اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل التاسع والعشرين 29 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل التاسع والعشرين 29 بقلم عائشة حسين 



                                    

♡التاسع والعشرون♡


+



لّما وجدت ريحه هتفت ببهجة وتحركت  بعصاها في لهفة مستقبلة له بترحاب «يا مُرحب بواد الحفناوي» 

انحنى ملثمًا كفها المتغضن بتقدير وابتسامة واسعة عادت لمستقرها فوق الثغر وداخل القلب ، تركت عصاها وتحسست الطريق لرأسه ثم مسحت عليها بحنوٍ بالغ هاتفة «جاني النص التايه، رضي جلبه واختار طريجه» 

ضمها ملثمًا رأسها بمحبة وهو يهمس «كيف الجلب ميرضاش يا خالة وجلبها سلّم» 

بدموع متأثرة ندرت «والله يوم ما تجيني بيها لازغرت وأجلع الأسود الي لبسته عمر» 

قهقه قائلًا بسعادة استخلصها من محبة الغائبة «واه كمان، كتير كده» 

رفعت كفها المرتعش لخده وربتت عليه قائلة «لاه مكتيرش يا نضري كفاية راحة جلبك الي حساها وضحكتك الي منورة وشك دلوك» 

خرج قاسم من المنزل هاتفًا بعتاب «كده يا جدة أبوي ياجي ومتناديش عليا أنا مش بنادي عليكي طب إيه رأيك مش هجولك تاني» 

ابتعد حامد عن خالته وانحنى مانحًا صغيره عناقًا دافئًا ثم ابتعد عنه لائمًا له «ما تتأدب يا واد» 

قال الصغير بحدة «متأدبش وزين إنك جيت كنت عايزك» 

قطب مستفسرًا منه ببعض القلق «خير إن شاء الله» 

سحبه قاسم للداخل فترك حامد كفه وعاد لخالته مساعدًا لها، أدخلها وأجلسها ثم جاورها منتظرًا كلمات الصغير، الذي وقف أمامهما قائلًا «متى هتجبلي أخوات؟» 

ضحكت تماضر بينما تهكم حامد من قوله باستهانة «دول أجيبهملك كيف يا حبيب أبوك؟» 

عقد قاسم ذراعيه أمام صدره ومط شفتيه أولًا قبل أن يخبره «معرفش كيف بس أنا عايز أخوات يجعدوا معاي ويلعبوا مبجاش لوحدي» 

تنهد ونظراته تحيط صغيره بالإشفاق قبل أن يقول «خير بإذن الله» 

هتف الصغير بإصرار وتحكم «لاه متجوليش خير أنا عايز أخوات» 

من بين أسنانه هتف بغيظ «جولتلك إن شاء الله» 

هتف الصغير بحزم «وتتجوز غزل وتجيبها تعيش معاي هنا أو تاخدني ليها» 

تهكم من قوله في غيظ  «مالك بيها غزل ما أنت خدت أحضان وبوس يكفيك سنة لجدام» 

أخبره قاسم بضحكة قصيرة «خلصوا عايز تاني» 

صاح وهو يشير بكفه «طب امشي من جدامي ومتفكرنيش تاني» 

دبدب قاسم بقدمه في إصرار «لاه توعدني الأول هتنفذلي طلباتي كلها» 

تأفف حامد من أفعاله فتدخلت تماضر التي استمعت بصبر كعادتها «جالك بإذن الله» 

صاح قاسم معترضًا «لاه أنا عارفه هيضحك عليا وبعدين يجولي أنا موعدتش» 

ضحكت تماضر مشجعة له «خلاص جوله يا حامد» 

زفر حامد بغيظ  متوعدًا له بنظراته الحادة قبل أن يفرد كفه مبتسمًا يدعوه لميثاقٍ غليظ، ضحك قاسم وركض واضعًا كفه بكف والده قائلًا ببهجة ونظرات لامعة «أوعدني تخلي غزل معاك وتراعيلها ومتسيبهاش لوحدها وتجيبها هنا» 

ابتسم ناطقًا بتأثر «أوعدك» 

ضحك قاسم ببراءة ثم تابع «وتجبلي أخوات كتير ومبجاش لوحدي» 

أدمعت عيناه واعدًا له وهو يجذبه لأحضانه «مش بتاعتي دي يا قاسم بيد ربنا» 

ألح الصغير ببراءة «لاه أوعدني» 

ابتسم قائلًا «أوعدك بإذن الله» 

ترك قاسم أحضانه مغمورًا بالفرحة منتشيًا بقبول طلباته ونيل الوعد من والده، نهض حامد من مكانه مُحمسًا صغيره «يلا ساعدني نرتب المكان ونعبي الزير» 

أجاب قاسم بهمة عالية ونشاط «ماشي» 

بعد مرور وقت التف الصغار حوله تحت الشجرة، يسألهم عن أحوالهم فيجيبونه بكل مودة ثم يبدأ معهم مراجعة  ما حفظوه من القرآن والتكرار لما سيحفظونه. 

جاء عبود متعكزًا ما إن لمح حامد حتى ركض مناديًا بلهفة «حامد جه» 

ترك حامد الصغار ونهض ضاحكًا يستقبل مودته بترحاب شديد و جودٍ من عطف، معاملًا له مثل الصغار.. 

ما إن اقترب لاهثًا حتى قال بعتبٍ«خليك جومت ليه يا حامد؟» 

لثم حامد جبهته بمودة حقيقية قائلًا «أمال أجوم لمين بس لو مجومتش ليك، دا أنت واحشني جوي» 

ضحك عبود وبشّ في سعادة داعيًا بقلبٍ سليم«متشوفش وحِش يا حامد وتنول ما تريد» 

سحبه حامد وأجلسه جواره متسورًا بالصغار الذين رحبوا بانضمام عبود، لكن سرعان ما صرفهم حامد «يلا فسحة» 

نهض الصغار مُهللين بينما التفت حامد لعبود مُتفحصًا يسأله وهو يمرر نظراته عليه «عامل إيه طمني عليك؟» 

أخرج عبود بعض كسرات الخبز الجافة وتناولها قائلًا متعثرًا في مضغها وبلعها «كويس يا حامد» نظر لعينيه بإمعان قائلًا 

«ضُلّتها طالت جلبك وأنا فرحان عشانك» 

ابتسم رابتًا على كتفه بتقدير فتابع عبود معاتبًا له «جولتلك إوعاك من شيطاين الإنس يا حامد» 

فهم حامد معنى قوله فتنهد بحزن وأسف جعل عبود ينظر إليه مخترقًا « ربنا ينور طريجك يا حامد » 

ابتسم ممتنًا لدعواته وإحاطته له بالمودة الصادقة، فقال عبود شاكيًا «سناني بتوجعني يا حامد بتضرب مخي معارفش أنام من وجعها » 

سحب من كفه كسرات الخبز الجافة عاتبًا عليه تناولها بتهكم «طب وبتاكل الناشف ده  ليه يا حزين؟»

أجابه عبود بصدق «جعان ومش عايز آكل  غير معاك يا حامد» 

عاتبه حامد برفقٍ ولين «لو مجتش هتجعد بالجوع» 

هز رأسه مؤكدًا «أيوة هستناك برضك عشان أنا بحبك» 

شجعه حامد وهو ينهض ساحبًا له «طيب جوم غيّر خلجاتك وكُل لغاية ما احجزلك عند الدكتور عشان سنانك الي بتوجعك» 

نهض عبود ممسكًا بذراعه يطلب بعفوية «عايز أشوف الغريبة يا حامد اتوحشت جلبها، اشمعنا قاسم» 

ضحك حامد رابتًا على كفه واعدًا له «بإذن الله»

نظر عبود للسماء ذاكرًا الله ثم فاجأه بقوله التالي الممتليء حزنًا وهمًا «زعلانة الغريبة يا حامد شوفتها في الحلم بتبكي وبتنده عليك، النار الي فجسمها بتلسعها يا حامد،متبعدش عنها ريحها وقرّب يهدا  الجلب وتنطفي النار» شرد رابطًا الأحداث والأفعال ثم عاد للواقع هازًا رأسه يهتف «مفيش حاجة تخفى عليك يا حزين» 

ضحك عبود قائلًا «لاه مفيش» 

صمت حامد مُفكرًا في كلماته فغالية قلبه تخشى نبذه لها، تهاب رؤيته لحروقها بعدما نفذ مخزون شجاعتها، تحزن وتبكي لأجل تشوهاتها التي تُفقدها ثقتها بنفسها أمامه،لكن ألم تتعهد أمامه أن تكشفها؟ماذا دهاها لتخاف الآن وتهتز رافضة؟  عليه أن يقترب أكثر منها-يطمئنها-ويحتوي فزعها ويلملم شتاتها، يُعلن تقبله لتشوهاتها بأفعاله لا بأقواله  حتى لا يجرحها، كلمات عبود كانت رسالة تأكيدية لشكه وظنه وعليه التصرف سريعًا. 

**

تذكرت مجيئه وعبست، تذكرت كيف نبذته بالخارج مذمومًا من قلبها فبكت مؤنبة نفسها على ما فعلته. 

أزاحت الغطاء ونهضت متعكزة القلب على بقايا قوة، رتبت فراشها وأمسكت بهاتفها تعبث فيه متثائبة بكسل... 

فتحت نافذة الدردشة الجماعية التي تجمعها بيونس وطاهر، مندهشة لكثرة الرسائل والتسجيلات الصوتية المرسلة، كما لاحظت دخول رقم آخر وانضمام شخص غريب لتلك الدردشة.. فضت الرسائل بفضول بادئة بيونس 

«صباح الورد يا وردة آل حفناوي العزيزة كل سنة وأنتِ طيبة وبخير عيد ميلاد سعيد ويارب دايمًا وسطنا » 

وضعت أناملها على فمها تثبت ضحكتها على الشفاه وهي تستمع لمعايدات  طاهر الرائعة ويونس وانتهاء الأمر بفيديو رائع للصغير قاسم يهنؤها فيه.. 

ضحكت حتى أدمعت عيناها، بكت فرحةً وانتصارًا وهي تُحاط بكل هذا الحب وتُغمر بالمودة الصادقة.. 

جلست يدلل روحها الفرح وتعانقها السعادة، مغمورة بمشاعر فريدة وجميلة. 

لم يدم جلوسها كثيرًا والمفاجأة الكبرى كانت بانتظار استيقاظها واشراقتها لتظهر . 

اتجهت ناحية الباب، فتحته  فوجدت نجاة بابتسامتها الرائعة وحنانها المتدفق الغزير الذي يغرقها تنتظر جالسةً  

«صباح الهنا والسعادة» قالتها نجاة وهي تقف معانقة مانحة القبلات الودودة

ابتسمت غزل بانطلاق وحماس وعانقتها ونظراتها تدور بحثًا عنه فقالت نجاة «كل سنة وأنتِ طيبة العمر الطويل يارب وأنتِ وسطنا» 

ابتعدت غزل تسكب دهشتها «حتى أنتِ يا طنط» 

قرصت نجاة خدها قائلة «عندنا كام غزل احنا» 

عانقتها غزل غير مكتفية أو قانعة تشكرها والحرمان في قلبها يلملم هزائمه، أشارت نجاة لحقيبة كبيرة محاطة بأشرطة ملونة  «هديتي ليكِ يا جلب أمك» 

قالتها نجاة بمشاعر صادقة وعاطفة كبيرة، نظرت غزل للحقيبة الكبيرة لائمة «كتير أووي يا طنط» 

ابتسمت نجاة قائلة «ميكترش عليكي حاجة يا ضنايا،يلا خديها واتفرجي » 

وقفت مترددة حائرة في قبولها فحسمت نجاة الصراع داخلها بتفهمها «يلا أمال هتكسفيني ولا إيه؟» 

ابتسمت غزل ومازالت الحيرة تنهشها، أمسكت بذراع الحقيبة قائلة «شكرًا يا طنط» 

غادرت نجاة قائلة «هستناكي تحت يلا همي عشان تفطري معايا» 

سحبت الحقيبة للداخل ووضعتها فوق الفِراش، تذكرته فتركتها وجلست مستندة ً عليها تفكر أين هو من كل هذا؟ هزت رأسها تنفض الأفكار وتلوم نفسها على انشغالها الدائم به، عادت للحقيبة واليأس يتملّك كل قطعة من قلبها. 

حقيبة ممتلئة بالملابس المناسبة جدًا لها وبمقاسات مضبوطة، تم انتقاء قطعها بعناية، ألوان القطع تماثل ما ترتديه بالإضافة لألوان أخرى. 

والكثير من العطور ومنتجات العناية الخاصة بالجسم والشعر والقليل من مستحضرات  التجميل. 

أعادت إغلاقها زافرة بقنوط لا يبرح نفسها. 

أمس طرق بابها وحدثها قليلًا بكبرياء، طلب منها الخروج للحديث لكنها رفضت كالعادة وصرفته في رفض، تنهيدته اليائسة منها حطمتها فبكت حتى نامت. 

هبطت للأسفل فاستقبلها طاهر مُعايدًا، ضمها فصاحت جدته بامتعاض وضجر، سبتها ولعنت والدهما، فتجاهلت متشبثة بمودة أخيها وحنان نجاة ونظرة سماسم التي تحمل الكثير من العطف. 

تناولا الفطور ثم خرجا؛ ليتجولان. 

راقبتهما آيات بعين الحقد والغيظ قبل أن تغلق النافذة وتدخل مفتشة في حاسوبها، فاجأها اتصال من والد الصغيرة، شهقت مترددة قلبها ينبض بعنف، تابعت إلحاحه وإصراره الذي لم يهدأ بتردد حسمته وأجابت

«السلام عليكم ورحمة الله» 

اعتذر بتهذيب ونبرة حملت رونقًا وجاذبية «وعليكم السلام ازيك يا مس» 

أجابته ودقاتها تتواثب مما جعلها تتحرك في الشقة مُهدئة من توترها بسيرها الكثير «ازي حضرتك» 

اعتذر بأدب «آسف لإزعاجك بس قولت اتصل وأسألك  عن رونا وأعرف أخبارها» 

أجلت صوتها وأجابته برقة «تمام اطمن حضرتك مستواها حلو» 

أجابها بمرح «طيب الحمدلله عامةً أنا متفائل جدًا بحضرتك بعد كلامها عنك» 

سألته بإرتباك ملحوظ «قالت إيه عني؟» 

ضحك بخفوت قائلًا «هي حبتك خالص من أول مرة وفهمت منك جدًا ومبسوطة بيكِ» 

ابتسمت بفخر وهي تشكره برقة «شكرًا لحضرتك» 

طلب منها بأدب«معلش ياريت تبلغيني بكل التطورات ولو في عقبات كمان وخطتك معاها ومستواها شهريًا» 

لمعت عيناها بإعجاب لاهتمامه بصغيرته  وهي تجيبه بالموافقة «تمام بإذن الله» 

كرر أسفه «آسف  لإزعاج حضرتك مرة تانية مع السلامة» 

أنهت الاتصال وجلست متنهدة بهيام «الله يسلم حضرتك» 

أمس حدثتها صديقتها عن ذوقه واهتمامه، وإرساله الهدايا لمعلمات فتاته في نهاية كل عام... ابتسمت وهي تبحث وتفتش عن صفحته، تأملت صوره بإعجاب لا تنطفيء جذوته يتدفق في النفس ويملأها فضولًا للمعرفة عنه أكثر، قارنت بينه وبين زوجها، رجحت كفته فألقت زوجها في جُب الإهمال والنسيان بعدما باعته بثمنٍ بخس. 

فتشت عن صور حبيبها القديم فتحتها وتأملته بحنين وهي تمرر أناملها على وجهه بشجن، يشبهه والد رونا كثيرًا وهذا ما يجعل قلبها يختلج عند رؤيته وحديثه، يذكرها بحبيبها الراحل في مرونته وجاذبيته. 

تذكرت المقولة التي تقول «يخلق من الشبه أربعين» فابتسمت... وأغلقت ملفاتها متنهدة بأسى.  

******

في منتصف الليل 

هبط درجات السلّم ممسكًا بما أحضره لها، غاب عنها اليوم مستعيدًا حماسه،ماسحًا آثار الهزائم عن قلبه،يملأ نفسه بالإصرار ومتحليًا بالعزيمة ، فتح باب شقة يونس ودخل مُغلقًا خلفه ثم وقف على باب حجرتها راجيًا يطرق بأمل يعانق النفس، انتفضت وقد ميزت طرقته منذ زمن وعرفت هوية صاحبها لولا التعقل لانفلتت فرحتها عن الزمام وصاحت في سعادة، أدّعت الجهل كابحة لهفتها عليه وسعادتها بإصراره«مين» 

ابتسم بحنو هامسًا«أنا يا غزل» 

وقفت خلف الباب مرتعشة تفرك كفيها بتوتر بعدما قبضت على قلبها مشتاقًا له، تحاول جاهدة أن تخرج نبرتها سليمة وخالية من لهفتها «طاهر؟» قالتها مشاكسة له فضم شفتيه لاعنًا داخله قبل أن يُجيبها بصبرٍ «لاه معلش رؤوف» 

تململت واضعة كفيها موضع قلبها الذي ترتفع صوت دقاته للسماء «وعايز إيه بقا؟ الوقت اتأخر» 

رجاها بلطفٍ، لا يقل عنها شوقًا «طيب افتحي مش كل مرة هنتكلم كِده»

التقطت أنفاسها وهتفت بدفقة شجاعة «عايز إيه؟»

خرج عن طور هدوئه متوعدًا بغلظة مهددًا لها «لو مفتحتيش مش همشي يا غزل هكسره فوج دماغك وأدخل وأكلمك برضو»

وضعت كفها على فمها مانعة ابتسامتها من الظهور،تثبتها رافضةً تبلورها لضحكة قوية، فتحت الباب بحذرٍ وأطلّت برأسها مستفسرة بعبوس كاذب وحدّة زائفة «نعم عايز إيه» 

ابتسم بجاذبية مهلكة قبل أن يرجوها ببراءة سلبت لبها «افتحي يا بشمهندسة» 

التقطت أنفاسها قبل أن تفتح الباب على مصراعيه  وتقف أمامه منتظرة. 

منحها صندوقًا ورقيًا ضخمًا مزين باشرطة ملونة «خدي كل سنة وأنتِ طيبة» 

ابتلعت ريقها مستفسرة بتلعثم، تسيطر على نفسها بقوة هائلة «إيه دا؟» 

أجابها بصبر لا تنتهي صلاحيته ولا يفسد بالتقادم «هديتي ليكي» 

ترددت في أخذها فحثها بمزاح«خديها مفيهاش قنبلة هتنفجر فوشك» 

تنهدت بإستياء وضجر من قوله الذي أفسد اللحظة وأخذتها منه تفتحها أمام نظراته، فغرت فمها منبهرة قبل أن ترفع نظراتها إليه قائلة «ليه كل دا ما طنط جابت» 

مسح أرنبة أنفه بطرف سبابته كما يفعل حين يتوتر وأجاب «الي جابته أمي حاجة وهديتي حاجة ودا عيد ميلادك كل سنة وأنتِ طيبة» 

غطت الصندوق قائلة ببرود مصطنع «شكرًا يا متر مكانش له لزوم» 

أجابها بزفرة ملل ثم نظر لساعة معصمه قائلًا بسرعة «هغير هدومي وأجهز عشان هصلي الفجر وأسافر مش هرجع غير بعد يومين» قاطعه سؤالها المحاط منها بنظرة غائمة بالحزن واللهفة «ليه هتروح فين؟» ابتسم متجاهلًا سؤالها وتابع بمكر«نص ساعة أنزل الأجيكي عملالنا كوبايتين شاي»ثم نظر إليها تاركًا الشوق يتسرب «عايز أتكلم معاكي شوية جبل ما أمشي بجالي كتير مجعدتش ودردشت معاكي يا هندسة» 

غادر دون أن يعرف ردها فرض رغبته ورحل فأغلقت الباب وقفزت ببهجة قبل أن تفتح الصندوق وتسحب منه ما أحضره، بجامة حريرية ناعمة باللون الوردي مناسبة لشكل علاقتهم، عطر، أحمر شفاه، طوق بلون البجامة،وفيونكة مماثلة، تحممت بسرعة وأبدلت ملابسها. 

عاد في الموعد المحدد طرق بابها ينبئها بعودته ثم اتجه ناحية الشرفة وقف فيها مستندًا على مرفقيه حتى جاءته بحلتها الجديدة  التي زادتها نعومة وأضفت عليها سحرًا، وضعت الصينية فوق الطاولة الصغيرة  ووقفت جواره مستندة بمرفقيها مثله، تأملها مستنشقًا عبيرها قبل أن يهمس بالبداية «آسف  على الي حصل» ابتسمت هامسةً

«خلاص حصل خير» 

سألها وهو ينظر للفضاء الواسع أمامه «مش هترجعي؟» 

أخفت ابتسامتها وأجابته بجدية «ممكن بس بشرط؟» 

استدار متأملًا بلهفة وموافقة سريعة «أأمري» 

كتمت ضحكتها على ملامحه  وأجابته بنظرة شقية وحركة كتف «تزرعلي بدل الي قطّعته ولما يكبر هرجع فورًا» 

نظر إليها بإعجاب وشغف قبل أن يطلق موافقته بابتسامة ماكرة «موافق» 

أجابته بجدية «تمام متفقين» 

تحرك وأمسك بكوب الشاي قائلًا بنظرة ماكرة «دايمًا بإذن الله» 

تناولت مثله كوب الشاي وهي تقدم له طبق الكيك بخجل «دوق بقا يا متر عمايلي عشان يبقى عيش وثقة » 

فهم ما ترمي إليه فابتسم مُعاتبًا «خلاص بجى جولنا جلبك أبيض يا هندسة» 

ضحكت برقة قائلة «ماشي يا سيدي وجلبك كمان أبيض» 

تناول قطعة منها بصمت فسألته بلهفة لمعرفة رأيه «إيه رأيك؟» أجابها ونظراته تشتبك مع نظراتها «حلوة جوي يا هندسة تسلم يدك» 

ردت بخجل لذيذ زادها جمالًا«شكرًا يا متر» سرى بينهما صمتًا طويل لا يخلو من نظراتهما المتراقصة وابتساماتهما المفعمة بالرضا، وقف قائلًا «يدوبك أمشي» 

أظهرت لهفتها دون حذر«بسرعة كدا» 

ابتسم قائلًا وهو يترك الشرفة مُقرنًا قوله بالفعل «الوجت سرجنا من غير ما أحس » 

تبعته حتى وقف مكانه واستدار لها قائلًا وهو يدس كفه بجيب جلبابه «نسيت يا هندسة» 

استفسرت وهي تتابعه باهتمام «إيه؟» 

منحها رزمة أموال قائلا «عيديتك جبل ما أنسى» 

فغرت فمها مندهشة ناظرة إليهم بنظرة  طفولية مترددة أضحكته، شكرته بسعادة ممتنة له«شكرًا كتير يامتر بس مفيش داعي جبت هدية » 

أجابها بابتسامة واسعة «عندنا كده لازم فلوس» ثم شدد قارئًا أفكارها «لازم تاخديهم يبجى فال عفش لو مخدتيهمش مني» 

استفسرت منه بعفوية «ازاي» 

قال مراوغًا بمكر «عندنا لو الواحدة جوزها اداها فلوس لازم تاخدها ومتجطعش خيره عنها، زي عربون محبة ولو رفضتها يبجى بترفضه» 

استنكرت ببراءة وهي تهز رأسها «كل ده وعلى إيه هاخدهم يا متر» تناولتهم منه مستسلمة فكتم ضحكته واستدار من جديد

تحرك خطوتين ورغبته بضمها وتقبيلها تتضاعف وتثقل خطواته، فاستدار من جديد حين وصل لباب الشقة المغلق وهمس متأثرًا بتلك المشاعر المتأججة داخله «غزل» 

أجابته برقة مستأنسة بهمسه وصحبته«نعم يا متر» 

همس بأنفاس عالية وهو يقترب منها«في حاجة تانية منستهاش ولا هجدر ولازم أعملها عشان فال عفش جوي جوي والله» ضحكت مُقلدة له «جوي جوي يعني» 

ضحك مثلها وهو يغمرها بنظراته «أيوة» 

ضحكت قائلة بمرح «إيه يا مت.... لا تعرف كيف اقترب ولا كيف عانق شفتيها بتلك اللهفة وهذا الشغف والحنو الذي جعلها تستسلم وتتقبل عطائه راضية، منحها من أنفاسه حتى ثملت،ثم تركها غير مبتعدٍ ولا متخلٍ ضمها لأحضانه هامسًا بوجدٍ «كل سنة وأنتِ قريبة من الروح يا غزالي، كل سنة وأنت معايا منورة بوجودك عتمة الجلب» 

مستكينة بأحضانه متقبلة عطاياه بشغف لا يسمع منها سوى أنفاسها المتسارعة.أبعدها قليلًا محيطًا وجهها بكفيه هامسًا وفمه يستكين فوق خدها بشوق ظنه سيخمد لكنه تجدد وتجددت معه عاطفته «أنا عديم الإحساس والمشاعر يا غزالي عشان معملتش كده من بدري أنتِ مكدبتيش»

أغمضت عينيها متأثرة عاجزة عن الهرب وطامعة في المزيد منه. 

فرد كفه فوق خدها، أزاح حجابها كاشفًا حرقها، ثم مال ملثمًا له،نثر قبلاته ونشرها فوقه فشهقت متفاجئة بفعلته

همست باسمه وصدرها يعلو ويهبط بانفعال«رؤوف»

همس وهو يضم رأسها لصدره «خليكي عند وعدك لو زرعت ترجعي يا غزالي متسبنيش تاني،رؤوف عايز يتنفي من الدنيا معاكي»

أبعدها ملثمًا جبهتها هامسًا «أشوف وشك بخير»غادر قبل أن يعرف ردها  

 فتح الباب ورحل بسرعة، تاركًا خلفه حيرتها وتوهتها والكثير من الحب. 

****

بعد ثلاثة أيام 

لمحته قادمًا بسيارته فقفزت في فرحة ولسانها يتنغم بنطق اسمه في سعادة ولهفة بلغت أعماق القلب «رؤوف» 

ابتسم هامسًا حين لمحها «وحشتيني يا غزال والله» صف سيارته ودخل المنزل محمحمًا يعلن عن وجوده، ركضت للدرج منتظرة قدومه بقلب تعلو دقاته. 

خرجت آيات مثلها لكن الغاية مختلفة، شملتها بنظرة ساخرة وصمتت. 

فانسحبت غزل بصمت وتقهقرت في ضيق، عادت للشُرفة في بؤس ودموع تطرق الأبواب. 

صعد متوجهًا لشقة آيات رأته  فأمطرت العين واختنقت الأنفاس، نبضات قلبها العالية تباطأت بقلة حماس وحسرة سكنت الوجدان. 

جلست ناظرة للأفق تتذكر ما حدث بينهما ودموعها لا تتوقف، حتى استسلمت لليأس وسلمته نفسها بهزيمة، حينها توقف المطر وصفت النفس. 

بعد قليل جاءها ملهوفًا يلعن الأخرى ولا ينظر خلفه مأمورًا من قلبه حتى لا يصب الشوق فوق رأسه الغضب أو تلومه اللهفة ساكنة الأعماق، أغلق باب الشقة ودخل الشُرفة راميًا السلام بنبرته الدافئة. أجابته بصوت غلبه الشقاء لكن رغم ذلك حافظت على الابتسام. 

«ازيك يا هندسة» 

أجابت بمرح كاذب خبأت به غيرتها وحزنها «بخير يا متر حمدالله على السلامة» 

نظر لعينيها مليًا ثم جلس بصمت غلبتها شقوتها فتهكمت بفرط غيظٍ هاج في الأعماق «إيه طلعت بدري من عند آيات يعني» 

زال غموض حزنها وانكشف الستار دون عناء منه لمعرفة ما أصابها، سلمته أوراق نفسها فتصفحها، شاكسها بخبث ونظرة ماكرة «لاه لجيتني هطول عندها  ويمكن أبيت فجولت جبل ما أنسى أجي أسلم عليكي وأشوفك عايزة حاجة ولا لاه» 

فغرت فمها لا تصدق ما يتفوه به وجرأته، تبخرت الدهشة وحل محلها الألم، توشحت ملامحها الجميلة بالسواد حدادًا على النفس التي هلكت والروح التي هامت، بثبات ابتسمت وتحركت «أنا بخير روحلها متتأخرش عليها» 

دخلت حجرتها وأغلقت بعدما انفض جمع الفرح من قلبها، جلست مطرقة بصمت فدخل خلفها وجلس قائلًا مستمرًا في مكره«الليل طويل هجعد معاكي شوية» 

هتفت بغضب ونقمة «أمشي أنت جاي ورايا ليه أصلًا مش سلمت خلاص» 

وقفت وجسدها يرتجف من شدة الغضب وبروده، تلتقط أنفاسها بصعوبة فنهض وضم ظهرها لصدره مقيدًا ذراعيها بكفيه، تململت رافضة اقترابه «ابعد» 

فثبت جسدها بين ذراعيه وهمس «هعتبر دي غيرة يا غزالي، معرفش أنا في أمور الحب كتير، معشتوش وجربت حالاته جبل كده، بس معنديش مانع أجربه وأعيشه من الأول معاكي» 

شهقت بنعومة متفاجئة بهمسه الساحر الذي وضعت حوله الكثير من علامات الاستفهام، تسربت دقات قلبها العالية لصدره فازداد شغفًا بقربها، وضع ذقنه على كتفها وابتسم يقص عليها بصوته الجميل «طلعت أشوفك وجابلتها جالت هيت لك، جولت معاذ الله غزل في الجلب» 

توردت بخجل وهي لا تصدق اعترافه الصريح وجمال كلماته الساحرة ، تسربت رائحة أنفاسه لصدرها معبقة رئتيها فهدأت واستكانت، همس مجددًا «وحشتيني اليومين دول يا غزالي مش عارف وحشتك ولا لاه بس مش مهم»

أغمضت جفنيها تضغط على شفتيها حتى لا يتسرب اعترافها منها، سيطرت بكل قوتها ممتنعة رغم كلماته التي سحرت القلب والعقل وطوعت الكيان وأخضعت الجوارح.. تابع موضحًا «رجّعت آيات لأسباب أنا ورغبتي مش فيها » 

طرق طاهر باب الشقة مناديًا «غزل» 

تململت مرتشفة جرعة من القوة والثقة وأبعدته عنها بقوة قائلة بحدّة «طاهر بينادي ابعد لو سمحت» 

تركها ونظراته تهمس باللوم، ابتعد يهتف بسخرية «ماشي شوفي أخوكي » 

فتح الباب فاستقبله طاهر بحفاوة «وحشتني يا أخوي» 

نفض غيرته مستقبلًا محبة طاهر بطيب نفسٍ وعاطفة صادقة، بل ضمه مبادلًا الشعور «ازيك يا طاهر عامل إيه» 

ابتسم طاهر قائلًا «الحمدلله» 

تحرك رؤوف للخارج فاستفسر طاهر«رايح فين؟» 

أجابه رؤوف وهو يهبط الدرج بسرعة «هريح ضهري شوية من تعب السفر» 

دخل طاهر فوجد غزل مطرقة بصمت جلس جوارها قاطبًا في حزن يسألها وهو يمرر كفه على رأسها «مالك يا حبيبتي زعلانه ليه كده؟» 

أخبرته بحرقة وهي تضع كفها موضع قلبها تلومه على دقاته «جوايا نصين بيشدوا فبعض يا طاهر مش عارفة أحبه ولا أكرهه، أترمي فحضنه ولا أسيبه عايزة  أقوله بحبه وعايزة أقوله أنا منفعش لحاجة أعمل إيه؟ » 

ضحك طاهر ضحكة متقطعة بالذهول يستفسر وهو يضمها محتويًا شتاتها «بتحبي رؤوف يا غزل؟» 

بكت بحرقة وقهر نازعةً عنها درع الشجاعة والثبات «أعمل إيه يا طاهر؟ معملتش لدا حساب» 

ضمد جراحها بحنوه وتفهمه،أمينًا في نصحه لها «حبيه علشان رغم كرهه حبك، وأوعي تخافي منه عشان محدش حماكي زيه ولا خاف عليكِ كده» 

سارت كلمات طاهر داخلها بحذر تخطو فوق ألغام القهر تتلمس موضع أمان تسكن فيه... صمتت إلا من أنين خافت رفعت رأسها تمسح دموعها وهي تنظر إليه والضياع يغمرها ويسحبها بسلاسل من نار«مش هينفع يا طاهر أنا مش واثقة فحاجة أبدًا» 

تلظى في الحزن من عذابها وقهرها، لكنه ابتسم قائلًا «اديه الفرصة يا غزل وافتحيله جلبك وخدي منه الي يديهولك هتوصلي للي عيزاه» 

شاركته عذابها وحيرتها،ألقت عليه ثقل روحها «خايفة يا طاهر أووي مش هتحمل أي حاجة تاني»

ربت طاهر على خدها مُطئنًا بحنو «متخافيش أنا جنبك ومعاكي»

صمت اللسان ولم يصمت الحزن ظل يثرثر في عينيها ويعيث في نفسها الفساد،فشلت محاولات طاهر في انتزاعها من حزنها  فتركها وهبط لأخيه. حكى له ما قالته جملةً وتفصيلًا وخوفها وعدم ثقتها في نفسها التي تهلكها،جاءته إجابة سؤاله عن سبب تغيرها وخوفها من كشف حروقها أمامه. 

بينما هو يفهم ما خُفيّ عنه كانت هي بالأعلى أمام المرآة المُعلقة تقف مرتدية قميص قطني قصير بحمالات رفيعة، عاينت جسدها بنظراتها أولًا ثم مررت أناملها على ندوبه تتحسسها والدموع تغرق وجهها، لأول مرة منذ ما حدث تحصي بقع حروقها باحثة عنها بأمل، وقفت عاجزة عن إحصائها ولملمت ما التهمته النيران، بقع كثيرة متناثرة جعلت جسدها أشبه بثوبٍ مرقع، جلست أرضًا باكية

أخذت عهدًا على نفسها ألا تنظر إليه، ألا تترك اللوم يدمرها، لكنها اليوم فعلتها حين شبّ الحب في قلبها، تُرى كيف يراها؟ 

ما مدى معرفته بتشوهاتها، رآها ولم يعلق؟  لم يسأل ولو لمرة واحدة، ولما يسأل وهي لا تعنيه؟  هي مجرد قربان صفح وأداة انتقام؟ هو متزوج من الأجمل لما سينظر إليها ولماذا؟  ما الذي تمتلكه يجذبه إليها؟ ليته يتركها وشأنها، يفك قيدها ويطلق سراحها فتغادر قبل أن تتورط أكثر. 

نهضت من جلستها وضوضاء الألم تعلو وتشوش عقلها، جذبت المرآة وتركتها تسقط متناثرة لشظايا، رأت جسدها مبعثرًا فوق القطع كما روحها الآن، ثم أطلقت حنجرتها بالصراخ، ارتدت ملابسها مخبئة جسدها وجلست باكية. 

بعد قليل رفعت هاتفها مُجيبة على اتصاله بغضب قررت صبه فوق رأسه كاللعنات «أيوة عايز مني إيه؟» 

أجابها بسخرية مُقيته ألقت التعاسة في نفسها المكلومة «هعوز منك إيه؟  هو أنتِ يجي من وراكي غير الهم» 

صاحت بعلو صوتها وهي تدور حول نفسها «أمال بترن ليه؟  مش قولتلك سيبني أنا مش هنفعك» 

هتف بعصبية بعدما سبها «جوزك أجرلي بلطجية وبعتلي معاهم إن  دا حقك» سبها ببذاءة وتابع وهي تسقط أرضًا ذاهلة ومتوجعة «اتفو عليكي وعلى ربايتك أخرتها يابنت....» 

بذءاته طالت عرض والدتها، دنّس لسان الكلب خاصته ثوب عفتها وطهارتها فصرخت بإنفعال «اسكت اسكت دي عند ربنا منك لله» 

لم يتوقف عن رشقها بحجارة من سجين الدناءة، لعنها ودعى عليها بحرقة غيبت وعيها فصاحت «أنا بكرهك كفاية» 

أنهت الاتصال وجلست باكية، اقتحم رؤوف الحجرة فرفعت رأسها في تساؤل وجسد فقد طاقته وحيويته، جلس أمامها يصب نظراته فوق وجهها متسائلًا بهدوء خطير «كنتي بتكلمي مين يا غزل وزعّلك كده» 

أشاحت قائلة والدموع متحجرة في عينيها «مفيش مكلمتش حد» 

واجهها بنظرة نفذت للروح «سمعتك» 

نزعت نظراتها وأجابته «يبقى أكيد عرفت مين» سقطت دموعها رغمًا عنها فضم وجهها بكفيه مواسيًا بحنو، مستقبلًا مطر حزنها على أصابعه «متبكيش ما عاش الي ينزل دموعك وأنا على وش الدنيا» 

انهارت حصون قوتها هجرها الأمان واستبد  بها ظلم النفوس، ضمها لصدره محتويًا يربت ويمسح على ظهرها مهونًا «اهدي هريحك منه» 

ابتعدت منتفضة تتملكها ارتجافة الخوف، رفعت نظراتها تائهة، تلملمه في نظرة غير مشوشة بالدموع، ربت على خدها مبتسمًا ووجعها ينخر عظامه.. سحب الهاتف ونهض في عزم يطفئ حرائقه بانتقام بارد 

وقف محيطًا لها بنظراته الحنون، درعًا منيعًا لها من هلاك مخاوفها مانحًا لها رشفة نصرٍ ومؤازرة،جاءه صوته الكريهه مصحوبًا بسبة بذيئة لها- قطعها-رؤوف بقوله«ازيك يا مرتضى واحشني يا راجل»

نال سبة مماثلة فضحك قائلًا «يا راجل ابلع لسانك إنت مش ناجص أجطعهولك» 

صمت مرتضى فتابع رؤوف متحكمًا في أعصابه « إيه الدنيا خدت كام غرزة يارب العيال بس يكونوا عملوا شغلهم بضمير أنا جولتلهم كل الغرز تبجى في الناحية الشمال زيه كدِه»تنهد رؤوف وتابع متمنيًا  «عقبال ما تموت وتاخد كتابك بشمالك يا مرتضى جول آمين» 

كتمت شهقتها بباطن كفها مندهشة من قوله وتأكيده وكلماته فابتسم قائلًا وهو يستدير مُحدثًا له من بين أسنانه  «كان نفسي أجولك يا حمايا بس غزل خلاص مبجتش تخصك» 

رمشت بعينيها وذهولها يرتفع منسوبه حد الفيضان، فتابع رؤوف وهو يعود إليها ويجلس أمامها على ركبتيه يمسك بذقنها ويرفع وجهها إليه،منحها نظرة دافئة ومال ملثمًا عينيها،ثم ابتعد يقحم كلماته في عقل الآخر ويبرم العهود أمام عينيها ذواتِ الأفنان «غزل بجت بتاعتي يا مرتضى مالكش فيها شبر واحد، زي ما طاهر من دمك بس بتاعنا هي كمان بجت بتاعتي لوحدي انساها» 

فغرت فمها وقلبها على مسمعٍ منها  فابتسم وتابع مهددًا «قرّب منها تاني وهجتلك بدم بارد المرة دي.. انساها عشان تفضل حي، دمعة واحدة من عينيها بموتك » 

صرخ مرتضى، هاج لاعنًا يتوعده «مخلصتش يا واد الحفناوي هترجعهالي بنفسك وغصب عنك زي ما خدتها غصب» 

سخر منه رؤوف ونظراته تتفقد تقاسيم وجهها ناحتًا لها بأنامله «ابجى اتغطى زين ولا خلي المدام تغطيك لو اتشليت » 

تشرست ملامحه فجأة وتبدل حاله للنقيض وهو يهدده «تعال جنبها وأنا أسففك تراب أرض الوطن الي هربت وسبته زمان» 

أنهى الاتصال ببساطة زافرًا غضبه مع الأنفاس ثم نظر لعينيها هامسًا ببرود العالم وابتسامة جعلتها تطالعه ببلاهة «ها يا غزالي مش هتجومي تعشيني» تعجبت من تبدل حاله السريع،خصته بسؤال استنكاري  «رؤوف أنت بعت بلطجية صحيح وضربته؟» 

تنهد قائلًا ببساطة «بجالي يومين متصدقتش كالعادة يا غزالي فجولت مرتضى أولى، أجرتله كام واحد يبعتولوا سلامي وردي على زعلك مني » 

صرخت بإنفعال لا تصدق ما تسمعه «رؤوف بتتكلم جد»

قال بمرح وهو يضحك على رد فعلها «وتربة أبوكي وعفاشته حصل» 

ردت باستنكار وهي تقف مبتعدة عنه «تربة أبويا وعفاشته يعني إيه؟» 

ضحك موضحًا وهو يقف «قبر أبوكي يا غزالي أمنية بجى، ومفيش أصدج من عفاشته أحلف بيها» 

عبست بغيظ فشاكسها وهو و يسحبها لأحضانه«زعلتي عليه؟» 

دفعته بعيدًا عنها قائلة بضيق«لا» 

ثم سألته بحنق شديد «إيه موضوع غزل تخصني وهتفضل معايا احنا مش متفقين» 

تسلح بالبرود وهو يهرش ذقنه متلاعبًا ومراوغًا كعادته«متفقين على ايه؟» 

زفرت بملل مستغفرة ثم أوضحت بصبر

«جوازنا فترة محددة وأنا أصلا كنت هكلمك إنه خلاص» 

تابع ببرود وهو يبتسم رافعًا راية الجهل والغباء«ايه هو الي خلاص؟» 

صاحت في غيظٍ من بروده وهدوئه 

«متلفش وتدور أنت وعدتني» 

فتح ذراعيه قائلًا ببراءة كاذبة 

«أنا موعدتش بحاجة» 

صرخت فيه «وعدتني نتطلق» 

ضرب كفًا بكف ساخرًا من قولها 

«كمان طلاق دا حمار مين إلي جالك كده» 

ضمت شفتيها بحنق شديد قبل أن تنفجر غضبًا«أنت بتستعبطني» 

هز رأسه وأجابها بابتسامة هادئة ونظرة شقية«حاشا لله أنتِ الي شكلك فهمتي غلط ودي مش مشكلتي» 

جن جنونها فثارت عليه«يعني إيه»

التهم المسافة بينهما، نظر لعينيها هامسًا بهيام  «أنتِ هنا لنهاية العمر» 

قالت بذهول شديد غير مصدقة «مفكرتش فكدا ولا عملت حسابي» 

جلس فوق تختها مسترخيًا يهتف بجدية ونظرة مشاغبة«متفكريش كتير وتتعبي أنا فكرت وقررت وعملت حسابي هخلف كمان» فغرت فمها كما توسعت عيناها عليه وصرخت«أنت هتجنني باللف والدوران بتاعك والتحوير»

اعتدل قائلًا بامتعاض وسخط  «أنتِ الي مخك تخين ومعارفكيش بتفهمي كيف يسد بيت أبوكي» 

قالها بصيحة غضب ونظرة تقيمية لاعنة وموبخة فاقتربت وضربته بالوسادة مُحذرة«متزعقليش» 

سحب الوسادة وضربها مرة بها موبخًا بفظاظة«أزعق ايه وزفت إيه معارفش دخلتي هندسة كيف، يونس لو جعد معاكي هيولع فيكي» 

أخبرته وهي تقف أمامه بصلابة متحدية له  «يونس صاحبي ومبيزعلنيش وأنا بحبه» 

انتفض زاعقًا بغيرة أشعلت نظراته بالغضب«حب أبوكي جطر يكون سواقه أعمى» انكمشت رامية ذهولها في وجهه«أنت هتضربني؟» رفع ذراعه مهددًا بقبضته المضمومة والغيظ يجرف هدوئه بعيدًا«وأكسر نفوخك التخين دِه جدامي يلا على فوق» 

تخسرت صائحة بتهكم «انسى مش هطلع حتى لو زرعتلي خطواتي ورد » 

 سألها بهدوء ونظراته تتوعد «بجا كده؟»

أشاحت قائلة بكبرياء 

«أيوة ويلا من غير مطرود وجعت دماغي»

هتف مهادنًا لها ونظراته ترجوها بلطف

«تعالي حضريلي عشا جعان وأمي نامت»

سخرت منه متشفية فيه«روح لآيات ما هتصدق»

تهكم بحنق وعبوس مصحوب بتأففه المعترض

«بجولك آكل  مش عايز نفسي تتسد»

دارت حوله ودفعته لخارج الحجرة قائلة «امشي عايزة أنام » 

استدار متوعدًا لها «طيب ماشي أنتِ الخسرانة والله »أغلقت الباب وجلست أرضًا مُفكرة بينما طرق هو ساخرًا بضحكته من فعلها متوعدًا بالرد«ماشي يا غزالي اتدلعي أنا برضو مبحبش الحاجات الساهلة بتفقدني الشغف والحماس» 

**

طال مكوثها ببيت والدها على غير عادتها، تأخرت فتعكز حتى وصل إليه وطرق الباب، استقبله والدها بتحفظ شديد، دخل يسأل عنها «عبدالله وأمه اتأخروا فجيت أشوفهم» 

انعزل علاء مراقبًا بصمت بعدما رحب به على غير عادته مبديًا حسن نيته وسلامتها.. جلس مؤمن واضعًا عكازه جواره فقال والدها بعصبية «كويس جيت يا مؤمن كنت عايزك» 

استفسر مؤمن منه بقلق عربد داخله منذ دخل واستقبله بفتور «خير يا عمي» 

عبس الرجل ومطّ شفتيه ممتعضًا قبل أن يرمي بشرره «هياجي منين الخير والأيام مجندلة» 

انقبض قلب مؤمن وسأله بوجوم «ليه حصل إيه؟» 

رمقه الرجل بنظرة مستهجنة قبل أن يقول بعصبية «بجى إسمع أنا ملاددش عليا الي بيحصل دِه ولا حالك ومرمطة بتي» 

اعتصرت قبضة الخوف الباردة قلبه المثقل بالهم وهو يبرر له بصوت هالك بالوجع «مش بيدي يا عمي ولا ليا حيلة» 

اخترق العجز صميم القلب وفتته لشظايا، صاح الرجل برعونة غير راحمًا «امبارح عيل ميساويش جه ورجعلي العيش الي بتعمله اتعارك معاي وخد تمنهم، ليه المرمطة وجلة الجيمة دي؟» 

صمت مؤمن لا يعرف بما يُجيبه فتابع الرجل بحماقة «شوفلك أي شغلانه يا أخي ناجص أنا جلة جيمة وبهدلة» 

حرّك الرجل ذراعه وتأففه خرج كالرياح العاتية التي سُخّرت على قلبه لتدمره وتزرو بقايا الأمان بروحه، تدخل علاء معاتبًا خاله متخذًا جانب مؤمن «في إيه يا خال؟  هو مؤمن قصر فإيه؟ وبعدين أم عبدالله بتشتغل مبتعملش حاجة عيب ولا حرام والزباين فيه الكويس وفيه الوحش» 

رفع مؤمن له نظرات غامضة متحققة منه ومستشفة لما في قلبه فابتسم له علاء مطمئنًا رافعًا راية السلم. 

صاح خاله بغضب «مجوزتهاش عشان تجبلي الكلام والهم يا يشوفله حل يا يسيبها»

طأطأ مؤمن رأسه بحرج مُفكرًا في كلمات الرجل قبل أن يرفع رأسه مُقررًا بتحدي وإصرار متشبثًا بالأمل وممسكًا بأذياله «هشوف بإذن الله» 

احتدت نظراته وتابع بغضب «هدى مرتي مفيش حاجة اسمها أسيبها، كله هيتصلح» 

نظر إليه الرجل باستهانة قبل أن يشيح قائلًا «هنشوف أخرتها معاك» 

خبأ علاء انتصاره ولمعة عينيه لائمًا خاله «يا خال دا نصيب وقدر ومؤمن مالوش ذنب» 

تعجب مؤمن من مؤازرة علاء له واهتمامه بالأمر لكن سرعان ما نفض ذلك مُفكرًا في ما تؤول إليه الأمور. 

استرخى علاء بظفر وفخر، تأمل مؤمن الشارد بحزن راضيًا كل الرضا متذكرًا ما قالته هدى لوالدتها والذي سمعه مصادفةً، 

وكيف بكت رافضة سفره والفرصة المقدمة إليه فقرر استغلال الأمر والضغط على مؤمن حتى لا يستجيب لطلبها مع الحفاظ على الصمت أمامها و أوهامها  بعدم التدخل في شئونها والوقوف بعيدًا عن هذا الأمر. 

هتف مؤمن بصوت مبحوح ووجه شاحب  غارق في الهم  «نادي أم عبدالله عشان نمشي ياعمي » 

أشاح الرجل بإستياء طالبًا من علاء فعل الأمر «ناديلها يا علاء» 

حافظ علاء على نصره الصغير وثباته على الموقف، قال وهو يشير لمؤمن «البيت بيتك يا مؤمن ادخل ناديلها» 

نهض مؤمن  غائصًا في الألم يتحرك ببطء مستندًا بكل قوته على عكازيه، دخل ووقف أسفل الدرج مناديًا «عبدالله» 

حملت هدى صغيرها النائم وهبطت بسرعة بعدما ودّعت والدتها، ما إن رأته حتى هتفت بقلق وهي تنثر نظراتها على ملامحه «مالك يا مؤمن حصل حاجة؟» 

ابتسم قائلًا وشحوبه يزداد «لاه مفيش» 

زاد قلقها أضعافًا فسألت «حاجة وجعاك؟» 

تحرّك مستديرًا وهو يجيبها بخفوت «لاه» 

سارت جواره بقلق يتكاثر في نفسها، تنظر إليه من وقتٍ لآخر متعجبة وخائفة تستمع لتنهيداته بجزع أصاب قلبها بفأسه الحادة. 

وصلا المنزل، وضعت الصغير بتخته بينما انعزل هو بحجرته صامتًا بحزن وعجز، حتى حسم أمره ورفع هاتفه مراسلًا أخته بحزم وعزمٍ لا يلين ولا يخضع لسطوة «احجزيلي فأقرب وقت» 

*****

بعد صلاة الفجر 

طرق مناديًا بوهن شديد وهو يسعل باصقًا الدماء مع أنفاسه الملتهبة يضع كفه فوق صدره بتعب «غزل» 

استيقظت منتفضة، قفزت بسرعة ناحية الباب متسائلة بقلق «مين؟» 

انحنى متألماً يجاهد لتخرج كلماته سليمة معافاة من الوهن «أنا يا غزل رؤوف» 

قالها وسقط أرضًا مُحدثًا صوتًا أفزعها عليه ، هتفت باسمه في خوف وهي تفتح الباب«رؤوف» 

وجدته أرضًا، فشهقت منحنية تهتف بخوف «رؤوف فيك إيه؟» 

امتزجت دموعها بدمائه وهي ترفع رأسه عن الأرض ماسحة الدماء عن وجهه بأناملها. 

*****

#انتهى

مراجعة الفصل: منة أحمد ♥


1



الثلاثون من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close