اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل السابع والعشرين 27 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل السابع والعشرين 27 بقلم عائشة حسين 



                                    

 ♡السابع والعشرون ♡


+



وصل المنزل بناء على الطلب، بحث عن طالبه فلم يجده في ساحة الدار الواسعة ولا داخل المندرة في انتظاره، نظر للأعلى بضيق انغرست قدماه في وحل التردد فوقف مكانه رافعًا الهاتف لأذنه يسأل «فينك يا أبوي» 

أجابه عدنان بسخرية لا تفارق نبرته «فوق يا حبيب أمك» 

تبعثرت نظراته على الدرج مستفسرًا بقلب تترنح دقاته «فين فوق؟» 

«عند غزل» قالها بإقرار صارم قبل أن ينهاه قارئًا ما بعقله «تعالى عندها» 

أنهى الاتصال ودعوته صريحة واضحة وصارمة، ابتلع ريقه وزفر باستسلام.. كيف سيواجهها بعد ماحدث؟  وبأي عين سينظر إليها؟ وأي قربان سيقدمه لتعفو قاتلته؟» 

صعد الدرج ببطء حتى وصل متنهدًا قلبه على مسمعٍ منه.. 

لم يدر أن عين الشوق متيقظة ومتلهفة لرؤيتها إلا حين ضمتها أولًا وقبل الجميع بشجن، حمحم ناثرًا سلامه فوق رؤوس الموجودين والمحدقين فيه بترقب، ردوا سلامه بصوتٍ عال وحدها امتنعت ونظرتها الجريحة تُلقي على قلبه قولًا شديدًا، رفضت في إشارة منها أن الهدنة انتهت والسلام بينهما سُفكت دمائه 

ووحده الجاني فليتحمل، تقبل بصمت لكن عيناه لم تصمت مثله ولم تمتثل لإرادته خضعت للشوق  المسيطر وتأملتها بحنوٍ بالغ وهي تربت عليها وتلثم ما تطاله منها. 

أشاحت بعدما اعترض الخذلان طريق نظراتهما وتوشح الأمل بالسواد كالثكالى ناعيًا الحظ. 

توسط سوء الظن مائدتهما العامرة بصنوف المشاعر، اختاره ليتناوله دون غيره زاهدًا ما أنضجته أيامًا في قدور قلبها، أغمضت عينيها وفعلته كعصا غليظة حطمت القدور وسكبت ما فيها أرضًا فجلست تبكيه وتبكي خيبتها واستنزاف مشاعرها. 

قطع حديث نفسيهما عدنان الذي رأى وفهم «ما رأيك فيما نُسب إليك يا متر» كتم طاهر الذي انضم مؤخرًا ضحكاته وأشاحت غزل بزهدٍ لا يهمها قوله ولا يعنيها أسفه بينما أجاب رؤوف بفظاظة خبأ بها ضيقه من جفائها  «مكاني وأنا حر فيه » 

سخر منه عدنان بغيظ وحنق شديد لمبارزته حزنها بالجفاء «وحياة أمك؟» 

رماها رؤوف بنظرة حادة متهمًا لها بغيظ «البشمهندسة اشتكتلك ولا إيه؟» 

خرجت عن هدوءها استدارات متحفزة بشراسة وزعقت بغضب «أنا مشتكتش لحد وزي ما أنت بتاخد حقك لوحدك أنا كمان أعرف أخده لو عايزة» تمنى اللحظة ضمها، احتواء حزنها بين ذراعيه وترك شفتيه تجوبان ملامحها بالأسف،أن تتحرر من  حزنها على صدره وتبلله بدموعها 

التي كلما سقطت-رغبته-تزداد وتشتت تفكيره وتحيد به عن مسار يتخذه طواعية هتف بلامبالاة ساخرة «والله طب وريني الي عِندك» النظرة لعينيها اللحظة ألف عام من المشقة. 

صرخ فيهما عدنان بغيظ يتفاقم كلما رأى مشاعرهما التى تتعرى رغمًا عنهما أمامه  «اسكتوا» 

أشاح كل منهما صامتًا بينما تابع عدنان يفرغ فيه غيظه «غلطان وبتبجح كمان؟» 

دافع رؤوف مبرئًا نفسه من الأثم،وهو ينظر إليها في عتاب قاسي «مش غلطان يا أبوي كان لازم تيجي وتحكيلي وتفهمني أنا مش هشم على ضهر يدي وأعرف إنها بتختبرني»

ثم قال من بين  أسنانه والغيرة تشتعل بصدره « بس تعرف تحكي ليونس» 

تبين طاهر غيرته على ضوء خافت جاء من عيني رؤوف على استحياء، فلسان أخيه ينطق بالغيظ وعيناه تحكي غيرة ولوم لعينيها. 

صاح والده متخذًا جانبها مدافعًا عنها بحدّة بعدما رأى خذلانه يقطع زهر الحب من قلبها «مش غلطانة عشمانة فيك البنيه واللهم صلي عالنبي مكدبتش خبر وفضحتنا» كتم طاهر ضحكته بكفه والتزم الصمت والمراقبة

حثه عدنان بجدية «يلا بوس راسها واعتذر لها» 

تصنع رؤوف الضيق والرفض لايفصح عن سعادته بالطلب ولا يفك أصفاد مشاعره؛ لتضرب دفوف الفرح،لم يحتج عدنان لتكرار العرض الذي لاقى رفضها، تحرّك رؤوف فورًا فقالت بحجل وتوتر شديد وقلبها يدق بقوة«خلاص يا عمو» 

أصرّ عدنان بحدة  وهو يوجّه الآخر المنتظر بلهفة  «مفيش خلاص و بوس بضمير يا متر أنا عارفك »

كتم طاهر ضحكاته بكفه وشاهد ما يحدث باستمتاع، بينما دبدبت غزل في ضيق من تلك المحاصرة وتراجعت خطوة في خجل ألقى بظلاله الوردية على خديها ، هتف رؤوف ساترًا رغبته بدثار الغطرسة وهو ينظر إليها من علو «آسف» 

شدد والده من بين أسنانه لاعنًا له في نفسه«بوس راسها» نظرت لعينيه على استحياء وهي تبتلع ريقها بحركة واضحة، رمت نظراتها لطاهر باستنجاد فتجاهل واغتاظ الآخر، فاقترب عنادًا وتحديًا، لثم مقدمة رأسها بسرعة خاطفة فاعترض والده متهكمًا مما حدث «لو بتف على وشها مش كده!» كتم رؤوف غيظه فلا يريد الاقتراب أكثر وهو بكل تلك المشاعر، لا يحب أن يُكشف ستر عواطفه تجاهها. 

بينما تمنت هي أن تنشق الأرض وتبتلعها أو تذوب مختفية مع ذرات الهواء لكن هيهات، اقترب هو أكثر ، تجاهل المحيطين ونسيهم، أمسك رأسها بكفه وقربها من فمه، قبّل جبينها قبلة طويلة عميقة الأثر محفوفة باعتذاره الخافت «حقك عليا متزعليش أنا غلطان ومحقوقلك يا غزالي » رفعت عينيها مندهشة من تدليله، ارتباكها واحمرارها جلب الابتسامة لفمه وهو يستفسر وكتفه يرتفع «إيه غلطت فحاجة؟» 

سألها عدنان مبتسمًا «مالك جلك إيه خطفك كده يا بتي أنا مسمعتش» 

نقلت نظراتها بينهما بحيرة قبل أن تُجيبه بتلجلج«ما.. قالش.. مفيش» 

أفاقت من سكرتها وابتعدت متلونة بالخجل... صاح والده قائلًا «تمام تمشي ومشوفش وشك في البيت شهر ورجوع فوق مش هترجع غير لما قلبها يرضى»

أدار رؤوف رأسه ناظرًا لوالده باستنكار رفض فهز عدنان حاجبيه مُغيظًا له «إيه فاكرها هتخلص كده؟ لاه يا متر دِه حكمي وأبقا متنفذوش» 

انسحب رؤوف ضائقًا بالحكم فشيعه والده بضحكة مستفزة «مع السلامة يا بتاع العدالة أقفل الباب وراك زين»  

ترك عدنان الحجرة وكذلك فعل طاهر 

فجلست و في قلبها فائضٍ من الحب خافت أن يُكشف ستره فيهان…

***

عاد ثانيةً على اتصال من آيات تطلب فيه حضوره لأمرٍ هام، تأفف كثيرًا ولعن أكثر، طرق الباب بحذر متمنيًا ألا تلمحه غزل أو تراه اللحظة وفي هذا الوقت، تلك الحمقاء أفسدت عليه اللحظات بدلًا من أن يعود محملًا بعطر أنفاسها وملمس بشرتها على شفتيه، سيعود بالكدر، فتحت الباب فتنهد براحة ودخل متسائلًا «خير يا آيات؟» 

أمسكت بكفه وسحبته للداخل«تعالى أجعد» فنفضه بإشمئزاز ونفور «عايز أمشي» 

سألته مصوّبةً نظراتها إليه «على فين؟» 

بصق الكلمات محاطة بتأفف منزعج «متسأليش يلا جولي عيزاني ليه؟» 

قالت بدلال لم يعد يراه وإن تمناه يومًا «رؤوف تعالى بس مش هينفع كده» 

دخل مستسلمًا فأغلقت الباب وتبعته، جلس ضائقًا «خير بعتالي ميت رسالة وألف رنة» 

جلست جواره ومنحته كوبًا من العصير قائلة «خد طيب أشرب» 

أزاح كفها بعيدًا بزهد، زاعقًا لينهي الأمر «خلصي جولي» 

نظرت للطاولة المُعدّة والشموع بخيبة وهي ترى تجاهله الأمر حتى أن نظراته لم تقف دقيقة على  هيئتها ولا ما أعدته له «عايزة أشتغل يا رؤوف» 

هتف بغضب «احنا مش متفجين؟» 

ابتلعت ريقها ووضحت «جايني شغل أون لاين وعايزة أبدأ، جعدة البيت مملة ومفيش حاجة أعملها» 

نهض صائحًا بغضب وهو يبعد عنه لمساتها وإن كانت عادية عابرة «وبعدين يا آيات؟  تحبي ترجعي لأبوكي» قالها بتهديد غليظ فصمتت قليلًا معاتبةً بنظراتها ثم هتفت «أنت مش بتسامح ليه؟» 

أمسك بمرفقها وضغط عليه قائلًا من بين أسنانه «عشان سامحت كتير لو تعرفي أو بتفهمي» 

قالت متأوهة بألم من شدته «بس هي غلطة واحدة؟» 

دفعها بعيًدا وهو يقول بسخرية «ما أنا جولتلك لو بتفهمي؟ المشكلة لسه مفكرة نفسك بس أنتِ الي بتفهمي،  دا أنا عملّك مجلد لوحدك يا آيات» 

زفرت قائلة بغضب «معملتش حاجة للمجلدات ولا هو حاجة تهرب بيها وخلاص» 

سخر منها محتقرًا بنظراته الداكنة «لا هو مش هروب يا آيات أنا مش جادر أبص فوشك أصلًا» 

قالها وتحرك مستديرًا فصاحت بغلّ «بس جادر تبص وتتملى في المشوهة» 

زمجر بغضب قبل أن يستدير ويصفعها بقوة هادرًا وهو يقبض على خصلاتها «جيبي سيرتها تاني وهرميكي من البلكونة يا آيات وأجول انتحرت ومش هاخد فيكي يوم» 

انكمشت خائفة بذعر  وهي ترى شراسته وتهديده شديد اللهجة المفعم بالصدق، شدّ خصلاتها بقوة أكبر وهو يخبرها «المشوهة دي أنضف وأحسن منك ميت مرة» 

طالعته بكراهية شديدة وغلّ طفح من نظراتها وهي تسأل « حبيت بت عدوك تستاهلها» 

لملمها في نظرة محتقرة وهو يخبرها بتشفي وشماتة «ومحبتش ولا هحب غيرها» 

بصق كلماته في وجهها وغادر، وجدها أمام شقة يونس واقفة ترتدي خفها ، منحته نظرة عميقة الجرح فأشاح مستغفرًا وهبط  للأسفل بسرعة، أما هي فخلعت خفها وعادت لحجرتها باكية لحاجةً في نفسها. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كل يوم ينشغل أكثر وتغرق هي في عملها ومساعدة والدتها ومتاعب حملها، لا ينتشلها كما يفعل دائمًا يتركها تغرق متابعًا التجديف فوق مركب سقطت هي منها، تنتظر أن ينتبه لعدم وجودها، أن يتفقد مكانها الخالي ويبحث عنها، أن تمتد ذراعه للماء منتشلًا لها، انقبض قلبها بعدما ابتلت بمياه الوهم، أصابتها برودة المياه التي سقطت فيها من مجرد تخيل، ارتعش جسدها كأنها تغرق فعلًا وتفقد آخر أنفاسها، نظرت إليه باستنجاد متمنية ألا يمر الوقت عليهما وتعاني وحدها ثم ينتشلها جثة، تنهدت بصوت مسموع مستردة وعيها من الخيال، مستعيدة له من قتال وهمي، رفع نظراته من فوق شاشة هاتفه الذي لا يفلته من بين كفيه وسألها بابتسامة تعلقت بشفتيه مجاملة أو ربما قناعًا يخفي خلفه انشغال ذهنه ويوهمها بها أنه معها «مالك يا هدى؟» 

هو لا يسأل، يحتوي ويضم حتى تنساب الكلمات دون ضغط وتحكي بسلاسة دون خوف، لكنه الآن يسأل؟  يوصد أبواب قلبها بهذا السؤال، ويُلقيها في الجحيم وحدها. 

«مفيش» نطقتها بابتسامة مماثلة لخاصته، بل أشد فقرًا للصدق، تعاني من شظف الاهتمام، نهضت باسطة كفها فوق بطنها التي بدأت البروز مغادرة لمطبخها، مكانها الخاص بعد ذراعيه، تصاحب الأواني وترافق المكونات، تتحدث وتستفيض، تجد راحتها فيه حيث تبدع وتُخرج أفضل ما عندها فترتقي النفس من حضيض اليأس والإحباط، هنا تجد كينونتها وتشعر بذاتها..

أدارت مؤشر الراديو على إذاعة الأغاني التي تحبها وتستقي منها ترانيم العشق وعذوبة الاحساس، ثم أطلقت خصلاتها الطويلة وجلست تنثر الدقيق حولها ببهجة وحالة مزاجية خاصة صنعتها وأحاطت نفسها بها.

منذ حرمها والدها من التعليم وهي تبحث لها عن هواية تميزها، عن هوية خاصة بها 

فوجدت نفسها أحبت المطبخ وصاحبت محتوياته، تابعت برامج الطبخ باهتمام وجربت وصفاتهم بعناية حتى صنعت لنفسها ما يميزها وتوصلت لأسرارها الخاصة بها، فبرعت فيه، تزوجت ولم تحصل سوى على الشهادة الإعدادية. تمنت أن تكمل دراستها لكن والدها رفض وهي لم تحاول، تعرف والدها جيدًا فتقاعست عن المحاولة وتركت الحلم وشأنه لأصحابه، ارتضت بما نالت وصبرت في حكمة، طورت مهاراتها في كل شيء وتعلمت كل ما وقعت عيناها عليه من أشغال يدوية، كانت سريعة التعلم ماهرة في إتقان ما تتعلمه حتى جاء مؤمن لوالدها وطلبها منه، لم ترفض رأت فيه الزوج المناسب لها، أحبته بصدق ومنحته دون مقابل صنعت لهما عالمهما الخاص. 

حتى انهار عالمها فجأة بحادثة لكنها لم تستسلم ورضيت بما نالت من الأقدار، وجهت موهبتها لكسب الرزق، القليل الذي يستر ولا يفضح ويقيهم العوز. 

انتزعها صوته الحاني من أفكارها، أخضعها بدفئه فعادت راكضة، أحاط خصرها فمالت برأسها ناحيته، تصافحت أنوفهما فابتسم هامسًا «بتعملي إيه؟» 

عبقت صدرها بأنفاسه وهمست «بشتغل» 

أدارت رأسها للعمل فهمس برقة «أساعدك؟» 

عادت نظراتها إليه هامسةً بهيام «كفاية تجعد جنبي وتتكلم» 

لثم شفتيها برقة وتحرك ليجلس أمامها، ابتسمت وتابعت ما تفعل بذهن حاضر 

اختطفها من انهماكها بهمسه «لسه بتحبيني» 

توقفت عما تفعل بقلبٍ منتفض، هالها ما رأت بنظراته فتركت ما بيدها وجاورته هامسةً بيقين «وهفضل طول العمر أحبك» 

سألها بابتسامة تقطر حزنًا «حتى وأنا كده» 

وضعت سبابتها فوق صدره هامسةً بغرام «أنا كبرت هنا، وعيشت الأيام الحلوة كلها هنا، شوفت العالم من هِنا وعرفت الدنيا، مفيش حاجة هتأثر» 

أحاط وجهها بكفيه وشفتيه ترتعشان بكلام لايبرحها، نظر لعمق عينيها هامسًا «تعبتي كتير وشيلتي همي وهم عبدالله، كان نفسي أريحك وأخليكي تكملي تعليمك بس غصب عني» 

سألته بدهشة عقدت حاجبيها «إيه فكرك؟  أنت عارف إني بعمل حاجة بحبها قبل ما تكون شغل» 

انجرف مع أفكاره قائلًا «أختي لجت دكتور كويس عندها، عرضت عليه الاشاعات وطلب منها أروح» 

سحبت كفيه من على وجهها في قلق وسألته المواصلة «وبعدين؟» 

أجابها وهو يتابع انفعالاتها «هي عيزاني أسافر لها بتقول فرصة ونسبة العلاج كبيرة» 

ضحكت قائلة ببهجة «بجد الحمدلله نتوكل على الله منستناش يا مؤمن» 

تقلصت ابتسامته وتابع متحسسًا كلماته«قريب يا هدى بس في مشكلة» 

استفسرت بحماس «إيه خير؟» 

أجابها بحزن «أنا هسافر لوحدي» 

تسلحت بالغباء «يعني إيه؟ مش هروح معاك؟» 

أجابها بحسرة «لاه مش هينفع هتجعدي هنا مع أهلك لغاية ما أرجع» 

انتفضت متسائلة بصبر «هتطول هناك؟» 

أجابها باحباط وضيق «احتمال يا هدى» 

نهضت مُعلنة له قرارها بصرامة «لاه يا تاخدنا يا خلاص يا مؤمن أنا مش هجعد لوحدي من غيرك هنا» 

حاول إقناعها بصبر «مش هينفع يا هدى أخدك» 

قالت بغضب «يبجى متسافرش وتفضل هنا معانا وكلم رؤوف يشوفلك دكتور فمصر» 

نهض مستندًا على عكازه يحاول إقناعها «خلاص أختي طلعت التأشيرة وظبطت الدنيا» 

فغرت فمها مندهشة قبل أن تلقيه بحجارة العتب  «من ورايا يا مؤمن؟  من متى وأنت بتخطي خطوة من غير ما تجولي وتاخد رأيي» 

ابتلع ريقه وأجابها «كل حاجة جات بسرعة» 

سألته باستنكار «بتحطني جدام الأمر الواقع يا مؤمن؟  رتبت كل حاجة وجاي تبلغني؟» 

صارحها بما في نفسه «لاه بس أنا ما صدقت إن في أمل وهجدر أمشي وأرجع طبيعي من تاني وأريحك» 

ألقت قرارها النهائي بحزم «وأنا مش عيزاك تسافر وتسيبني لوحدي كل دِه يا مؤمن» 

أجابها بنظرة متوسلة ترجوها القبول ومباركة الأمر «وأنا مش هينفع أضيع الفرصة دي يا هدى ولا عايز أفضل عالة عليكي» 

أغرورقت عيناها بالدموع وتهدج صوتها «كده يا مؤمن ماشي اعمل الي يريحك» 

غادرت فورًا لحجرة صغيرها دخلتها وأغلقت عليها الباب باكية، لمن سيتركها هذا؟ لذئاب تنتظر سقوطها لتنهشها؟  كيف ستعيش دونه بظهرٍ مكشوف  وحوائط متهدمة، ماذا ستفعل في غيابه؟  وكيف ستواجه شياطين الأنس حولها؟ تتوه دونه وتتخبط، هي قوية به وبوجوده ورحيله سيضعفها ويتركها في مهب الريح؟ 

ألقت بجسدها فوق  الفِراش منتحبة لا تهتم بندائه ولا تلتفت  لتوسلاته غائبة في أفكارها المستوحشة بالظنون والافتراضات المُخيفة. 

*****

بعد مرور أسبوع 


4




                

إقامتها بجوار شقة آيات جعلها تسمع الكثير أثناء وجودها بالشرفة أو بالصالة لكن ما أحزنها حقًا وجعلها تبتئس في ألمٍ وكدر هو ما سمعته اللحظة ،ليزاحم الغضب في قلبها شعورًا بالإشفاق ناحيته أثناء وجودها تلك المرة بالشرفة واستماعها كلمات آيات واضحة فانقبض قلبها «مش عارفة فاكر نفسه إيه أنا أصلًا مش طيقاه بس لو أبوكي كويس مكنتش رجعتله، مكرهتش فحياتي حد كده

رؤوف ده ياريته كان مات هو » 

قبضت غزل بأناملها على قلبها مهدئة من دقاته وهي تستمع لما تتفوه به آيات في حق زوجها متعجبة وذاهلة من تلك الكراهية التي تحملها له في قلبها ودعاؤها عليه، شخصًا مثله ماذا فعل لها لتكرهه وتحقد عليه؟ وتتمنى موته أي قلب تحمل تلك الآيات... تركت الشرفة متمنية أن تطرد كلمات آيات من ذهنها لكنها ظلت عالقة تطارد أي أفكارٍ أخرى تقترب من عقلها، فتشت في قلبها بعد خطأه معها ولم تجد سوى الغضب الذي يتبخر شيئا فشيء وبمرور الأيام،لكن أن تحمل له كراهية وحقد هذا ليس إنصافًا، هل تكرهه لأجل ورود تذبل وتموت؟ هل تحقد عليه وتتمنى موته لأجل بضعة أوراقٍ من النعناع والريحان هذا ليس عدلًا.. 

ما رأته  منه يجعله أغلى من أن يقارن ببضعة زهور وأكبر من أن يخضع لمقارنة ويقاس بميزان يبخسه حقه ، حرامٌ عليها إن فعلت لكنها لن تنسى ولن تغفر حتى يأتيها بقربانٍ يأكل غضبها منه. 

خرجت على صوت نحيب، وجدت صغيرًا يبكي فوق عتبات الدرج، لانت ملامحها بإشفاق وهي تراه يكفكف دموعه بكفيه الصغيرتين، جلست أمامه مستفسرة «أنت عبدالله؟» 

تأملها ببراءة قائلًا«أيوة» 

مدت كفها في دعوة للمصافحة قائلة «أنا غزل يا عبدالله بتبكي ليه» 

استفسر الصغير وهو يمد لها كفها على استحياء «عايز عمي رؤوف طلعت لجيت الباب مجفول» 

ابتسمت هامسةً «عشان كدا بتبكي» 

هز رأسه وهو ينظر إليها بدهشة فقالت «ادخل عند خالتك» 

ذم شفتيه برفضٍ فسألته بحنوٍ «مش عايز تدخل» 

صدمها بقوله السريع الواثق «مبحبش آيات بتزعق لأمي وبتبكيها وبتزعقلي ومش عيزاني ألعب» 

جذبته لأحضانه في حنوٍ معتذرة له برقة وكأنها المسئولة عن كل شيء «متزعلش يا روحي تعالى العب  معايا أنا» 

رفع رأسه متطلعًا إليها بدهشة فابتسمت قائلة بمرح «تعالى يلا هنغني ونلعب وناكل حلويات كتير» 

ضحك الصغير بفرحة بالغة وطمأنينة سكنت ملامحه فضمته مرة أخرى قبل أن تنهض وتسحبه للداخل بحماس وفرحة 

قضت وقتًا ممتعًا معه لتدرك في النهاية  أنها قلدت الغائب وتتبعت ذكراه فيما كان يفعل دون أن تشعر. 

سمعت صوتًا مكتومًا ينادي الصغير فخرجت بصحبته قائلة «مامتك بتنادي» 

أزعجها إحمرار وجه هدى والذي ينم عن بكاءٍ مكتوم، انقباض ملامحها أوشى بتعبها الشديد فابتسمت مطبطبة بلطف «تعالي يا أم عبدالله» 

تعجبت هدى واندهشت من بساطتها ولطفها، بينما ترك الصغير كف غزل واندفع ناحية والدته يخبرها ببهجة «لعبت مع غزل وكلت حلويات» 

تركت  نظراتها الصغير وتوجهت لغزل الواقفة أمامها قائلة وهي تقرص خده «أحلى عبدالله دا ولا إيه» 

مالت هدى وتململت بعدم إتزان مما جعل غزل تمسك بكفها في قلق «أنتِ كويسة؟» 

ارتفع خمار هدى فاتضح بروز بطنها فابتسمت غزل وسألتها «ماشاء الله أنتِ حامل؟» 

هزت هدى رأسها ومازالت الدهشة تجاه تلك الغريبة قائمة في النفس، سحبتها غزل للداخل مُرحبة بها «تعالي طيب ارتاحي شوية متمشيش كدا» 

أجلستها فوق فراشها الصغير البسيط وجلست جوارها حاملة عنها الصغير رأفةً بها عضت شفتيها هدى تحبس دموعها في المآقي متعجبة من لطف الله وعوضه، غزل النقيض التام لآيات الذي يستحقه رؤوف بعد طول صبر. 

بالأسفل لمحه الصغير قادمًا فركض ناحيته مناديًا باسمه في لهفة، فتح رؤوف ذراعيه مستقبلًا له بضحكة رنانة، دار به قليلًا في بهجة قبل أن يرحب بهدى في أدب 

«لما جيت ماشيين؟ خليكم» هكذا عاتبها فقالت «بجالنا كتير» 

لثم رؤوف خدي الصغير مُرحبًا «وإيه يعني خليكي شوية بجالي كتير مشوفتش عبدالله وجايبله حاجات كتير» 

ابتسمت هدى قائلة «متجلجش غزل جامت بالواجب وزيادة» 

نظر لها قاطبًا في دهشة فابتسمت بخجل وهزت رأسها مؤكدة له «حتى اسأل عبدالله» 

لم يؤخر الصغير شهادته بل انطلق يشدو بما فعلته «لعبت مع غزل وغنينا وجابتلي حلويات» ابتسم رؤوف بحنين قبل أن يهمس «فيها الخير» 

التقطت هدى همسه وقالت بمغزى كأنما تواسيه «فيها كل الخير بإذن الله» 

أنزل رؤوف الصغير ملفوفًا بالخجل، قبل أن يرفع نظراته للشرفة متمنيًا رؤيتها مطالبًا بنظرة تشفي الصدر لكن نظراته عادت إليه بالخيبة. 

«تعالي أوصلكم» قالها طارداً  كل شعور مستعيدًا رباطة الجأش فرفضت هدى «لاه خليك يا أستاذ» 

أصرّ هو بصلابة «والله ما يحصل هوصلك للبيت» 

سار أمامها ممسكًا بالصغير يشاكسه تارة ويسابقه بعدد الخطوات تارة أخرى  متمنيًا لو يستطيع السؤال عنها ومعرفة ما حدث تفصيلًا فعند ذكرها تحلو الثرثرة ويطيب التكرار كأن ذكرها أنشودة. 

*****

وقفت نجاة بالأسفل ورفعت رأسها للأعلى مناديةً «غزل يا غزل» 

خرجت من الشقة راكضة، تلبي بهمةٍ وحماس «أيوة يا طنط» 

ابتسمت نجاة قائلة «تعالي ساعديني همي» 

دون أن تعرف نوع المساعدة قفزت درجات السلّم بحماس حتى وصلت إليها مبتسمة مُرحبة «أنا جيت اهو؟»

سحبتها نجاة من كفّها  قائلة «هعمل شوية كنافة بلدي لعمك وشوية لاحوح، أصله صايم وجالي أعملهمله» 

أطلقت نجاة كف غزل واستدارت تسألها «تعرفي الكنافة البلدي؟» 

ضحكت غزل قائلة «أيوة يا طنط» 

تحركت نجاة ناحية فرن صغير بطول الذراع وجلست أمامها قائلة «هاتي ماجور العجين من على السرير وتعالي» 

اتجهت غزل حيث تشير نجاة وحملت الوعاء إليها وجلست  جوارها تراقب بسعادة وتعاونها بهمة عالية «واووو تحفة يا طنط» 

سألتها نجاة «سمعتي عن اللحوح؟» 

هزت غزل رأسها بالرفض فقالت نجاة وهي تنظر لخيوط العجين «هيعجبك بإذن الله» 

تابعت نجاة الثرثرة «هنعمل بزيادة عشان تماضر بتحبها وحامد كمان تلاجيه صايم» 

عضت نجاة شفتيها بيأس فقد اعتاد لسانها  على مناداته حامد ولم تتخلَ عن تلك العادة كما أختها حتى أجبرها هو على منادته رؤوف حين جاء بغزل. 

ابتسمت غزل بلطف فتابعت نجاة «كلمته وجولتله يجي ياخدهم» 

قالتها نجاة ونظرت إليها بفطنة تترقب رد فعلها وتصطاد ما تجود به نفسها من مشاعر، ابتسمت غزل بلا مشاعر  تطفو ككل مرة في نظراتها وقالت «سلمي عليه وعلى طنط تماضر وقاسم» 

ابتسمت لها نجاة برقة وأجابتها بمحبة «حاضر ربنا يهديه بس وياجي» 

هزت غزل رأسها وشردت  في الآخر البعيد ترى هل يحبها أيضًا؟ عادت من شرودها  على سؤال نجاة «لسه شايلة من رؤوف؟» صمتت  غزل بحرج لا تعرف بماذا تخبرها ؟  ابتسمت نجاة وقالت متفهمة مشاعرها «على كد المحبة يكون العشم» 

نكست غزل رأسها بحزن فمنذ ما كان وهو يلتزم بحكم والده ولا يأتي، افتقدت مشاكساته وجوده الدافيء، صوته الذي تحب وحكاياته وغنائه لها ما تطلبه، لا تعرف لما حدث كل هذا وما سر التعاسة التي خلفها رحيله في نفسها، ولا الأسى  الذي تعيشه وحيدة في حجرة باردة، لأول مرة منذ جاءت تشعر بالنبذ، حين طردها من مكانه شعرت بأنه نفاها عن موطنها الأصلي، كل ليلة تبكي وحدتها وترثي حالها، لا ينفك قلبها عن الشوق إلى حنان نظرته و رقة  صوته.. كيف تخبره أنها لم تعد تنام بعدما فقدت مهدؤها الخاص، كيف عادت لرؤية وجهها المشوّه في المرآة بعدما خاصمتها وأمتنعت، تذكر نفسها كلما هفى قلبها إليه أنها ابنة أشر أهل الأرض وعدوه اللدود وأنها تحمل من القبح بالداخل والخارج ما يجعله ينفر منها ولا يعير وجودها انتباهه وأن تلك المشاعر ما هي إلا انعكاس مشاعرها الوليدة تجاهه. 

طُرق الباب الخشبي فعادت من دنياها المظلمة للواقع، نهضت نجاة قائلة «دي خبطة رؤوف» 

انتفضت لا تصدق مجيئه بعد أسبوعين من الغياب، استدارت بلهفة مترقبة دخوله 

فتحت نجاة الباب فضحك لرؤيتها وعانقها بمحبة «وحشتني يا ضنايا كل دي غيبة» 

دخل قائلًا ببهجة «حُكم الناظ.... 

توقفت الكلمات عن التدفق حين رآها جالسة بصمتٍ وإطراق، شجعته والدته بنظراتها المشفقة فرمى السلام بوجل، تشبثت بالصمت علامة رفضٍ على سلامه وعدم القبول به، ظلت مكانها ثابتة على موقفها لا تعيره انتباهًا ولا تهتم بوجوده 

تحرّك ممازحًا لها «جلبك أسود على كده يا هندسة» 

كنَّت  له من الغيظ على غيابه ما جعلها تهتف بفظاظة وهي تنهض«زي قلبك بالظبط يا متر» ألقت عليه نظرة منزوعة اللهفة والاهتمام وغادرت معتذرة لنجاة الصامتة بحزن «عن اذنك يا طنط» 

شيعها حتى اختفت وجلس بحزنٍ وبؤس جاورته والدته مهونةً عليه تطعمه الأمل من بين أيادي الجبر «البت بتعزك والله يا ولدي بس صعبان عليها جوي منك الي عملته عارف لو طلعتلها هتلاجيها بتبكي» 

تنهد قائلًا بأسى «مش هطلع أنا ماشي» 

ترجته والدته«خليك شوية ساعدني وخد الحاجة وامشي» 

وبعد مرور مدة كان يخرج من المنزل ممتطيًا ظهر حصانه، تابعته بعينيها الممتلئة بالدموع حتى غاب وذاب في الكون واختفت صورته. 

جلست تضم ساقيها لصدرها باكية، قلبها يعذبها على تفريطها في رؤيته وإهمالها عناق ملامحه، على عدم الشبع من وجوده حولها والتنعم بحكاياته. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد مرور يومان 

جاورها طاهر بالشرفة يرتشف مشروبًا صنعته له بمحبة وافرة  ظللت على قلبه، استغرق شروده دقائق كانت كافية لأن تقلق  وتعاجله بالسؤال «مالك يا طاهر مهموم ليه؟» 

فتح حصالة المشاعر بعدما امتلأت، سكبها كلها أمامها وملامحه تحصي ما فيها وتتفقده «عايزة أسافر أشوف شغل وارتب حياتي الجاية» 

كظمت غيظها وأخفت عنه حنقها في قاع وجدان متضرم بالغضب، وسألت بهدوء «مش اتفقنا هتروح لرؤوف وتشتغل معاه» 

انتظرت بفائضٍ من الصبر وهي تبحث عن نفسه القديمة لتمسك بيدها، تنهد قائلًا «لاه هشوف مكتب تاني أو أي شغلة بعيد» 

فشلت من إيجاد نفسه التائهة، عادت خائبة بكف بارد لكن بعزم متقد في الصدر، أجج قوله الغضب فزعقت «سمعت كلام المتخلفة آيات»

تلجلج موضحًا «لا... 

قاطعته بغضب طفح على سطح ملامحها وأخذ بسيفه مُحاربًا «لا إيه كنت متأكدة إنك هتاخد قرار زي دا والله» 

صارحها بوجع فاض من نظراته «هي معاها حق يا غزل» 

زعقت تبتر بسيف غضبها خواصر الجهل «حق إيه يا طاهر؟  حق إيه الي هتقوله واحدة ليل نهار تدعي على رؤوف، هي لو تعرف الحق تكرهه كل الكره دا وهو معملهاش حاجة قولي لو عندها حق تأذيك وأنت الي عمرك ما أذيتها ؟» 

صمت مرتبكًا مترددًا بحزن، فواصلت حانقة مما هو فيه «أنت لو روحت اشتغلت فمكان تاني تبقى ناكر زيها بالظبط  لو استسلمت لوسوستها هتضيع الحلو الي بينكم وتعكره...» 

صمتت ملتقطة أنفاسها زافرة بغيظ قبل أن تمسك كتفيه وتقول «اسمع يا طاهر الي عرفته عن رؤوف الفترة الي فاتت يخليني أقولك هو عايزك تكون معاه بس مبيحبش يضغطكم، بالعكس هيرحب جدًا 

أنت ضهر ليه مش هتخون ولا تغدر بالله عليك متضيعش كل حاجة» 

صمت لا يظهر عليه القبول أو الرفض فزعقت متوعدة «طيب والله يا طاهر لو ما ظبطت كدا وسيبتك من كلام الحيوانة دي لأكون رايحة ضرباها والي يحصل يحصل» 

قهقه طاهر على هيئتها وتوعدها فاصابتها عدوى الضحك منه مما جعلها تلكمه على كتفه قائلة من بين ضحكاتها «أعقل يا حبيب أختك متخليش حاجة تخسرك أخواتك ومحبتهم وأفتكر دايما إن رؤوف عمل كتير عشانك» 

نظرت لعينيه بقوة وأكملت «هو أبوك الحقيقي ياطاهر وواجب عليك بره» 

عانقها ممتنًا لكلماتها ووجودها، شاكرًا لها فمازحته قائلة «كان نفسي ترفض كلامي مش هرتاح غير لما أجيب آيات دي من شعرها بجد الموضوع بقا احتياج » 

ضحك طاهر وهو ينسل من عناقها مستفسرًا «بس دا كله عشاني ولا عشان بتدعي على رؤوف» 

انعطفت في الحديث متصنعة المرح«بقولك تيجي نعمل بيتزا» 

احترم مشاعرها وقدر رغبتها في الاحتفاظ بالرد لها، سايرها في مرحها «يلا بينا ونكلم يونس» 

تواصلا بضرب الكفين دليل الموافقة وحسن الاقتراح، اندفعا ناحية المطبخ وشرعا في العمل وهما يثرثران مستضيفين في مرحهم يونس، الشريك الذي لا يمل ولا يُمل.. 

«أنا عايز أنزل قنا شجعتونا بجد للصحبة يا حلوين» 

قالها يونس بغبطة وهو ينظر لشاشة جهازه متابعًا لهما، دخل رؤوف الشقة مبالغًا في الصمت والزهد، غادر لحجرته أبدل ملابسه وخرج للمطبخ فرفع يونس صوته متعمدًا «أنا هنزل أشوف غزل معدش ينفع  شغل التليفونات دا» 

احترقت كف الآخر  بالماء الفائر حين وصله اسمها محمولًا بالمودة، وضع كفه تحت الصنبور دقيقة ثم أغلقه وواصل صنع كوبًا من النسكافيه.. رمى أذنه كشباك تتصيد الكلمات لكنها كانت مثقوبة أسقطت  الكثير فاضطر لحمل الكوب والخروج. 

تناول يونس حبات الفول السوداني التي أمامه قائلًا « لو نزلت ومعملتليش زي طاهر هزعل» 

وصلته ضحكتها الرائعة، فمرر أنامله حول رقبة قميصه القطني يفك حصاره لشعوره  بالاختناق، لم يكن الصوت واضحًا كفاية لكن خياله الخصب وشوقه أكملا المهمة بالتخيل فدوت الضحكة في القلب والروح، وإن كان لا يحتاج لتخيلها فصورتها ووقع نغمات الضحكة محفوظة في القلب فوق جرامافون عتيق من المشاعر الخاصة بها يكفيه أن يضع عصاه فتنساب النغمات.. 

ارتشف من كوبه والصمت حليفًا للإنعزال، يستمع دون تعليق أو تدخل مكتفيًا بنصيبه منها،  أغتاظ يونس من عزم أخيه وقوته في دفن مشاعره وطرحها بعيدًا في أزقة التجاهل الضيقة فتابع متحديًا « هندسة أخبار الورد بتاعك إيه؟» 

اهتز الكوب بين أنامله فتساقطت قطرات ملتهبة على كفه، انتبه بترقب شديد لقولها، ولم تكن تقل عنه دهشة بل نثرت خيبتها في تنهيدة بائسة ثم أجابت بضحكة «انتحروا» 

أجاب يونس بخيبة «خسارة» 

راقب يونس ملامح أخيه بإشفاق وقد أعلنت مشاعره عن مكان وجودها وخرجت في ثورة لكن غزل بددت كل معتقداته وحطمت الثوابت، أحرقت أهدافه في محرقة الذهول حين هتفت بمرح «الورد عمره قصير يا يونس كدا كدا بيموت أيا كان شكل الموت،الورد اتخلق يكون ضحية مرة يتقطف عشان يكون هدية لحبيب ومرة عشان يرضيه فعادي بس هزرع غيرهم كتير» 

*****

 جلست صفوة منتحبة، تفرغ شحنتها من الندم على هيئة دموع لا تتوقف وكلمات لا تنجلي بوضوح «أنا حاسة إني أذيت غزل يا ماما» 

تأففت والدتها منزعجة بشدة من بكائها الكثير وندمها الذي تصبه في أذنها «يا ماما ولا أذتيها ولا حاجة بالعكس من كلامك واضح إنها حبت العيشة والمكان» 

بررت صفوة بما تعرفه عن أختها،غير مقتنعة بحجج والدتها «غزل طول عمرها بترضى بأي حاجة ومبتعترضش وكمان بتتقبل أي وضع وتخليه يناسبها» 

هتفت والدتها بحدّة «رديتي على نفسك يا صفوة» 

رفعت صفوة عينيها الغائمة بالدموع تستوضح كلمات أمها «يعني إيه يا ماما؟» 

أجابتها والدتها مهونة عليها بإقناع «لو أنتِ مكانها مكنتيش هتتحملي يابنتي ولا تتكيفي إنما غزل لا حياتها هتمشي وهتتكيف وتنبسط»

لم يبد على صفوة الاقتناع  بقولها وقالت بندم حارق «بس احنا لعبنا عليها يا ماما أنقذت نفسي وغرقتها هي؟  أنا الي اترجيتها ترجع وحكتلها وهي مكانتش تستاهل مني كدا ولا كانت ناقصة بالي هي فيه» 

نكزت ضمير والدتها النائم فهتفت غاضبة منها ومن عنادها وضعفها «يووه يا صفوة ما قولنا خلاص حتى عياطك مش هيفيد دلوقت» 

لامتها صفوة بنظراتها فتأففت والدتها وتركت الحجرة مغمغمة  باستياء وضجر من عناد فتاتها، اصطدمت بزوجها أمامها واقفًا فانتفض جسدها بارتباك وسألته متلعثمة «في حاجة يا مرتضى؟» 

ضيق نظراته فوق ملامحها يستقرأها وهو يسأل «مال صفوة بتبكي ليه؟» 

أجابتها وهي تخطو ناحية حجرتهما «أبدًا غزل وحشتها وعايزة تروحلها» 

تمدد مرتضى فوق الفِراش متدثرًا وهو يخبرها برأيه في بساطة «عادي تروحلها تطمن عليها وتطمنا دي أختها» 

تشرست نظراتها وهي تطالعه عبر المرآة مستنكرة بساطة قوله «يا سلام وأبقا ضيعت الاتنين» 

طمأنها مرتضى بغموض «مش هيحصل حاجة متقلقيش لو فكروا غزل هتحميها زي ما عملتها في الأول» 

تهربت بنظراتها منه قائلة بتلعثم «ربنا يسهل، بالمناسبة هتعمل إيه في الوصولات؟» 

أجابها بنظرة ثاقبة وترتها «عايز منك سلفة أسدد واحد على الأقل» 

قطبت قائلة باعتذار وهي تجاوره فوق الفِراش «كنت أتمنى بس الي معايا ميغطيش حتى وصل» 

رفع حاجبه مستفسرًا بغضب مكتوم «والدهب؟» 

أجابته وهي تتمدد مانحة له ظهرها في هروب «كله اتباع واتصرف لما استقرينا هنا فتجهيز الشقة والعفش» 

أجاب غير مقتنعاً  بمكرها يتوعدها داخل نفسه «طيب ربنا ييسر» 

أخرجت من بين شفتيها نفخًا بطيئًا في راحة بينما غمغم هو متوعدًا لها «ماشي هنشوف يابنت ال...» 

***

#انتهى


2




الثامن والعشرين من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close