رواية عزف السواقي الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم عائشة حسين
ركضت للسور تتابعه بنظراتها داعية له، فرأته يسحب والده من كفه ويصعد به السيارة دون حديث والرجل خلفه يسير متعجبًا حتى صعد جواره.
ودعته بالدموع ثم جلست مكانها وحيدة تصارع خوفها عليه وغضبها منه، فريسة لكل المشاعر السلبية القاتلة، تبكي دون توقف ولا تعرف لها من سبيل، كيف ستواجه مَن بالأسفل؟ ومَن سيخبرهم؟ وكيف سيتقبلون الخبر؟
حتى زلزلت صرخة نجاة جدران المنزل، فنهضت منتفضة تضع كفها على صدرها من هول ما تشعر به اللحظة من هلع، هبطت مسرعة حتى وصلت إليهن وقد تشابكت الصرخات وامتزج العويل وتمايلت الأجساد ، انسحبت آيات فورًا للأعلى نافضة كفيها مما يحدث ، وبقيت هي تتنقل بينهن مواسية، تضم نجاة مواسية محاولة طمأنتها هي وسماسم بعدما ضعفها المستور بطاهر تعرى.
كان يومًا كئيبًا مُظلمًا بالحزن كلما ابتعدت عنهن واختلت انتحبت بشدة حتى إذا ما عادت إليهن مسحت دموعها وتماسكت
مرّ اليوم عصيبًا، لأول مرة في عمرها تعيش يومًا كهذا ورغم كل ما تشعر به من ألم وما يعتريها من انهيار تقف صالبة عودها تباشر الجميع بمحبة وتخدمهم برضا، ولا تنسى الاتصال على طاهر منتظرة رده فتصدم بالصمت وتعود شاردة الذهن ضائعة.
في الليل ظلت ساهرة تتفقد أمانته وتحرص عليها حرص الصادقين،تجالس جدته مهونة منتظرة منها طلبًا لتلبيه وحاجة تقضيها رغم رفضها، ثم تطعم والدته بإجبار، وتؤنس وحدة سماسم، تتخذ السهر جوارها سلاحًا لأضغاثها المتكررة، كلما استيقظت صارخة تربت على كتفها وتمسح على رأسها بحنو ثم تضمها منفجرة في بكاء مرير كان عنوانًا لخوفها الكبير بعدما فشلت كل محاولات الاتصال بهم وأصابها العجز فاضطرت للكذب وإخبارهم انهم أجابوا عليها و طمأنوها لكنهم مشغولين .
****
اندفع ناحية الفِراش بلهفة، اقترب مقبلاً جبينه وهو يستفسر ونظراته تطوف على وجه أخيه بقلق «حمدالله على السلامة أنت كويس يا يونس»
ابتسم يونس مطمئنًا له «كويس دي حتة رصاصة يعني»
مسح رؤوف على رأسه بحنو قائلًا «أجر وعافية ربنا يحفظكم وميورنيش فيكم حاجة عفشة»
ابتسم له يونس بإمتنان وهو يربت على ظاهر كفه بتقدير «ولا فيك يا حبيبي اطمن»
اختل توازنه وأصابه الدوار فمال ساحبًا الكرسي وجلس فوقه بتعب محيطًا رأسه مثبتًا لها مما جعل يونس يحاول الإعتدال متسائلًا بقلق «أنت كويس يا رؤوف؟»
طمأنه رؤوف وهو يعصر عينيه المغمضة ويزفر ببطء «تمام متجلجش»
بدا له ذابلًا واهنًا فأشفق عليه وطمأنه مرة أخرى «أنا كويس اطمن»
فتح رؤوف عينيه ببطء على ملامح أخيه القلقة وابتسم هامسًا «الحمدلله»
لم يرتح يونس برؤية أخيه هكذا شاحبًا غير متزن بل خالط تعبه قلقًا قاتلًا وعيناه تراقبانه بإشفاق.
دخل طاهر الحجرة مضمد الرأس مبتسمًا باشا ًبرضا وحمده يتقدم رؤيته أخيه، انحنى مقبلًا رأسه رابتًا على كتفه «حمد الله على سلامتك يا حبيبي»
ربت يونس على كفه الموضوعة فوق كتفه وهو يرفع نظراته متفحصًا بدقة «الله يسلمك أنت كويس يا طاهر»
طمأنه طاهر بابتسامته الجذلة «زي الفل الحمدلله»
هبطت نظرات يونس فورًا لأخيه المنحني بجذعه للأمام ممسكًا جبهته بكفه في تعب واضح جعله يسأل مرة أخرى بخوف «رؤوف أنت كويس؟»
رفع رؤوف رأسه مُجيبًا عليه بحدّة متعمدة خبأ بين طياتها تعبه «ما جولتلك كويس شايل همي ليه»
دخل زين بصحبة والدهما سلّم وجلس جوار رؤوف يستفسر «مالك أنت كويس؟»
تأفف رؤوف منزعجًا من كثرة الأسئلة «مالك أنا كويس»
احتد زين قائلًا بضيق من عصبيته «يا ابني كويس منين وأنت دايخ وبتتطوح ولا عارف ترفع راسك ولا الي شارب حاجة»
انتبه رؤوف لقوله ورفع رأسه قاطبًا يردد بشرود «شارب حاجة!»
تذكر ماحدث وغاب في طيات خوفه على أخيه متواريًا خلف جذعه وتلك التي تركها حزينة دون توضيح وكيف استيقظ ليجد نفسه فوق فِراش حرمه على نفسه.
نهض فورًا والخيوط داخل عقله تتجمع وتتشابك، والأحداث تتابع، ترنح فسأله زين الذي نهض ممسكًا بذراعه «رايح فين؟»
جذبه رؤوف بقليل من الكلمات «تعالى معاي»
سأله زين وهو يمسك به ويخرجان من الحجرة تحت نظرات الجميع القلقة «إيه؟»
أجابه رؤوف وهو يسرع الخطى «شاكك فحاجة ولازم اتأكد»
استفسر زين «إيه هي؟»
أجابه رؤوف وهو يسرع الخطى «اعمل بس التحليل وهحكيلك»
بعد قليل كان يجلس جواره قاصًا عليه ما حدث وسبب إجرائه تحليل المخدرات، أن ما حدث له وسقوطه بهذا الشكل وعدم تذكره إلا لقليل من الأحداث يدعوه للشك في الأمر
فكيف لا يتذكر نومه بشقة آيات وما حدث؟ توقفت الأحداث في عقله عند تناوله كوب العصير وبعدها استيقظ على واقع مختلف تمامًا لم يشارك في صنعه ولا يستطيع تذكر ما حدث ليوصله إلى ذلك، ولا كيف بات ليلتها بعيدًا عن غزل التي وعدها بالعودة بل كيف خبتت لهفته عليها وهو الذي هبط بعجالة، وتضايق من مكوثه وقتًا طويلًا في مجادلات ومناقشات مع جدته.
توقف عن السرد متنهدًا وهو يرتشف من كوب قهوة وضع أمامه فهتف زين «كدا مخدرات وش بقا والله أعلم عملت إيه بعد ما خدت الي خدته»
انتفض رؤوف يستفسر بوجه مصفر «يعني إيه؟»
أوضح زين «يعني لو فعلا حطتلك مخدر فأكيد وصلت لغرضها من الموضوع، مش مجرد تبات عندها وتكيد غزل»
ابتلع ريقه وشرد بتوتر وقلق فضحك زين ضحكة خافتة وقال «ان شاء الله تكون اتهديت ونمت»
ضم رؤوف شفتيه بأسف حقيقي و استرخى ماسحًا وجهه بحزن حقيقي، فعاتبه زين برفق «قولنا آيات تمشي عاجبك دلوقت الي حصل؟ طيب هتقول لغزل إيه؟ أيوه شربت غصب عنك بس الي حصل بعدها أنت مش فاكره ومش غصب عنك»
ختم زين كلماته ببسمة هازئة مستفسرة جعلت رؤوف يهتف بغضب «تصدق إنك مستفز»
قهقه زين قائلًا «بقولك الحقيقة وأحسن عشان تتأدب وتبطل تعمل فيها خيّر»
تأفف رؤوف لاعنًا له فمال زين بجذعه قائلًا «اطمن على جدتك بس الأول هو أكيد أنت المقصود بس نطمن ولما يطلع التحليل ونتأكد ليها رواقة»
نظر إليه رؤوف بتوهة وضياع هامسًا بحسرة جعلته يتعاطف معه ويشفق عليه «وغزل»
مال زين وربت على كتفه مطمئنًا «ابقا أحكيلها ووريها التحاليل من كلامك عنها هي عاقله ومخها كبير ومتفهمة»
همس رؤوف وهو يرتشف من فنجانه «يارب»
عاد زين لطبعه سريعًا واسترخى في مقعده قائلًا «ولو مصدقتش اديها فوق دماغها لسه هتحايل»
زفر رؤوف بضجر من قوله فضحك
*****
في الصباح عملت بهمة كبيرة، سعت في المنزل بنشاط، هاتفها يضج برسائل التذكير بمواعيد أدوية الجميع. هكذا انقضى يومها الثاني
تصنع الطعام فلا يتذوقه أحد ولا تنسى صديق حبيبها ونس، تذهب إليه وتطعمه بمحبة ، تملّس على خصلاته شاكيةً له وباكية بحزن ثم ترحل، وليلًا ضبطت منبهها على قبل الفجر لتقيم الليل كما يفعل، لا تريد أن يخلو منزله من عاداته، تفعل كما لو كان موجودًا، دعت بتضرع وبكت بتوسل ثم غفت بعدها لساعات وبعدها استيقظت مباشرة عملها بعدما ألقى الجميع على عاتقها كل شيء واثقين وزاهدين في الحياة، الليلة أيقظها هو بهمسه الدافيء لا تعرف كيف لكنها أحسّت بملمس أنامله على خدها واستشعرت دفء أنفاسه على صفحة وجهها، أيقظها هامسًا بنبرته الدافئة «الصلاة يا غزالي»
مسحت وجهها واعتدلت، ثم تفقدت الحجرة حولها بحنين شديد ولوعة، تشعر بوجوده حولها ولا تعرف كيف، نفضت الدثار ونهضت ذاكرة الله.
مشغولة به متناسية فعلته لا يهمها سوى الاطمئنان عليه وعلى أخيها ويونس صديقها المخلص.
في بداية اليوم التالي رفعت الهاتف بادئة يومها بتفقدهم محاولة الاتصال بعدنان الذي أجاب فقفزت متهللة تهتف بفرحة «صباح الخير ياعمو عاملين إيه طمني عليكم»
هتف الرجل بوهن شديد «كويسين يا بتي» سألته بقلق «طاهر كويس؟ ويونس؟»
أجابها عدنان بضعف لأول مرة تستشعره منه «راجدين يابتي التلاتة ربنا يتولاهم ويتولاني»
ضمت موضع قلبها بكفها كاتمة وجعها ثم استفسرت بشهقة جذع منفلتة «حصلهم إيه طيب هما بخير وليه مبتردوش كل ده؟»
أوضح الرجل بتوهة وضياع «يادوبك وصلنا مفيش حاجة وجوزك وجع من طوله حتى جبل ما يتطمن عليهم زين،ولسه تعبان بيجوم مش واعي يسأل ويرجع تاني لملكوته ويونس كويس أحسن النهاردة وطاهر واخد كام غرزة فراسه»
طفرت الدموع من عينيها متسائلة بحشرجة بكاء وغصة ألم «مين عمل كده؟ »لوهلة صمتت جاحظة العينين خائفة أن يكون والدها السبب .هتف الرجل بتعب «مخابرش يابتي حاجة لسه الموضوع عند الحكومة»
دعت من بين شهقات بكائها المنفلتة«ربنا يقومهم بالسلامة يا عمو ويطمنا عليهم لو فاقوا وقدروا يتكلموا ياريت تكلمني أو حد فيهم يطمني» أجابها بتنهيدة «حاضر يابتي طمنيني عليكم؟»
مسحت دموعها وأجابته تبث الطمأنينة في قلبه «احنا بخير اطمن ومتشلش هم أنا موجودة بس ياريت تكلمهم وتطمنهم »
أجابها الرجل بحزن «حاضر»
ثم صارحها الرجل بتخبط ونظراته تنظر للممر بتعب « أتاريني كنت مسنود على جبل يا بتي محستش غير لما جوزك رجد كده، كان بيشيل عني كتير ويتحمل وحده، سابني وحدي لجيتني تايه كنه أنا الي ولده»
عضت شفتيها متحكمة في دموعها وغصة بكائها مهونة عليه بلطف كلماتها «ربنا يقومه بالسلامة »
أجابها الرجل ونظراته تتابع دخول الأطباء للحجرة وزين خلفهم «حاضر مع السلامة»
عادت للعمل مبتلعة حزنها، قابضةً عليه كالجمر بين جنبات نفسها، أعطت نجاة الدواء ودلكت لها ساقيها قائلة «كلمت عمو وطمني خالص يا طنط»
سألتها نجاة بلهفة «صُح يا بتي»
أومأت حابسة دموعها خلف حوائط الثبات «أيوة بإذن الله»
استرخت نجاة داعية لها «ربنا يطمنك يا بتي»
دثرتها غزل بعدما أنهت عملها وخرجت مفتشة عن سماسم التي لا تكف عن البكاء ولا تمتثل لطمأنينة، وجدتها جالسة تطعم البط بشرود ودموع تتتابع بصمت، فجلست جوارها قليلًا رابتةً عليها بصمت مماثل مؤازرة لها، ثم بعد قليل اتجهت للجدة منحتها الدواء بصمت وبعدها رحلت للمطبخ.
****
طرق باب منزلها بعصاه الغليظة كما صوته المتوعد مُناديًا «بت يا هدى واد يا عبد الله»
انتفضت من رقدتها مرددة بقلق احتل كيانها الهش «دا أبويا»
تكرر النداء فارتدت عباءتها بسرعة ووضعت خمارها وخرجت مسرعة لا تلتفت خلفها يُسمع صوت دقات قلبها من شدة رعبها وخوفها فنبرة والدها نذير شؤم وسبابها العالي قنابل موقوتة ستنفجر في وجهها، فتحت الباب وكلها يرتجف برهبة خانقة، وحيدة هشة تواجه إعصار غضبه، بابتسامة مرتجفة طالعته مُرحبة «ازيك يا أبوي اتفضل»
باغتها بعصا غضبه «موتي؟ بجالي ساعة بنادي عليكي»
تجرعت مسامعها النبرة المسموعة بالكلمات وبررت بنفس الحذر والاهتزاز «معلش كنت نايمة»
دعا بحرقة وهو يرمقها بنظرة مشتعلة خالية من الحنان والرفق «نامت عليكي حيطة يا بعيدة سمعتي الناس حسي»
صمتت بضيق وصبرت باحتساب ثم حثته بلطف «اتفضل طاب يا أبوي هنتكلم على الباب»
سألها متجاهلًا سؤالها ومازالت نظرته النافرة تجوب طرقات ملامحها الذابلة «مبتجيش لأمك ليه؟»
بُترت أفكارها فتلعثمت مفتشة عن رد يناسب حجم ورطتها مع هذا القاسي «أصل يا أبوي
دفعها من كتفها بعصاه ودخل قائلًا «ياك سمعتي حديت واد حفناوي»
شعرت بالحصار فدارت حول نفسها مفتشة عن مخرج قبل أن تطالها نيرانه «لاه بس مؤمن جلي مسيبش البيت وهو غايب»
رمقها باستنكار مستفسرًا بدهاء «بجا مؤمن جالك كده؟»
هزت رأسها وهي تبلل شفتيها المرتعشة ناظرة إليه بحذر «أيوة»
فاجئها بطلبه «طب رنيلي عليه أتأكد»
بهتت ملامحها وأصفر وجهها في ذبول من طلبه المفاجيء وغير المتوقع فقالت بنفس تلعثمها متفادية غضبه بحذرها «معرفلوش رقم هو بيرن لما يكون فاضي»
ضرب ذراعها بعصاه آمرًا بغلظة «يلا طيب هاتي ولدك وتعالي معاي»
ابتلعت ريقها مستفسرة بخوف أرجف أوصالها الضعيفة ووضع هزلها في مهب ريح غضبه «ليه؟»
شملها بنظرة هادئة غير مطمئنة وأجابها بصبر وحاجبه يرتفع ترقبًا وتهديدًا «هتجعدي عندي لغاية ما جوزك يرد معنديش أنا بنتة تجعد لوحدها»
حاولت مهادنته «بس يا أبوي مؤمن منبه عليّ وحالف وأنا مجدرش أخالفه»
زعق بغير صبر وبفظاظة مقبضة حملت الحزن لقلبها الهائم في شتاتها وشوقه للغائب «غوري يلا بلاحالف لما ييجي يحلها حلال»
عارضته بوهن وصوت ضعيف منكسر «يا أبوي مجدرش أكسر كلمته»
ضربها بعصاه على رأسها زاعقًا «بجولك غوري يلا ليه الحديت الكتير؟ أنا جوزك ميحكمش علي كفاية فوتلك سماعك لكلام واد المحروق وغيابك عن أمك»
لملمت شجاعتها وجابهته متحدية بقوة وحزم «مش هرجع وواد أختك في البيت مش هعيش مع راجل غريب فبيت واحد»
فُغر فمه واتسعت عيناه تهكمًا واستنكارًا لقولها الذي أثبت صحة ظنه «واه هو واد عمتك غريب دا متربي معاكم»
صرخت متحدية بإصرار «أيوة غريب وأنا مش هروح غير لما يمشي»
صفعها بحدة وهو يصرخ مستنكرًا قولها وتحديها له «بتحكمي عليا يا به، تمليني أعمل إيه ومعملش إيه؟»
ابتعدت عنه بدموع متحجرة، متماسكة بكبرياء تخبره بصلابة وقوة «يا أبوي واد أختك مش زين»
أمسك بخصلاتها من تحت خمارها وطوح رأسها صارخًا «ده كلام واد الحفناوي ملا راسك وعصاكي»
رفعت رأسها له قائلة وهي تحاول تخليص خصلاتها من قبضته الفولاذية «لاه إنا فيا عين تشوف وجلب يحس مش هجعد مع واد أختك فبيت واحد وجوزي غايب»
صفعها مرة أخرى بغضب صارخًا فيها بعينين محتقنتين من شدة الغضب «ليه شيفاني طرطور يا به»
دفعها بحرقة فارتطم ظهرها بالحائط مما جعلها تتأوه بشدة وتنقبض ملامحها بألم شديد، بينما واصل هو دون ذرة شفقة أو رحمة بها وبحالتها«الله فسماه لو ما جيتي معاي عالبيت لأكون مطربق البيت على دماغك»
خرج صغيرها فاركًا عينيه يطرد النعاس عنهما وسؤاله ينبثق بذعر «في إيه يا أما»
انحت على ركبتها تضمه لصدرها بدموع منسابة مستمدة منه قوتها «مفيش متخافش»
اصطدمت نظراته بدموعها المتساقطة فأحاط عنقها باكيًا «مين زعلك؟ آيات؟»
صرخ به الجد مستاءً ضجرًا وهو يطالعهما بقرف «يلا يا واد يا عبدالله معاي على بيت جدك»
تبادل الصغير النظرات بينهما بقلق وتردد فسحبه الجد من كفه بغلظة وأشار لها برعدة تهديدية تنذر بالكثير «همي يلا»
توكأت على ضعفها وغادرت في طاعة مصفدة بالإجبار ،ارتدت حذائها ووجعها يمتد من ظهرها المنهك بالعمل لبطنها الممتلئة يفترش سلعة من الألم في أنحاء جسدها مقايضًا ببضاعته أمانها وراحة بالها وعافيته المسمومة بالكدر.
بعد قليل سارت خلفه بوهن تبكي كاتمة صوتها ومبتلعة شهقاتها انفجار حزنها، امتثلت رغبةً في الستر من شذرات غضبه المهلكة فصياحه وغضبه من المؤكد وصل لجيرانها، امتثلت مراوغةً له حتى تجد حلًا لمعضلتها وحيلة تنقذها من مأزقها فالعناد لن يجدي نفعًا مع أبيها المتعجرف بل سيزيد الأمر سوءًا.
**
المنزل يعج بالحزن ويمتلأ على آخره بالألم طافحًا الرثاء القاتم وهي في قلعتها متحصنة بالامبالاة والاستهانة تطالع غريمتها من برجها بنظرة متشفية حاقدة وبعدها تعود بلا اكتراث أو إهتمام، تراقب من الأعلى ما تفعله بسخرية وتتابع انهماكها في العمل بشفقة، ساخرة من حبها الذي يدفعها لتحمل كل تلك الأعباء بل والصمود أمام كراهية الجدة دون أدنى تأثر.
رمتها بنظرة محتقرة من شرفتها حيث كانت الأخرى تقف ماسحة بكفها فوق خصلات حصانه وشفتيها تتحركان بكلمات أخفتها المسافة لكن حزنها الواضح كشف ستر مشاعرها.
باحت لحصانه بسرها الأثير «وحشني يا ونس نفسي أسمع صوته»
ضحكت آيات بصوتٍ عال متذكرة ما فعلته بها وكيف انتصرت وتغلّبت عليها،رفعت غزل رأسها فلوحت آيات بظفر مُذكرة إياها بهزيمتها،أخفضت غزل رأسها متجاهلة فغادرت آيات الشرفة تسترجع ما حدث وكيف أعانتها الصدف وخدمها القدر
«فلاش باك»
هبط السلم بسرعة كبيرة لاعنًا تلك البغيضة مُقسمًا على تأديبها ونزعها من حياته وإلقائها بعيدًا فآخر فرصها انتهت اليوم كما صلاحية بقائها في المنزل واحتماله خبثها، دفع باب الشقة الموارب بقدمه ودخل زاعقًا في غضب مباركًا اسمها بالتوبيخ «أنتِ يا هبابة الطين»
ارتعدت بخوف ونظراتها تسقط فوق جسد جدته الجالسة أمامها مُجيبة له «تعالى يا حبيبي»
هتف بحنق مشمئزًا من تصنعها «حبك جطر يكون سواقه أعمى»
استفسر بدهشة حين عانقت نظراته جدته الحبيبة «إيه جايبك هنا يا جده؟»
سحبته من كم جلبابه ناحيتها قائلة «اجعد بس ومتتعصبش»
جلس رغمًا عنه ونظراته تحرق الواقفة بأدب كاذب أمامه، تخفض رأسها منتظرة نصيبها من غضبه أو عفوه «مالك داخل كده ليه وبتزعق»
سألها بغيظ وهو يمسح وجهه «أنتِ من متى بتطلعي هِنا من الأساس؟»
أوضحت له ببسمة هادئة ونبرة ممتلئة بالأمل «مرت خال أبوك راحت الحجاز ووصيتها تجيب لآيات حاجة للحبل وجيت أديهالها وأجولها تعملها كيف»
استغفر بصوت مسموع وهو يضرب كفًا بكف في ضجر «مفيش فايدة»
ضربته جدته على كتفه معاتبة بصوت واهن «مالك يا واد؟»
بصبر عظيم وثبات ابتلع غضبه وأفهمها «شيلي الموضوع من دماغك يا جدة مش هيحصل خالص ويوم ما ربنا يكرم مش هيبجا من بت المحروق دي»
غطت فمها مستنكرة رافضة قوله «واه ليه امال إيه ينجصها؟ عرفت غلطها ورجعت خلاص ولا يكونش عايز تخلف من بت الغدار»
تأفف بحنق وهو يلملم طرف جلبابه وينفضه قائلًا «مخلاصش» ثم أردف بفخر ونظرة لامعة «طب ياريت أخلف من غزل هو أنا أطول تبجا أم عيالي بحنيتها وطيبة جلبها والله تبجا دعتيلي الدعوة الزينة وربنا عوضني خير»
قست نظرات آيات واشتعلت بالحقد بينما فغرت الجدة فمها بإستنكار
تستفهم بحنق «يبجى الي بتجوله آيات صُح»
حرقها بلهيب نظراته فانكمشت على نفسها مذعورة ، وسأل لاعنًا لها «جالتلك إيه؟ اشجيني عشان ليلتها تبجى مطينة بطين»
صارحته جدته بصوت خافت حرجًا وتأدبًا «صُح معيزش تجربلها من يوم ما جات واتجوزت بت الغدار»
هز رؤوف رأسه بتهديد للواقفة قبل أن يؤكد «صُح وهي دلوك جابت الناهية لمي حاجتك وامشي يا آيات خلصتيها خلاص أنا آخر حاجة اتمناها تبجي أم عيالي»
ضربت آيات وجهها بكفيها وهي تنظر لجدته بإستنجاد غير منطوق، فعاتبته جدته «كده يا واد ممكبرنيش واصل»
أشار بغضب وعينيه تتابع عقارب الساعة أعلى الجدار بلهفة واستعجال «أنتِ على راسي يا جدة بس هي مش هتجعد ولا يوم تاني أنا معيزهاش»
توسلته آيات بخضوع وذل وبراءة كاذبة«ليه يا رؤوف أنا عملت إيه أنا طوع يدك»
رمقها بنظرة ساخرة مستخفة وهو يجيبها بغيظ «أنتِ عارفة عملتي إيه زين ويلا متكتريش حديت جهزي حاجتك هرجعك بيت أبوكي وفوجيكي بوسة»
استغلت آيات وجود الجدة واحتمت بعطفها متوسلة وهي تلثم ظاهر كفها «جوليله يا جده أنا مذنبيش حاجة بأي ذنب يطير ورايا أجول لأبويا إيه»
زعق بقوة وهو ينتفض واقفًا «جومي يلا أبو أبوكي »
هتفت الجدة بغضب وهي تمسح على رأسها بحنو «لا متجومش واعملي خاطر واعتبار، مش هتمشي يا واد »
ضم شفتيه وهو يدور حول نفسه في ثورة ثم توقف مصرًا على قوله «لاه تغور معيزهاش»
نهضت جدته قائلة في عناد «إن مشت تمشي بت مرتضى معاها هتعصى كلامي وأمري؟»
زفر بصوت مسموع قبل أن يخبرها بصبر «طلعي نفسك من موضوع آيات يا جدة ومتساويش غزل بيها عشان كفة غزل هتطب مهما حصل » بكت آيات بحرقة كاذبة مستعطفة السيدة التي اتخذت جانبها وتثبيتًا لما قالته عن ظلمه لها، فصرخت الجدة بغير رضا «سحرالك بت الغدار بكرة تجولك كمان جدتك وعمتك وتعصيك علينا وتكرهك فينا»
استغفر بصوت مسموع وهو يضرب ذراعيه في الهواء بغضب ثم ابتلع حنقه وأجاب بهدوء «يا جدة غزل ملهاش ذنب ومحدش في الدنيا جلبه زي جلبها»
هتفت الجدة بعناد متحدية له مستغلة محبتها في قلبه «لو مشيتها دلوك وهي فحمايتي واستنجدت بي لساني مش هيخاطب لسانك العمر وحتى جنازتي متمشيش فيها»
اندفع ناحية آيات ذات النظرة المنتظرة والمتشفية قيّد ذراعها بغضب خلف ظهرها فنهضت جدته ووقفت تفض الاشتباك محررة جسد آيات الصارخة والمستنجدة بها «جوليله يسيبني يا جدة»
ضربها عدة ضربات فوق رأسها وهو يهتف من بين أسنانه بغيظ «ياك مش هجدر عليكي يا جلابة المصايب دا أنا أرميكي من فوق»
صرخت آيات باكية في ذعر من تهديده مما جعل الجدة تتشبث بذراعه رافضة تحاول ايقافه بصرامة «بس سيبها يا واد»
وهن جسدها وخفت صوتها وهو لا يستجيب ويواصل بغضب أعمى ثم بدفعة مفاجئة لجسد آيات منه سقطت جدته معها بهلاك، اندفع ناحيتها بخوف «أنتِ كويسة يا جدة»
أغرورقت عيناها بالدموع في مهانة وهي تعاتبه بصوت واهن «كده يا رؤوف دي أخرتها» صرخ بآيات والأسى يتوسد نظراته جوار الندم «جومي غوري جيبيلها حاجة تشربها»
بكت العجوز بحرقة لاستهانته بها، تمطره بوابل من عتاب ولوم فتت كبده وجعله يجاهد لتهدأتها ونيل رضاها ثانيةً..
في المطبخ صبت كوبين من العصير وعيناها تراقب الباب بقلق وخوف، وضعت ما منحها إياه علاء في كوب وميزته بيدان مرتعشتان وأنفاس متسارعة وهي لا تعرف أي هدف ستصيب فعلتها، تخوض مقامرة بنتائج مبهمة وربح غير مضمون لكن لا ضير ستجاذف للنهاية قد لا تأتيها الفرصة مرة أخرى.
التقطت أنفاسها ثم حملت الكوبين وخرجت، وضعت الصينية ومدت كفها له بالكوب مبادرة وهو مازال على حاله من الجزع، يضم جدته معتذرًا مواسيًا، سقاها كوبها بتمهل ثم وضعه وأمسك بالآخر، وضعت يدها على قلبها خوفًا ورهبة وتوقفت أنفاسها ونظراتها في السباق حتى رفضت الجدة تناوله وأصرّت أن يشربه هو ليهدأ ففعل طاعة لها ورغبةً في رضاها.
التقطت أنفاسها بروية واسترخت بابتسامة تتسع رويدًا رويدًا حتى أتتها البشرى بأفعاله وعدم اتزانه، أراح رأسه للخلف فنهضت الجدة داعية له تظن أنه استجاب لحكمها، انسحبت موصية آيات التي أغلقت خلفها وعادت إليه شامخة بنظرة ظافرة، تتأمله من علو بتشفي وحقد وهو يحرك رأسه فاركًا صدغيه.
نهض مترنحًا فأمسكت به متوسلة «رايح فين أجعد؟»
نفض كفها بنفور وهو يواصل التحكم في ساقيه والسير لكنه سقط فوق الأريكة مهزوز الجسد، جلست جواره هامسة بدلال«بيّت معاي زي ما جالت جدتك يا رؤوف عشان خاطري»
نفضها بعيدًا بغضب واشمئزاز «غوري معيزكيش أنا طالع لغزل»
جزت بحقد لاعنة له ولها وواصلت الإقتراب منه بإصرار، رفع رأسه وطالعها بنظرة زائغة ودهشة ملأت ملامحه «غزل جيتي متى؟»
اقترب منها مبتسمًا يهمس وهو يجذبها لأحضانه «همشيها وراجعلك»
تمنت لو طعنت قلبه اللحظة وهو يضمها بهذا الحنو لكونها غزل، ابتعد قليلًا محيطًا وجهها بكفيه ينثر قبلاته فوق وجهها وهو يهمس بتراتيل العشق فتماسكت وكلها يحترق غلًا وغيرة.. بعدها دفعته بعيدًا بنفور ونهضت متجهة للمطبخ وتركته يحاول الوقوف واللحاق بها، أعدّت له كوبًا آخر بعدما سكبت كل ما أعطاه لها علاء في الكوب وخرجت متهادية بنظرة منتقمة، منحته له تحت تأثير هلوسته بصورة الأخرى وحثته على تجرعه ففعل، بعد ذلك سحبته ناحية الفِراش ممنية له وماهي إلا دقائق وسقط فاقدًا للوعي فوق الفِراش.. خلّصت جسدها من ذراعيه ونهضت باصقة داعية عليه بحرقة،ثم توجهت ناحية الصالة لتخبر شريكها بتمام المهمة.
«باك»
عادت لواقعها مسترخية ممسكة بهاتفها النقال في انتظار حار لآخر منشغلة به وبحياته ، تستيقظ على متابعته وتغفو على التقاط أخباره، لا تمنح ولا تحرم تختار أوقات الإجابة بدقة وتنتقي كلماتها بذكاء، تعرف متى تقبل حديثه واستدراجه فتسايره ومتى تصده بغلظة لتحيره.
تلمست بأناملها السلسال الفضي الذي أرسله لها وهي تتأمل آخر صورة نشرها على حسابه متنهدة بهيام.. متمنية أن ينتهي كابوس رؤوف لتبدأ أحلامها الخاصة مع هذا الشبيه.
****
في المشفى صباحًا
طرقات الباب بينها مسافة من التردد والقلق، تطرق بقدمها الأرض في تعجل الرد وتغمض عينيها خائفة من الاستجابة، نصفان يتنازعان ويقتتلان داخلها لا ينتصر أحدهما على الآخر قط.
فتح طاهر الباب مستفسرًا عن هويتها، فابتلعت ريقها وأجابته بتلعثم وهي تفرك كفيها بتوتر «أنا.. أنا دكتورة فيروز»
ابتسم طاهر ببهجة واستقبلها بترحاب شديد، تأملته قليلًا بإضطراب مفتشة في ملامحه عن إنزعاج أو رفض لكنها لم تجد سوى قبولًا وبشاشة فتنهدت براحة ، استدار هاتفًا «يونس الدكتورة فيروز»
تململ الآخر وانتفض من نومته محاولًا الإعتدال فتألم، ترك طاهر الباب وهرول تجاهه رافضًا تحركه دون مساعدة «استنى جايلك»
ساعده بسرعة وعاد إليها مسقبلًا لها «اتفضلي يا دكتورة»
دخلت الحجرة بخطوات وئيدة حتى وصلت لفراشه رفعت نظراتها المهتزة قائلة «ازيك يا بشمهندس ألف سلامة عليك»
قطب مستفسرًا بقلق فطغت لهجته «جيتي كيف؟ ومين جالك؟ وإزاي تطلعي من الأساس في الوقت دِه؟ افرض كان متربصلك وأذاكي؟»
ابتسم طاهر دون تعليق بينما عبست هي موضحة بإضطراب من هجومه عليها ورفضه لها فتهكمت «جيت برجلي والعصفورة قالتلي وطلعت عادي وكفاية كدا مش هتتحملوا مصايبي تاني»
انتفض يونس رافضًا قولها غاضبًا مما سمعه منها يخبيء خوفه عليها بين طيات سخريته «نعم ياختي ؟ بعد ده كله ما كان من الأول؟»
اقترب طاهر منه مهدئًا له «يونس بالراحة»
حرك ذراعه فتألم وغصت هي في الدمع، صمت قليلًا يبتلع ألمه ثم هتف بحدة «مسامعش بتجول إيه؟»
قالت والدموع تتحجر في عينيها بكبرياء «مكانش ينفع مجيش وأشوفك يا بشمهندس تحت أي ظرف»
رمشت فوق ملامحه المصدومة وهي تضغط شفتيها بندم على ما تفوهت به وعكست صورته ليرى ما بقلبها، لانت ملامحه وسكن جسده فقاطعهما طاهر بتفهم مخففًا من حدة الأمر ملطفًا الأجواء ببشاشته «الدكتورة صاحبة واجب يا يونس وبنت أصول مكانتش هتسمع وتخاف على نفسها ومتجيش»
رمقته بنظرة ممتنة بينما صمت يونس مغمغما بالكثير مما جعل طاهر يضربه على مؤخرة رأسه ضاحكًا «بطل برطمة دا أنت مخلتهاش جعدت ولا ارتاحت »
ابتسمت فيروز شاكرة وهي تتراجع بخطواتها «شكرًا يا أستاذ طاهر هستأذن»
هتف بإندفاع ولهفة مكشوفة «رايحة فين؟»
أجلت صوتها في حرج موضحة ونظراتها تخشى المواجهة وتهاب اللقاء «اطمنت عليك وخلاص يا بشمهندس»
لكزه طاهر معاتبًا له على أفعاله فهتف يونس بلطف «اجعدي يا دكتورة»
اعتذرت منه بأدب وهي تستدير في استعداد للمغادرة «لا شكرًا حمدالله على سلامتك»
هتف بعصبية «جولت اجعدي»
وقفت مكانها متأففة بضيق بينما عاتبة طاهر بصوت خافض «يا ابني ما تهمد مالك؟»
استدارت رامية كلماتها بغيظ «سيبه دا أنت كدا تطمن عليه، لو معملش كدا تقلق»
ضحك طاهر وأشاح يونس بإنزعاج، ابتسمت فيروز فتحرك طاهر ممازحًا له بمرح «تخيلي يا دكتورة وهو بيفوج بنجوله جوم يا يونس جالنا لاه أنا بشمهندس يونس»
ضحكت فيروز برقة جعلته يلتفت مرغمًا متأملًا بهيام بينما تابع طاهر وهو يقرّب منها الكرسي في دعوة للجلوس «حتى البنج مأثرش على هندسته كنا بنفوقه بكلمة بشمهندس »
أخفضت فيروز بصرها ضاحكة بعدما استسلمت للطف طاهر وجلست، أمسك يونس بعلبة دواء كانت جواره ورماها عليه هاتفًا «لا خفيف يا طاهر»
قهقه طاهر قائلًا وهو يقترب منه مُعيدًا علبة الدواء التي تلقاها مكانها ومعدلًا له جسده «عايزهم يكتبوا في الروشتات بشمهندس يونس»
انفلتت ضحكاتها رغمًا عنها فهتف يونس من بين أسنانه بغيظ «غور من وشي» ثم وجه كلماته لها مبديًا اسفه عبر نظراته «تشربي إيه يا دكتورة؟»
اعتذرت بأدب فأشار يونس لطاهر «انزل هات من الكافتيريا يلا»
هز طاهر رأسه بطاعة وتحرك مغادرًا بعدما ترك الباب مفتوحًا.. طال بينهما الصمت قبل أن يقطعه هو بحمحمته واعتذاره «مجصدش حاجة من الي فهمتيها أنا بس خايف عليكي»
زفرت ببطء مهدئة من روعها بعد كلماته اللينة و اسفه المتواري وقالت «أنا أذيتكم كتير والله أعلم هيحصل إيه تاني»
ابتسم بلطف مطمئنًا لها بغطرسته المعتادة «احنا كدها» ثم سألها «رؤوف جالك حاجة زعلتك؟»
ابتسمت بتفهم وهي تواجه نظراته «لا بالعكس كلمت رجب وهو قالي»
تنهد بارتياح واضح فقالت وهي تخفض نظراتها من جديد لأناملها «مكنتش أتمنى توصل لكده بجد، متشكرة على كل الي عملتوه معايا بلغ أستاذ رؤوف شكري وقوله كفاية»
استفسر بحاجبين منعقدين في قلق بعدما توجس من كلماتها«يعني إيه؟»
أوضحت بابتسامة باهتة «هروح لعمي خلاص»
تفككت ملامحه المترقبة وتساقطت مخلّفة وراءها غضبًا واستنكارًا «بتهزري؟ ولا جايه تحرقي دمي»
ابتلعت ريقها موضحة له بصبر«لا بتكلم جد مش هكون سبب فأذيتكم تاني طالما وصلت للقتل لا خلاص هروحله»
هتف بعصبية شديدة «وأنا متجتلتش وأنتِ مش هتعملي كدا بعد دا كله»
نهضت من جلستها قائلة بعزم «كدا هبقى متطمنة »
سألها بغضب «على إيه هتطمني وأنتِ هتكوني تحت يدهم»
أجابته بتهور وهي تعانق نظراته بدفء «عليك»
أجلت صوتها مفسرة بإرتباك «ظهوري هينهي كل ده وهكون متطمنة إنهم مش هيتعرضوا لأي حد منكم تاني بأذى»
ارتبك لوهلة ولانت ملامحه لكن سرعان ما هتف بعصبية«وكده أحنا مش هنكون مطمنين عليكي والي بدأناه مع بعض هننهيه مع بعض»
صمتت عن الرد فكلماته لن تغير من قرارها شيئًا،تحركت مستأذنة التقت بطاهر عند الباب فسلمت وغادرت بسرعة معتذرة تاركة كلماته هو الآخر، دخل طاهر الحجرة ووضع العصير قائلًا «حصل إيه؟»
بغضب واضح قال يونس ونظراته مازالت معلقة بالباب «عايزة ترجع لعمها بعد دا كله وبتجول عشان أبجا مطمنة عليك» قلدها بتهكم من فرط غيظه مما جعل طاهر يضحك قائلًا «ودِه ملفتش نظرك لحاجة يا بشمهندز»
انتبه له يونس مستفسرًا بترقب «إيه؟»
ضحك طاهر قائلًا بمراوغة وهو يرتشف من كوب العصير « جيبها لوحدك يا بشمهندز»
ثم جلس قائلًا بجدية وتفكير «لو رجعت دلوقت هتثبت عليكم التهمة وهتأكدلهم شكوكهم أصل اشمعنا هتظهر بعد ضربك يعني»
ضرب يونس جبهته ثم مسح وجهه مؤكدًا وهو يهز رأسه «جدع ياطاهر يجي منك هات تليفوني؟»
ابتسم طاهر مانحًا له هاتفه واستمع له بصبر وهو يرسل لها رسالة صوتية شديدة اللهجة «دكتورة لو سمحتي متضيعيش تعبنا رؤوف لو عرف مش هيعجبه ده أقل تقدير ليه إنك تحترمي كلامه ومتتصرفيش من دماغك من غير ما ترجعيله، غير إن حضرتك لو عملتيها هتبثتي إنه كان مخبيكي فعلا وظهورك خوف عليه وحماية ليه»
وضع الهاتف جواره منتظرًا بقلق سماعها لها حين وصله إشعارًا بإستماعها تنهد بإرتياح واسترخى، ليقول بعدها بوجوم «المهم خلينا في المصيبة التانية»
عقد طاهر حاجبيه مخمنًا «جصدك آيات؟»
أجابه يونس بحرقة «أيوه في غيرها الي دايرة على حل شعرها» أسكته طاهر بضيق «متجولش كده يا يونس حرام كلها افتراضات»
صرخ به يونس وهو يكتم ألمه«أنت عبيط ياطاهر الواد جال جدامك بتروح جنا تاخد هدايا مبعوته منه وإن الواد ده مش مظبوط»
عبس طاهر مقترحًا برفق«لما ننزل نتأكد الأول الموضوع مش سهل يا أخوي فيه ذنب كبير»
أجابه يونس بإنشغال «يا مسهل» ثم هتف بتوعد خطير «بس والله ما هسيبها برضك لازم تمشي»
ضحك طاهر بصمت قبل أن يسحب الهاتف مغيرًا الحديث «غزل وحشتني جوي تعال نكلمها هتموت وتكلمك»
لانت ملامح يونس وابتسم مُرحبًا بإقتراحه في لهفة «رن عليها يلا»
****
في بداية المساء تتابعت الرسائل على هاتفها الجوال «طمنيني عنكم يا غزل»
غسلت كفيها بسرعة وراسلته مُجيبة بابتسامة مزقت ظلام الحزن «احنا بخير طمني عليكم أنتم يا رؤوف»
«احنا بخير الحمدلله» وصاها «خلي بالك منهم ومن نفسك»
أجابته فورًا «حاضر من عينيا وياريت تخلي طاهر يكلمني عايزه أطمن عليه»
ضم شفتيه بأسى قبل أن يعاود الكتابة تحت نظرات زين المتصيدة «تمام»
وضع هاتفه جواره شارد الذهن ، هتف زين بحاجبين منعقدين في حيرة وهو يتأمل الأوراق التي أمامه «رؤوف التحاليل بتقول فعلا إنك واخد مخدر»
صمت بأسى فتابع زين بغيظ «أبو الحريم يا أخي دي تنزل تمسح بيها قنا» ظل على صمته تتقيأ نظراته الوجع الممتزج بالحسرة من جفائها معه وعدم اهتمامها بالسؤال عنه وعن أحواله واقتصار خوفها على طاهر، أخرجه زين من شروده متسائلًا «بتفكر فإيه؟»
تنهد قائلًا محاولًا صرف ذهنه عن التفكير في ردها ملتمسًا لها العذر «مفيش»
هز زين رأسه بشك غير مقتنع بقوله وتابع «الدكتور بيقول ممكن حالتك دي لإنك أخدت جرعة زيادة»
استفسر رؤوف بنظرة غائمة بالحزن «ممكن نمت ومحصلش حاجة بإذن الله»
أجابه زين بمكر «وممكن هلوست يا حبيبي والله أعلم حصل إيه،مش بعيد شوفتها غزل وإنت متدهول»
زفر رؤوف بصوت عالي وقال لائمًا له بغيظ واحتراق «يا أخي طمني، جول خير مش تزود»
ضحك زين مُبررًا «مش عايز أديك أمل ممكن خربتها وتتفاجيء بيها حامل بعد كده ولا حاجة»
ضرب رؤوف جبهته بقوة قبل أن يصرخ به«جوم يلا امشي أنا مش ناجصك والله العظيم»
توقف زين عن الضحك قائلًا متراجعًا عن افتراضه «خلاص اهدى دهولتك دي مبشرة وهتكون اتخمدت أبو جدتك على أبو آيات»
***
دخل والد فهد الحجرة فلم يعتدل رؤوف في جلسته بل ظل مسترخيًا يهتز بكرسيه متابعًا للرجل بنظرة قاسية متوعدة،وقف أمامه راميًا السلام فمال رؤوف مستندًا بمرفقيه على مكتبه يُجيبه بفظاظة واستعجال «اتفضل في حاجة؟»
هتف الرجل بضحكة مبعثرة مترددة ونظراته تقف على ملامح الجالس بحذر«مش ترد السلام يا متر»
أجابه رؤوف بقسوة «بعد عملة ولدك الي بينا حرب»
حاول الرجل تهدأته بلطف «اعتبره زي أخوك الصغير، احنا مش عشرة يوم»
استنكر رؤوف قوله وزعق فيه بغضب مشتعل«ولدك كان هيموت اخواتي هو شتمهم»
قال الرجل بنظرة منكسرة يحاول استمالته «مريض وبيتعالج اعفو يا متر»
ابتسم رؤوف ساخرًا وقال بتوعد «هسجنهولك عشان يتعالج زين، أنا عند اخواتي مبشوفش وأنت عارف»
طرق الرجل بعصاه طرقة خافتة وقال بذل «مستعد لأي ترضية تعجبك ولأي تعويض يريحك أنت عارف دا ابني الوحيد»
ضرب رؤوف المكتب بكفه صارخًا فيه «كنت ربيته يا حاج»
هتف الرجل مبتلعًا إهانة رؤوف بصبر «أرجوك يا متر علشان خاطر العيش والملح الي بينا» نهض رؤوف منهيًا الجدل بغطرسة «نورت يا حاج »
استدار الرجل مغادرًا بانكسار شاعرًا بالإهانة فقال رؤوف مهددًا بحدة «متفكرش تتصرف أي تصرف علشان خباياك كلها عندي وأجدر أمسحك من السوق بأستيكه»
أسرع الرجل الخطى وغادر فورًا مهمومًا بينما عاد رؤوف لجلسته المسترخاه لاعنًا اطمئن على أخوته وأبيه ثم صغيره وبعدها صمت. بحث داخل هاتفه عن صورة لها فلم يجد فألقاه بعيدًا فوق المكتب وزفر بقلة حيلة مغطيًا وجهه بكفيه.
كلما غلبه شوقه وطغى تجاهُلها له وقف مستمعًا لصوتها وهي تتحدث مع أخويه وتشاكسهما، لا تنشغل عن مهاتفتهما يوميًا عدة مرات وفي المساء تثرثر معهما حتى النوم تحكي لهما عن يومها وتخبرهما بأفعال جدتهما ضاحكة ساخرة من المواقف..
تستثنيه من السؤال والاهتمام، لا تخطيء حتى وتسأل عنه وكلما ذكراه أخوته عمدًا تجاهلت متغاضية وغيرت الحديث. تحتاج توضيحًا لأمور مبهمة بالنسبة له ولا يملك فيها إجابة واضحة تريحها.
طرقت لمياء الباب مستأذنة فسمح لها، جلست أمامه تتأمله قائلة «ازيك يا متر وحشتنا»
مال فمه ببسمة ساخرة خبأها سريعًا واعتدل مُجيبًا بانتباه «ازيك يا أستاذة متشوفيش وحش»
أجفلت من نبرته المتهكمة لكنها تجاهلت وواصلت تأمله بجرأة قائلة «غزل خدتك مننا جامد»
ابتسم قائلًا وهو يخفض بصره ضائقًا من نظراتها وتأملها له بهذه الجرأة «لولا الشغل مجيش من الأساس ولا أسيبها يوم واحد بعيد عني» شيعت كلماته ابتسامتها المتألقة لمثواها الأخير ليحل محلها سوادا ً من النفس في الوجه، قالت لا تعي كلماتها الطريق «الي يشوفكم ميقولش جواز صالونات خالص»
ابتسم قائلًا «مين جال صالونات هي غزل محكتلكيش؟»
هزت رأسها وامتقاع وجهها يزداد فتابع هو بتشفي «أنا أعرف غزل من يوم الحريقة خطفت جلبي من يومها»
ابتلعت ريقها مبتسمة باهتزاز فقال بجدية راضيًا عن الأهداف التي أحرزها في مرماها «اسمعي يا أستاذة صديقتي الأستاذة «جهاد» كانت عيزاكي معاها في مكتبها وأنا جولتلها لمياء شاطرة متنازلش عنها بس هي صممت وأنا محبتش أردلها طلب»
انتفضت واقفة تسأله بغضب «بتطردني بالذوق يا متر»
تبرأ بوداعة كاذبة «أنا؟ حاشا الله حتى مرضتش بس هي مسكت فيكي»
قالت بحدة «بس أنا مش عايزة يا متر هتجبرني»
ابتسم قائلًا «لاه خالص براحتك بس أنتِ هتسمعي الكلام يا أستاذة » زفرت بغيظ فأشار لها «جهزي حاجتك الأستاذة جهاد مستعجلة»
زفرت بغيظ قائلة بتوعد «ماشي يامتر»
مال فمه ببسمة ساخرة فتحركت بعصبية تجاه الباب، حينما أمسكت بمقبضه استوقفها قائلًا «انسي غزل يا لمياء وامسحي رقمها عشان أنا زعلي عفش جوي وأظن أنتِ متحبيش أزعل منك»
استدارت مستفسرة «بتهددني يا متر؟»
مط شفتيه متبرئًا «أنا حاشا الله بس حبيت أجولك دمعة من عين غزل تساوي كتير»
رمقته بنظرة محتقرة كارهة ثم خرجت مندفعة متوعدة له.
أمسك بقلمه وأحاط اسمها في دائرة هامسًا «وآدي أول حيّة يا غزالي»
***
في المساء جلس في الشرفة زاهدًا تلك المرة في سماع صوتها ضائقًا بالوضع، دخل يونس الشرفة وجلس أمامه فوق الكرسي مستفسرًا «رؤوف أنت وغزل زعلانين؟»
أجابه ببساطة وهو يمسك بهاتفه متهربًا مدّعيًا الإنشغال «لا مفيش حاجة»
رفع يونس حاجبه مشككًا في قوله بعدما التقط تهربه «رؤوف أنتم مبتتكلموش ولا طبيعيين حصل إيه؟»
أجابه بحدة متعمدة ليهرب من المحاصرة «جولتلك مفيش حاجة»
أصرّ يونس بعناد «غزل بتسأل عليك كل يوم وعن صحتك وأكلك ونومك وعن علاجك ووصت طاهر يشوف الدوا بتاعك خلص ولا لا عشان يجيب غيره كل التفاصيل دي تجول إنكم مبتتكلموش»
خبأ ابتسامته مما سمع وتابع برضا «مفيش بسيطة لما أنزل نتراضى»
غمغم رؤوف وهو ينظر للأعلى «مخها تخين حتى معرفاش تداري جولتلها متجولكمش حاجة ولا تبين اللهم صل عالنبي عملت الي يأكد من غير جول »
التقط يونس كلماته وضحك قائلًا «لو مش تخين كانت عرفت إنك حامد من زمان » ثم تابع بحنو «بس هي مش هتجدر متسألش ياحبيبي وتطمن متبجاش غزل»
تنهد وصمت بشوق فاض من نظراته فحمحم يونس قائلًا «كنت عايز أجولك حاجة»
قبل أن يتفوه التقت نظراته بنظرات طاهر الرافضة فتلجلج، انتبه له رؤوف مضيقًا عينيه على وجهه يستفسر «خير»
انضم إليهما طاهر في محاولة لإحباط محاولات يونس بإخباره بما يمتلك من معلومات تخص آيات، تلك المعلومات التي أخبره بها صديق قديم ولا يمتلكون عليها دليلًا مرئيًا مما يجعل طاهر خائفًا من الخوض في عرضها حتى لا يقع في ذنب قصف المحصنات.
صحح طاهر منقذًا الأمر «آيات مش عايزها معدلوش لزمة جعادها اديها الي يكفيها ورجعها بيت أبوها»
ضم رؤوف شفتيه بصمت مُفكرًا قبل أن يصارحهما بنيته «مش هتجعد بس مستني أنزل وأمشيها بنفسي»
تنهد الاثنان بإرتياح بينما شرد هو في أفكاره الخاصة.
في الصباح استعدت آيات للمغادرة، بعدما استأذنت نجاة وأخبرتها أنها ستزور أهلها فوافقت، حين فتحت الباب الخلفي اصطدمت بمن يقف أمامها سألته بضيق منزعجة من وقوفه هكذا كما اللص«أنت مين واجف كده ليه و عايز إيه؟»
شملها بنظرة باردة ثم أجابها بابتسامة ماكرة «أنا أبو غزل»
اتسعت عيناها عليه مرددة «مرتضى»
هز رأسه بتأكيد فقالت «مفيش رجالة هنا»
هز رأسه قائلًا «عارف وأنا مش عايز الرجالة عايز أشوف بنتي»
توفقت نظراتها على ملامحه بصمت مفكرة في طلبه قبل أن تبتسم بخبث قائلة «حاضر هناديلها»
استدارات منادية «غزل يا غزل»
نظر مرتضى خلفها منتظرًا ظهور ابنته التي ما إن جاءت ورأته واقفًا يطالعها بحزم وإصرار حتى شهقت بذعر وأعين متسعة وهي تردد بهلع «بابا»
أدخلته آيات مفسحة له الطريق ليلتقي بها وخرجت مُغلقةً خلفها راضية بما يحدث متمنية لو أخذها معه وغادر ليعود رؤوف وحيدًا حزينًا بائسًا كما كان.
#انتهى
5

