رواية عزف السواقي الفصل الثلاثون 30 بقلم عائشة حسين
♡الثلاثون ♡
+
تحيرت في أمرها ودموعها تنسكب فوق صفحة وجهه، تتركه أرضًا وحيدًا لتأتي بطاهر أم تتقوى بخوفها عليه وتساعده حتى يصل للفِراش، مسحت دموعها ثم وضعت رأسه على الأرض برفق ٍ معتذرة له ونهضت متعثرة في الخوف، جذبت هاتفها واستنجدت بطاهر مقدمة شهقاتها إثباتًا وشاهد حقٍ على ما تقول.
بعد مرور وقتٍ كان طاهر يجلس جواره، يضمد ويكتم نزيف جروحه وهو يهمس باسمه في جزع بينما يحرك الآخر رأسه متأوهًا «آه»
سأله طاهر بقلق «حصل إيه؟»
تشبث لسانه بأحرفها كطوق نجاة «غزل» تمزقت بين الابتسام والبكاء، طردت اسمه من قلبها العليل لشفتيها التي حملته بتفاني وهدهدته في رقةٍ ووداعة «رؤوف»
ابتسم طاهر مباركًا هذا الارتباط الروحي وتواصل روحيهما ثم سألها «مش عارف هجدر أجبله دكتور ولا لاه؟ ولا هلاجي فين دلوك؟»
سألته ونظراتها تفترش ملامح الآخر مستوطنه ومتملكة في أرضه «عندكم وحدة صحية؟»
هز طاهر رأسه مُفكرًا فقالت بلهفة «روح جيبه النهار طلع خلاص»
نهض طاهر من فوره ورحل راكضًا تاركًا لها ترعاه بعناية وتباشره باهتمام فتح عينيه مناديًا لها «غزل»
فسارت على ركبتيها حتى وصلت لوجهه وهمست أمامه بحنوٍ «أنا هنا»
أغمض عينيه من جديد وهو يغمغم بتوسل «متبعديش»
أمسكت بكفه في حنوٍ وضمته لصدرها واعدة له «حاضر مش هبعد»
رفعت كفها ومسحت مقدمة رأسه بحنان وهي تردد آياتٍ من الذكر الحكيم وبعض الأدعية، تركت كفه جواره فمال على جنبه متأوهًا، ابتعدت قليلًا تتأمله بصمتٍ ودموع لا تتوقف كما لسانها الذي يدعو بتضرع أن يحفظه وينجيه.
بعد قليل اقتربت تطهر بعض الجروح هامسةً «قلبي مش ناقص يتوجع عليك كمان»
تركت ما بيدها جانبًا واقتربت ملثمةً جبهته وهي تهمس معترفة ً بغرامها مُعلنةً حبها «أنا بحبك معرفش امتى وإزاي؟ بس بحبك، كل حاجة الأول كانت سهلة رغم الألم بس دلوقت بقت صعبة أووي يا رؤوف مش هقدر أبعد ولا هعرف أقرّب، كل ما أحبك أووي خوفي يزيد ويكبر ويخنقني»
توقفت كلماتها عن الهرب من بين جدران قلبها حين طرق عدنان الباب مستئذنًا، مسحت دموعها وابتعدت مستقبلة له «اتفضل يا عمو»
اندفع يتفحصه محوقلًا، مسح على رأسه متحسرًا «شقي إنت يا ولدي فاتح مية باب على نفسك ومعارفش أخرتها معاك»
لأول مرة ترى عدنان متأثرًا، لأول مرة يفضي دون حذر ويتكلم بجدية موجعة، جلس جوارها منتظرًا قدوم طاهر فابتسمت رابتة على كفه تطمئنه «متخافش يا عمو هيبقى بخير، رؤوف قوي»
تنهد قائلًا بألم «عارفه جوي وهيفضل يتكى على جوته دي لغاية ما يقع»
همست مستنكرة وهي تمرر نظراتها على ملامحه «بعد الشر عنه يا عمو»
تداركت لهفتها عليه فطأطأت رأسها بخجل من اندفاعها، تجاهل عدنان وسند جبهته بكفه منتظرًا قدوم الطبيب ليطمئنهم.
بعد قليل جاء الطبيب وفحصه جيدًا أعطاهم التعليمات وما عليهم تتبعه من مؤشرات وفعله بعدما حقنه بعدة إبر ودعه طاهر شاكرًا وهبط عندنان للأسفل.
بينما عادت هي إليه من جديد، دثرته جيدًا ثم جلست رهن إشارة منه واستعداد كامل لرعايته.. عاد طاهر وجاورها في جلستها مطمئنًا لها «هيبقى بخير»
سألته غزل معرية دواخله «بتطمن نفسك ولا بتطمني»
أجابها بصدق « احنا الاتنين يا غزل»
وضعت رأسها على كتف طاهر متثائبة ونظراتها لا تترك الأخر، ظلت فوقه حتى نفذ مخزونها من الصمود فغلبها النُعاس.
فتح عينيه ببطء واعتدل حامدًا الله يتتبع موضع الألم بأنامله، أدار رأسه فوجدهما نائمين جواره، غمغم بحنق «نهار أبوكم زي جلبه الأسود»
هتف بحدة مُزجت بالغيظ الشديد «طاهر»
فتحت عينيها على ندائه ورفعت رأسها هاتفةً بلهفة ركضت من نظراتها سبقت حروف اسمه التي نطقت بها «رؤوف»
أشاح من تأثير نبرتها عليه وصمت فأيقظت أخيها برفق «طاهر يا حبيبي قوم رؤوف فاق»
غمغم رؤوف بغيظ «يسد بيت أبوكي»
استيقظ طاهر مندفعًا تجاهه بلهفة «أنت كويس يا أخوى»
ابتسم رؤوف رغمًا عنه مغلوبًا بحبه لطاهر، نظر إليه مطمئنًا والغيظ يترك الصدر متبخرًا «بخير متجلجش»
هتف طاهر بحنان «طيب ارتاح يا أخوي جايم ليه؟»
طمأنه رؤوف وهو يتحرك تاركًا الفِراش «أنا تمام الحمدلله»
أمسك رؤوف برأسه متأوهًا وهو يهتف بتهكم «يا دي راسي الي تاعبة الكل، كل الي يمسكله عصاية يخبط بيها فوج دماغي طيب أجطعهالهم عشان يرتاحوا»
هتف طاهر مشفقًا عليه «بعد الشر عنك يا أخوي»طأطأت المنزوية بعيدًا رأسها تحكم سيطرتها على دموعها فقال رؤوف «جوم يا طاهر ارتاح أنا هنام تاني»
سأله طاهر بقلق سكن النفس «أنت متأكد إنك كويس»
هتف رؤوف متأففًا «متخفش واجمد كده مفياش حاجة»
قبّل طاهر رأسه ورحل تاركًا لها مكانها صامتة وعاجزة عن الإقتراب، هتف بسيطرة مستغلًا ما فيه ووجومها «جومي تعالي هِنا»
نظرت إليه مترددة فهتف بعصبية ونفاذ صبر «مش بكلمك»
تحركت ببطء حتى وصلت إليه فرفع وجهها بأنامله مستفسرًا «بتبكي ليه؟»
أشاحت هاربة بنظراتها من حصار نظراته وهي تهمس بصوت مكتوم «مفيش مش بعيط» هتف مُشيرًا لها وهو يتمدد من جديد بإرهاق ملحوظ وتعب واضح «جومي صلي الصبح ولو صليتي الفجر صلي الضحى»
نهضت فورًا مستحسنة، انصرفت ليتسنى لها الانهيار بعيدًا والبكاء وحدها.
عادت فوجدته نائمًا جلست واضعة رأسها على حافة الفراش وأغمضت عينيها مستسلمة للنوم من جديد
* بعد قليل*
استيقظ فوجدها على حالها مسح على شعرها بحنو مبتسمًا قبل أن يهمس بوهن «غزل»
رفعت رأسها فورًا كأنها في انتظاره حتى داخل أحلامها اقتربت تسأل ونظراتها تمرّ فوق ملامحه مقرونة بلمسات أناملها على كدمات وجهه وجروحه «رؤوف أنت كويس»
ابتسم هامسًا وهو يداعب ذقنها بأنامله «الحمدلله يا غزالي بخير»
ابتسمت متنهدة براحة قبل أن ترتفع على ركبتيها وتسأله «حصل إيه؟»
أخفى ابتسامته وأجاب بعبوس كاذب «عادي حادث أنا بيحصلي كدا لما أطلع زعلان ومركزش؟»
أطرقت بصمت وحزن فرفع وجهها هامسًا «خلاص متزعليش»
سعل بتعب فسألته بقلق «رؤوف أنت متأكد إنك كويس؟»
كتم تأوهه داخل جدران صدره وعاد لها مبتسمًا يشاكسها «لاه.. أجصد يعني لو جيتي فحضني ممكن أتحسن بسرعة»
عاتبته برقة وابتسامتها تحلّق«رؤوف»
مرر أنامله على خدها هامسًا «غلطت فإيه حرام ولا عيب يا هندسة»
شاكسته بغيظ وهي تبتعد عنه «لا الخبطة أثرت على دماغك»
نهضت وتركته قائلة هاربة منه كعادتها ومن كلماته التي تسير بها إلى العشق «هنزل أطمن على طنط بما إنك بقيت كويس» رحلت دون أن تمنحه الفرصة للإعتراض.
****
وقف عدنان أمام النافذة شاردًا على غير عادته، تحركت نجاة تاركةً تختها متجهةً إليه تسأل بقلق «مالك يا ناظر»
تلفت مبتسمًا بحنو، يسألها بقلق ونظراته المهتمة تعانق ملامحها المتعبة بمحبة «بجيتي زينة؟ خفيتي؟»
ابتسمت بوهن ظلل ابتسامتها وعينيها المتعبة تُطعَم الراحة من نظراته المُحبة «الحمدلله بخير أنت مالك فيك إيه؟ »
جلس عدنان فوق الأريكة المجاورة قائلًا «ركبت أشوف ولدك لجيته تعبان وطاهر وغزل جاعدين جصاده»
ضربت نجاة صدرها متفاجئة تهتف بجزع «حامد ماله يا حبة عيني جراله إيه ما كان راجع كويس»
تنهد عدنان بحزن قبل أن يُخبرها بجهله للأمر وأسبابه «ولا أعرف مستنيه يفوج»
تحركت تجاه الخزانة بنشاط وهمة عالية قائلة بقلق «يا حبيبي يا ولدي هو ناجص ياربي»
عاتبها بحنو وهو يتابعها بنظراته العطوف «ريحي أنتِ تعبانة غزل مسابتهوش هي وطاهر جاعدين تحت إشارة منه»
توقفت نجاة ممصمصة في دهشة قبل أن تعود ممسكة بحجابها تخبره بما جال في خاطرها اللحظة «سبحان الله غريبة الدنيا دي والله، شوف مين الي بيداوي وجعه»
هز عدنان رأسه مؤكدًا قولها ومتممًا له بحكمته وقناعته «ربنا عوضه عن تعبه بمحبتهم، يد توجع ويد تطبطب مفيش عدل كدا، الحمدلله»
ابتسمت مؤكدة شارحة له احساسها ونتائج مراقبتها ورصدها لهما وهي تلف حجابها حول رأسها في استعداد «صُح الواد طاهر ضهر له، ويشرق لو جات سيرة حامد، والبت رحمة لجلبه، عينها مبتتشالش من عليه وجلبها تايه كيف عجلها طول ما هو مجاعدش وغايب، بس يجي الدنيا تتغير... ولما زعلوا ونزلها كانت هتموت يا ربي»
مرر عدنان أنامله حول حبات مسبحته مُفضيًا لها «عشية شوفت أخوي حامد»
انتفضت بذعر وحملقت فيه مترقبة قبل أن تندفع وتجاوره مستفسرة بقلق «خير اللهم اجعله خير يارب»
أخفض نظراته وأردف متحيرًا في التأويل بوجوم «معارفش زعلان ولا بيسأل»
وضعت كفها على صدرها مغمغمة بقلق استقر في القلب متلاعبًا بأفكارها ومُفقدًا لها حماسها «خير يارب» وضعت كفها فوق كتفه مواسية ملطفةً الأجواء ناصحة له «تلاجيك عشان فوت زيارته الجمعة دي، العصر نروحله»
رفع رأسه مبتسمًا «بإذن الله»
قبل أن تتفوه أغلقت فمها على طرق متردد ومتعثر في الحرج، ابتسمت مُخمنة «تلاجيها غزل»
نهض عدنان ليفتح الباب، أصاب تخمين نجاة وصح ظنه الذي لم يفصح عنه مكتفيًا بتخمين زوجته، تلك المودة المتعثرة في الخجل لا تمتلكها سوى غزل، تلك الطرقات الخافتة بأدب لها وحدها، هي من تخطو ناحيتهم على استحياء وبحذر شديد..«يا صباح الورد والفل والياسمين» قالها عدنان فضحكت ولمعت عيناها قائلة «صباح الخير يا عمو»
بقبضته المضمومة طرق الباب شارحًا ما يتوجب عليها فعله بمزاح «طقري كده يا بت بتاكلي عيش سلف»
ضحكت برقة و وجهها يتورد خجلًا، شجعها مرة أخرى «أنتِ متجوزة فريد شوقي فزمانه مهتتحمليش منه قلم لو جعدتي كِده»
انطلقت ضحكاتها كموسيقى ناعمة فصاح عدنان مُعجبًا «صلاة النبي الله أكبر»
حمحم الذي هبط الدرج مُعلنًا عن وجوده وسماعه تغزل والده فصاح عدنان مُغيظًا له «تعالى يا واد أمك عايزك»
سألت غزل باهتمام «كنت جاية أطمن على طنط كانت تعبانة امبارح»
تحركت نجاة تجاهها قائلة «وطنط أهي بخير جوزك عامل إيه؟»
هز عدنان رأسه مواسيًا بمرح «الله يعينك هتراعي للواد ولا أمه»
وقف رؤوف خلفها مبتسمًا يشاكس والده «الواد وأمه عادي يا ناظر»
أفسح لها عدنان فدخلت، استقبلتها نجاة برضا ضامة لها بين ذراعيها في مودة شاكرةً اهتمامها«سألت عليكي العافية يا بتي»
أبعدتها ونظرت لولدها المتابع بابتسامة، ضربت صدرها مستنكرة بعفوية حين رأت كدمات وجهه «واه يا حامد مين عمل فيك كده وخرشمك»
ضرب جبهته متأففًا تحاوطه ضحكات والده بينما صاح هو بغيظ «ما تجولي يا صُبح يا نجاة وركزي سلامة الشوف أنا رؤوف»
سخر منه والده بخفوت«خرشمك دي ما لفتتش نظرك»
مال وهمس لوالده «بسيطة نفوتها أهم حاجة الستر يا ناظر ربنا ما يكشف ستره علينا ولا يفضحنا»
ثم نظر لغزل مُشجعًا يستشف بنظراته رد فعلها «جولي آمين يا هندسة المخ التخين نعمة والله»
قطبت مستفسرة بضيق فأشاح مفتعلًا التجاهل، تقدمت والدته مستفسرة «حصل إيه يا حبيبي فيك حاجة بتوجعك تاني»
مازحها وهي ينظر لغزل الغاضبة «ضهري يا أما والله،وبجول للست البشمهندسة حطيلي مرهم له، بتجولي عيب خلي أمك»
توعدته غزل بنظراتها فأشاح كاتمًا ضحكته فقالت نجاة بحنو وضحكة رقيقة «مش هتهون عليها كتير أحطلك أنا مرة وهي الباجي»
تدخل عدنان متخذًا جانبها واقفًا مؤيدًا في صفوفها «ما تخف عالبت يا واد أمك» ثم نادى غزل قائلًا «تعالي يا بشمهندسة حضريلي فطور وخليه هو مع أمه تدهنله ضهره فولتارين»
ضحكت مُلبية وهي تمسك بكف عدنان المفرود انتظارًا لكفها، هتف عدنان مُغيظًا له «وسع يا واد خلينا ننزل»
أفسح له رؤوف الطريق ناظرًا إليها بغيظ وتوعد علها ترتدع لكنها ابتسمت وتابعت الهبوط مع والده الذي شغلها بالثرثرة.
تناولت فطورها وتسللت للحظيرة الخلفية، جذبها صهيل ونس فركضت بفرحة ناحيته مُلبية النداء بدلًا عن الذي تأخر في لقائه الصباحي به، وقفت تمرر نظراتها عليه والتردد يتسرب من نظراتها لكيانها فيوقف تقدمها ويكبح لهفتها وشغفها..
راقبته بابتسامة تسللت لثغرها وعانقته طويلًا، صفقت بحماس وقفزت كالصغار حين صهل ورفع ساقيه، ابتسم هو من خلفها متابعًا بعينين صقريتين متلهفتين دومًا لرؤيتها وعناق ملامحها، أحاطها مدثرًا بدفء نظراته حتى تحررت من خوفها وركلت ترددها بعيدًا، من جيب سترتها أخرجت مكعبات السكر كلؤلؤ منثور فوق كفها، نظرت إليهما بحماس ولمعة شغف قبل أن توجّه نظراتها لونس مترجية أن يقبل صداقتها وهديتها المتواضعة، عضت شفتيها واقتربت منه في حذر .. ليأتي هو من خلفها محيطًا جسدها مخبئًا بقامته الطويلة جسدها الصغير، أحست به فارتجفت، تبعثر الثبات وأشتعل القلب لهفةً، مدّ ذراعه تحت ذراعها المفرود ثم ضم كفها بكفه في دعمٍ وحنو وقربه من فم ونس وهو يهمس قرب أذنها بعاطفة وشت بها أنفاسه المتلاحقة «كلميه وجوليله إنك غزل»
التقطت أنفاسها المرتجفة وسألته بشتات، ممزقة بين إحساسها بدفء أنفاسه ورغبتها في مداعبة ونس، مشغولة به، فحين يحضر يغيب الوجود وساكنيه وتنصهر الدنيا في حدقتيه، يخطفها ويغيبها في هواه «هو يعرفني»
لثم حرقها بقبلة وصلت لعمق جرح القلب مداويةً ثم همس «محدش يعرفك هِنا كده ولا زيه يا غزالي، هو مسمعش مني غير اسمك»
أنفاسه حولها كفراشات ملونة تحلق مضيئة عتمة الوحدة وتزين جدرانها الباهتة، حد الألم قبّل حروقها، القبلة الأولى أسف والثانية اعتذار والثالثة إحتواء فاض وأغرق كيانها،اختار أن يهاجم مواطن قلبها المأهولة بالألم، أن يزيح بلمساته آثار الألم ويكتب فوقه عهدًا جديد، غمسها في نعيمه فهمست «رؤوف؟»
لم ينس يومًا جاء فيه لصديقه شاكيًا، لم ينس عينيها الحزينة التي امتصت فرحه كله من القلب وتركته لبؤس العالم ويأسه، لم ينس ضياعها الذي وصفه لصديقه يومًا متمنيًا لو لملم بقاياه هو، وطبب جراحها بقلبه... اختزن الصورة داخله وفي ذاكرة صديقه حتى جاء الوقت؛ ليمحوها طابعًا أخرى جديدة«تركبي يا غزالي» أحاطها بسياج من زهر الحب وياسمين الشغف، لا ترتوي إلا من أنهار قلبه ولا تأكل إلا طعام روحه
همست مترجيةً «رؤوف عايزة أمشي»
استدارت في حزم تنفذ قولها وتهرب من حصاره تاركةً قلعته، فثبت صامدًا ينظر لعينيها وأنامله ترتفع لحجابها فتزيحه «متخبيش تاني حاجة جدامي»
تهربت من نظراته التي تغيّبها عن العالم وتسحرها، أشاحت متشبثة بحجابها رافضة «لا سيبه لو سمحت»
سألها بحنو ورفق وهو يربت على قلبها بابتسامته «ليه يا غزالي؟»
تجمعت الدموع في عينيها وهمست وهي تفرك أناملها وتمسح جبهتها من عرق وهمي أحست به تخيلًا «عايزة أحكيلك حاجات كتير أنت مسألتنيش عنها»
أمسك بكفيها وضمهما لتتوقف، سرى الدفء من جسده لبرودة جسدها فهدأت وتنفست ونظراتها تستمر في الهرب منه كما تستمر نظراته في مطاردتها، برفق رفع كفيها ولثمهما هامسًا «كنت مستني أنتِ تحكيلي وأنتِ راضية»
سألته وهي ترفع نظراتها إليه بعد طول مطاردة«ليه؟»
ابتسم هامسًا وهو يمرر ظاهر أنامله على خدها برفق «عشان مش هتحكيلي غير لما تآمني ومش هتآمني غير لما جلبك يطمن وجلبك مش هيطمن غير لما تسيبي بيبانه مفتوحة»
ابتسمت لتفسيره فهمس مُصابًا بعدوى ابتسامتها «تعالي اطلعي معايا أنا وونس واحكيلي براحتك، وهسمعك طال الكلام يوم ولا حتى سنة»
نداء والده أخرجه من جنته، ألقى به محرومًا فزفر بضيق وغيظ جعلها تبتسم وغمغم بما جلب ضحكاتها «ما تشوف نجاة فين يا ناظر وارحمني يا هادم اللذات»
قرص خدها مُحذرًا بتأفف«والضحكة دي متطلعش لغيري أنتِ كمان»
رفعت حاجبها في سخطٍ وكتفها يهتز في اعتراضٍ فانسحب متأففًا يعدها «أشوفه وأرجعلك يا غزالي»
جلست فوق عتبة أسمنتية تستعيد الشعور بتأثيره الذي يتوغل في النفس ويمتد مسيطرًا على كيانها ومالكًا جوارحها... ابتسمت بخجل مُعيدة على جلدها ملمس قبلاته التي لا تُنثر إلا على حروقها، كأنه أُختص بمداواة تلك البقع أولًا، وإعادة إعمارها بعد تخريبها وهجر الجمال لها باحثًا عن موطن آخر، اختار أن يرسم بفرشاة روحه جمالًا فريدًا، مُلوِنًا له بألوان قلبه، كما أراد أن تمتد جسور الثقة فوق أنقاض جمالها المشوه.
هتف من بين أسنانه «عايز إيه يا ناظر؟»
ضحك والده قائلًا «ضيفة يا حبيب أمك ربنا يكتر حبايبك وضيوفك»
قطب مستفسرًا «مين دي وجاية بدري ليه؟»
تحرك والده أمامه قائلًا «أنا عارف عاد يا متر حكاويك كترت زي بلاويك»
هتف وهو يغض بصره «خير يا ست أأمري»
لملمته في نظرة سريعة حرجة قبل أن ترد ونظراتها تقف عند والده في ارتباك «ممكن أكلمك وحدك»
جز من جرأتها ووقاحة طلبها، كاد يعترض ويصرفها في قسوة حتى منعه أباه بربتة متفهمة على كتفه ومهدئة من غضبه «شوف الست ومتجصرش يا ولدي»
تحرك مغادرًا فهتف رؤوف بقسوة «هاتي الي عندك يا ست»
تبخر حذرها، ابتسمت في رضا واقتربت منه قائلة بدلال «كيفك يا أستاذ حامد»
أجفل من النبرة وانتبهت الحواس، رفع نظراته إليها دون قيدٍ من أدب فقبضت عليها عندها في زهوٍ، تدللت مفتخرةً بجمالها، فطن لما اعتراها وكيدها فمال فمه تهكمًا، اهتزت الثقة وسقطت جارفة معها ابتسامتها، ابتلعت ريقها وتشتت، قتل ظنونها في أن تكون النظرة الأولى ستكون سباقة للقلب، لكن بُخست ظنونها وتبعثرت الثقة بنظرته المستخفة وأنفة الشامخة بغطرسة..
اقتربت بتحدى دقت طبوله داخلها مُعلنة الحرب، رفع حاجبه مراقبًا من علو فابتسمت قائلة بظفر «عارفة مين اتربصلك وضربك عشية! »
وقعت كلماتها موقعًا غير مستحبٍ في النفس، سألها باستهانة «وبعدين؟»
استفسرت وكله يربكها، غموضه وغطرسته، ثباته، وقوته، أشياء مُربكة لكنها تُفتن بها «مش عايز تعرف»
رفعت عيناها إليه في قوة وعدم خجل فثبّت نظراته عليها باستخفاف هزمها للمرة الثانية، يراها ولا يراها بنظرات قُدت من صخر، مقلتان لا تعكسان سوى قوته وتحديه.
بابتسامة ساخرة أجابها «لاه مش عايز الله يسامحه بقى»
بالخارج كان عدنان يمنح غزل صينية الضيافة قائلًا «ادخلي بيها جوزك حبايبه كتروا»
لم يبد على ملامحها الفهم ولم تسأل عن مقصده أخذتها وتحركت بها في بساطة لا يحركها سوى شغفها برؤيته والبقاء قربه
شيعها عدنان بتهكم «تدخلي دلوك وتفهمي»
طرقت الباب مناديةً بلطف «رؤوف»
تبدلت ملامحه وأزهرت قسمات وجهه، راقبته التي هي في بيته باهتمام شاعرةً بتبدل أحواله ومشاعره التي طفرت من نظراته، لكنه ثابتًا رغم ذلك كالطود «تعالي يا أم الغايب»
فطنت هي لللقب وابتسمت بفضول منتظرة أن تطلّ التي يستهين بجمالها لأجلها، بينما قطبت الأخرى بعدم فهم واحتارت أيقصدها هي أم غيرها.
دخلت بقلق،وكعادتها نظراتها دومًا تبحث عنه ولا تستقر على سواه ، ابتسمت لمرآه فأشار لها بمودة وحنو «تعالي»
قدمت لها غزل فرفعت الأخرى كفها مُحركة له أمام نظراته المنتبهة، إلتقط إشارتها فعبس، تجهمت ملامحه واحتدت نظراته، نظراتها الموجهة إليه بتحدي منحته هويتها كاملة،سارقة الخاتم ناكرة الجميل، عادت غزل لجواره مراقبة
نظرت زينب لغزل متأملة بغرور ومراقبةً ردود إنفعاله، نظراته للواقفة من حين لآخر تفضح ستر قلبه وتعري مشاعر تبادلهما الحب، نشبت نيران الغيرة في صدرها فتلك وإن كانت لا تتضح ملامحها جيدًا، لديها قوام ممشوق، وخصر منحوت لجسد يمتلك كل مقومات الفتنة.. نهضت وتحركت بالكوب حتى وصلت لغزل، منحته لها قائلة «شكرًا»
استشعرت غزل بحدثها الأنثوي دلال الأخرى الزائد وميوعتها، مُتعمدة لفت انتباه الآخر فابتسمت مُجيبة برقة «ميرسي»
اعتدلت زينب موجهة كلماتها له «موسى هيكررها تاني وتالت خلي بالك من نفسك يا أستاذ»
أجابها بغطرسة «بليه واشربي ميته»
سألته بعدم فهم «هو إيه؟»
أجابها بابتسامة مُغيظة «جصدي موسى أصل الي زيه مفيد لوجع الراس»
تجاهلت سخريته متجهةً بنظراتها لغزل ناصحة «خلي بالك من الأستاذ الي بيحبوه وعايزينه كتير أديني أها ليلة واحدة حلوة بينا جابتني خايفة عليه»
توسعت نظرات غزل عليه بدهشة مستنكرة فغمغم لاعنًا «نورتي يا ست»
تحركت زينب مزهوة بانتصارها «خلينا نشوفك يا أستاذ متغبش» رحلت فغمغم «يجصف رجبتك يا بعيدة»
استدار محمحمًا يجلي صوته ويصفي ابتسامته من شوائب الغيظ، ابتسمت وداخلها بركان يثور من الغضب، اقترب قائلًا «لو حلفتلك براس جدي إني لا أعرف الليلة الي بتجول عليها ولا أعرف الليالي الحلوة من الأساس ولا عشتها هتصدقي صُح»
ببرود ظاهري أجابته «عادي يا متر إيه المشكلة ربنا يكتر حبيباتك»
زفر بغيظ قائلًا «ماشي»
حملت الصينية وخرجت وهو خلفها، إعترض والده طريقه مستفسرًا «جالتلها إيه؟»
زفر رؤوف معاتبا والده بحنق «كان لازم تدخلها أهي جالتلها عشت ليلة حلوة معاه»
استفسر والده؛ ليغيظه أكثر «واه عشت ليلة حلوة من وراي يا واد أمك اخس عليك»
سخر رؤوف بتأفف بائس «والله أنا آخر علمي بالليالي الحلوة كان فابتدائي لما كنت بنام بدري أو بستنى صُبحية العيد»
قهقه عدنان مُدعيًا الإشفاق «يا غلبان ربنا ينولك»
صعد باحثًا عنها حتى وجدها في الشُرفة منغمسة تدندن بمزاج رائق ممسكة بقطعة قماش ترسم فوقها بإبرتها وخيوطها الملونة «بتعملي إيه؟»
كرمشتها بين أناملها بفزع متألمة من وخزات الإبرة ثم وضعتها جوارها قائلة «عادي»
جلس جوارها أرضًا يستفسر بابتسامة «طيب بتغني؟»
أفسدت عليه اللحظة بمراوغتها «صوتي مش حلو زيك»أخفضت نظراتها في خجل توردت له وجنتيها، فمال هامسًا بمكر «أسمع وأحكم يا هندسة»
سألته مغيرة الحديث متجاهلة قصده «مين الي كانت تحت معاك؟»
هتف وهو يمسك بكفها «تصدقي بالله معرفهاش»
رفعت حاجبها مشككة في قوله بسخرية وعدم اقتناع «يا سلام»
هز رأسه متظاهرًا بالبراءة فتنهدت وأشاحت، سألها «مش هتنجلي حاجتك؟»
سحبت كفها وأجابت بسرعة «لا أنا مرتاحة هنا»
ابتسم متظاهرًا بالاقتناع يبارك قولها «كويس أنا برضو ميهمنيش غير راحتك والله، إيييييه دنيا جدرنا يارب»
نظرت إليه قاطبة بعدم فهم فابتسم لها قائلًا «نسأل الله التساهيل»
صمتت فقال «ما تجومي تعمليلي فطور الله يكرمك لا عشا ولا فطور»
استفسرت بقلق انبثق من نظراتها إليه «مفطرتش بجد؟»
هز رأسه برفضٍ فنهضت قائلة بحسم «أنت لازم تاخد العلاج»
أكد ببراءة كاذبة «يا فرج الله يعني هتفطريني خلاص»
ابتسمت مؤكدة له برقة «أيوة عادي أنت مسكين برضو وتعبان»
قال ساخرًا «يا سلام على طيبة جلبك مفيش كده»
***
في المساء طال مكوثها بحجرة والديه فطرق الباب مناديًا، أجابته والدته «أيوة يا حبيبي»
نهضت غزل تفتح له بحماس «خليكي أنتِ يا طنط هشوفه وأرجعلك»
فتحت الباب مستفسرة «إيه؟»
سحبها من كفها للخارج هاتفًا «هاخد غزل يا أما تصبحي على خير»
أغلقت الباب خلفها وهي تركض مجارية خطواته الواسعة وحماسه الواضح «في إيه»
وقف قائلًا بضجر«اتأخرتي جوي عند أمي ليه؟»
خبأت ابتسامتها وأجابت «عادي هي تعبانة وكنت بطمن عليها وأديها العلاج»
هتف بإستياء «ما أنا تعبان وباخد علاج نسياني ليه حضرتك»
خبأت ابتسامتها من جديد وأجابته برقة«لا أنت كويس يا رؤوف وزي الفل سيبني أرجع لطنط»
سحبها مرة أخرى مُبديًا اعتراضه المصحوب بتأفف حارق «جولت يلا»
صعدت خلفه ممتثلة لطلبه، دخلا شقة يونس ومنها إلى الشرفة التي كانت بانتظارها، أجلسها قائلًا «اجعدي جنبي هخلص الورج الي فيدي ده وأفوجلك»
جلست متربعة أمامه تسند خدها بقبضتها مقترحةً بحماس«طيب ما تحكيلي ونفكر سوى»
وضع الورق جانبًا مشاركًا لها حماسها «طيب يلا اعمليلنا كوبايتين عصير أكون رتبت الورج عشان تفهمي»
نهضت مغادرة للمطبخ بحماس فغمغم وهو يضرب بكفه فوق جيب بنطاله متحمسًا أكثر منها «خلصت يا بشمهندسة »
بعد قليل جاءت بكوبين وضعتهما أمامهما وجلست فتناول كوبًا متذوقًا صُنع يديها، عبس قائلًا وهو يبعده عن فمه«ناجص سكر يا غزل»
نهضت بهمةٍ ونشاط متجهة للمطبخ «حاضر حالًا أجبلك»
ما إن غابت خلف الجدران حتى سحب ما بجيبه وأفرغ محتوياته في كوبها ثم حركه قليلًا ليمتزج وهو يعيد ظهره للحائط بتنهيدة رضا
عادت إليه وجلست فوضع القليل من السكر في كوبه ورفعه مرتشفًا باستحسان وهو يراقب ارتشافها العصير ببطء أهلك أعصابه.
منتظرًا نتائج تدبيره، متحمسًا للقادم وهو يهمس بأسف «معلش غصب عني يا غزالي مضطر أعمل كده »
………….
راسلته بعدما استمعت للفيديو المنشور على صفحته، ألقت عليه إعجابها رغم ترددها «الفيديو حلو أووي يا بشمهندس وبجد ظهورك بالجلابية الصعيدي مميز وتحفة»
ترك ما بيده ونفضهما مانحًا رسائلها اهتمامه «شكرًا يا دكتورة بس دا الطبيعي للمهندسين»
أرسلت له وجهًا غاضبًا فضحك مرسلًا«محتاجة أي حاجة؟ المتر موصيني عليكي»
شكرته ممتنة لصنيعهما معها «لا متشكرة جدًا والله لو عندي أخ مكانش هيعمل معايا زي المتر»
مدح أخيه بفخر «دا العادي بتاع المتر يا دكتورة مش جديد عليه وأنت أكيد تستاهلي عشان ربنا يسخرلك واحد زي رؤوف»
كتبت ممتنة «الحمدلله»
مازحها فاردًا مساحة للحديث وتجاذب أطراف الحوار«إن شاء متكونوش أكلتوا ملوخية؟»
ضحكت وهي تكتب له «لا خالص بتقول مستنياك أنت تخرطهالها عشان نفسك حلو»
أرسل لها لعناته على وجوه استيكراته الضاحكة فمازحها «خايف لو اتعورتي تنزلي ملوخية بدل الدم.. دمي كله ملوخية يا عم الشيخ عتمان»
قهقهت بقوة فمصمت انتصار متسائلة «بتكلمي مين؟»
أجابتها ببساطة «دا بشمهندس يونس»
قالت السيدة متفاخرة «خليه يبجي يشوف ابني بكرة مهندس زيه برضو»
ابتسمت لها فيروز بحنو ثم تابعت مراسلة الآخر قائلة «بشمهندس لو موضوع ماما فيه قلق وخطر بلاش منه»
أجابها بحسم وحزم «أنا وعدتك وانتهينا لا تترددي ولا تقوليلي خلاص»
ابتسمت بإعجاب وهي تكتب له «تمام يا بشمهندس تصبح على خير »
تركت الهاتف متجهة ناحية السيدة التي تقف في الشُرفة منذ مدة متسائلة وهي تغمرها بالإشفاق «يا طنط هي طيارة ابنك امتى؟»
أجابتها السيدة ونظراتها تتوجه ناحية مدخل الشارع بترقب واهتمام لم تفقدهما رغم تعبها الواضح«مش عارفة يابنتي هو قالي جاي النهاردة بس محددش الوقت»
ربتت فيروز على كتفها قائلة «طيب يا طنط وقفتك دي ملهاش لزمة اقعدي واستريحي»
رفضت السيدة ونظراتها لا تبرح الشارع ممسكة بلهفتها كباقات وردٍ في انتظار طلته؛ لتُلقيها عليه«لا هستنى»
قالت ونظراتها تفقد البهجة وتغيم بالعتب للغائب «عايزة أشوفه وهو جاي يا بنتي»
واستها قائلة وهي تقف جوارها «إن شاء الله ييجي يمكن رحلته اتأخرت أو اتغيرت»
دعت بتضرع وهي ترفع وجهها للسماء «يارب ولو مرة واحدة بس»
تنهدت ودموعها تطفر في إشفاقٍ يتجدد كلما رأت حزن تلك القوية وأحست بانهيارها الوشيك ، هي وتلك السيدة وجهان لعملة واحدة صدئة بالإهمال، مركونة في حقيبة مهملة يغطيها غبار النسيان فقدت قيمتها فبُخِس قدرها.
تنتظر يدًا تلمعها معتزة بقيمتها أو تضعها أثرًا في متحف كل ما فيه باردًا حتى قلوب زائريه،أو قدرًا يوافق أحلامها وقيمتها.
هي تجاهد لرؤية والدتها والسيدة تجاهد لرؤية ابنًا لا يهتم، كلتاهما في نفس الدائرة وإن اختلفت الأدوار، كلتاهما تبحثان وتفتشانِ عن دفء من يحب؛ ليحميه من عواصف الأيام وبرودة المِحن التي تجمد الدماء في العروق.
سحبت شالًا يخص انتصار وعادت به إليها رامية له فوق كتفيها في اهتمام «خليه على كتفك يا طنط»
نظرت إليها السيدة بامتنان قبل أن تشيح في حرج مُبررة بحسرة وكسرة نفسٍ «هييجي هو قالي.. هي صحيح مش أول مرة بس هو وعدني»
حافظت فيروز على ثباتها متمسكة بمقابض القوة وهي تستمع للسيدة بحزنٍ عتيق يقسم الظهر، لو تركت لضعفها وتأثرها العنان لبكت ما حبسته بصدرها أيام وحررت صرخاتها من سجون الأعماق.
غادرت مرة أخرى هاربة من هذا الحزن «هعملك حاجة تاكليها أنتِ من الصبح مأكلتيش»
تململت السيدة في وقفتها من شدة التعب مُحذرة لها «متجبليش حاجة خلي الأكل زي ماهو للغايب»
استنشقت فيروز بقوة في محاولة بائسة للسيطرة على دموعها وطمأنتها «لا هعملك ساندوتش خفيف وكوباية عصير فريش»
استحسنت السيدة وهزت رأسها موافقة قبل أن تعود بنظراتها للشارع خوفًا أن يأتي ولا تراه أو يفوتها شيئًا منه «ماشي يا بنتي كتر خيرك»
دخلت المطبخ وجلست بإنهاك حول طاولة صغيرة جانبية متهالكة تمسح دموعها المتتابعة، أخرجت هاتفها من جيب بنطال بجامتها مستنجدة بإحتوائه لضعف مشاعرها محاربة بسيف مؤازرته قتامة أفكارها وهواجس ظنونها «شكل ابن الست مش جاي، صعبانة عليا أووي»
ابتسم بتفهم قبل أن يجيبها «يمكن متأخر»
أكدت بحزن «شكله بيخدعها ويسكتها مش جاي أصلًا وهي واقفة في البلكونة مصممة تستناه»
سألها باهتمام «هو بيشتغل إيه بره؟»
أجابته فورًا بما تمتلكه من معلومات «مهندس»
كتب غير راضيًا « بيسوء سمعة المهندسين كمان»
مازحته «متقلقش مش محتاج أنتم سيئين بالفعل»
كتب بغيظ «والله! كتر خيرك هستنى إيه من الدكاترة غير كدا»
تركت الهاتف جانبًا وبدأت في صنع الشطائر لها وللسيدة تاركةٍ لهفتها على متابعة الحديث معه جانبًا.. عادت للسيدة فوجدتها جالسة بالشرفة ورأسها يسقط على صدرها، اقتربت هامسةً «طنط»
استيقظت السيدة متسائلة بلهفة «ابني جه»
أجابتها فيروز بحنو وهي تمنحها شطيرة «لا يا طنط دا الأكل»
نهضت السيدة في كسل قائلة «هروح الحمام وأجي»
تركتها فيروز وصمتت شاردةً حتى سمعت صوت ارتطام جسد السيدة بالأرض فركضت في ذعر .
*****
جلست متصيدة فرص الصمت والانزواء بعيدًا عنه لا تتهافت على الحديث، وتحذر السؤال عن فهد، تعزل نفسها ومشاعرها بعازل من تجاهل، حتى لا تنغرس أظافر كلماته في قلبها القلق على فتاتها ووحيدتها الغائبة، أدركت أن فتاتها مُحقة، تلك اليتيمة تستحق حياة آدمية أفضل منها،
خافت عليها منه ومن شره فصبرتها كثيرًا والآن تخاف أكثر ولا تملك الحيلة والقدرة للهرب من تلك الضغوط لكن يكفيها أنه لم يصل إليها حتى الآن ولا تلتقط عدساته مكانها، يتقلب على جمر فتراه وتصمت خوفًا وحذرًا داعية الله لها أن ينجيها ويحفظها... فجأة فرك جبهته صارخًا وجمر الكتمان يأكله «فص ملح وداب؟»
انحنى أمامها يسأل بنظرات مشتعلة «مكلمتكيش؟ متواصلتش معاكي؟»
ابتلعت ريقها وأقسمت بصدق «لا والله معرفش مكانها ولا كلمتني»
ضرب كفًا بكف وهو يدور حول نفسه متخلصاً من عبء شكوكه «تكونش بتحب الواد أخو رؤوف زي ما قال فهد وماشية معاه»
استغفرت بخفوت قبل أن تهتف بعصبية «حرام عليك يا حاج دي بنتك وأنت مربيها»
هدر فيها بقسوة «بنتي إيه ومربي إيه؟ أنا طلعت ولا عارف عنها حاجة»
أدمعت عيناها مرتجفةً من رياح قسوته الباردة، وقالت بتردد «خليه يطلقها ويسيبها هو ألف من تتمناه »
صرخ وهو يمسك بذراعيها هازًا جسدها الواهن بقوة «جاية معاها وبتسانديها ومش بعيد عارفة كل الي بيحصل وموافقة عليه»
أجابته بقهر «يشهد ربنا كنت أم لفهد زيها وياما جيت عليها علشانه بس أنت حافظ كتاب ربنا وعارف ، يسيبها بالمعروف وخلاص»
دفعها لظهر الكرسي بقوة قائلًا «يسيبها؟ بعد ما بهدلتنا في الأقسام والمحاكم ووطت راسنا»
هادنته برفق «غلبانة وصعب عليها البهدلة والإهانة خليه يطلقها ويسيبها لحالها وهي أكيد هتتنازل»
نظر إليها بحدة واعدًا «هلاقيها برضو هخليني ورا عيال الحفناوي لما أشوف أخرتها»
حبست السيدة دموعها داعية لفتاتها بالسلامة والنجاة هي ومن يؤازرها.
رفع هاتفه لأذنه موجهًا بصرامة «الولد المهندس أخو رؤوف عايزك متشيلش عينك من عليه ولا يغيب عنك»
شكوك ولده تسربت إليه رغمًا عنه، احتلته حتى لم يُعد يفكر إلا فيها ويضع الافتراضات، حتى غرور رؤوف وتفاخره بفعلة أخيه لم يمر على عقله مرور الكرام رغم معرفته جيدًا برؤوف وصدق ما قاله عن رجولتهما في تلك المواقف .
لايعرف هل هواجس ولده هي من جعلته ينصت بإصغاء محللًا كل كلمات رؤوف ومدققًا في معانيها أم لأن بداية الخيط عنده وما يحسه تجاه تلك العائلة حقيقيًا، أفكاره المتشعبة ستصيبه بالجنون أو تقتله، رؤوف أذكى من أنّ يترك شيئًا ورائه.. لكن ربما أخيه ليس بمثل ذكائه ولكل جوادٍ كبوة.
#تدقيق: منة أحمد
#عزف_السواقي
#عائشة_حسين
#صعيدي_رومانسي
1

