اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم عائشة حسين 



                                    

♡الواحد والثلاثون♡

همست برقة وهي تنظر إليه مبتسمة تتأمله وتراقبه وهو يعمل بجدية وإنهماك «متر» 

أجابها وهو ينظر إليها من خلف عويناته تاركًا الأوراق «ها » 

تثاءبت فابتسم، قالت وجسدها يرتخي «ممكن تحكيلي عن البنوتة الي كان عليها المشكلة»

ترك الأوراق جانبًا وتربع قائلًا بنظرة مشاكسة«جصدك غزل» 

هزت رأسها وخديها يتوردان في خجل مُبهر«أيوة» 

سحب الهاتف ونقر بأنامله فوقه ثم منحه لها قائلًا«دي بنت جميلة جات الدار من مدة وسميتها غزل» 

استمعت إليه بإنصات وهي تحرك الصور على شاشة الهاتف بأناملها، حين صمت حثته «ها وبعدين» 

راقبها مبتسمًا وتابع بتأثر« واحد صاحبي ربنا مكرمهوش بعيال قرر يتبنى، وجه الدار واختارها رفضت أنا بس هو صمم واستسمحني أوافق» 

رفعت رأسها وسألته وهي تتثاءب مرة أخرى ورفضه أثار فضولها «ليه كنت رافض؟» 

أجابها ببساطة وهو يرسل لعينيها مراسيل الهوى «عشان غزل بتاعتي أنا» 

ضمت مراسيل هواه بين جفنيها وأخفضت بصرها هاربة بها فتابع «خدها شهر ونص لما مرته حملت جه وقالي أرجعها لأنها تعبانة ومش هتجدر تهتم بيها» 

رفعت نظراتها متأثرة، دامعة في حزن يأسر الفؤاد وهمست بإشفاق «حرام ليه كدا؟» 

تنهد مكملًا حديثه «معجبنيش الكلام والناس الي اتدخلت جالت ماليش حق البنت صغيرة مش هتحس بالي حصل وإني مكبر الموضوع» 

هتفت بمؤازرة مستنكرة ما حدث «لا ليك كل الحق طبعًا أنت قولتله لا وهو صمم يبقى يكون أد المسئولية وبعدين هي يعني علشان صغيرة يعمل كدا؟» 

ابتسم لتشابه شعورهما قائلًا «غزل محستش بس أنا حسيت، متوجعتش لإنها مش فاهمة بس أنا فاهم واتوجعت لما رجعها تاني» 

نظر إليها مستفسرًا بحنو «فاهمة جصدي؟» 

ابتسمت هامسةً وهي تمنحه الهاتف «فاهمة جدًا على فكرة ودا احساسي لما حكتلي» 

تراقصت النظرات برقة فأشاحت متنهدة تسأل بخجل «وعملت إيه مع صاحبك؟» 

«قاطعته» قالها كأنه بصقة مريرة تخلص منها لأنه ببساطة لا يساوم حين يخص الأمر أحد أطفاله، يطوي الصفحة أو يمزقها. 

التقى حاجبيها في طريق الدهشة وهي تسأله «كان صاحبك أووي؟» 

زفر بهدوء وابتسم هامسًا بإقرار «لاه غزل هي الي حبيبتي» 

ومضت نظراته بتألق وهو يعانق ملامحها بشغف لا يفقده ناحيتها، كلما رآها نحت ملامحها داخله. 

نظراتها ألقت عليه تهويدة العشق فنظرته إليها اللحظة إمضاء بأنه يقصدها هي لا الصغيرة وإن تشابه المعنيان واختلطا. 

تثاءبت بكسل زحف فوق جسدها دون إرادة منها، كلما شبّت قوتها ويقظتها؛  لتغتنم من صحبته والحديث معه.

تثاءبت بإنزعاج واضح وجفنيها يرتخيان بلا إرادة، تأففت وهي تخطف النظرات منه خوفًا أن يرحل أو تُحرم  من البقاء جواره، في عينيها نظرة تعيسة  وحسرة بلغت آفاق النفس. 

ابتسم بإشفاق وحنو لا يزوره الندم بل ينتشي بفعلته التي ستمكنه من البقاء معها أطول فترة ممكنة ليتحدثان. 

كلما طالعته بحسرة منحها وعوده وأمنياتها كهدايا مؤجلة الفتح. 

وضعت رأسها على كتفه وهمست بصوت خرج خاملًا «متر احكيلي حكاية» 

تبدلت نبرته لأخرى خطيرة، وهو يمنح رأسه ارتياحًا فوق رأسها، يحكي لها بصوته الرخيم حكايات من زمن مضى حتى نامت. 

حملها بعد ذلك وصعد بها للأعلى، أسلم جسدها للفِراش المُهيأ لاستقبالها ورحل ليكمل ما انتوى فعله وبدأه، هاتف طاهر لمساعدته فجاء يسأل وهو يراقب لملمة أغراضها في الحقيبة وبعثرة الحجرة «هي غزل فين؟» 

أجابه بنبرة منتصرة شعّت حماسًا وبهجة «طلعت» 

تعجب طاهر من أنه يفعل كل شيء بنفسه، يرتب الملابس ويحشرها في الحقيبة بعجالة. 

راقبه وهو يفرغ الخزانة جيدًا ثم يفككها لألواح، هتف به رؤوف منزعجًا من تسمره «أنا جايبك تتفرج؟ ما تساعدني» 

صارحه طاهر بضحكة قصيرة وهو يتقدم للمساعدة «أنت هتودي العفش فين وبتفككه ليه أصلًا؟» 

أجابه رؤوف بسيطرة وهو يتحرك بنشاط لإنهاء الأمر «متسألش عشان مش هجاوبك» 

غمغم طاهر بتعجب «وأنت متى جاوبتنا» 

أجابه رؤوف بجدية «يبجى تسكت وتساعد وخلاص، مش لازم تفهم» 

توقف طاهر عن المساعدة يُعلن تبنيه لها ومؤازرته مدفوعة الأجر من المشاعر الصادقة «دي أختي بطمن عليها» 

نفذ صبر الآخر، كشرت غيرته عن أنيابها فدفع طاهرالمتبجح بضحكته في غلظة زادت من ضحكاته، غيرته لم تهدأ، ضربه بالوسادة ثم أصدر أمرًا غليظًا «بكرة  تلم هدومك وتروح على مصر مشوفش وشك هِنا» 

زاد طاهر من استفزازه وهو يبتعد ضاحكًا «لاه لما أشوف غزل وأسألها لو وافجت همشي موافجتش أنا جاعد هِنا» 

أصدر رؤوف صيحة معترضة مصحوبة بسبة كعادته، ركض طاهر مُعاندًا رغبة رؤوف بالكلمات «برضو مش ماشي مش مطمن لأختي معاك» 

وقف يلهث ينظر إليه بضجر قبل أن يعود لما يفعل قائلًا «ماشي ساعدني نطلع دا فوق» 

عاد طاهر بحذر، فك أجزاء الفِراش ونقله تباعًا للأعلى.. حتى انتهت المهمة 

ووقف بالأعلى يسأل «فين غزل؟» 

أجابه رؤوف بصرامة «نايمة وأمشي يلا» 

رحل طاهر فتنفس رؤوف بانتصار وابتسم بظفر، أغلق باب السطح بالمفتاح ودفنه في أصيص وردٍ ثم عاد إلى حجرته أعاد تشكيل الفِراش فيها ونصب الخزانة ثم جلس منهكًا بتعب.. بعد قليل نهض مستغفرًا توضأ وقام ليله حتى صلاة الفجر. 

الآن سينام بهدوء وهي بالقرب منه،سيصنع من أنفاسها القريبة عطرًا يستنشقه ، ابتسم قبل أن يغفو مغمغمًا باسمها «هنشوف يا غزالي هتنزلي كيف؟» 

******

هتف يونس وهو يسحب الكرسي جوار فِراش السيدة ويجلس فوقه«إيه يا حاجة جطعتيلي  الخلف» 

نظرت إليه بإمتعاض فقال ضاحكًا «كل دِه عشان موكلتنيش من ورج العنب هراياني ملوخية» أشاحت فضحك متابعًا «ماهو أنتِ لو بتداوي مرضاكي بالصدقة متجعيش من طولك» 

أجابته بتأفف مغتاظ «روح كُل أنت والمسهوكة الخايبة الي أول ما وقعت راحت كلمتك أنا عارفة دكتورة إيه ونيلة إيه دي!» 

قهقه يونس مؤكدًا وهو ينظر لفيروز الواقفة بنفاذ صبر تكاد تحرقه بنظراتها الحانقة «صُح يا حاجة معاكي حق دي خريجة معهد لاسلكي» 

عاد بنظراته للسيدة قائلًا بحنو ونبرة رزينة رائقة تعكس جديته وقلقه الإنساني عليها «المهم أنتِ بخير دلوك؟  حاسة بحاجة» 

ارتخت ملامحها المتصلبة ولانت نظرتها وهي تُجيبه بلطفٍ «كويسة يا ابني كتر خيرك» 

ربت يونس فوق كفها النائم جوارها قائلًا بلطف زائد وحنان غزير «اطمني كلنا هنا ولادك منين ما تحتاجي حاجة أنا موجود» 

أغرورقت عيناها بالدموع شاكرةً له بامتنان «كتر خيرك يا ابني تعبتك معايا» 

ابتسم قائلًا بحنان شغل أماكن الاحتياج بقلبها«مفيش تعب ولا حاجة يا أمي » 

بكت السيدة رغمًا عنها، صرّحت بوجعها وخيبتها في نحيب عالي جعله يهتف مهدئًا بتأثر «اهدي يا أمي» 

أدمعت عينا تلك الواقفة تراقب صنيعه بتأثر مماثل، تتأمله بإنبهار حقيقي وإعجاب واضح وإمتنان بلغ عنان السماء. 

هدأها يونس بلطف ثم قبّل رأسها ونهض قائلًا بحماس أخفى به تأثره«جومي بالسلامة عشان ورانا خطة عايزين ننفذها»

أوصلته كلمات شكرها حتى باب الحجرة فتبعته فيروز محاولة طرد تأثرها بفشل وعجز، قبل أن يفتح باب الشقة ويغادر أوقفته بنبرة مترجية «بشمهندس متروحش لأمي خلاص» 

التفت قاطبًا بتفسير «ليه احنا مش متفجين هروح وأكلمك من هناك تكلميها»

مسحت دموعها المسترسلة بظاهر كفها وأجابت بصراحة صادمة «أنا خايفة عليك يا يونس متروحش خلاص» 

عضت شفتيها مدركة فداحة اعترافها الذي زلزل كيانه اللحظة وأربكه، أغمضت عينيها متهربة من نظراته المتفاجئة وهي تتراجع للخلف متقهقرة، حك يونس ذقنه مُفكرًا قبل أن يحسم الأمر مساويًا كفتي الميزان بالعدل « وأنا هروح عشان تطمني وترتاحي وعشان خايف عليكي من ندمك وزعلك» 

فتحت عينيها ذاهلة، نظرتها ناحيته متحجرة، ضم شفتيه وهز رأسه بتأكيد قبل أن يُلقي سلامه ويرحل قائلًا «متنسيش ميعادنا يا دكتورة» 

أغلق الباب خلفه ورحل باعترافها وبقيت هي باعتراف آخر مماثل.  

****

في الصباح استيقظ على رنين هاتفه، نهض وهبط للأسفل لنقل ما اشتراه من زروع ونقله للأعلى.. 

تسألت جدته ممصمصة وابتسمت والدته لمعرفتها بفعله، ولمعت عينا سماسم بإعجابٍ وتقدير، وحدها آيات لم تفهم ولم تقف عند  فعله تظنه أحيانًا مخبولًا غريب الأطوار فتزهد الاهتمام بالمعرفة وتتكاسل عن مراقبته لتدرك.. 

ساعده طاهر فرحًا فخورًا ينتظر رد فعلها بلهفة، يبارك بسعادة هذا الارتباط ويشيد باهتمام أخيه، يقفز بحماس حتى أنهى ترتيب كل ما أحضره كما تحب ثم جلس ملتقطًا أنفاسه يجاوره رؤوف الذي لا تهدأ نظراته مثل جسده بل تركض في المكان متأملة، مدققة  ليظهر كل شيء كما يريد وتحب هي. 

انسحب طاهر وعاد هو للداخل أخذ حمامًا دافئًا وانتظر بلهفة استيقاظها. 

تثاءبت بكسل قبل أن تترك مخدعها، تأملت ما حولها فشهقت بنعومة متعجبة من وجودها في هذا المكان، فورًا هرولت للخارج.

 استقبلها بابتسامته الجذابة ولهفته المنبثقة من نظراته «صباح الورد يا غزالي» 

استفسرت بحدة وهي تتأمل ملابسها «رؤوف أنا إيه جابني هنا وإزاي؟» 

قال بمزاح وهو يقلّب في الأوراق التي بين أنامله «دعكت الفانوس طلبت من المارد يجيبك فجابك هنا» 

ضربت الأرض هاتفة بغيظ معترضة على مزاحه«رؤوف» 

وضع الأوراق جانبًا وتأملها متابعًا ببرود«جولتله يجيبك أوضتي بس طلع عفريت محترم ومرضيش» 

كبحت ابتسامتها وسألته بغيظ «أنت بتقول إيه؟» 

هرش فروة رأسه قائلًا «بجول اغسلي وشك ويلا نفطر مستنيكي» 

اتجهت ناحية الباب متخذة قرارها في عناد «قولت مش راجعة يا رؤوف خليك لوحدك أنا مش تحت أمرك» 

استرخى في مقعده مقررًا بقسم «تلاته بالله العظيم لتتحبسي تلت أيام هِنا وشك فوشي لغاية ما تتأدبي» 

استدارت متفاجئة بقسمه تستنكر عليه قوله «محدش يجبرني على حاجة » 

مال برأسه متأملًا لها يخبرها ببساطة وابتسامة رائقة «لاه في أنا» 

غادرت للخارج مندفعة بكل غيظ، لكنها وقفت مكانها متأملة للمكان حولها بإنبهار وإعجاب واضح، استدارت مغمغمة باسمه فجاء من خلفها قائلًا «جولتي لما أزرع هرجع اديني زرعت» 

أفلتت ضحكة قصيرة وقالت «دا غش، أنت زرعت امتى وكبر امتى؟» 

أجابها بغرور «ليكي الفعل وخلاص متسأليش عن الباقي» 

قالت بعناد «عيزاك أنت تزرعه مش تشتريه » 

ابتسم هازئًا «تصدقي بالله كنت عارف دِه هيحصل عشان كده نومتك وجبتك» 

فغرت فمها متعجبة تنطق «نومتني؟ أنت إزاي عملت كده بجد وليه كل دا » 

تأفف بغيظ وهي يردد من بين أسنانه «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» 

سخرت منه بفظاظة «تصدق أول مرة تقول حاجة صح أنت ظالمين فعلا» 

اقترب منها ونظراته تدق ناقوس الخطر بعقلها،التهم النظرة الحائرة في عينيها بابتسامته الجذابة وإصراره العتيد،همست بإرتباك حائر «متر»

ضغط شفتيه بغيظ قبل أن يعترض بفظاظة «ليا اسم»

لف ذراعه حول خصرها ممررًا أنامله على ثغرها في توق شديد، ابتلعت ريقها وتنفست بقوة قبل أن تصرخ متوعدة متشبثة بأخر ذرة تماسك أمامه رغم شعورها بالذوبان «رؤوف لو قربتلي هنزل أوضة يونس» 

ابتسم بتسلية وهو ينظر لعينيها «هو أنا مجولتلكيش يا غزالي؟» 

سحبت كفها بسرعة وسألته بتوجس «عملت إيه؟  لمعة عينيك دي وراها مصيبة أنا عارفة» 

قهقه قائلًا وهو يمرر إبهامه على وجهها برقة ونعومة أخجلتها «بتفهميني شوية بشوية، ودي حاجة متعودتش عليها» 

إلتقطت أنفاسها وهمست بإرتعاش «رؤوف إبعد لو سمحت بدل ما هنزل» 

أجابها وهو يميل ملثمًا خدها بعاطفة«غيرت جفل الأوضة بتاعة يونس وجبت السرير والدولاب هِنا» 

ابتلعت ريقها بتوتر وهي تتنفس بإنفعال «ليه بقا؟» 

حرر خصلاتها ببساطة راميًا حجابها بعيدًا وهو يخبرها بجدية «لسببين يا غزال أولهم إن محدش يرجع ينام مطرحك تاني ولا ينفع وتانيهم إني عارفك أي حاجة هتحصل هتجري عليها» 

تشتت تفكيرها وتاهت لا تعرف على أي مشاعر تركز وتقبض بين خلجات نفسها، طفا الخوف فتوسلته «رؤوف بليز الحجاب» 

تخلل خصلاتها بأنامله هامسًا برقة «جبلت الدوا من يدك والتزمت بالوعد ليه دلوك خايفة» 

كرمشت ملامحها وارتجفت بحرج شديد وخوف أرهق دقاتها «مش عارفة بس بليز مش دلوقت» 

ضمها لصدره واضعًا كفه فوق خدها المصاب محركًا له بحنان وفير وهو يخبرها «لاه دِه وجت تنفيذ الوعود كلها يا غزالي وكتابة وعود جديدة»

تفاقم خوفها وخرج من قمقمه كمارد،منحها القوة والعزيمة لتهرب 

فدفعته بعيدًا عنها بعصبية ونظراتها تمرر له انفعال باهت حزين،صدرها يعلو ويهبط وهي تنظر إليه بنظرة منقسمة المشاعر بين ما تريد ولا تريد.

صمت لا يمرر لها دواخله ، يلتقط أوجاعها بين ذراعيه  مهدهدًا بابتسامة حنون دافئة. 

تحولت عصبيتها لتردد جعلها تتململ في وقفتها كلما شذت نغمات صبره وخرج منها العتاب الرقيق.. 

زمجرت لا تعرف له أم لأفكارها وبعدها ركضت للحجرة مختبئة. 

عاد للسور خلفه بصمت وقف مستندًا عليه بمرفقيه يدندن بشجن، بعد قليل تحرك ناحية حجرتها وقرع مناديًا 

«غزل اطلعي كُلي» 

أجابته بعصبية امتهنتها للهرب «لا مش عايزة؟» 

سخر منها بغيظ «هتصومي يعني؟» 

لم ترد، احتفظت بينهما بالصمت البارد 

فعاد لكرسيه الهزاز بصبر منتظرًا خروجها. 

♡بعد مرور ساعتين ♡ 

خرجت على صراخه الهستيري بصديقه «متدخّلش مالكش دعوة أنا مش عايز أعرفه تاني خلصت» 

«مش مكبر الموضوع ولو أنت شايف كدا عادي برضو» 

«إلا ولادي إلا غزل يا زين» 

استدار فرآها، هدأت عاصفته وبقيّ غبار حزنه  عالقًا به، فتحت أمام نظراته خزائنها الممتلئة، خيرته بين كنوزها فاختار ما يريده وحسب الرضا. 

وهي تمنحه له دون حساب 

النظر إليها رضا وأن تحوم حوله بهذا التعبير رضا، أن تقف متشبعة بعشقها أمامه مؤازرة له تريد الاطمئنان عليه كل الرضا. 

طوال عمره كان يُمنح الاهتمام ويمنحه، يعطي الحب ولا يهتم إن أخذه لكن معها يمنح وينتظر عطائها بلهفة جائع. 

«هكلمك بعدين» قالها بعدما هدأ وحشه الثائر، تلك الحورية تملك سطوة لا يمتلكها أحد عليه، نظرتها تغزوه وتبحر داخله رغم عواصفه. 

رمى هاتفه بإهمال وجلس مستغفرًا يلملم شتاته ويحتضن وجهه بكفيه.. نزعت ما في صدرها من رفض وجلست جواره بتلقائية تبعد كفيه عن وجهه هامسةً «حصل إيه؟» 

لم تفلت كفيه بل تركتهما بين أناملها كما تسمرت نظراتها فوق ملامحه بشعور لا يُقاوم.. ابتسم لبادرتها وعفويتها في التعامل معه أحيانًا، صارحها ببساطة وإن لم يعتاد الإجابة «صاحبي بيكلم الناس إن الي عملته غلط وإنه مظلوم وماليش الحق فرد فعلي» 

استفسرت بنظرة مرتجفة  وعقلها يخمن «عملت إيه يا رؤوف» 

حوريته باتت تفهمه، لا تكترث بالمعنى الظاهر بل تفتش عما خلفه 

ببساطة وبراءة قال «ضربته» 

رجلها يعترف كطفل مشاغب، ببساطة كأن ما أقدم عليه أراحه ولن يهتم سوى بما ناله من انتشاء وإن عُوقب . 

قهقهت  برقة بدت لقلبه الثائر مزعجة، قهقهة في عرفه  مجرد رشفة بسيطة من خمرها لا تريحه... أشاح يطلق تأففه فاعتذرت بلطف «آسفة متزعلش» 

لو عرفت سبب انزعاجه لهربت لا اعتذرت 

أخبرته برأيها وإعجابها بفعلته ورد فعلها عكس الباقين «المهم كسرت ايده ولا لا؟» 

راهن على إجابتها وكسب رهانه فلمعت عيناه، حرك رأسه مغمغمًا بإستياء مَن لم يفعل «لا» 

ضمت شفتيها مُعلنة رفضها «خسارة يستحقها» 

بدت شهية تدعو للالتهام والتذوق،لم يعارضه أحد يومًا ولم يوافقه الرأي ويثني على فعلته سواها. 

تركت كفيه وابتعدت ناظرة لحجرته المفتوحة وهي تخبره بغيظ «يارب تكون مرتاح فسريري يا متر؟» 

شاكسها بخبث «زي ما أنتِ ارتاحتي لما نمتي على مرتبتي» 

تذكرت الحدث فارتجف جسدها توردت بخجل لذيذ قبل أن تنهض مبددة شاعرية اللحظة تكتم صوت معزوفة قلبها «أعملك شاي؟» 

تنهد قائلًا وهو يسترخي ململماً  كلها في نظرة عابثة شقية «أفطري الأول يا غزالي» 

انسحبت من أمامه مؤشر توترها يرتفع دخلت المطبخ ووقفت حائرة فجاء من خلفها قائلًا «البليلة  على النار سخنيها على ما أعمل تليفون» 

سألته وهي تضع الطنجرة فوق الموقد «طنط بعتتها؟» 

أجابها ببساطة قبل أن يترك المطبخ «أنا الي عملتها عشانك» 

أنهت طعامها بسرعة وخرجت له بكوب الشاي، دخل الشقة وأغلق خلفه قائلًا «تسلم يدك يا غزالي» 

أخذه منها وجلس يرتشفه ببطء،همست باسمه في رقة «رؤوف» 

غمغم مستجيرًا من رقتها وتأثيرها عليه   «استر يارب» 

تحركت حتى جاورته وقالت «ممكن أطلب طلب» 

هز رأسه مؤكدًا بتوجس لا يفرط في أمل ولا يقيد قلق «أأمري طبعًا يا سلام» 

عضت شفتيها مفكرة بتوتر زادها جمالًا جلب الابتسامة لفمه ثم تابعت برقة مُهلكة «مينفعش اتبنى غزل الصغيرة؟» 

تذكر موقف آيات مُقارنًا في عقله واضعًا الموازين يزن الأفعال بالقسط وهو يحك أسفل ذقنه، ضيق حدقتيه على وجهها المتورد بخجل ثم قال بمكر كان سمة تميزه وأكثر منه في التعامل معها تلك الفترة «أممم هفكر يا غزل وأدرس الموضوع» 

عبست بغير رضا لاحق فرحتها بالفكرة قبل أن تتهف بحنق «تدرس إيه هي قضية يا متر» 

ضيق نظراته والابتسامة تركض فوق ملامحه «الموضوع مش سهل زي ما فاكرة» 

اقتربت متوددة تقنعه بلطف ورقة ونبرة احتكرت كل الدلال «لا سهل يا رؤوف فكر علشان خاطري أنا حبيتها أووي» 

تخلى عن غموضه وهمس متأثرًا بتأفف وهو يفرك فروة رأسه «والله وأنا حبيتها» 

صفت نظراتها التي تلمع بحماس منقطع النظير وأقتربت أكثر لاغية المسافات من فرط بهجتها «أيوة بليز يا متر اتشجع وخليني اتبناها» 

استثمر حماسها لصالحه، برقت أفكاره مكرًا ورعدت استغلالًا، تبنى البراءة قائلًا «طيب على ما نفكر ونشوف الإجراءات نجهزلها» 

فكرت وحماسها لا تنطفيء شعلته «إزاي يا متر» 

هرش عنقه وحمحم موضحًا بنظرة تقطر خبث«يعني بجول نغير الأوضة ونشتري واحدة بسرير كبير و دولاب  أكبر» لاحظ صمتها وتوجسها فتابع غاسلًا يديه من سوء نيتها يعلن مصداقيته «أنا متحمس جدًا للموضوع والبت واخده جلبي» 

طردت شكوكها وهشتها بعصا سلامة النفس والثقة «تمام بس ما نجيبلها سرير لوحدها» 

تحمس وهو يكتم ضحكته «طيب والدولاب.. بعدين متحبيش إنك تاخديها فحضنك؟» 

تنهد قائلًا بلوعة أحرقت مراكب صموده الراسية فوق شواطىء الصبر «أنا عايز والله جوي» 

شغفتها لهجته فضحكت مُبدية إعجابها بها «لهجتك تجنن» ثم ركزت متسائلة «وأنت مالك هي هتبات معايا؟» 

هز رأسه مؤكدًا ببراءة كاذبة «أنا بفترض يا هندسة» 

فكرت قليلًا ثم أعلنت ببهجة «تمام وجهة نظر برضو أنا أحب إنها تكون جنبي نجيب أوضة» 

خشى إفلات موافقتها من بين أنامله فأخرج هاتفه بسرعة  ، نقر فوقه قليلًا ثم قال وهو يمنحها الهاتف «خدي اختاري الأوضة يلا» 

رفعت حاجبها متعجبة من سرعته «إيه دا أنت إزاي وصلت بالسرعة دي؟» 

راوغ  قائلًا هاربًا من سؤالها «مش بسرعة دي صفحة حد أعرفه وكان منزل صور عادي لو مش عايزة خلاص» 

تناولت الهاتف خائفة من تراجعه «لا هات مش مهم» 

أضاءت عيناه بنور سحرها لوهلة،تجمعت نجوم السماء اللحظة في حدقتيه فانبهرت وأطالت التدقيق فيه فابتسم قائلا «يلا شوفي» 

هزت رأسها تطرد تأثيره وتهذب انبهارها المفرط، قلّبت في الصور وهو يراقب بابتسامة انتصار مُهلكة وهو يدندن. 

*****

لا يمل من مراقبتها بل يفعلها باستمتاع، سعيد بتلك العاصفة التي حدثت في بيتها، سعيد بتلك النظرة الحائرة في عينيها والضياع الذي يُسكره، تأتي لأمها كما تفعل دائمًا وإن كان يزعجه استعبادها من قِبَلِ والدها، لو مكان زوجها ما تركها تُهان، تعاني الويلات وتنغمس في الشقاء. 

تلك الجميلة لا تحتاج سوى من يقدر قيمتها... 

مازلت النظرات المسروقة  من جسدها بطلة أحلامه كل ليلة، تنهد بصمت وعاد لأريكته مُفكرًا، طال الصبر وهو رجل ملول لا يفقد الشغف لكنه يفقد الهدوء، الصغيرة السمراء أصبحت تمثالًا منحوت من غواية، ليته ما تركها ورحل، ليته تشبث بثرثرة والدته أن الجميلة لعلاء.. نفث دخان تبغه وتمدد يخيط أثواب الأماني، لن يغادر حتى ينال حَلوته بعدها سيأخذها ويرحل، سيترك صغيرها لجده مع الأموال. 

ثرثر والدها جوارها باستياء، فصمتت مستمعة بصبر،تُسقط الكثير من كلماته وتدهسها تحت أقدامها وهي تواصل العمل، أحيانًا يطغي غيظها فتمنحه بسمة هادئة مستفزة ومستخفة فيلعق كلماته التي بصقها لاعنًا لها. 

جاءها صغيرها يركض قائلًا «شوفت عم رؤوف في الجامع بيسلم عليكي وجالي خلينا نشوفك» 

اتسعت ابتسامتها على وجه الصغير السعيد، أرسلت امتنانها لرؤوف في دعوة صادقة من قلبها وحملت صغيرها الذي تململ رافضًا «نزليني أبوي بره بيجولك يلا» 

وضعته أرضًا ثم سألت «مدخلش ليه؟» 

أجابها الصغير وهو يعود إليه «مش عايز» 

تحركت تأخد أغراضها فصاح والدها بتجهم «شوفيلك حل مفيش شغل ومرمطة مع الناس» 

نظرت إليه نظرة متشبعة بالألم ثم ابتسمت بغرابة جعلت فكه يتدلى في بلاهة لانفعالها غير المقروء «ماشي يا أبوي» 

قالتها ولم تقصد جديتها، هادنته باستخفاف ورحلت وهي تفكر فيما طلبه رؤوف من فطائر فليغرق والدها في ثرثرته ويلف حبال الرفض حول عنقه هو لا هي. 

التقت  نظراتها بنظرات زوجها في حديث شوقٍ صامت وبعدها وقفت جواره، نظر لكفه متمنيًا لو ضم كفها وسار بها دون عكازين يقفان حائلًا بين رغباتهما وأحلامهما وأبسط حقوقهما، أشاحت مواصلة السير تحبس دموعها داخلها، وصلوا المنزل فتفرقوا.. 

لاذت بمطبخها كما تفعل دائمًا ورحل صغيرها لحجرته وانعزل هو بحجرتهما الباردة. 

تأملت جدران مطبخها الواسع الذي نقلته للأسفل بعد تعبه، نظرت لحوائطه كأنها شاشات عرضٍ كبيرة تعرض مشاهد متفرقة من حياتهما و مواقفهما سويًا ومشاكستهما، واستمعت لضحكاتهما وحكاياتهما، ثم جلست متنهدة قبل أن ترفع كميها وتبدأ العمل.. 

بعد قليل جاء من خلفها قائلًا «كفاية وريحي ضهرك شوية»

أجابته باقتضاب وهي تمنحه التجاهل كوجبة  فقيرة القيمة مسممة  «معايا شغل» 

واجهها بعتب «الشغل مش هيخلص بس أنا همشي» 

تركت ما بيدها صامتة متوجعة فتوجه ناحيتها قائلًا بعتب رقيق  «ممكن تجعدي معاي شوية وتبطلي تهربي للشغل؟» 

اهتز جسدها ببكاء مكتوم فتحرك وضمها مواسيًا «بُعدي مش بمزاجي يا هدى ولا عايزه من غيرك دا غصب عني زي كل حاجة» 

تحررت من الكتمان وبكت، فأدار وجهها ناحيته قائلًا «كان عندنا أحلام كتير محققناش منها حاجة» 

رفعت وجهها الغارق في الدموع قائلة بحدة «بس لسه مع بعض وده كفاية» 

ابتسم قائلًا بشجن «أيوة.. بس بمشي جنبك وأنا مش عارف أمسك يدك وبقف أهو ومش عارف أسيب العكاز وأحضن ملامحك بيدي ولا جادر نطلع شجتنا فوج اتحبسنا فهم كبير» 

قالت بيقين «علمتني إن جدر ربنا كله خير، أنت شوفت الحبس وأنا شوفتك معاي جواه، أنت مش عارف تمسك يدي بس مشوفتش جلبي الي متعلق فيك مش عارف تحضن ملامحي بس عينيك حضاني كلي...» 

لثم جبينها بقبلة تقديرية مُحبة قائلًا «وجات الفرصة عشان كل دِه يتصلح يا هدى مينفعش أسيبها» 

لانت ملامحها وبدا عليها الإقناع قال بنظرة متململة على ملامحها «أنا حجزت ومسافر بالليل» 

جحظت عيناها على وجهه غير مصدقة وهي تبتعد عنه مكررة باستنكار «ماشي بالليل؟ أنت حجزت » 

بارتباك هز رأسه مؤكدًا فصاحت بغضب «وليه بتجولي؟ ما كنت اتسحبت ومشيت على كده» 

حاول الحديث فخانه المنطق وتبعثرت الحُجة، بغضب لم تستطع تحجيمه بل حررته «حتى دي اجباري؟ حتى دي عملتها من غير ما تجولي يا مؤمن طب ليه؟  ايه عذرك المرة دي؟ ماشي يا مؤمن حتى السلام مش هنولهولك» 

قالتها بتحدي وعناد قبل أن تنسحب من حوله، ارتدت عباءتها وخمارها من جديد وخرجت ومنادية صغيرها «عبدالله» 

ناداها من خلفها متوسلًا يعرف حجم خطئه  ويقدر حزنها فعلاقتهما أبدًا لم تكن عادية «يا هدى رايحة  فين تعالي نتكلم» 

حبست دموعها قائلة وهي تمسك بيد صغيرها «امشي يا مؤمن ربنا يسلم طريجك» 

اندفعت قبل أن يسيطر عليها قلبها وتركض ضامة له غير تاركة أو متخلية، رحلت بسرعة وجلس هو بصمت واستسلام مقهور، رن هاتفه فأخرجه من جيب بنطاله وأجاب أخته التي قلقت من حزنه ونبرته فسألته عن السبب، لم يجد سوى البوح لها بعجز ومشاركتها ما حدث ووجعه.. كان تائهًا وحيدًا في مأزرق  لا يعرف كيف انقلبت حياتهما فجأة وما هذه الحال؟ 

**

اقتربت منادية بلطف «يا متر؟» 

حرك كرسيه الهزاز في ملل ورتابة قائلًا وهو يبتلعها كلها في نظرة متورطة بالعشق «ليا اسم» 

تأففت بضجر قبل أن تُعدّل من بين أسنانها بغيظ «يا رؤوف» 

خبأ ابتسامته واعتدل مثبًتا كرسيه يطلب منها بجدية  «اسمي ليه دلع عادي» 

زفرت بصوت مسموع وهي تهتف بنفاذ صبر من بين أسنانها «اللهم طولك يا روح» 

عاد لاسترخائه من جديد بصمت فجلست بالقرب منه قائلة «طيب يا أوفة أنا عايزة أنزل لطنط نجاة عشان وحشتني وكما أطمن عليها» 

أوقف اهتزاز كرسيه بقدمه الثابتة أرضًا ومال بجذعه ناظرًا إليها يهمس بعاطفة «دي أحلى أوفة والله سمعتها» 

ابتسمت قائلة وهي تسند ذقنها بقبضتها المضمومة «أممم مين بقا بيقولك أوفة» 

عاد بظهره مسترخيًا يخبرها بمكر «كتير يا هندسة» 

انتفضت غاضبة، ذمت شفتيها وهتفت بغيظ «عايزة أنزل لطنط لو سمحت أنا زهقت» من جيب بنطاله أخرج المفتاح ومدّ كفه به في بساطة «خدي ومتتأخريش أنا كدا كدا طالع معاي مشوار ضروري» 

ترددت كثيرًا قبل أن تأخذه مستفسرة «هتتأخر بره؟»

أجابها بحاجبين ملتصقين «مش عارف» 

خرجت من الشقة متنهدة تهمس بهيام وهي تحرك سلسلة المفاتيح بين أناملها «بحبك يا متر والله»

****

قرع الصغير الباب مُناديًا بلهاث «عم رؤوف» نبرته حملت استنجادًا رقيقًا، تأخر الرد فنادى باسمها «غزل» 

ثم شبّك الاسمين وصاح بصوت مرتجف من التعب والبؤس «عم رؤوف، غزل» 

تأخر الرد كثيرًا فجلس فوق عتبة الدرج باكيًا ببؤس يفتت الفؤاد حتى أراح رأسه على الحائط ونام. 

على هامش حياة والديه كان هو، لا تكترث به أمه ولا يلتفت إليه أبوه، سحبته خلفها لمنزل خالته التي يحب المجيء إليها من أجل عمه رؤوف وغزل قطعة السكر التي تُحلي مرار يومٍ تحتل فيه تكشيرة آيات الساعات، عبوس، صراخ، توبيخ وتهديد يجعله إما يجلس أمام الشقة يتسلى بترتيب الأحذية أو يتزحلق فوق سور الدرج الناعم... أو ينتشله رؤوف.. اليوم لا يجدهما في محيطه وأمه واهنة تبكي دائمًا بعجز لا يفهمه ولا يعيه، ارتمت فوق الأريكة ضائعة وتركته.. يبحث عن أصدقائه. 

سألتها آيات بنظرة باردة «في إيه يابت مالك؟» 

أجابتها بنظرة فقدت نضارتها «مؤمن هيسافر»  نقرت فوق حاسوبها  مؤيدة قراره «كويس يبجى أفضل» 

بضياع أجابتها ودموعها تنسكب بلا رادع من صمود «مش عيزاه يبعد» 

نالت من آيات نظرة ساخرة مستخفة فصمتت ببؤس، آيات لن تفهمها ولو تحدثت ألف عام... لم تأت اليوم لمواساة منها ستبخل بها عليها إنما جاءت هربًا من كل شيء، ليس لها من مكانٍ آخر وليس لها أحدٍ سواها.. فكرت كثيرًا في أن تستشير رؤوف ، تطلعه على الأمر  فليقنعها أو يقنعه، لكنها مترددة لم تفعلها يومًا ولم تفشي يومًا سر منزلها لأحد.. 

لكنها تحتاج للحديث، للمناقشة ولسكب الأوجاع.. تدور متخبطة ولأول مرة تكتشف أنها دونه وحيدة حد الهلاك حتى أنها لا تجد من يسمعها أو يفهمها. 

أمس هاتفتها أخته صرخت بوجهها ، اتهمتها أنها ترغب في تركه على حاله لتبقى صاحبة الأمر والنهي، تريده دائمًا في حاجتها 

سبت أخته عنادها، أفكارها وطحنت خاطرها والمودة بينهما برحايا الكراهية ثم نثرتها لرياح الوجع.  

استيقظ الصغير فرك عينيه بقبضتيه وأعتلى سور الدرج في بهجة، يصنع متعته الخاصة وحده ودون مساعدة، ضحك وهو ينزلق بسرعة كبيرة لا تخيفه  قدر ما تُبهجه

رأى غزل تصعد فمال مناديًا بضحكة مستمتعة، رفعت رأسها وتسمرت في صدمة قبل أن تركض محذرة «خد بالك يا حبيبي»

 لهثت على نصف صرخة استغاثة مروعة منه أنبأتها بالكارثة.  

ركضت درجتين وبعدها وقفت على أوسطهما ومدّت ذراعها لتمسك بملابسه مانعةً إياه من السقوط، سحبته للداخل بقوة فسقط الاثنان... ركض رؤوف للأعلى بعدما وصلته الصرخات وخرجت هدى من شقة أختها فزعة تنادي باسم صغيرها.. 

وصل أولا فرآها واقعة تضم الصغير لاهثة لا تعرف هل نجى أم ماذا حدث بالفعل. 

سحب رؤوف الصغير لأحضانه مهدئًا من روعه يتأكد من سلامته ويعرف سبب صمته ومصدر الدماء برأسه ثم ضم زوجته المصدومة بذراعه الآخر لأحضانه وهو يحمد الله.. 

تأوهت بصوتٍ عالٍ تحول فجأة لصرخة مكتومة وهمس مستنجد «رؤوف كتفي» 

سألت هدى بذعر  وهي تأخذ الصغير منه وتمسح عن وجهه الدماء متسائلة بفزع « عبدالله جوم حصل إيه؟» 

كتمت غزل صرختها في صدره فضمها ماسحًا على رأسها بحنو، لكنها لم تعد تحتمل لا الألم ولا وقع الصدمة ارتخى جسدها بين ذراعيه وانساب للأسفل فأدرك أنها فقدت الوعي كما الصغير. 

بالأعلى كانت آيات تعود لشقتها بملامح ساخرة من تلك الدراما التي تثير اشمئزازها، التقطت هاتف هدى الذي كان يرن باسم زوجها، ابتسمت بتسلية قبل أن تُجيبة بحدة متعمدة «أيوة يا مؤمن» 

-هدى عندك يا آيات؟ 

دارت في الشقة مفكرة قبل أن تتنهد باستسلام كاذب قائلة «أيوة عندي مكانتش عيزاك تعرف إنها عندي» 

-اديها التليفون أكلمها 

ادعت التأثر قائلة «تعبانة ونايمة وجالتلي لو رنيت أجولك سيبها فحالها وسافر زي ما عايز تسافر» 

-طيب أنا جي أكلمها 

انتهجت العصبية والتحذير في لهجتها «بجولك إيه متجيش مش عايزة كلام هنا وحكاوي أنت عارف الجماعة هنا مبيحبوش المشاكل وهدى متعصبة ومتضايجة مضمنش تعمل إيه» 

-طيب حاولي تصحيها وتديها التليفون 

كتمت تأففها وقالت بهدوء «ماشي دجيجة» 

ركنت الهاتف جوارها كاتمة ضحكاتها وبعدها أعادته لأذنها زافرة بيأسٍ «معلش يا مؤمن مش راضية ومصممة هكلمها تاني وأقولك» 

أنهى الاتصال بإحباطٍ لا يصدق قسوة زوجته ولا ما آل إليه  الحال. 

قهقهت  وهي تتجه ناحية الشرفة مراقبة، زوجها يضم غزل بذراعه في حماية حتى أوصلها السيارة وبعدها حمل الصغير ضامًا له وادخله بجوار هدى.. 

بالطبع لن يترك زوجته تعاني ألمًا سيأخذها المشفى ليطمئن عليها، راقبت السيارة حتى اختفت فعادت للداخل بوجوم، ترى لو تزوجت من تُحب كيف كانت ستصبح حياتها؟ 

كثيرًا ما حقدت على رضا هدى ومحبتها لزوجها رغم المعاناة، تمنت أن تنتهي تلك العلاقة التي تشعرها بمدى نقصها وتعاستها؟ محبتها لزوجها وتواصلهما الروحي يثير حسدها وغيرتها المشتهية لتدميرها.. 

حُرمت هي من الحب فليحرم الجميع مثلها، تُرى لو فتحت قلبها لزوجها أكانت ستحب؟  ستعيش معه ما أفتقدته؟  سترى منه ما يُريه لغزل... 

غزل المشوهة التي أحبها الجميع رغم العداوة، أصبح لها في المنزل مكانة خاصة عند الجميع عدا جدته... حتى سماسم تبدلت معاها... ترى هيامها برؤوف واضحًا تمنحه عبر نظراتها عاطفة لا حدود لها. 

متيمة كل الوقت، تتطلع إليه بإنبهار ساحر وكأنه خارقًا، لهفتها تشتعل حتى وهي جواره.. ابتسمت ساخرة فماذا رأت غزل في رؤوف جعلها تحبه هكذا؟ 

ربما لأنها مشوهة وتلك هي فرصتها الوحيدة، أو لأنها مثل هدى ترضى بالفتات وأنصاف الرجال.

رمت حجابها فوق خصلاتها بعشوائية قبل أن تستعد لحصتها، فاجئها بظهوره جوار فتاته  فارتبكت، اقترب كثيرًا معدلًا من وضع الهاتف فأخفضت بصرها بخجل.. 

ابتسم وهو يتابع ضبط وضعية الجهاز «ازيك يا مس آيات» 

رفعت  نظراتها مُرحبة بخجل «أهلًا بحضرتك» 

أطال النظر فيها مبتسمًا قبل أن يبتعد موضحًا «معلش بدلنا الجهاز فبظبطه  لرونا» 

ابتسمت بتفهم وخديها يتألقان بحمرة شهية جعلته يتأملها مرة أخرى بتدقيق نصف خصلاتها الناعمة المنسابة على صدغيها«فين رونا» 

حمحم قائلًا بإرتباك  «ثواني» 

شعرت بالحرج والخجل فأغلقت الكاميرا قائلة «تمام لما تيجي وتظبطوا الجهاز رنلي لو سمحت» 

أنهت الاتصال بسرعة وصمتت تأخذ أنفاسٍ وتطرد أخرى، ثبتت الحجاب فوق رأسها جيدًا نادمة على تفريطها واستهانتها بالأمر، الفتاة أخبرتها أنه دائم العمل والإنشغال ولا يتواجد معها إلا قليلًا... وأن دخوله حجرتها وتواجده نادرًا لذلك تتعامل بحرية لكنها اليوم تفاجئت به وارتبكت من حضوره الطاغي... رفعت هاتفها متفاجئة بأسف «آسف جدًا يا مس آيات لو ضايقتك» 

أجابته بقوة «متضايقتش عادي» 

تنهد كاتبًا متذكرًا حرجها وخجلها «بس أنا حسيت إن ظهوري ضايقك» 

قالت بضيق «كنت فاكرة رونا لوحدها كالعادة» 

كتب مازحًا «تمام بعتذر لتواجدي بس غصب عني أجازة » 

ضحكت وهي تُجيبه بجدية «تمام مفيش مشكلة» 

شكرها بخبث «شكرًا على الأجازة الحلوة دي يا ميس» 

أخذت عدة أنفاس وصمتت تعيد القراءة وتكوّن داخلها المعنى، تراجعت في صبرٍ وكبرياء مما جعله يكتب مرة أخرى «أنا همشي ممكن بعد إذنك تبدأي الحصة علشان لو لغيتيها رونا هتزعل» 

أجابته بجدية شديدة «تمام خليها هي ترن لو سمحت» 

رحل وترك صغيرته، أرسل صورة الشاشة التي التقطها لها لصديقه مدونًا تحتها استفسار «بقولك مش عارف ليه حاسس إني أعرفها أو شوفتها» 

كتب صديقه «يا ابن اللاعيبة جايبها منين دي؟» 

كتب فورًا «مدرسة رونا بتاعة الأون لاين» 

أعاد له صديقه عقله مكانه قائلًا «بقا يا جاحد نسيت آيات مرات رؤوف الحفناوي وصلتلها إزاي دي؟» 

أجاب الآخر سعيدًا «حظي الحلو  ما أنت عارف رؤوف دا حبيبي »

أرسل له الآخر قهقهاته قائلًا «هنتسلى شكلنا والله»  

تنهد الآخر برضا موافقًا له الرأي «جدًا» 

**

#انتهى


1



الثاني والثلاثون من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close