبات «كلمتي البشمهندس؟»
اهتز جسدها وانتفضت مستفسرة بصوت قوي كأنها تتبرأ من تهمة ألصقت بها «واكلمه ليه البشمهندس»
ربتت انتصار على ركبتها مهدئة لها بلمساتها الحنون وهي تهتف«تطمني عليه وعلى صحته»
نهضت فيروز هاربة بضعفها من نظرات انتصار الثاقبة، تجولت في الحجرة مُجيبة بتلعثم «لا خلاص اطمنت مرة»
تنفست انتصار قائلة بصبر وتفهم «طيب يا بنتي متضايقيش»
كتمت فيروز بكاؤها بكفها مسيطرة على نحيبها الذي يخض جسدها غير مستسلم لقوة أو ثبات بل يهزها بقوة، نهضت انتصار واتجهت ناحيتها مستفسرة «مالك بس يا بنتي»
مسحت دموعها بقوة واستدارت قائلة كأنما تحدث نفسها بالكلمات «مفيش أنا كويسة كل حاجة هتبقى تمام، هدور على شغل وأشوف حياتي بقا»
ربتت انتصار على كتفها مؤكدة بحنان يدفع الأخرى للانهيار «بإذن الله أنتِ طيبة وتستاهلي كل خير»
اندفعت فيروز معانقةً إياها تنتحب بقوة مفضفضة لها بوجع «أنا مش كويسة ياطنط ومش فاهمة في إيه؟ مش عايزة يحصل كدا مش عايزة ومش عارفة أمنع حاجة ولا قادرة»
مسحت انتصار على ظهرها بحنو مهدئة من روعها بلطفٍ وحنان «اهدي بس وفهميني مالك وإيه مزعلك؟»
شددت فيروز من عناقها محتمية بحنانها من غدر الألم تهتف بتخبط «مينفعش ولا وقته ..لا أنا أنفع له ولا هو ينفع ليا، أنا مش مناسبة لأي حاجة »
استمعت انتصار لها بصبر محاولة ترجمة كلماتها المتقطعة وتشبيكها لتتضح ثم همست بتنهيدة حزينة «يا بنتي مش كدا»
واصلت فيروز بإنهيار مُطلعة إياها على هزائمها وهي تضرب بقدمها الأرض مؤكدة على اعتراضها ورفضها لما تشعر به تجاه الآخر «إزاي مش عارفة؟ أنا مكنتش ناقصة دا كمان ولا عايزة أحس بالعجز تاني»
فكت انتصار العناق وسحبتها لتجلس أمامها فوق الفِراش قائلة «مش فاهمة بس هستنى تهدي وتفهميني»
سحبت انتصار من جوارها كيس بلاستيكي ملفوف أحضرته معها ولم تلتفت له أو تنتبه له إلا حين سحبته وفتحته أمامها مُخرجة رزمة من الأموال وهي تقول «كنت شيلاهم لخرجتي، خوفت أموت الواد يتصلوا بيه ميجيش زي عادته واتبهدل»
تأثرت فيروز بقوة وانتحبت في كرب لتتابع انتصار بصوت مبحوح وجعًا وتأثرًا «خديهم وسددي للأستاذ رؤوف الحمدلله إنك اتطلقتي علشان تفوقي وتنزلي وتشتغلي وخلي قضية الميراث على مهلها»
اعترضت فيروز «لا يا طنط مش عايزة حاجة أنا والأستاذ متفقين»
وضعتهم انتصار لها في كفها بعدما فردته مصرة «المحاكم حبالها طويلة يا بنتي سدديه ولما تكسبي التانية ادفعيله منها أتعابه»
أعادتهم لها فيروز رافضة بضيق واختناق «لا يا طنط دي فلوسك»
أعادتهم لها انتصار مقسمة «وحياة أغلى حاجة عندك تخديهم وما تكسفيني»
هتفت فيروز مناقشة إياها فقاطعتها انتصار «خديهم ومتسبنيش، متخلنيش أرجع أعيش لوحدي تاني بعد ما اتونست بيكي»
قالت بأسف حقيقي وهي تقترب وتضمها بحنو «أنا آسفة بس أنا قررت أمشي خلاص لازم أمشي»
توسلتها انتصار بحسرة وانكسار «اقعدي معايا واشتغلي متسبنيش أموت لوحدي»
قبلت فيروز كتفها بتقدير وحنان فتابعت السيدة توسلاتها الواهنة «خليني أنام مطمنة إني هلاقي الي يسترني ومش هعفن في الشقة لما أموت، خدي الفلوس علشان أطمن إنك هتقعدي وتسدديهم»
ابتعدت فيروز مقترحة وهي تمسح دموعها «هقعد من غير ما أخدهم»
أصرّت انتصار بعناد طفولي «لا هتاخديهم وتبعتيهم للأستاذ وهتفضلي تسددهملي من شغلك كدا هتطمن إنك مش هتسبيني»
عانقتها فيروز مرة أخرى متأوهة بتعب، تنتحب بشدة هامسةً «آه»
استعطفتها السيدة بطيبة وذل لم تتقبله فيروز «اعتبريني أمك أو زي أمك، دا أنتِ ربنا بعتك ليا إزاي تسيبيني»
انفجرت انتصار بعدها في بكاء مرير قطّع نياط قلب الأخرى التي شاركتها البكاء مقسمة لها «مش همشي والله خلاص»
ابتعدت انتصار مبتهجة فرحة تمسح دموعها قائلة بسعادة «طيب يلا اتغدي معايا ملوخية»
ضحكت فيروز قائلة وهي تمسح دموعها «تاني ملوخية تاني»
استعادت انتصار روحها سريعًا ونهضت قائلة بمصمصة شفاه منزعجة «قومي يا مسهوكة مبحبش النكد»
ضحكت فيروز ونهضت ممسكة بكفها في طاعة وامتثال.
***********
في المساء تحلقوا جميعًا فوق ملاءة قديمة افترشت بها غزل العشب أمام المنزل، بعدما اقترحت عليهم أن يجتمعوا بالأسفل حتى لا يرهق والدته بالصعود ويحرم جدته من جمعتهم فوافق فورًا شاكرًا لها على اقتراحها مُعجبًا به.
نظر يونس لغزل فغمزت له بتشجيع مما جعله يحمحم مجليًا صوته قبل أن يميل عليه هامسًا«رؤوف كنت عايز أخد رأيك فحاجة»
التفت رؤوف ناحيته مستفسرًا بقلق «خير»
شجعته غزل الجالسة جوار رؤوف من الناحية الأخرى فقال بتردد «إيه رأيك نتنازل عن الجضية بتاعة فهد مقابل يطلجها رسمي ويديها فلوسها»
شعر بحركات غزل فالتفت إليها فجأة ممسكًا بنظراتها فابتسمت بوداعة وطأطأت رأسها ببراءة كاذبة متملصة من شكوكه، عاد برأسه لأخيه متسائلًا «ليه؟»
قال يونس باضطراب وهو يتحاشى النظر لأخيه حتى لا يُكشف أمر مشاعره «لاه عادي جولت نستغل الموضوع ونخدمها وتخلص منهم خالص جبل ما تروحلهم»
رفع رؤوف حاجبه مستفسرًا منه بفطنة ومكر «ليه هي هترجعلهم؟»
حركت غزل أناملها مشجعة له فقال بإرتباك «أيوه جالت لما جات المستشفى» تهرّب من نظرات رؤوف الثاقبة مبررًا «يعني بدل ما تضيع تعبنا نستغل الموضوع»
نظر رؤوف أمامه قائلًا بابتسامة ماكرة «مش موافق»
انتفض يونس صائحًا بغضب جعل الجميع يلتفت لهما «ليه يا رؤوف؟»
ضربت غزل جبهتها بإنهزام فالتفت لها رؤوف قائلًا «مش مرتحلك يا غزالي»
همست ببراءة وهي ترمش مؤكدة بوداعتها على صدقها «ليه بس يا روحي أنا عملت إيه؟»
نظر أمامه قائلًا «أنتم الاتنين وراكم حاجة ومش مرتاح»
همس يونس بنبرة مستكينة متوسلة محاولًا إقناعه «ليه بس دي فكرة ممتازة وهتخلصها وتخلصنا»
أجاب بصرامة «حقك هاخده وفهد هيتحبس ويتربى»
تأفف يونس بضيق من صلابة رأيه وثباته على موقفه وابتعد مُفكرًا في حيلة لإقناعه، فأشارت له غزل أن يطمئن ويهدأ، ابتسم رؤوف ابتسامة جانبية وهتف لوالدته «بجولك يا أما»
انتبهت له نجاة مُجيبة «إيه يا حبيبي؟»
ابتسم مُلقيًا بقراره «عايزك تجهزيلي غزل»
أمسكت غزل بكتفه مستفسرة ووجها يتلون بالحمرة من شدة خجلها «يعني إيه؟ تجهزني إزاي»
ضحكت نجاة كما سماسم فتدخل طاهر موضحًا «هيشورك يا وردتنا»
فغرت فمها بدهشة قبل أن تخفض نظراتها بحياء وخجل بينما تابع رؤوف «بكره هنروح قنا شوفي إيه المطلوب لها وجهزيها يا أما»
اقترح يونس «ما تجهزوا شقتي أنا كدا كدا لسه بدري»
ضحك طاهر مؤكدًا قوله بمكر «أيوة بدري شوية»
التفت ناحيتها يسألها برقة «إيه رأيك يا وردتنا»
رفعت نظراتها المتوهجة هامسةً بتوتر شديد وخجل «أنا بحب مكانا فوق ومبسوطة بيه»
تدخل طاهر مقترحًا تلك المرة «غيروا العفش وادهنوها ورتبوها»
رفضت بأدب وخجل «لا أنا بحبها زي ما هي ومبسوطة بالي عليه مش عايزة حاجة تتغير»
ابتسم رؤوف هازًا رأسه فهو كان موقنًا من إجابتها، شبه متأكد من رفضها الأمر فاقترح عليها «خلاص نغير المطبخ ونجهزه زي ما تحبي وتتمني وبس»
قاطعته معترضة بقناعة ورضا «هو كدا جميل والله وفيه كل حاجة»
هتف طاهر بإعجاب «ربنا يزيدك رضا وقناعة يا هندسة»
همست بصوت لم يسمعه سواه عن عمدٍ «معايا الأهم والأغلى من كل دا»
غمغم رؤوف وهو يشيح برأسه بعيدًا عنها متحاشيًا إلتقاء نظراتهما وسط هذا الجمع المترقب «يسد بيت أبوكي»
صمت الجميع بترقب على صوت هاتفه، حمحم بإرتباك قبل أن ينهض مبررًا مستئذنًا «مكالمة شغل»
ابتعد ليجيب «أيوة يا أم جمال، واه متى حصل الكلام دِه ومين الي اتجرأ وعملها»قالها وهو يندفع ناحية السيارة بعجالة وقلق
«خالتي كويسة وعبود؟ طيب جاي علطول بإذن الله مش هتأخر»
أنهى الاتصال ونادى «طاهر يونس تعالوا عايزكم»
سأله والده «في حاجة؟»
هتف بصوت لا يؤمن صدقه «خير بإذن الله لما أجي»
نهض الشابان متجهين ناحيته بطاعة، أشار لهما بصعود السيارة ففعلا دون سؤال أو اعتراض وما إن تأكد من إغلاقهما الأبواب قاد السيارة قائلًا بقلق «في حد نطّ على بيت خالتي وضرب عبود»
#انتهى
#عزف_السواقي
#عائشة_حسين
#رواية_صعيدية
1

