اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الثامن والعشرين 28 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الثامن والعشرين 28 بقلم عائشة حسين 



                                    

♡الثامن والعشرون ♡


+



استقبل مجيئه بترحاب حذر «يا أهلا يا أبو فهد نورتنا» 

سلّم عليه الرجل بوقار ومودة ضعيفة التقدم لا تبلغ القلب «ازيك يا متر عاش من شافك» 

أجلسه رؤوف وجلس مبتسمًا ببشاشته المعهودة وسماحة نفسه المعتادة والمألوفة «الله يخليك» 

ضغط رؤوف الزر قائلًا «قهوة مظبوط يا ابني» 

شكره والد فهد ثم سأله بنظرة ثاقبة «أمال فينك يا متر غايب» 

حرّك رؤوف القلم بين أنامله وأجابه متذكرًا غزاله «والله يا أبو فهد كنت بتجوز ومشغول شوية» 

بارك له الرجل بابتسامة واسعة لم تتعد حدود الفم «مبارك يا أستاذ مش كنت تعزمنا» 

ابتسم رؤوف كاتمًا تنهيدة حنين أصابت صدره حين تذكرها «كل حاجة جات بسرعة والموضوع كان على الضيق والله» 

قال والد فهد بملامح ثابتة لا تميل لمشاعر ولا تؤرج كفة عاطفة صادقة«بالرفاء والبنين يا ابني» 

شكره رؤوف مبادلًا له المشاعر الحذرة «أخبار فهد إيه؟» 

نظر إليه الرجل نظرة طويلة عكست ما في نفسه من قلق وحذر في الإجابة وأوضحت توجسه منه ثم قال «بخير هيطلع قريب» 

ابتسم رؤوف متمنيًا له بصدق «ربنا يطمنك عليه طهورًا بإذن الله» 

تجنب رؤوف السؤال عن فيروز حتى لا يثير شكوكه أو استدراجه لمعرفة الأخبار 

فقال الرجل معتذرًا «بعتذرلك يا متر عن سوء ظني والي حصل مني ومن فهد » 

مال رؤوف مسترخيًا وأجاب بغطرسة «ولا يهمك يا أبو فهد هو احنا عشرة يوم حقك ولو مكانك هزعل» 

ثم مال بجذعه ناظرًا له بقوة وهتف بحدة وقول لا يخضع، متمردًا كما نفسه على الظلم «ولو كنت مكان أخويا وحضرت كنت هعمل زي ما عمل» 

ارتجفت ابتسامة الرجل فوق شفتيه ثم سقطت مخلّفة وراءها عبوسًا ونظرة نارية، تابع رؤوف باستهانة مبررًا له «يشوف واحدة بتضرب وتتجرجر ويسكت لا طبعنا ولا ربايتي ليه تسمح إنه يفوّتها» قالها ونظراته تمتلىء بالفخر والهيبة مما جعل الرجل يطرق بعصاه متنهدًا يؤكد بلا قناعة «معاك حق» 

سأله رؤوف بخبث «إن شاء الله تكونوا حليتوا أموركم واتصافيتوا» 

زفر الرجل بضيق وأجابه «لا من ساعة ما مشيت من عندكم مرجعتش والقضية شغالة» 

أصدر رؤوف بفمه صوتًا مستاءً وقال بأسف مفتعل «لا حول ولاقوة إلا بالله وإيه وصل الدنيا لكده بس المواضيع دي مكانها البيوت مش المحاكم» 

هز الرجل رأسه راميًا طعمه «حاولت أوصلها علشان نحل الموضوع مفيش فايدة فص ملح وداب» 

هرش رؤوف رقبته مخبئًا ابتسامته المستخفة بخبث الرجل ومكره ثم أجاب «ربنا يصلح الحال » 

دخل العامل بالقهوة ووضعها أمام الضيف وخرج ليبدأ رؤوف بالعمل مع الرجل

بعد مدة ودعه وجلس ملتقطًا أنفاسه مسترخيًا يدور بكرسيه مغمض  العينين سابحًا في عالمه تمنى لو امتلك صورة واحدة لها ينظر إليها كلما غلبه الشوق. 

فتح عينيه وأمسك بهاتفه مترددًا في مهاتفتها يتمنى، ويرغب في سماع صوتها لكن بأي عذر. 

دخول لمياء جعله يقطع رحلة استغراقه فيها ويعتدل بأعصاب مشدودة «اتفضلي يا أستاذة» 

قدمت ابتسامتها الواسعة كقبلة ترحيبية قبل أن تجلس ممسكةً بملف «كنت عايزة اتناقش مع حضرتك في حاجة» 

ابتسم مُرحبًا بعملية «اتفضلي» 

قالت ببسمة هادئة لا تعكس ألمها وغضبها وغيرتها «أولًا مبروك الجواز يا أستاذنا» 

أجابها بلطف «الله يبارك فيكِ يا أستاذة» 

شكرت بحقد مختبيء في القلب «بجد غزل قمر ولطيفة جدًا» 

توقف عند قولها مستفسرًا بحاجبين منعقدين في دهشة «أنتِ تعرفي غزل منين؟» 

ضحكت قائلة «مش هتصدق حضرتك غزل تبقى مين؟» 

انتبه لها مستفسرًا فضحكت وغلها يتصاعد منتشرًا في قلبها «فاكر صاحبتي الي اتأخرت عن خطوبتها وحضرتك وصلتني» 

توسعت عيناه وصمت بدهشة عظيمة فتابعت الأخرى بنبرة متحسرة جاهدت لإخفائها «تخيل بقا يا أستاذنا سبحان الله» 

استفسر ومعرفته بخطوبتها زادته ضيقًا «تعرفي غزل من بدري؟» 

أجابته بهزة رأس «أيوة بس أنا زعلانة منها بجد إزاي متعزمنيش؟ حضرتك أكيد ليك عذرك فإنك تخبي بس هي الندلة» 

ابتسم قائلًا «اعذريها كل حاجة جات بسرعة» 

قصدت السؤال بخبث للاستهزاء والتقليل منها «طيب عملت العملية ولا لا؟» 

سألها رؤوف باهتمام «أي عملية؟» 

ابتسمت موضحة بمكر «الحروق» 

بادلها مكرها بآخر مع ابتسامة منمقة «أي حروق؟» 

تقلصت ابتسامتها وأصابها سهم الشك، سألته بنظرات مهتزة «الحروق الي فوشها وجسمها» 

أجابها رؤوف بخبث «آه مش فاكر يا أستاذة ابقي اسأليها مخدتش بالي» 

عبست مستنكرة بغيظ «معقول» 

هرش رؤوف جانب رأسه قائلًا بمدح والكثير من  الهيام  «معقول عشان هي غزل كل مافيها جميل»

حاولت الوسوسة وغيظها يتصاعد لجوفها فتنطق بما تسحق عليه في عُرفه قتلًا «غريبة دي خطوبتها اتفسخت علشان الحرق والعملية» 

أجابها بابتسامة لطيفة ونظرة متقدة بالمشاعر الصادقة «خسر وكسبت أنا يا أستاذة» ضمت شفتيها كاتمة حنقها فخبأ ابتسامته وأشار بجدية «جولتيلي عايزة تتناقشي معايا فإيه؟» 

تنهدت مستسلمة واعدة نفسها بجولة أخرى تثور فيها وتنتزع حقها. 

____

«شقة يونس» 

هتف يونس بلهفة «مش هتيجي يا واد يا طاهر وحشتني ومش عارف أخد إجازة» 

أجابت غزل بالنيابة عنه مُشجعة طاهر بنظراتها «قريب بإذن الله كفاية كسل» 

تهكم الذي كان يستمع بغيظ وقهر شديد من إقصائه بعيدًا وجعله خارج مدارها يتلظى في شوقه «كيف ويسيب أخته ميجدرش خليه جاعد جنبها» 

نبرة الغيظ جلبت الضحكات للعارفين ببواطن الأمور بينما جلبت لها السخط والضيق فردت له الصاع صاعين «أخويا مستغناش عنه وفعلا مقدرش على بُعده خالص بس هضحي عشان يونس حبيبي برضو » تلقت رأس يونس خُفه البيتي انتقامًا مما جعله يقول «مجدرتش عالحمار مسكت في البردعة» 

قال من بين أسنانه بغيظ مكتوم متوعدًا لها «صُح كلكم حمير وهي أولكم»

كانت يقظة ومتنبهة، تنتظره بلهفة، قانعة  بما تُرزق منه حتى لو كان صوتًا

صاحت بغضب «سمعني وعلي صوتك يا أستاذ» 

نهض ووقف أمام الجهاز بشموخ وأجابها بابتسامة مستفزة وغطرسة تثير جنونها «بس يا علبة الكبريت أنتِ ووطي صوتك» 

زفرت بغضب شديد قبل أن تُلقي بردها «مش هرد عليك يا سيء الظن يا عديم المشاعر والإحساس» 

ضرب يونس جبهته لاعنًا بينما انحنى رؤوف مُنهيًا الحوار بغضب امتزج بحزنه اللامحدود «اجفلي عشان عديم المشاعر والإحساس مش عايز يزعلك»حركت كتفها بلامبالاة مستهينة بحزنه وقوله بادئة بقطع الحديث وإنهاء الاتصال. 

دخل حجرته وأغلق خلفه شرد في قولها الذي يعرف أسبابه، لكنه لا يملك الإحساس سوى بها ولا يملك مشاعر لغيرها، فقد إحساسه بسواها منذ أحبها، يمتلىء بالعاطفة ويتضخم قلبه بها، هي إشراقة صباحه وقمر ليله ورفيقة روحه التي اختارها. 

بالخارج كان يعاتبها يونس بلطف كما يفعل طاهر يؤنبها على إسرافها في حنقها وتعمدها جرحه «متعودتش منك على كدِه يا هندسة و خلافكم ميخلكمش تجرحوا بعض» 

استلم طاهر دفة الحوار «رؤوف مجالش حاجة تضايجك كده يستاهل توصفيه بعديم الإحساس والمشاعر» 

تركت الهاتف واللوم خلفها ، انسحبت للحجرة، جلست تفكر فيما قالت وماحدث كيف يؤثر غيابه عليها وكيف تتوه عن نفسها حين تراه،

بعدها وجدت نفسها تراسله «أنا آسفة»

قرأها وكان متيقنًا من أنها ستفعل،عرفها وقرأ سطور نفسها مرات،احتفظ بالرد لنفسه يجهزه كما يحلو لها وبطريقته. 

_____

دخلت هدى المنزل فلفحها صقيعه، تجمدت من برودة جدرانه وخوائه، ضمت جسدها بذراعيها وما عادت تعرف قلبها ولا قلبه ولا بأي منزل نزل الحب، ومن خطفه ليتوارى عن الأنظار، ولا تلك الوحشة المفزعة بروحها، ندائه لا يؤثر وكلماته لاتتحرك قيد أنملة  من موضع الخذلان، لا تسمع تبريراته ولا تفقهها، بينهما سور وضع هو قواعده وأكملت أيادي الأفعال والكلمات بنائه، اليوم لا تتنفس رائحته ولا تشعر بالدفء، البرودة تمتد في روحها والرهبة تنتشر في الأعماق.. تعكز حتى جلس جوارها قائلًا بهدوء «الي أنتِ فيه مش هيخلص؟» 

نظرت إليه بغضب مكتوم وحنق، مستنكرة عتابه المتواري، ثم أشاحت متقيدة بالصمت لا تريد جرحه، ولا أذاه تحملت بصبر فتابع بتنهيدة «مش عيزاني أبجى كويس؟  مش عايزة ترتاحي؟» 

صمتت متحكمة في نفسها لا تفلت غضبها ولا تترك يديه تفسد، تتركه يطغي في النفس فتتلوى وجعًا، صاح بغضب قليل الظهور لها «ما تتكلمي» 

تحركت  مُجيبة ببرود «خلصت كل ورجك؟» 

أمسك بذراعها قبل أن تتسع المسافة بينهما كما روحيهما وهتف «جولتلك هسافر لوحدي وأرجع مش هتأخر» 

استفسرت ببرود ودموعها تحتشد خلف سورٍ من كبرياء «مؤمن أنت رتبت كل حاجة هيهمك فإيه موافجتي؟» واجهته بحدة «لو عارفني هوافق مكنتش خبيت ولا خلصت كل حاجة في الدرا» 

تلعثم في حزنه قائلًا «لاه عشان كنت خايف من الأمل، خايف متتيسرش وأعلجك وأعلج نفسي بحبال الوهم الدايبة» 

صرخت فيه وهي تنزع ذراعها برفق مترفقة بضعفه «لاه أنت خلصت من ورايا عشان أنت ضميرك يبجى مستريح وإنها فرصة متتعوضش ولازم تمسك فيها مترفضش والورق جاهز»

طرق بضعفه على قوتها «أنا تعبت يا هدى والله، وأنا شايف المرض وقلة الحيلة بيسرقوا عمري وعمرك » 

صرخت مهزومة باحتياجها وعشقه «وأنا متعبتش ولا مليت، العمر مع الي بنحبهم مبيتسرقش دا كل لحظة بيتدفع فيها حلال يا مؤمن البُعد هو الي بيسرق العمر» 

صارحها بوجع يفور في الأعماق «مش مرتاح يا بت الناس مش عارف أريحك متبهدلة وشايلة الهم حتى مصاريف ولادتك معارفش هجيبها منين» 

مسحت دموعها بعنف وأجابته بحدة «خلاص اعمل الي يريحك يا مؤمن» غادرت وتركته متخبطًا، تتشابك الأمور في عقله وتُسد السبل أمامه، الحيرة تنهشه وحزنها يفتت الباقي منه... عجزه يطفو ويسيطر يقتل أي محاولة للرضوخ فيتضاءل أمامه حزنها ويقل، تسمو الغاية وتعلو فوق كل شعور بالإشفاق عليها فيبتعد وتتسع الفجوة 

ـــــــــــــــــــــــــ

«بعد يومان» 

استعجلها قائلًا ممتلكًا نص اللهفة لرؤية الحدث وانفعالها على المفاجأة«يلا هنتأخر يا حبيبتي» 

خرجت من الحجرة متأففة من استعجاله ضائقة به «يا ابني اهدأ» 

سحبها من كفها قائلًا ببهجة اختمرت في قلبه حين أخبره رؤوف بترتيبه المقابلة «يلا بينا يا دوب نلف ونتغدى» 

عدلت من وضع حقيبتها على كتفها قائلة «مين قال عايزة اشتري حاجة» 

أجابها بابتسامة لطيفة فيها من الأنس والبهجة ما جلب السعادة لنفسها المُكدرة «أنا جولت يا غزولة» 

تخطى طاهر الموجودين بها وخرج للسيارة فاستفسرت «بتاعة أخوك دي؟» 

أشار لها بالصعود قائلًا «أيوة  » 

تنفست رائحته أول ما جلست والحنين يفترش صدرها ويضم ملامحها الغارقة في الشجن، تحرك طاهر بالسيارة قائلًا «لما عرف إني هطلع سابها» 

أومأت بصمت حزين ورائحته تأخذها لذكرياتهما القليلة سويًا، ابتسمت اشتياقًا لمشاكستهما «ايه شاغل بال الجميل بتاعنا» 

تنهدت هامسةً بوحشة تركها رحيله في الصدر «مفيش» 

ثرثرت متجاهلة مشاعرها محتفظة بها بقدسية في مكان بعيد بالقلب وعاشت يومها كما ينبغي بطاقة متجددة لا تتوقف. 

تجولت هي وطاهر بين المحال التجارية

اشترت القليل على استحياء نتيجة إصرار طاهر عليها، لا تملك المال الكافي لتشتري ولا تريد أن تأخذ منه أو غيره فتجولت بصمت وبحاجة منقوصة بضيق اليد. 

جلس طاهر واستأذنها؛ يسحب القليل من المال، فهزت رأسها وأمسكت بهاتفها متنقلة في عالمه اللامحدود حتى رفعت رأسها على نداء مبهج باسمها «غزولة» 

قفزت تاركةً كرسيها تهتف باسمه «قاسم» 

اندفع الصغير معانقًا لها من خصرها في لهفة غلبته وشوق أقسم ألا يُهدر في الكلام 

تركت هاتفها فوق الطاولة وبادلته عناقه مقبلة رأسه بحنو «حبيبي يا قاسم وحشتني أووي» 

غمغم والده متوعدًا له وهو يراقب فعلته «جولنا نص حضن يا ابن ال...» 

جلست أرضًا ليعتدل العناق وتصفو المحبة، ابتعد قاسم متفقدًا ملامحها مُعترفًا«وحشيني يا غزل كتير جوي» 

مسحت دموعها بأناملها هامسةً بحشرجة «وأنت كمان يا روح غزل» 

مسحت على شعره متأملة له قبل أن تضمه مرة أخرى متنعمة بمحبته الصادقة وأحضانه الآمنة، جلست بعدما أجلسته جوارها وتأملته هامسةً وهي تمسح على شعره «مش شبهه أنت يا قاسم» 

استفسر قاسم بجبين منعقد وقد وصله همسها «قصدك أبوي؟» 

صمتت ولا تعرف بما تُجيبه لم تقصد والده بل آخر طال غيابه عنها، لم تجد ردًا سوى هزة رأسٍ خجول فضحك قاسم قائلًا «أنا أحلى منه عارف» 

ضحكت غزل برقة مؤكدة «أيوة طبعًا أنت أحلى واحد في الدنيا» 

هتف الصغير بمحبة ظلها وارف حجب حرارة الوحدة عن قلبها المنهك «وأنتِ كمان»

سألته وهي تمسك بكفه الصغير ضامة له «جيت إزاي؟» 

تذكر الصغير ما حدث وأخبرها بعفوية وبراءة «جدتي جالتلي لو صليت عالنبي 1000 مرة كل ليلة الجمعة ودعيت بحاجة هتتحجج فأنا عملت كده ودعيت أشوفك فجيت وشوفتك» 

أدمعت عيناها من صدق إحساسه وأشارت لفخذيها داعية بمحبة «تعالى» 

ترك الصغير كرسيه وجلس على فخذيها فضمته مقبلة صدغه بعاطفة أم، ثم استفسرت وهي تمشط خصلاته بأناملها «جيت مع مين؟» 

ثم قطعت سؤالها بضمة له وهمس لا مبالي «ولا أقولك مش مهم، المهم أنت هنا» 

أخبرها الصغير بمحبة «بسقي الورد بتاعك وباخد بالي منه زي ما جولتيلي وبحكيلهم» 

تذكرت ورودها المنحورة الممتلئة بالهمس عنه وكيف تخلص منهم كأنه يجتث جذور الحب من قلبها رافضًا له، لكن كلما رأته ترتوي تلك البذور ولا شيء يوقف نموها، لكن أين هو؟  العقاب أتلف قلبها هي بالحرمان لا هو،غيابه أثقل ميزان قلبها بالهوى فبُخست فعلته وقلّ ثمنها. 

لعن رؤوف صغيره متوعدًا تأديبه يبدو من ملامحها ودموعها التي تمسحها أنها تذكرت فعلته وورودها. 

تنفست بقوة عائدة للواقع قائلة «شكرًا يا حبيبي» 

جاء طاهر مبتسمًا جلس جوارهما مُرحبًا بانضمام الصغير  «نورت يا متر يا صغير » 

حمحم طاهر مُعدلًا كلماته «أصل قاسم عايز يطلع زينا محامي» 

هزت رأسها لا تفهم سر تفسير طاهر وتوتره، طاهر الذي رفع هاتفه قارئًا رسالة أخيه «يسد بيت أبوك بوصي فبهايم» 

كتم طاهر ضحكاته ثم رفع الهاتف ملتقطًا صورة لهما قائلًا «هبعتها ليونس» 

أوضح طاهر وهو ينقر فوق هاتفه «جابلت قاسم وأبوه هنا فخدته منه وبعتهولك على ما يجضي أبوه مشاويره» 

دللته غزل بمحبة «حبيب قلبي يا طاهر أنت» 

ضحك طاهر بخجل مبادلًا لها تدليلها «أنت الي حبيب الجلب يا هندسة» 

صرخ هاتفه بالرنات فرفعه ليقرأ «يومك مش فايت يا واكل أبوك» 

ضحك طاهر وانشغلت غزل بالصغير... مرّ الوقت سريعًا فقال طاهر «يلا بينا نمشي» 

سألته غزل وهي تضم رأس الصغير «مينفعش يجي معانا؟» 

هز طاهر رأسه رفضًا فودّعت غزل الصغير وتركته لأيادي طاهر الذي سحبه خلفه حتى أوصله لوالده. 

طوال الطريق كانت صامتةً ببؤس ظن طاهر برؤيتها للصغير سينتهي لكنه إزداد وتراكم فوق ملامحها الجميلة مشوهًا.. سألته بخفوت «طاهر قاسم وبباه مش عايشين معاكم ليه؟» 

ابتسم طاهر مخبئًا توتره وشرد مفكرًا في إجابة مُقنعة، كان اليوم مراقبًا للصغير وموجهًا له، ضابطًا كلماته وعفويته حتى لا يُفصح بشيء أو يكشف خبيئة، وللحق غزل ساعدته أكثر بتجاهلها السؤال عن حامد وانشغالها بالصغير 

«الموضوع طويل يا غزل» قالها ظنًا منه أنها ستتقبل وتصمت لكنها تشبثت بالمعرفة «احكيلي الطريق طويل» 

تهرّب طاهر منها ممسكًا بهاتفه «استني هرن على يونس مكلمتوش» 

أراحت رأسها على نافذة السيارة عائدة لأفكارها، شيء ما دعاها لأن تفتش في السيارة ربما الحنين الذي يغرقها أو الشوق الذي يمزق صبرها، وجدت ورقة مطوية فتحتها وقرأت ««إنّ القلوبَ وإن طالَ البِعادُ به

يوماً ستُرجِعُها الذكرى لماضيها

تعودُ في لهفةٍ والشوقُ يغمُرُها

ولوعَةُ الحُبّ تسري في مآقيها

رِفقاً بها لا تلوموها على زمَن

مضَى بآلامهِ، فالّلومُ يؤذيها

لولا الوفاءُ وحُسنُ الظنّ ما رجَعَتْ

عطشى تحِنّ لمن يحنو ويرويها٠

ما قيمةُ الحُبّ إلّا في مُسامَحةٍ٠

تشفي القلوبَ وتُحيي كلّ ما فيها. 

ابتسمت بإعجاب وإعادت الورقة لمكانها مُرددة ما حفظته منها بسرعة أثارت دهشتها. 

_____

استغل مرتضى خروج زوجته وطرق باب فتاته مرتديًا قناع الأبوة، أذنت له مرحبة فورًا فدخل تسبقه ابتسامته «ازيك يا صفوة» 

جلس فوق الفِراش حيث تجلس منشغلة بحاسوبها الذي أزاحته جانبًا حين دخل وأولته جلّ اهتمامها، كافأها على مودتها بسؤال مهتم «طمنيني عليكي يا بنتي معلش مشغول عنك الفترة دي» 

نظرت إليه مليًا متذكرة ما قصّته غزل، متعجبة أن يحمل هذا الوجه البشوش خلفه تلالًا من الشر هدمت بيوتًا وشردت قلوبًا وملأت وادي المحبة بصرخاتٍ كالعويل، فكرت كيف لغزل أن تصدق هذا دون حاجة لسؤاله وكيف تخون عهد الأبوة هكذا وتنصر أعدائه عليه؟  لا تعرف محبتها لطاهر هي ما دفعتها لتفعل؟  أم أنها رأت ما لم تره هي؟  هي التي لا تستوعب حتى الآن ما حدث؟ 

«الحمدلله يا حبيبي بخير» أحاطت قولها بابتسامة جميلة وحنان جُبلت على منحه فمسح مرتضى على رأسها مستفسرًا بقلق كاذب «أختك كويسة بتكلمك؟» 

أجابته بسرعة «يعني مش كتير بس هي بخير بيعاملوها  كويس جدًا» 

صمت مُفكرًا قبل أن يطرد الحزن الكاذب من صدره في تنهيدة ثم قال «ممكن بتقولك كدا علشان متحسيش بالذنب يا صفوة ولا تزعلي» 

انقبضت ملامحها بألم، تلاشت ابتسامتها وقالت «ممكن يا بابا أنا إزاي مجاش فبالي كدا» 

مسح مرتضى فوق رأسها قائلًا «الناس دول لا هما زينا ولا شبهنا، غزل مش هترتاح هناك» 

أدمعت عينا صفوة في ندم كلما طردته جاء راكضًا إليها يطرق أبواب نفسها وإن لم تفتح له  ظل مكانه منتظرًا، ومضت عيناه وقال بحشرجة تأثر كاذب «بحاول أقنعها تهرب بس مصممة ومصدقاهم» 

سألته صفوة بحرج «يعني أنت معملتش الي بيقولو عليه دا يا بابا؟» 

تنهد بحزن كاذب قائلًا «لا يابنتي لو في دليل على كلامهم وصادقين أنا متحبستش ليه؟ وليه سابني لغاية دلوقت» هزت رأسها مقتنعة بمبرراته ثم سألته «وطاهر يا بابا؟» 

ضم شفتيه متأثرًا يهز رأسه أسفًا قبل أن يُلقي كذبته كحية تسعى «أنا فعلا كنت متجوزها يا بنتي قبل والدتك مش هكدب بس مكانتش بتخلف وطلقتها علشان كدا» صارحته بما أخبرتها به غزل «غزل بتقول إنه أخونا» 

ضرب الرجل فخذه قائلًا بيأس وانكسار «مش عارف غزل مالها ومصدقاهم كدا ليه؟  من ساعة الحريق وفسخ خطوبتها مش طبيعية » 

هتفت صفوة بأسف حقيقي «الله يكون فعونها يا بابا حياتها اتقلبت فكل حاجة» 

هتف بحسرة حقيقية «مسكينة حظها قليل، عمرها ما طلبت لنفسها حاجة ولا خدت حاجة» 

مسحت صفوة دموعها وهي تؤكد قوله «صح يا بابا بس ربنا هيعوضها بإذن الله»

عادت نظراته لها قائلًا «متسبيهاش اطمني عليها دايما وعلى أخبارها وابقي طمنيني» 

قالت بعفوية وبساطة «بسألها بتقول إن رؤوف بيعاملها كويس جدًا وبيهتم بيها وبطلباتها ومبيسمحش لحد يزعلها ولا يضايقها» 

رفع حاجبه مندهشًا يسأل «بجد قالت كدا؟» 

أكدت صفوة قولها «أيوة بس ممكن تكون بتريحني معرفش» 

صمت مُفكرًا قبل أن يهتف «وارد» 

انشغل قليلًا بما قالت ثم هتف بانكسار كاذب«بقولك يا صفوة يا بنتي معاكي فلوس فحسابك؟» 

اهتزت نظراتها وصمتت مرتبكة متذكرة تحذيرات والدتها لها، شعر مرتضى فقال بمكر «الديانة والمحامين كله عايز فلوس وأنا معادش فيا صحة لبهدلة الحبس ومش عارف أعمل إيه؟  سحبت كل الي فحساب غزل وبعت المشتل وبرضو مجمعتش حاجة» 

ابتلعت ريقها متوترة مهتزة المشاعر ومشتتة الأفكار، نهض مرتضى بعدما ربت على كتفها ببسمة ممزوجة بحزنه، أوقفته قائلة «في مبلغ هو مش كبير بس ممكن يساعد يا بابا» 

وقف مكانه مبتسمًا بانتصار قبل أن يستدير قائلًا بانكسار زائف «خلاص يا بنتي خليه معاكي» 

رفضت قائلة «لا يا بابا أنا مش محتجاله» 

نهضت متجهة ناحية خزانتها، أخرجت كارت البنك واقتربت منه قائلة «خد اسحبهم يا بابا هبقى مبسوطة لو ساعدتك واهي كلها فلوسك» 

تظاهر بالرفض ممتنعًا عن أخذه «خلاص يابنتي يمكن تحتاجيهم الله أعلم ظروفنا هتفضل لامتى كده؟» 

أصرّت بلطف وهي تضمه بحنو «لا يا حبيبي خدهم» 

تناول الكارت على استحياء وضمها لأحضانه شاكرًا ممتنًا لطيبتها «ربنا يخليكم ليا يا بنتي وميحرمنيش منكم ويردلنا غزل بخير»ابتعدت عنه مؤمنة خلفه بمحبة واشتياق «يارب» 

خرج من الحجرة مغلقًا خلفه ينظر لما في يديه بظفرٍ وانتصار، قبل أن يدخل حجرته ويغلق خلفه مرتبًا أفكاره. 

____


+





                

تحلقوا حول صينية الطعام، هبطت رغمًا عنها بعد إلحاح نجاة ونداءات عدنان المتكررة عليها، جلست جوار نجاة صامتة بخجل ومندهشة من توقفهم عن تناول الطعام كأنهم ينتظرون غائب.... 

ليدخل الضيف المُنتظر راميًا السلام بابتسامة واسعة ونظرات وقفت عندها كأنه لا يرى سواها، طأطأت رأسها بخجلٍ بهي وقلبها تعلو نبضاته وتتراقص على نغمات صوته الدافيء «لا سلام على طعام خلصنا واجعد» 

قالها عدنان وأفسح له المجال ليجاور المنكمشة بخجل،بعدما احتفظ بجوارها كالأمانة لصاحب الحق حتى أتى ، قبّل رؤوف رأس جدته بخفة ونظراته تعانق الأخرى التي تتهرب بخجل مكشوف ورعشة جسد واضحة «وحشتيني يا جدتي» القبلة الأول للجدة والثانية تحالفت معها نظراته ليؤكد لها حين رفعت نظراتها لتتأمله أنها لها هي. 

أخفضت بصرها للطعام بأنفاس متسارعة منتظرة قدومه، الذي لم يتأخر وجاورها، اعتذر عدنان منها بهمس خافت «معلش يا بتي نستسمحك يفطر المغرب وهيمشي» 

هزت رأسها وصمتت بحرج بينما همس رؤوف بمرح «هاتي البلح الي جدامك يا غزال أفطر» 

رفعت نظراتها مستفسرة فابتسم مُعيدًا الهمس الذائب في أصوات المعالق والأواني 

«جولت والله ما أفطر غير من يدك ياغزال» 

ابتلعت ريقها وأشاحت فابتسم منتظرًا أن تأتي له بما طلب، ببطء سحبت الطبق ووضعته أمامه فهمس «هاتي بيدك عشان تاخدي الدعوة الأولى» 

ابتعدت عنه قليلًا في إشارة واضحة لرفض ما طلب، فابتسم وتناول واحدة. 

اقتسم معها كل ما تناوله من طعام أو وضِع أمامه، تركها الجميع له يطعمها ويهتم بشأنها وأحاطها هو بعناية لا محدودة. 

مال رؤوف هامسًا متذكرًا ما قد سلف « أجولك بتاكلي إيه ولا عرفتي خلاص» 

تطلعت إليه بنظرة فريدة أربكت دقات قلبه فابتسم.. 

راقبتهما آيات بحقد لا تصدق حال رؤوف وتغيره الواضح وذلك الحب الذي ينضح من نظراته للجالسة جواره.. انشغلت بمتابعتهم حتى أيقظها عدنان بتهكمه «ما تاكلي يا آيات يا بتي نفسك مسدودة ليه» 

هتفت الجدة موجهة حديثها لآيات «إيه يا بتي في حاجة في السكة ولا إيه » 

ترك رؤوف ما بيده  متأففًا يلعن قائلًا «حرجة  أبو السكة على أبو النكد» 

عاتبته جدته بمصمصة شفاه وهي تنظر لغزل بكراهية«مالك يا ولدي ؟» 

ترك رؤوف الطعام في زهدٍ ورحل بعدما سحب عباءته من على الكرسي القريب حيث وضعها عند دخوله. 

رمت الجدة خلفه الإستفسارات  فأجاب عدنان بضحكة مستهزئًا «أصله سد السكة الجديمة بطوب أحمر وأسمنت يا أما»  

شيعته نظرات غزل بضيق وحزن وخيبة عظيمة قبل أن تنهض هي الأخرى مُعلنةً الشبع. 

في المساء

جذبها صوته العالي غير عادته، تحركت منقادة بنبرة الحزن والعجز في كلماته حتى وصلت لباب المندرة الخلفي الفاصل بينها وبين ساحة المنزل، جلست فوق أريكة خشبية تستمع لهتافه العالي وغضبه الذي أحرق مبررات من يناقشونه، لثورته المقامة ولافتات باسمها وهي لا تعرف كيف صعدت خلوته وجاءت بالدواء له دون طلب وبتلقائية شديدة. 

هطلت دموعها وهو يزعق معانقًا حروف اسمها بنبرته الجميلة، هل سيحدث ويختص اسمها بالتدليل يومًا وينثر زهور الحب فيها «جولتلك إلا غزل يا حمدي تخصني» 

على ضوء فهمها  تبينت مقصده لكن أمطار عينيها لم تتوقف حتى غسلت داخلها،فجأة فُتح الباب وخرج منه بتأوه مكتوم وجهاد نفسٍ تعرفه مدت ذراعها أمامه فاردة كفها المرتجف، أعاقت طريقه حاملةً دواؤه فوق زورق  كفها، وقف مرتجفًا شخصت نظراته على كفها الممدود بذهول وألمه يشتد ويشوش أفكاره، لكن قلبه يبصر ولا يتشوش«أنتِ هنا ليه وبتعملي إيه؟» 

همست وهي تمسح دموعها تأثرًا وضيقًا من تلك المشاعر التي تترعرع داخلها«الدوا بتاعك» 

صمتت ساحبةً له لعالم آخر ثم أكملت برقة تصنع لحنًا خاصاً بنغمات جديدة «سمعت صوتك فجبت العلاج وجيت استنى» وقف متصلبًا يجاهد ليبقى واعيًا نظر لعينيها المغرورقة بالدموع فهزت رأسها تشجعه بتوسل خرج مبهمًا من بين شفتيها، رفع كفها لفمه وتناول الدواء ونظراته فوق ملامحها في محرابها خاشعة 

لثم كفها برقة، قبلة تغلغلت في الروح وتعمقت في القلب،سحبت كفها مرتعشة الجسد من تأثير فعلته. 

تحركت مبتعدة هاربة من مداره وتأثيره لا تصدق التطور السريع لمشاعرها ، بوهن وجفون ثقيلة تكابد العناء لتبقى مرتفعة ، ترنم باسمها «غزالي» 

توقفت مكانها وهمسه ينشر الفرح، استدارت مستفسرة غير قادرة على النظر إليه، التهم المسافة وعانقها بقوة حتى كاد يفتتها،قوة لا يعرف كيف امتلكها بوهن جسده؟ربما نبعت من قلبه المثقل بالعشق لها، القلب الذي قرر ألا يمرر اللحظة دون اقتراب

ضمها بذراعيه مريحًا رأسها على صدره متمنيًا لو ذابت داخله وتلاشت في روحه. 

ظلت صامدة لا تمنحه عاطفه ولا تفرد أشرعتها تبادله عناقه الطويل، لكنها مستمتعة راضية ومتنعمة بشعور جديد عليها،بين ذراعيه أمان لا تعرفه ولم تتذوق مثله يومًا وفي قربه لذة لم تدركها إلا حين عانقها بتلك القوة،تتدفق اللهفة ولا ينتهي الشوق. ترنح قليلًا فابتعدت مدركة معاناته بتفهم، أجلسته بلطف ثم ركضت وأحضرت له وسادة وضعتها ووجهته بعدما أمسكت كتفيه «نام يا رؤوف» 

نظر إليها بدهشة قبل أن يتمدد، دثرته بعباءته وجلست أرضًا بالقرب منه.. 

خرج والده من المندرة فرآه في غفوته وهي أسفل منه منتظرة، نهضت فأشار لها عدنان «اجعدي» 

فتح رؤوف عينيه ليتحقق من وجودها وأنّ ما حدث لم يكن حلمًا بل واقع... استأذنت  عدنان بسرعة وهربت للأعلى راكضة، اعتدل يسأل «غزل فين؟» 

أجابه والده «مشت» 

مسح رؤوف وجهه بكفه زافرًا بقنوط قبل أن ينهض صاعدًا للأعلى طرق بابها «غزل» 

«إيه؟» أجابته وهي تقف بثبات رغم ترنح مشاعرها، تكتم الشوق وتمنع تسربه لصوتها والشعور بأحضانه لا تضاهيه أي متعة في الدنيا جربتها وعاشتها من قبل. 

«افتحي عايز اتكلم معاكي» حمل دلو نبرته الشوق واللهفة من قلبه وسكبه على مسامعها دون حذر. 

أغمضت عينيها وأجابت بصوت حاد أرادت أن تثبط به عزيمته ولا يفتضح أمر قلبها «الوقت اتأخر عايزة أنام» 

لكنه صمم والشوق في قلبه يهيئ لها مملكتها في القلب «مش هعطلك كتير هجولك حاجة» 

سيطرت على رغبتها بقوة مرتدية كبريائها سترة ناجية تقي قلبها هجومه المفاجيء «لا وبعد إذنك أمشي» 

أسقط كفه جواره في يأس، متنهدًا باستسلام لطلبها مغادرًا بأسى تاركًا المنزل كله فلن يشفي صدره سواها ولن يبقى تحت سقف يجمعهما دون أن يتقاربا. 

*""

زفرت الملل مع أنفاسها قبل أن تمسك بجهازها مقررة خوض التجربة في الخفاء والاستعانة بوحدتها لإتمام الأمر، هو لا يأتي إلا بالطلب وأهله يتركونها حرة، شيدت لنفسها قلعة خاصة منعزلة فلما تنفذ قوله أو تمتثل لرغبته فليذهب بأوامره للجحيم. 

بسرعة أوصلتها الصديقة بالطالبة، رحبت بها في عملية وبدأت حصتها التجريبية بمزيد من الشغف والحماس... الذي انقطع بصوت مقتحم «حبيبة بابا بدأتي الحصة؟» 

أستأذنتها الصغيرة الرد فصمتت بصبر واستمعت باستخفاف وسخرية 

«أيوة يا بابا» 

ظهر من خلف صغيرته مقتحمًا شاشة حاسوبها، انحنى مستندًا على ركبتيه قائلًا بابتسامة خلابة «السلام عليكم ازيك يا مس أخبارك يارب تكون رونا شاطرة» 

فغرت فمها في إعجاب وهي تتأمل جسده الرياضي وووسامته المبهرة، أجلت صوتها من تأثيره وأجابت «لا شاطرة بإذن الله ولو في حاجة هظبطهالها بإذن الله» 

انتصب أمامها فاتسعت نظراتها انبهارًا بملابسه المهندمة وشياكته الواضحة وذوقه في اختيار الألوان وتناسقها «أنا متفائل جدًا أنا واثق فمس نوره واختيارها وترشيحها» 

شكرته بأدب فمال مقبلًا صغيرته «لو احتجتي حاجة رني أنا طالع ساعة وراجع» 

ابتسامة متفهمة رسمتها الصغيرة قبل أن تدير رأسها للجهاز وتعتذر بأدب «سوري يا مس ممكن نبدأ» 

عادت للعمل بصورة لغريب انطبعت في الذهن واحتلت أفكارها، لا تصدق أن هناك رجال بكل تلك الوسامة والأناقة كنجوم السينما.   

بعدما أنهت العمل هبطت للأسفل لتتسلى بعض الشيء وترد له صفعته. سلّمت على الموجودين وجلست مطرقة بحزنٍ مفتعل وكسرة كاذبة. 

مالت الجدة وهمست في أذنها بأمل «مالك يا بتي في حاجة؟» 

أجابتها آيات وهي تمثل التوتر «مفيش يا جدة بس حال رؤوف مش عاجبني» 

هزت الجدة رأسها بتأكيد وهي تندب حظه وترثي حاله «الواد اتبدل كنه مش هو كله من بت الخاين سحراله» 

استمعت سماسم بعبوس وضيق في الصدر، مفضلةً عدم التدخل حتى لا تزعج والدتها برأيها في غزل. 

ثم مالت عليها هامسةً «همتك يابتي لو شيلتي منه هيرميها وينساها» 

تظاهرت آيات بالخجل تشكوه في حرج «همته هو يا جدة أنا من ساعة ما رجعت مبيسبش غزل» غطت فمها بأناملها شاعرة بندم كاذب على بوحها

تعجبت الجدة ومصمصت بمقتٍ وغيظ فتابعت آيات تكفكف دموع كاذبة «دلوك معايزش عيال مني ولا هامه بعد ما مشاني عشانهم، ولا يكنش عايز خلفة من بت عدوه؟ لو خلف منها مين هيكون جد عياله، لا بياجي ولا بشوفه مش ليا حق عليه أنا؟» 

ربتت الجدة على ظهرها متأثرة، ومغماة بكرهها لمرتضى وسخطها على غزل، لا ترى مكر آيات ولا تعي خبثها وسمها 

بل عددت تنعي فقيد قلبها وتميل بجسدها مترنمة بعدودات حزينة عن الفقد. 

استغفرت سماسم بحنق لكنها لم تتدخل وفضلت البقاء بعيدًا تراقب بغيظ. 

ابتسمت آيات منتشية بما أحدثته بنفس الجدة وبما سيناله من توبيخ ولوم، لا يهمها مجيئه ولا قُربه لا تريده وتزهده، لكنها تريد تعكير أيامه وكسر صمت لياليه بالضجيج ومناوشات محزنة لا تنتهي. 

لا تريد للجدة أن تنسى حتى لا ينسى وتتوغل غزل، تريدها حزينة ومتيقظة لا ترضخ ولا تستسلم لذا ذكّرتها بالفقيد حتى بكت متحسرة وغصت في الدمع متوجعة عادت آيات من حيث أتت عيناها تقطر شماته وقلبها يستريح فوق الرضا منشيًا، منتظرة القادم بفضول. 

في اليوم التالي

راقبته من الشرفة بحذر شديد حتى لا يراها، دللت قلبها بإطلاق سراح لهفته ومتعت ناظريها برؤيته وتنعمت بسماعها صوته وضحكاته، تشبعت به، نظراتها امتصته داخلها لكن لهفتها لا تخمد ولا الشوق يكتفي، جلست في الشرفة خشية أن يلمحها تراقبه، اكتفت بصوته بطلًا للحظة ولخيالها، كلما ضحك ابتسمت وكلما هتف اختلج قلبها... 

حتى انتفضت على نداء الصغار باسمها «غزل» قفزت مشتعلة بالحماس لا تصدق ما يفعله ولا جنونه اللحظة الذي يوازي جنون المراهقين واندفاعهم، لكن لما تلومه وهي مثله تمامًا تسير في طرق جديدة للعشق وعرة لكن في مشقتها لذة فريدة ومغامرة لا تقاوم. 

أفنت سنين مراهقتها منغلقة مُحصنة، أبوابها لا تفتح ومشاعرها راكدة لا تتحرك. 

جاء ليعيدها من جديد فتتصرف كالمراهقات وتتبع ريحه كالمتيمات.. 

تكرر النداء ولا تعرف هل ذاب صوته مع صوت أصوات الصغار أم توقف في زهدٍ. 

أطلّت مبتسمة تبحث عنه بينهم حتى وجدته يتكأ رافعًا رأسه ونظراته تنتظرها  برسالة غرام وموعد حب... نطقت عيناه باللهفة وباحت بشوقٍ تدفق دون حذر. 

سلّم عليها الصغار بمحبة ثم دعوها بلطفٍ «انزلي يا غزل» 

نظرت إليه ففهمها وهز رأسه متبرئًا من أفعالهم يُعلن نظافة يده من التدبير،  ألحّ الصغار فحسمت أمرها وركضت قافزة بمرح حتى وصلت، استقبلتها نجاة بضحكة رائقة، وغمز هو لها وهو يمرّ أمامها للمطبخ..نادتها نجاة طالبةً المساعدة فدخلت على استحياء رافعة راية التجاهل 

«فين الأكل يا طنط؟» 

كسر حدًا رسمته للقرب واقترب حد الالتصاق ثم مال هامسًا «طلبتلهم بيتزا وفراخ لسه هتوصل» تنفست أنفاسه فارتبكت وابتعدت خطوة في محاولة للسيطرة على جموح النفس، ابتسم بإدراك فقالت «هطلع أسلّم عليهم وأمشي» 

عقد ساعديه قائلًا بنظرة نفذت للأعماق «لو جدرتي»

تحداها فضربت الأرض حانقة وغادرت مختبئة بمشاعرها خلف إنزعاج وهمي،استقبلها الصغار بحفاوة،ضموها بحنو وقبلوها برقة..

راقبهم بحنق وغيره تشتعل في قلبه ولا تنطفيء،جلس بعيدًا وتركها معهم يتابع بصمت..

حتى جاء الطعام فنهض ليتسلمه،لمّا بقيت متجاهلة هتف بغيظ «جومي ساعديني»

نهضت مجبرة  متأففة بحنق وغيظ دارت حول الصغار موزعة حتى جلست منهكة تلتقط أنفاسها بتعب وشعور لطيف بالمرح. 

هتف من خلفها «وسعي» 

قالت باستياء وقلبها على مسمعٍ منها«شوف مكان تاني» 

قال بإصرار منتظرًا وهو يمسك بقسمتها من الطعام وقسمته «لاه وسعي» أفسحت له المجال ليجلس ففعل ملتصقًا بها،نهرته بنظراتها فادعى البراءة «مفيش مكان»غمغمت بحنق فابتسم بصمت  فاجئته بسؤال لم يخطر له على بال «بتجيب كل الأطفال حتى عبد الله، ليه مبتجبش قاسم، ابن أخوك مش أولى» 

ابتسم قائلًا وهو يمنحها قطعة بيتزا «المرة الجاية نسأل الله التساهيل» 

تناولتها ناظرة للصغار متأهبة لأي نداء وطلب مساعدة، أنهى طعامه وحمدالله ثم نهض يدور حول الصغار مُلبيًا حاجاتهم، راقبته بفجر جديد يبزغ في النفس، تأملته باحساس مختلف، رفع نظراته فجأة فالتقط خيط اهتمامها وشدّ طرفه بابتسامته الجذابة فهلكت وذابت بتفاني في هواه،نهضت تساعده، وزع هداياه عليهم جميعًا ثم وقف عندها وهو يضم صندوق بكفيه قائلًا «هديتك يا هندسة»

تراجعت بخجل نظرت إليه غارقة في نظراته المتوهجة، ابتسامته المضيئة ووجوده بالقرب منها أجمل من الهدايا، صوته الذي افتقدته كان هديتها من الأيام، تمنت لو طلبت منه أن يغني لها.. 

رفعت كفها متحسسة حرقها بأطراف أناملها تصفع وعيها بصفعة إدراك قاتلة نزفت منها روحها، لاحظ فعلتها فعبس، راقبها فانقبض قلبه لكنه استمر واقفًا يقرع الأبواب بقلب لم يفقد شوقه وإن خالطته مرارة اليأس. 

أعتمت فتمنى ضمها؛ لتستمد نورها من قلبه وتتوهج من جديد. 

الخطوة أصبحت خطوات تراجعتها وهي تخفض بصرها أرضًا متهشمة الروح، ثقتها بنفسها متناثرة لا تقدر على لملمتها. 

«شكرًا مش عايزة» 

هربت تاركةً نظراته واقفة تنتظر مجيء نظراتها ليبادلها الغرام ويهمس بالوله. 

تنهد بيأس وإحباط ظلل أفق روحه، جلس بين الصغار واضعًا الهدية جواره ينظر إليها بهمٍ عظيم.. 

ما حدث بعد ذلك غاب عنه بعدما سقط في دوامة أفكاره، اليوم تسرّب إليه حزنها ويأسها، بل شعر بروحها تهوي وسمع صوت صراختها... مرّ كل ما حدث أمام عينيه حتى نهض مقررًا وضع حدٍ لوجعها ووجعه والمبادرة مرة ومرات.

#انتهى


3



التاسع والعشرين من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close