رواية شهادة قيد الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم دودو محمد
"شهادة قيد"22
"الفصل الثاني وعشرون"
في المساء، وصل سليم إلى الشقة الخاصة بمهران، حيث كانت الأجواء مشحونة بالتوتر والقلق. حين دلف إلى الداخل، خرجت ذات من إحدى الغرف، وقفت تنظر إليه بدون حراك كأنها تلتقط أنفاسها من صدمة اللقاء. تفاجأت عندما اقترب منها وسحبها إلى حضنه بقوة، شعور بالحنان والتعاطف دفعه ليضمها إلى صدره كأنها طوق نجاة من الموقف الذي تعاني منه. ظلت يداها معلقَتين في الهواء، حيث نظرت إلى مهران تبحث عن إجابات لمشاعرها المختلطة، كأنها تحاول تنظيم أفكارها ولكنه يزيد من حيرتها. أومأ رأسه لها، مشجعاً إياها على الاقتراب من العم الذي طالما نظر إلى حمايتها وتوجيهها. بحركة بطيئة، استجابت له، وانغمست برأسها في حضن سليم، تشتم رائحة والدها التي انبعثت منه، والرائحة كانت تذكرها بذكريات الطفولة والدفيء الذي فقدته.بصوت مختنق بالدموع، قالت:
"أنا مش عارفة ليه حسيت أنك وحشتني، يمكن علشان مش قادرة أنسى فضلك عليّا. رغم كل اللي حصل، كنت دايمًا محاوطني. صحيح مكناش بنتفق مع بعض طول الوقت، بس هتفضل عمي اللي بحبه وبحترمه."
فكانت كلماتها تعبر عن صراع داخلي عميق، حيث تجاذبها بين عشقها لعائلتها والرغبة في بناء حياتها الخاصة.ثم ابتعد عنها بحزن؛ قبل رأسها ويدها ببطء، وذلك كأنه يحاول مسح آثار جراحات الماضي. قال بأسف:
"أنا آسف يا بنتي أني مكنتش العم اللي يليق بيكي ويحافظ عليكي. سمحت ليهم يتحكموا فيكي ويأذوكي بالشكل ده، أسف لأن طلعت شخصية ضعيفة وسلبية وميعتمدش عليها."
كانت كلماته تحمل وزنًا ثقيلًا من الندم، تجلّت في نبرته المترددة وحركاته المتسارعة.حركت ذات رأسها مع دموعها قائلة بسعادة:
"متقولش كده يا عمو، أنت أطيب وأحن قلب في الدنيا دي كلها."
كانت تلك الكلمات بمثابة بلسم لجراح قلبه المكسور، محاولة منها لتخفيف وقع الذنب الذي أثقل كاهله.ابتسم مهران لهما بسعادة، وقال:
"تعالوا اقعدوا بدل ما أنتوا واقفين كده."
ولكن ذات حركت رأسها بالرفض، وشعرت أنها بحاجة لمزيد من الخصوصية مع عمها سليم لتوضيح الأمور المعقدة في حياتها. قالت:
"لا، أنا هاخد عمو سليم وهندخل الأوضة بعد إذنك طبعاً."
بنبرة تعكس تصميمها على استكشاف حقيقتها الجديدة وتحديات الموقف الراهن.أومأ رأسه بالموافقة، وهو ينظر إلى سليم بنظرة ذات مغزى، محذرًا إياه من الإفصاح عن اتفاقهما غير المعلن وكأنما هناك شئًا أعمق خلف الرموز المرسومة في وجوههم. دلف الاثنان إلى الغرفة، وأغلقت ذات الباب خلفهما، ثم أمسكت بيد عمها، وجلست على الأريكة كما لو كانت تتخذ خطوة نحو النضوج. نظرت له بنظرة مكثفة، وهمست:
"عمو سليم، أنا عايزة أعرف أنا بقيت مرات مهران امته و ازاي؟"
وكانت تلك العبارة بمثابة بداية لفصل جديد في حياتها، حيث كانت تبحث عن إجابات قد تغير مسارها للأمام.اتسعت عينا سليم في صدمة، وسأل بصعوبة:
"ها... أ أنتي عرفتي؟"
أومأت رأسها بتأكيد، وقالت بتوضيح:
"آه، عرفت، بس مهران ميعرفش أني أعرف الموضوع ده. في يوم كنت نايمة، وصحيت علشان عطشانة. جيت أخرج من الأوضة، سمعت مهران بيتكلم مع أمه عليّا، وكان متعصب وهو بيقولها: 'ذات مراتي، ومش هسمح لحد يقرب منها ويأذيها حتى لو ده كلفني عمري كله.' فهمت وقتها إنه متجوزني علشان يحميني. عشان كده عايزة أعرف... اتجوزني إزاي؟ ومين اللي طلب ده، هو ولا أنت اللي طلبت منه عشان يحميني؟"
ابتلع ريقه بصعوبة، نظر لها بتوتر، ثم تكلم بتلعثم:
"إنتي عايزة تعرفي ليه دلوقتي يا ذات؟ عيشي يا بنتي، جوزك بيحبك بجد، وصينك وحاميكي... بلاش تشغلي بالك بالماضي."
كان واضحًا أنه يحاول تجنب الغوص في تفاصيل قد تؤدي إلى مزيد من القلق لها. سليم، الذي كان طيلة حياته يحمل همومها، أراد لها حياة بسيطة خالية من خيبات الأمل.حركت رأسها بدموع، وقالت بصوت مختنق:
"أنا متأكدة أن مهران بيحبني دلوقتي، بس مش هقدر أكمل معاه. فكرت إنه اتجوزني علشان يحميني بناءً على طلبك. ده صعب عليا، مش هقدر أقبله والله."
شعرت بثقل القهر يثقل صدرها، وحلم الزواج الذي كان يلوح لها أصبح كابوسًا يلاحقها.نظر لها بتعجب، وقال بتساؤل:
"يعني إيه؟ مش فاهم إنتي عايزة إيه؟"
بدأ يشعر بالقلق من أنه لم يتمكن من فهم مشاعرها.ردت عليه من بين دموعها، قائلة:
"أنا عايزة أطلق، وأرجع أعيش عندك في الفيلا. مش قادرة أتحمل فكرة أن يكون جوازنا مبني على الحماية مش على الحب. بحب مهران بس الفكرة دي بتكسرني!"
انتفض سليم من مكانه عندما سمع حديثها، وغضب يقول:
"تطلقي إيه... إنتي اتجننتي؟ مستحيل ده يحصل. هتعيشي هنا مع جوزك. مش بعد ما اطمنت عليكي مع راجل بجد وبيحبك، تقوليلي الكلام العبيط ده."
كانت مشاعره مختلطة؛ فقد كان قلقًا على مستقبل ابنة أخيه، وأيضًا غاضبًا من الوضع الذي وجد نفسه فيه.تعالت شهقاتها، وتكلمت بصعوبة:
"بترجاك يا عمو، طلقني من مهران."
شعرت باليأس، وكأن روحها محاصرة، ولم تجد مخرجًا لها.مسح بيده على وجهه ليهدأ قليلاً، ثم سأل:
"يا بنتي، مش انتي بتحبيه؟"
أومأت برأسها بتأكيد، وقالت بدموع:
"أنا اتخطيت الكلمة دي، يا عمو، أنا بعشق مهران. هو المعنى الحقيقي للحياة!"
ضغط على أسنانه بنفاذ صبر، وكأن كل كلمة تقال تثير فيه مشاعر متضاربة. قال:
"لما انتي بتعشقيه كده ومتأكدة من حبه ليكي، عايزة تطلقي منه ليييييه؟"
كانت ملامحه تعكس حيرة كبيرة، وكأنه يتساءل عن السبب المنطقي وراء قرارها الحاد. أجابته بصوت حزين ومنكسر، كأن كل كلمة منها مملوءة بالألم:
"علشان مكانش ينفع يتجوزني لمجرد أن اتفرض عليه. حتى لو حبيني دلوقتي، ده مش هيغير حقيقة جوازنا، يا عمو. أبوس إيدك، بترجاك، طلقني من مهران."
كانت الكلمات تخرج منها كصرخة استغاثة تعكس خيبة الأمل التي تشعر بها بسبب الوضع المعقد الذي تجد نفسها فيه.جلس مرة أخرى على مقعده، نظر لها بحنو وربت على يدها، وكأن يعبر عن تعاطفه العميق، وتحدث بهدوء:
"يا بنتي يا حبيبتي، أنا منكرش أني أنا اللي طلبت منه أنه يتجوزك ويحميكي، بس والله العظيم هو كان بيحبك وقتها، وكان عايز ياخد الخطوة دي. هو كان خايف بس أنك تفتكري أن جوازكم ده مجرد شفقة منه عليكي. أنا لو مكنتش متأكد من حبه ليكي، مكنتش هرخص منك أبداً، يا ذات."
صرخت بغضب، قائلة:
"وأنا عايزة أطلق. لو بيحبني بجد، يطلقني. يصبر عليا لما أعدي المحنة اللي أنا فيها دي، ويجي يتقدم من جديد. وقتها هشوف إصراره عليا، وهوافق بالثلث كمان، وهعيش اللحظة وقتها."
كانت كلماتها تحمل في طياتها رغبة في التحرر من قيود الزواج الذي فرض عليها، وتحديًا للواقع الذي لا تريده، مما يجعل صوتها يرن بحماس.تنهد بنفاذ صبر، وحرك رأسه بالموافقة، وقال بصوت مختنق: "حاضر يا بنتي، هبلغ مهران بقرارك ده، مع أني متأكد مستحيل يوافق على الجنان ده."
نظرت له بدموع، قالت:
"أنا هروح معاك الفيلا يا عمي."
وفي عينيها، كان يوجد مزيج من الخوف والأمل. كانت تشعر بأن هذه هي فرصتها الوحيدة للتعبير عن رغباتها، وأنها تبدأ خطوات جديدة نحو مستقبل غير محسوم.حرك رأسه بعدم رضا، ثم خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه بشدة، كأنه يطرد معه كل أمل في استعادة ما كان بينهما. نظرت إلى أثر عمها وهو يتلاشى، واغتُصت بأنفاسها المتقطع، فحزنها كاد أن يهدم كل شيء حولها. تمددت على السرير، تحت ضربات قلبها المتسارعة، وظلت تبكي بحزن وألم دقائق معدودة، كأن دموعها تغسل روحها المكسورة. انتفضت من مكانها عندما سمعت صراخ مهران من الخارج، ممسكاً بحزنه وغضبه في آن واحد، وهو يقتحم عليها الغرفة بهمجية لم تتوقعها، قائلاً بصوت عالٍ:
"مين ده اللي يطلقك يا ذات؟ انتي اتجننتي؟ ده أنا لسه الصبح بقولك خلاص، مش قادر أستحمل بعدك أكتر من كده. ولولا خبط مهره على الباب وقتها، كنت هبلغك أنك مراتي وأتمم جوازنا على الحقيقة. فؤقي يا ذات، علشان أنا مش هفرط فيكي بالسهولة دي. طلاق مش هطلق. مقدرش أعيش من غيرك، انتي الحياة، وأنا متمسك بالحياة بأيدي وبأسناني، مستني أنعم بخيرها."
رغم شعورها بالسعادة الغامرة ودقات قلبها السريعة التي تكاد تصرخ من الداخل بعشقه لهذا المحب المجنون، إلا أنها حاولت أن تظهر عكس ذلك، وكأن الكرُب الذي يسكن قلبها يسيطر على كل مشاعرها. وقفت، ووجهها مشحون بالتحدي، وقالت:
"وانا مش عايزة أكمل معاك يا مهران. طلقني، بترجاك. مش هكون سعيدة معاك. مجرد تفكيري أن جوازنا كان مجرد شفقة منك عليا، هينغص علينا حياتنا. لو بتحبني بجد، طلقني، وسيبني أمشي مع عمو سليم."
كانت كلماتها كالسيف الذي يشق كل ما هو كان من قبل، جالت في فكرها فكرة العيش بدون العاطفة التي كانت تربط بينهما، لكن ذلك الفكر كان يؤلمها بشدة.حاول أن يهدأ قليلاً، واقترب منها بخطوات بطيئة، يرتجف قلبه مما يسمعه، وهو يقول:
"ذات حبيبتي، اعقلي علشان خاطري، وشيلي الكلام العبيط اللي في دماغك ده. احنا لسه من شوية كنا بنتكلم عن عشقنا لبعض. قلوبنا كانت طايرة في السما، وإحنا في حضن بعض. والله العظيم، لما اتجوزتك من عمك، كنت بحبك. لا، كنت بعشقك. وما صدقت عمك أخد الخطوة دي وطلب مني الطلب ده وقتها، فرحت وشكرت ربنا أنه قربني ليكي وجعلك من نصيبي. مكانش فيه ذرة شفقة واحدة جوايا، كان كل اللي جوايا حبك وبس."
كانت نظراته تبحث في عينيها عن بصيص أمل، لكن الفجوة التي بدأت تظهر بينهما كانت عميقة، وكلما حاول الاقتراب، أحس أنها تتراجع.استدارت بظهرها، وتكلمت بدموع تتلألأ في عينيها:
"طلقني."
كان صوتها مكسورًا، كمن يتحدث من قاع البئر البارد.
"ولما أكون مستعدة للخطوة دي، هبلغك. ووقتها، تقدر تيجي الفيلا تطلب إيدي من عمي، ومعاك أهلك زي أي بنت مستنية تفرح في اليوم."
كانت الكلمات وكأنها طلقات نارية، تصيب قلبه بعمق. فقد كانت تعرف أنه يواجه إحباطًا كبيرًا نتيجة للضغوطات المحيطة به، لكنها شعرت أنه لم يعد بإمكانها الظهور بمظهر الفتاة الضائعة التي تنتظر الفارس المنقذ.زفر بضيق، وقال بتضرع وكأن قلبه يتوسل إليها:
"أرجوكي يا ذات، متعمليش فيا كده. أنا بحبك، ومقدرش أعيش من غيرك ثانية واحدة. ومش هأمن عليكي عندهم، مضمنش ابنه يأذيكي إزاي."
لقد كان هذا الخوف يتسلل إلى قلبه، يحاصره بأفكار مظلمة عن مستقبل قد يتخلى فيه عنها. لقد رأى في عينيها بريقًا يدل على تعاسة محبطة، وشعر بثقل المسئولية لدرجة أنه شعر بصعوبة التنفس. كان يدرك أن الأمن والسلام في العلاقة لم يعودا متوفرين كما كانا من قبل.تكلمت بنفاذ صبر، وقالت بصراخ ملتهب:
"كفايه بقى تعيش دور الوصي عليا. كفاية تعمل فيها الجدع والشهم. طلقني بقى، مش عايزاك."
تفجرت كلماتها كحمم بركانية، فقد أرادت أن تخرج من تحت ظلال حمايته المبالغة. لم تكن تسعى لأن تأخذ منه كل شيء، لكنها أرادت فقط استعادة شعورها بالاستقلالية، أن تكون لها حياتها الخاصة، بعيداً عن القيود التي أحاطت بها. كان الأمر إما أن تجد طريقها للحرية أو أن تغرق في بحر من الشكوك.نظر لها نظرة مطولة، ثم تنهد، وقال بشكوى مريرة:
"إنتي معني الحياة بالنسبة ليا. لو أنا مش فارق معاكي، فأنتي تفرقي معايا أوي. وبعدك عني، معناه موتي."
كانت كلماته تتردد في غرفته كصدى، بنبرة غاضبة، لكنه لم يستطع أن يتجاهل مشاعر الحب العميقة التي انطلقت من داخله. "شيلي فكرت الطلاق دي من دماغك، يا ذات، فاهمة؟"
كانت حواراتهما أشبه برقصات متلاطمة بين الإصرار والاستسلام، وكل محاولة للاقتراب كانت تنتهي بالنفور.أنهى كلماته بغضب شديد، مغادراً الغرفة، بل غادر المنزل نهائيًا. رغم حزنها، إلا أن قلبها كان يتراقص فرحًا بتمسك مهران بها لهذه الدرجة، وكأنها كانت تطالع مشاعر الحب غير المعلنة التي فاضت في كلماته. ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها، وأعادت شعرها إلى الوراء، تفكر في الخطوة القادمة في حياتها. هل ستسير قدمها نحو الحرية، أم ستبقى حيث كانت، عالقة بين حب يمزقها ومواقف تحاصرها، تتساءل عما إذا كانت تملك شجاعة اتخاذ القرار.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»
صعدت ساره إلى السيارة من الخلف، وهي تشعر بتغيرات في مشاعرها. كانت الأجواء مشحونة، والضغوطات لم تتوقف، بل امتدت إلى كل جوانب حياتها. عندما رأت ماهر ينظر إليها باستغراب في المرآة، شعرت بتوتر شديد يجتاحها، وكأن قلبها يخفق بسرعة غير مريحة. قائلة بأسف:
"ا ا اسفه، م م مش هينفع اقعد جنبك."
ابتسم لها ابتسامة هادئة، محاولاً تخفيف الأجواء المشحونة التي تملأ السيارة، وقال بحنو:
"لا طبعا براحتك، المهم طمنيني على أختي، مقالتش ليكي حاجة."
كان صوته مليئًا بالقلق، كما لو كان يطلب منها ليس فقط أخبار أختها، بل أيضاً أن تطمئن قلبه.
نظرت له بضيق، وعبّرت عن مشاعرها الغاضبة بنبرة حادة:
"قصد حضرتك إيه؟ هو انت مفكر هنقل ليك الكلام اللي بيحصل بينا، لو ده قصدك يبقى سوري مستحيل اعمل كده واخون صاحبة عمري."
زوّى حاجبيه بضيق وحيرة، فرد على استغرابه بصوت متوتر:
"هو فيه أيه؟ محسساني أني طلبت منك أسرار دولية. أنا مقصدش حاجة، على فكرة أنا بطمن على أختي عادي يعني."
ردّت عليه بنبرة غاضبة، قائلة:
"والله أختك عندك، لو حابب تطمن عليها روح اعمل كده بنفسك بدل ما انتوا متجاهلين وجودها في حياتكم. علشان أول غلطة تعملها في حياتها، لو بتحبها أوي كده، كنت دعمتها ووقفت جنبها في أزمتها، مش جيتوا عليها أكتر. انت وعدتني أنك هتتفهم اللي حصل ده وهتتعامل معاها بكل هدوء، إنما اللي حصل كان العكس. انتوا بتدمروا أختكم بأيديكم، ياريت تحتويها انت واخوك بدل ما تروح تدور على الاحتواء ده برة. عن إذنك."
كانت الكلمات مثل طلقات مدفع، تتردد في فضاء السيارة.
فتحت الباب ونزلت منها، ودفعت الباب بغضب، كما لو كانت تحاول أن تطرد مشاعر الإحباط المكدسة بداخلها.
نظَر إليها بذهول، وترجل سريعاً من السيارة وركض خلفها، ممسكاً بذراعها بغضب، قائلاً:
"انتي ازاي تتكلمي معايا كده وصوتك يعلى عليا!؟"
كانت ردة فعله تعبر عن اندهاشه من تغير مجرى الحديث.
نظرت له بضيق، وتحدثت بضيق:
"لو سمحت، سيب دراعي، ميصحش كده."
ترك ذراعها وتحدث بأسف:
"أنا آسف إني لمستك، بس طريقتك في الكلام مستفزة. كل اللي عملته إني سألتك على أختي علشان أطمن عليها منك، لأنكم بنات مع بعض، وهتقدر تتكلمي معاكي بأريحية أكتر. مكانش قصدي كل اللي قولتيه ده كله."
كان صوته يحمل نبرة من الاعتذار، محاولًا استعادة اللحظة قبل أن تبتعد بعيدًا.
تنحنحت بإحراج، واعتذرت:
"ا ا أنا اسفه، بس طريقة حضرتك في السؤال كأني مجرمة وبتستجوبها، علشان كده انفعلت بالطريقة دي."
شعرت بعدم الارتياح، كأنها تضع درعًا لحماية نفسها.
ابتسم لها، قائلاً بمزاح بعد لحظة من الصمت:
"أعمل إيه طيب؟ طبيعة شغلي مأثرة عليا في الكلام."
كانت زاوية فمه تميل إلى الابتسامة، كأنه يحاول جعل الموقف أخف من عبء الصراع.
ابتسمت بخجل بسبب كلماته، وأجابت:
"ح حصل خير، ممكن تسيبني أروح لأنني اتأخرت عليهم في البيت، وهيحصل مشكلة."
رد عليها بنبرة جادة، آمراً:
"طيب، امشي يلا، اركبي العربية، وأنا هوصلك بسرعة. ومافيش أي اعتراض لأن هوصلك يعني هوصلك."
تركت أوامره مجالا لها للتأمل في ما حدث.
ظلت تنظر له بتوتر، ثم تحركت مرة أخرى إلى السيارة وصعدت بها من الخلف، تتراقص أفكارها بين الغضب والارتياح.
ظل ماهر يتابعها بابتسامة جميلة على شفتيه، مملوءة بالحنان والأمل، ثم تحرك إلى السيارة وصعد أمام المقود، وبدأ بتشغيل المحرك، متجهاً بها إلى منزل سارة. وبين الحين والآخر كان ينظر إليها من خلال المرآة، محاولاً لكسر جليد الموقف وإعادة التواصل من جديد.
««««««««««««««««»»»»»»»»»»»
جلس مهران في سيارته، يعتصره الغضب القاتل، وكأن قلبه يتمزق بسبب تخليها عنه. كيف له أن يجد نفسه عالقاً في موقف كهذا؟ كان يعشق ذات بشغف، وهي أيضاً تكن له الحب، وهو متأكد من ذلك، كما تدل نظرات عينيها حين يكونان معاً. لكن ثنيها عن موقفها لم يكن سهلاً، بل كان الأمر أشبه بتسلق جبل شاق. توقع رد فعلها الغاضب عندما تتعرف على أمر زواجهم، لكنه لم يتخيل أبداً أنها ستطلب الطلاق بشكل عاطفي وجذري، تاركةً إياه وحيداً، محطماً كالزجاج المكسور. كانت الأفكار تدور داخل رأسه كفيروس يؤدي إلى شلل دماغي، تتصارع ذكرياته الجميلة مع الواقع الأليم. اهتز رأسه بالرفض، بينما كانت يده تضرب المقود بغضب شديد، والصرخات تنفجر من صدره كثور هائج. كلما تذكر نطقها بكلمة الطلاق، كانت نبضات قلبه تتسارع وكأنها تدق ناقوس الخطر، حتى استسلم أخيراً وأسند رأسه على المقود، مملوءً بالأسى، بينما دموعه تتساقط بحرقة، وكأن قلبه ينفطر تحت وطأة الأحزان المتراكمة. بعد فترة، عُلم هاتفه برنين اتصال، حيث فرح للحظة أعتقد أن المتصل قد تكون ذات، تلك التي أغرقت حياته بالسعادة وأنشأت عالماً جميلاً حوله. لكن بدا له الأمر كمن يستفيق من حلم جميل، وابتسم بخيبة أمل عندما رأى رقماً غير معروف. أجاب بصوت مختنق، كمن يتحدث من جحيم قلبه، قائلاً:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
تحدث إليه صوت أنثوي يعرفه جيدًا:
"مهران، عايزه اقابلك بسرعة، الموضوع خطير."
رد عليها ببرود كالصقيع قائلاً:
"مش فاضيلك، هو عاصم بتاعك مش مكفيكي ولا إيه؟"
ردت بصدمة، وكأن كلماتها تحاول الوصول إلى أعماق قلبه المحطم:
"مهران، احترم نفسك، أنا اتصلت بيك لأن الموضوع خطير ولازم تعرف قبل ما تتأذى أنت وذات."
عندما سمع اسم ذات، تنبه مهران بكل حواسه، قائلاً بغضب متقد:
"اسم مراتي ميجيش على لسانك، فاهمة؟"
صمتت للحظات، بينما كانت أفكارها تتقافز في ذهنها، ثم قالت مشدوهة:
"مراتك!! أنت اتجوزت ذات يا مهران؟"
أجابها بغضب شديد، وكأن نيران الاستياء تشتعل في داخله:
"أيوه، يا نور، ذات مراتي، اتفضلي اتكلمي، إيه الكلام المهم اللي عايزة تقولي."
بتأثر حزين، دمعة عيونها بالدموع، قالت:
"مش هينفع في التليفون، قولي إنت فين، وأنا جاية ليك."
زفر بضيق، كمن يتعامل مع ضغوط الحياة المتزايدة، ثم أعطاها العنوان وأغلق الخط، تاركاً الهاتف بجواره كما تترك الذكريات الحزينة. بعد وقت قصير، كانت نور تقف أمامه، متخفية خلف وشاح على وجهها، كأنها تعلن عن حضورها المستتر في خضم الأحداث الإضطرابية. فنظر لها باستغراب، مبتسماً بتهكم، يحاول أن يخفف من وطأة الموقف:
"مدام بدأتي تطلعي من وراه بالشكل ده، يبقى عرفتي حقيقته الوسخة. قولي اللي عندك، وخلصي."
نظرت له بحزن عميق وكأن آلامها تفيض من عينيها، وصعدت السيارة، متحدثة بصوت مختنق:
"اركب، نتكلم في العربية أحسن ما حد يشوفنا ويروح يبلغ عاصم."
زفر مرة أخرى بضيق، وصعد إلى السيارة، بينما ظل نظره مشدوداً إلى الأمام، كمن يحاول الهروب من قدوم العواصف. فجأةً، تكلمت نور بصوت خافت، يخرج كهمسات الرياح:
"عاصم اتفق مع واحد اسمه يزيد ابن عم ذات، علشان يأذيكم، هيروح عندك بليل بحجة أنه جاي يعتذر وندمان، وهيحط مادة من الهيروين لذات، علشان ترجع تخده تاني، وكمان هيحط عندك فى الشقه ويبلغ عليك علشان تتسجن، ويخلى الجو ليهم ويقدروا يخدوا الشركه ويستخدموها فى الشغل المشبوه بتاعه، انا مش مصدقه نفسي عاصم يطلع بالشر ده، طيب ازاي!؟ ده أنا صدقت أنه ملاك لو مكنتش سمعته بودني بالصدفه وهو بيتفق مع اللي اسمه يزيد ده مكنتش هصدق أبدا أنه كده."
ارتسمت ابتسامة شامتة على وجهه، وتحدث بتهكم مفعم بالمرارة:
"ليه مش عاصم، ده الملاك ابو جناحات، اللى عايز يحميكي مني، وانا الشرير الشيطان اللى كان عايز يعتدى عليكي ويرميكي رمية الكلاب، روحي بقى لحبيب القلب، وافرحي بي واتحامي فيه، اما مراتي انا، هعرف احميها منهم كويس اوي."
وضعت يدها على يده، وملأت عينيها بالدموع التي تجري كجدول حزين:
"مهران، أنا آسفة بجد. عاصم عرف يخدعني ووقعني في شباكه بسهولة. وللأسف، أنا حبيته، وحبي ليه عمى عيوني عن الحقيقة."
نظر لها بنظرة خالية من أي تعاطف، كمن فقد القدرة على تصديق الكلمات الرائجة، وقال بتهكم السخرية:
"اللي يشيل أربة مخرومة يستحمل بقى، يلا، اتفضلي انزلي من عربيتي، مراتي واحشتني وعايز أروح ليها."
نظرت له بدموع تجري على وجنتيها، وهبطت من السيارة، تاركةً خيبة الأمل خلفها، كمن يترك كنزاً غالياً في وسط عاصفة، عائدة إلى منزلها الذي أصبح سجناً تنتظر فيه تنفيذ الإعدام. أما هو، فنظر أمامه بغضب يتأجج من جديد:
"زيد من عذابك معايا، يا عاصم، نهايتك قربت أوي يا حبيب والديك."
أنهى كلامه بصوت عالٍ، وأدار السيارة بسرعة جنونية، عائداً نحو المنزل، وكأن قلبه يتوق للراحة وسط خيبات الآمال والكوابيس المتراكمة.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»
كانت مهره تجلس على الأريكة بملل شديد، بعد مغادرة ساره إلى بيتها. زفرت بضيق، ونظرت إلى الباب بتوتر، قبل أن تنهض سريعًا وتخرج منه. هبطت إلى الأسفل، ووقفت أمام باب الشقة التي يعيش بها شريف، مترددة. لكن أخيرًا، اتخذت قرارها، وضغطت على زر الجرس، منتظرةً أن يفتح لها. بعد عدة ثوانٍ، ظهر شريف أمامها، وقد رسمت ملامح الصدمة على وجهه. ظلت تفرك يديها بتوتر شديد، وتحدثت بصعوبة: "ش ش شريف م م ممكن نتكلم شوية؟" ظل ينظر إليها بصمت، يشعر وكأنها مجرد تهيؤات أو جن عقله، ويتخيل أنها تتحدث معه. حركت يدها الصغيرة أمام عينيه المتحجّرتين من الدهشة، وقالت:
"ش ش شريف، أنت سامعني؟"
انتبه إلى حالته المزريه، وانحرج، فتنحنح وقال:
"ها...ا ا اه، سمعك. خ خ خير يا مهره، فيه حاجه؟"
نظرت حولها باستغراب وقالت:
"هنا ه ه هنتكلم هنا واحنا واقفين على الباب."
نظر إليها باستغراب، وقال بتوتر:
"أيوه طبعًا، ما هو مش معقول هتدخلي عندي الشقة وأنا لوحدي، ولا أنا هطلع ليكي الشقة وأخواتك مش موجودين وأنتي وذات لوحدكم، ولا إيه رأيك؟"
شعرت بالإحراج وأومأت برأسها بتوتر، فقالت:
"ص ص صح، أنت عندك حق."
ابتسم لها ابتسامة هادئة، تكلم بتساؤل:
"كنتي عايزه تتكلمي معايا في أيه بقى؟"
فركت يديها قليلاً، وتحدثت بتلعثم:
"ك ك كنت عايزاك تقنع أبيه مهران وماهر يخلوني أنزل الجامعة بتاعتي. فيه حاجات مش بفهمها من الملخص اللي بيجيبه ليا ده، وكمان زهقت من القعدة في البيت لوحدي ذات، طوال النهار في أوضتها. وأبيه مهران يا أما معاها في الأوضة، يا أما مش موجود في البيت أصلاً، وماهر في الشغل على طول، وحتى لما بيجي، مش بيكلمني من أساسه. زهقت ومليت بجد يا شريف."
عند سماع اسمه من بين شفتيها، اهتز كيانه. ابتلع ريقه بصعوبة، وحاول أن يتكلم قائلاً:
"م م مهره، أطلعي دلوقتي، أرجوكي، ومتقلقيش، أنا هكلم مهران، وأقنعه أخليه ينزلك الجامعة."
قفزت بسعادة كطفلة صغيرة، وقالت بعدم تصديق:
"بجد يا شريف!! أنت بجد محصلتش، انت جميل أوي."
أغلق عينيه حتى يتمكن من التحكم في مشاعره، لكنه فشل في ذلك. اقترب منها، والتقط أنفاسه قبل أن يتكلم بصوت هامس بجوار أذنيها:
"إنتي لو مطلعتيش دلوقتي حالًا من قصادي، مش مسؤول عن اللي هيحصل يا مهرة."
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، جعلت جسدها يتخشب أمامه. نظرت له بتوتر، والكلمات علقت في حلقها. ابتسم شريف على رد فعلها، وتراجع مرةً أخرى إلى الوراء، وقال بصوت هادئ:
"يلا يا مهرة، اطلعي فوق، وأنا هخلي مهران يوافق على رجوعك لجامعتك."
أومأت برأسها بخجل، وركضت سريعًا إلى الأعلى، أغلقت الباب خلفها. أسندت ظهرها عليه، ووضعت يدها على قلبها حتى تهدأ دقاته قليلاً. بينما كان هو، ينظر إلى أثر مهره بعشق خالص، وتنهد بسعادة عندما أحس بمشاعر تجاهه من قبلها، عاد إلى الداخل، وأغلق الباب خلفه، يسترجع لحظة قربه من محبوبته.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
عاد مهران إلى المنزل ونظر في اتجاه غرفة مهرة، حيث كانت مضيئة. تنهد بحزن وانطلق نحو غرفته، دلف إلى الداخل وأغلق الباب خلفه. وجد ذات جالسة على السرير، تترقب عودته، وكان من الواضح من عينيها المنتفختين أنها بكت طويلاً. زفر بضيق وحاول تجاهل وجودها كي يؤجل الحديث إلى وقت آخر. توجه إلى المرحاض، لكن قبل أن يتحرك إلى الداخل، سمع صوت هتفها الحزين تقول:
"مهران، احنا مكملناش كلامنا."
أغلق عينيه بضيق، فهو ليس لديه الطاقة للمناقشة الغير المرغوب فيها. زفر بنفاد صبر وتحدث بصوت هادئ لكنه محتدم بالغضب:
"كلامنا ملوش كمالة يا ذات، أنا قولتلك شيلي موضوع الطلاق ده من دماغك خالص، لأن مستحيل هفرط فيكي مهما حصل."
نهضت بغضب وصاحت بصوت عالٍ:
"هوووو ايه! مافيش طلاق، هتعيشني معاك بالغصب. لو عندك نخوة ورجولة، طلقني!"
لم يتحمل الصمود أكثر من ذلك، وكأن جبلًا ينهار تحت وطأة الأحمال التي يحملها. توهجت عينيه بالأحمر من شدة الغضب، واقترب منها بخطوات هادئة تمهّد لعاصفة قادمة، بحيث بدت ملامحه مثل لوحة معقدة تعكس صراعات داخلية. ارتعدت ذات من هذا المنظر، وابتلعت ريقها بصعوبة، فهي لم تره بهذه الهيئة من قبل. أخيرًا، وقف أمامها مباشرة، أمسك ذراعها بقوة حتى كادت تكسر في يده، وظل يحركها بشدة وهو يصرخ:
"قولتلك مااااافيش طلاق، واه هعيشك معايا غصب عنك. أما الرجولة فأنا هوريها ليكي حالا."
دفعها على السرير واقترب منها وسط صراخها المستنجدة، كما لو كان يقترب من قمة جبل خامد يحاول إشعال ثورته الداخلية. عَمَى الغضب عينيه وقلبه، لم يسمع صراخها ولم يستجب لتوسلاتها كي يبتعد عنها، حتى لم يشعر بالباب حين انفتح فجأة. اقترب منه شريف وأبعده بصعوبة عن ذات، وأخرجه من الغرفة متجنبًا عدة لكمات تلقاها من مهران. بينما أخذت مهرة ذات إلى أحضانها بعد أن رأت جسدها يرتعش بخوف شديد، وقالت بأسف: "حقك علينا يا ذات، ابيه مهران مش كده. ولا عمره ما كان كده، معرفش ايه وصله للحالة دي، أنا أول مرة أشوفه بالشكل."
تمسكت ذات بها بقوة وظلت تبكي، وجسدها يرتعش من الخوف، وكأن كل دمعة منها تحمل ثقل الجراح التي تملكها الروح. أما مهران، فقد كان كالثور الهائج، يدفع شريف بقوة من أمام الباب، محاولًا العودة إلى ذات. لكن شريف كان واقفًا أمام الباب بثبات، وقال بغضب:
"ما تهدا يا ابني، انت أيه حصلك! عمري ما شوفتك كده، عايز تعتدي على مراتك؟! أنت اتجننت؟ ده لو كان حصل، يبقى كنت خسرت ذات مدى الحياة، فوق يا مهران، فوق!"
ظل يدفع كل شيء أمامه ويحطّمه بجنون، قبل أن تصيبه حالة من الانهيار. لم يكن يسمع أو يتحدث، كل ما أراد فعله هو تحطيم ما تقع عليه عينه. كانت أنفاسه تتسارع، وكأن قلبه يسعى للخروج من صدره، ليواجه العواصف التي تعصف بروحه. أخيرًا، ارتمى على الأرض، وصدره يعلو ويهبط من شدة المجهود الذي بذله، ثم خرجت منه صرخة كذئير الأسد تبعتها شلالات من الدموع تتسابق على خده، تعبيراً عن احتباس الألم والمعاناة التي عانى منها طويلاً.جلس شريف بجواره، احتضنه بقوة ليعلمه أنه بجانبه، لن يتخلى عنه حتى لو تخلى عنه العالم كله. تحدث بنبرة هادئة حزينة، تستمد قوتها من الصداقة العميقة التي تربط بينهما:
"إيه اللي وصلك للحالة دي يا صاحبي؟ عمرك ما كنت كده!"
تكلم مهران بين شهقاته كطفل صغير فقد أمه:
"بعد ذات عني معناه موتي يا شريف. أنا بعمل كل حاجة علشان أحميها ومتبعدش عني، وهي بكل سهولة تقولي طلقني! بتطلب مني موتي."
رد شريف بعقلانية، محاولاً تجريد مهران من مشاعر الغضب غير المبررة:
"أطلق صراحها يا مهران، وهي لو ليك هترجع تاني لعشها. الحب عمره ما كان بالغصب، ولا ينفع نشحته. الحب لو مكانش متبادل ما بين اتنين يبقى ملوش لازمة. طلقها وخليها تكون حرة، وهي لو بتحبك بجد هترجعلك تاني، صدقني."
نظر له مهران بدموع، وقال بنبرة ضعيفة، تتسرب منها مشاعر الضعف:
"مش هقدر على بعدها يا شريف، ده هي النفس اللي بتنفسه."
أومأ شريف برأسه بتفهم، انطلاقًا من معرفته العميقة بمشاعر صديقه:
"عارف يا مهران إنك بتحبها وروحك فيها، بس الهوا اللي بتتنفسه لو مكانش نقي هيخنقك وتموت. لازم تتصافوا الأول وتبدأوا حياة جديدة بكامل إرادتكم، انتوا الاتنين."
أطال مهران النظر إلى شريف، يفكر في كلام صديقه بعقلانية، وبعد أن هدأ واستقام بجسده، تحرك نحو الباب، حيث بدأ يظهر في عينيه رمق من الأمل، ربما يحمل وعدًا بالتغيير. نهض شريف بسرعة وأمسك ذراعه، نظر له بقلق، وكأن صدمته من حالة مهران ما زالت تطارده بأصداءها. ربت مهران على يده بهدوء، مطمئنًا إياه:
"متقلقش، أنا هديت خلاص وهنفذلها اللي هي عايزاه."
انتهى من كلامه وغادر الغرفة، متجهًا إلى الغرفة المتواجد بها ذات، نظر إلى حالتها وشعر بنغزة في قلبه، لكنه أظهر عكس ذلك. وقال بنبرة جادة:
"مهرة، روحي أوضك."
نظرت له بخوف، لكن انتفضت مكانها عندما سمعت صراخ مهران، وهو يقول لها:
"مهررررة، روحي أوضك."
ركضت سريعا وخرجت من الغرفة، أغلق الباب خلفها، ثم نظرت ذات له بخوف شديد، وظلت تبكي، محملة برعب غير معهود من الأحداث المتلاحقة. نظر إليها نظرة مطولة، حيث كان في عينيه مزيج من الألم والحب، ثم قال:
"مش انتي عايزة تطلقي، أنا هنفذلك طلبك، بس مافيش رجوع لبيت عمك، هتعيشي في شقتك تحت، وهفضل برضه أحميكي."
نظرت له بدموع وظلت صامتة، لكن اتسعت عيناها وتعالت دقات قلبها عندما سمعت مهران يقول لها: "انتي طالق يا ذات..."
"الفصل الثاني وعشرون"
في المساء، وصل سليم إلى الشقة الخاصة بمهران، حيث كانت الأجواء مشحونة بالتوتر والقلق. حين دلف إلى الداخل، خرجت ذات من إحدى الغرف، وقفت تنظر إليه بدون حراك كأنها تلتقط أنفاسها من صدمة اللقاء. تفاجأت عندما اقترب منها وسحبها إلى حضنه بقوة، شعور بالحنان والتعاطف دفعه ليضمها إلى صدره كأنها طوق نجاة من الموقف الذي تعاني منه. ظلت يداها معلقَتين في الهواء، حيث نظرت إلى مهران تبحث عن إجابات لمشاعرها المختلطة، كأنها تحاول تنظيم أفكارها ولكنه يزيد من حيرتها. أومأ رأسه لها، مشجعاً إياها على الاقتراب من العم الذي طالما نظر إلى حمايتها وتوجيهها. بحركة بطيئة، استجابت له، وانغمست برأسها في حضن سليم، تشتم رائحة والدها التي انبعثت منه، والرائحة كانت تذكرها بذكريات الطفولة والدفيء الذي فقدته.بصوت مختنق بالدموع، قالت:
"أنا مش عارفة ليه حسيت أنك وحشتني، يمكن علشان مش قادرة أنسى فضلك عليّا. رغم كل اللي حصل، كنت دايمًا محاوطني. صحيح مكناش بنتفق مع بعض طول الوقت، بس هتفضل عمي اللي بحبه وبحترمه."
فكانت كلماتها تعبر عن صراع داخلي عميق، حيث تجاذبها بين عشقها لعائلتها والرغبة في بناء حياتها الخاصة.ثم ابتعد عنها بحزن؛ قبل رأسها ويدها ببطء، وذلك كأنه يحاول مسح آثار جراحات الماضي. قال بأسف:
"أنا آسف يا بنتي أني مكنتش العم اللي يليق بيكي ويحافظ عليكي. سمحت ليهم يتحكموا فيكي ويأذوكي بالشكل ده، أسف لأن طلعت شخصية ضعيفة وسلبية وميعتمدش عليها."
كانت كلماته تحمل وزنًا ثقيلًا من الندم، تجلّت في نبرته المترددة وحركاته المتسارعة.حركت ذات رأسها مع دموعها قائلة بسعادة:
"متقولش كده يا عمو، أنت أطيب وأحن قلب في الدنيا دي كلها."
كانت تلك الكلمات بمثابة بلسم لجراح قلبه المكسور، محاولة منها لتخفيف وقع الذنب الذي أثقل كاهله.ابتسم مهران لهما بسعادة، وقال:
"تعالوا اقعدوا بدل ما أنتوا واقفين كده."
ولكن ذات حركت رأسها بالرفض، وشعرت أنها بحاجة لمزيد من الخصوصية مع عمها سليم لتوضيح الأمور المعقدة في حياتها. قالت:
"لا، أنا هاخد عمو سليم وهندخل الأوضة بعد إذنك طبعاً."
بنبرة تعكس تصميمها على استكشاف حقيقتها الجديدة وتحديات الموقف الراهن.أومأ رأسه بالموافقة، وهو ينظر إلى سليم بنظرة ذات مغزى، محذرًا إياه من الإفصاح عن اتفاقهما غير المعلن وكأنما هناك شئًا أعمق خلف الرموز المرسومة في وجوههم. دلف الاثنان إلى الغرفة، وأغلقت ذات الباب خلفهما، ثم أمسكت بيد عمها، وجلست على الأريكة كما لو كانت تتخذ خطوة نحو النضوج. نظرت له بنظرة مكثفة، وهمست:
"عمو سليم، أنا عايزة أعرف أنا بقيت مرات مهران امته و ازاي؟"
وكانت تلك العبارة بمثابة بداية لفصل جديد في حياتها، حيث كانت تبحث عن إجابات قد تغير مسارها للأمام.اتسعت عينا سليم في صدمة، وسأل بصعوبة:
"ها... أ أنتي عرفتي؟"
أومأت رأسها بتأكيد، وقالت بتوضيح:
"آه، عرفت، بس مهران ميعرفش أني أعرف الموضوع ده. في يوم كنت نايمة، وصحيت علشان عطشانة. جيت أخرج من الأوضة، سمعت مهران بيتكلم مع أمه عليّا، وكان متعصب وهو بيقولها: 'ذات مراتي، ومش هسمح لحد يقرب منها ويأذيها حتى لو ده كلفني عمري كله.' فهمت وقتها إنه متجوزني علشان يحميني. عشان كده عايزة أعرف... اتجوزني إزاي؟ ومين اللي طلب ده، هو ولا أنت اللي طلبت منه عشان يحميني؟"
ابتلع ريقه بصعوبة، نظر لها بتوتر، ثم تكلم بتلعثم:
"إنتي عايزة تعرفي ليه دلوقتي يا ذات؟ عيشي يا بنتي، جوزك بيحبك بجد، وصينك وحاميكي... بلاش تشغلي بالك بالماضي."
كان واضحًا أنه يحاول تجنب الغوص في تفاصيل قد تؤدي إلى مزيد من القلق لها. سليم، الذي كان طيلة حياته يحمل همومها، أراد لها حياة بسيطة خالية من خيبات الأمل.حركت رأسها بدموع، وقالت بصوت مختنق:
"أنا متأكدة أن مهران بيحبني دلوقتي، بس مش هقدر أكمل معاه. فكرت إنه اتجوزني علشان يحميني بناءً على طلبك. ده صعب عليا، مش هقدر أقبله والله."
شعرت بثقل القهر يثقل صدرها، وحلم الزواج الذي كان يلوح لها أصبح كابوسًا يلاحقها.نظر لها بتعجب، وقال بتساؤل:
"يعني إيه؟ مش فاهم إنتي عايزة إيه؟"
بدأ يشعر بالقلق من أنه لم يتمكن من فهم مشاعرها.ردت عليه من بين دموعها، قائلة:
"أنا عايزة أطلق، وأرجع أعيش عندك في الفيلا. مش قادرة أتحمل فكرة أن يكون جوازنا مبني على الحماية مش على الحب. بحب مهران بس الفكرة دي بتكسرني!"
انتفض سليم من مكانه عندما سمع حديثها، وغضب يقول:
"تطلقي إيه... إنتي اتجننتي؟ مستحيل ده يحصل. هتعيشي هنا مع جوزك. مش بعد ما اطمنت عليكي مع راجل بجد وبيحبك، تقوليلي الكلام العبيط ده."
كانت مشاعره مختلطة؛ فقد كان قلقًا على مستقبل ابنة أخيه، وأيضًا غاضبًا من الوضع الذي وجد نفسه فيه.تعالت شهقاتها، وتكلمت بصعوبة:
"بترجاك يا عمو، طلقني من مهران."
شعرت باليأس، وكأن روحها محاصرة، ولم تجد مخرجًا لها.مسح بيده على وجهه ليهدأ قليلاً، ثم سأل:
"يا بنتي، مش انتي بتحبيه؟"
أومأت برأسها بتأكيد، وقالت بدموع:
"أنا اتخطيت الكلمة دي، يا عمو، أنا بعشق مهران. هو المعنى الحقيقي للحياة!"
ضغط على أسنانه بنفاذ صبر، وكأن كل كلمة تقال تثير فيه مشاعر متضاربة. قال:
"لما انتي بتعشقيه كده ومتأكدة من حبه ليكي، عايزة تطلقي منه ليييييه؟"
كانت ملامحه تعكس حيرة كبيرة، وكأنه يتساءل عن السبب المنطقي وراء قرارها الحاد. أجابته بصوت حزين ومنكسر، كأن كل كلمة منها مملوءة بالألم:
"علشان مكانش ينفع يتجوزني لمجرد أن اتفرض عليه. حتى لو حبيني دلوقتي، ده مش هيغير حقيقة جوازنا، يا عمو. أبوس إيدك، بترجاك، طلقني من مهران."
كانت الكلمات تخرج منها كصرخة استغاثة تعكس خيبة الأمل التي تشعر بها بسبب الوضع المعقد الذي تجد نفسها فيه.جلس مرة أخرى على مقعده، نظر لها بحنو وربت على يدها، وكأن يعبر عن تعاطفه العميق، وتحدث بهدوء:
"يا بنتي يا حبيبتي، أنا منكرش أني أنا اللي طلبت منه أنه يتجوزك ويحميكي، بس والله العظيم هو كان بيحبك وقتها، وكان عايز ياخد الخطوة دي. هو كان خايف بس أنك تفتكري أن جوازكم ده مجرد شفقة منه عليكي. أنا لو مكنتش متأكد من حبه ليكي، مكنتش هرخص منك أبداً، يا ذات."
صرخت بغضب، قائلة:
"وأنا عايزة أطلق. لو بيحبني بجد، يطلقني. يصبر عليا لما أعدي المحنة اللي أنا فيها دي، ويجي يتقدم من جديد. وقتها هشوف إصراره عليا، وهوافق بالثلث كمان، وهعيش اللحظة وقتها."
كانت كلماتها تحمل في طياتها رغبة في التحرر من قيود الزواج الذي فرض عليها، وتحديًا للواقع الذي لا تريده، مما يجعل صوتها يرن بحماس.تنهد بنفاذ صبر، وحرك رأسه بالموافقة، وقال بصوت مختنق: "حاضر يا بنتي، هبلغ مهران بقرارك ده، مع أني متأكد مستحيل يوافق على الجنان ده."
نظرت له بدموع، قالت:
"أنا هروح معاك الفيلا يا عمي."
وفي عينيها، كان يوجد مزيج من الخوف والأمل. كانت تشعر بأن هذه هي فرصتها الوحيدة للتعبير عن رغباتها، وأنها تبدأ خطوات جديدة نحو مستقبل غير محسوم.حرك رأسه بعدم رضا، ثم خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه بشدة، كأنه يطرد معه كل أمل في استعادة ما كان بينهما. نظرت إلى أثر عمها وهو يتلاشى، واغتُصت بأنفاسها المتقطع، فحزنها كاد أن يهدم كل شيء حولها. تمددت على السرير، تحت ضربات قلبها المتسارعة، وظلت تبكي بحزن وألم دقائق معدودة، كأن دموعها تغسل روحها المكسورة. انتفضت من مكانها عندما سمعت صراخ مهران من الخارج، ممسكاً بحزنه وغضبه في آن واحد، وهو يقتحم عليها الغرفة بهمجية لم تتوقعها، قائلاً بصوت عالٍ:
"مين ده اللي يطلقك يا ذات؟ انتي اتجننتي؟ ده أنا لسه الصبح بقولك خلاص، مش قادر أستحمل بعدك أكتر من كده. ولولا خبط مهره على الباب وقتها، كنت هبلغك أنك مراتي وأتمم جوازنا على الحقيقة. فؤقي يا ذات، علشان أنا مش هفرط فيكي بالسهولة دي. طلاق مش هطلق. مقدرش أعيش من غيرك، انتي الحياة، وأنا متمسك بالحياة بأيدي وبأسناني، مستني أنعم بخيرها."
رغم شعورها بالسعادة الغامرة ودقات قلبها السريعة التي تكاد تصرخ من الداخل بعشقه لهذا المحب المجنون، إلا أنها حاولت أن تظهر عكس ذلك، وكأن الكرُب الذي يسكن قلبها يسيطر على كل مشاعرها. وقفت، ووجهها مشحون بالتحدي، وقالت:
"وانا مش عايزة أكمل معاك يا مهران. طلقني، بترجاك. مش هكون سعيدة معاك. مجرد تفكيري أن جوازنا كان مجرد شفقة منك عليا، هينغص علينا حياتنا. لو بتحبني بجد، طلقني، وسيبني أمشي مع عمو سليم."
كانت كلماتها كالسيف الذي يشق كل ما هو كان من قبل، جالت في فكرها فكرة العيش بدون العاطفة التي كانت تربط بينهما، لكن ذلك الفكر كان يؤلمها بشدة.حاول أن يهدأ قليلاً، واقترب منها بخطوات بطيئة، يرتجف قلبه مما يسمعه، وهو يقول:
"ذات حبيبتي، اعقلي علشان خاطري، وشيلي الكلام العبيط اللي في دماغك ده. احنا لسه من شوية كنا بنتكلم عن عشقنا لبعض. قلوبنا كانت طايرة في السما، وإحنا في حضن بعض. والله العظيم، لما اتجوزتك من عمك، كنت بحبك. لا، كنت بعشقك. وما صدقت عمك أخد الخطوة دي وطلب مني الطلب ده وقتها، فرحت وشكرت ربنا أنه قربني ليكي وجعلك من نصيبي. مكانش فيه ذرة شفقة واحدة جوايا، كان كل اللي جوايا حبك وبس."
كانت نظراته تبحث في عينيها عن بصيص أمل، لكن الفجوة التي بدأت تظهر بينهما كانت عميقة، وكلما حاول الاقتراب، أحس أنها تتراجع.استدارت بظهرها، وتكلمت بدموع تتلألأ في عينيها:
"طلقني."
كان صوتها مكسورًا، كمن يتحدث من قاع البئر البارد.
"ولما أكون مستعدة للخطوة دي، هبلغك. ووقتها، تقدر تيجي الفيلا تطلب إيدي من عمي، ومعاك أهلك زي أي بنت مستنية تفرح في اليوم."
كانت الكلمات وكأنها طلقات نارية، تصيب قلبه بعمق. فقد كانت تعرف أنه يواجه إحباطًا كبيرًا نتيجة للضغوطات المحيطة به، لكنها شعرت أنه لم يعد بإمكانها الظهور بمظهر الفتاة الضائعة التي تنتظر الفارس المنقذ.زفر بضيق، وقال بتضرع وكأن قلبه يتوسل إليها:
"أرجوكي يا ذات، متعمليش فيا كده. أنا بحبك، ومقدرش أعيش من غيرك ثانية واحدة. ومش هأمن عليكي عندهم، مضمنش ابنه يأذيكي إزاي."
لقد كان هذا الخوف يتسلل إلى قلبه، يحاصره بأفكار مظلمة عن مستقبل قد يتخلى فيه عنها. لقد رأى في عينيها بريقًا يدل على تعاسة محبطة، وشعر بثقل المسئولية لدرجة أنه شعر بصعوبة التنفس. كان يدرك أن الأمن والسلام في العلاقة لم يعودا متوفرين كما كانا من قبل.تكلمت بنفاذ صبر، وقالت بصراخ ملتهب:
"كفايه بقى تعيش دور الوصي عليا. كفاية تعمل فيها الجدع والشهم. طلقني بقى، مش عايزاك."
تفجرت كلماتها كحمم بركانية، فقد أرادت أن تخرج من تحت ظلال حمايته المبالغة. لم تكن تسعى لأن تأخذ منه كل شيء، لكنها أرادت فقط استعادة شعورها بالاستقلالية، أن تكون لها حياتها الخاصة، بعيداً عن القيود التي أحاطت بها. كان الأمر إما أن تجد طريقها للحرية أو أن تغرق في بحر من الشكوك.نظر لها نظرة مطولة، ثم تنهد، وقال بشكوى مريرة:
"إنتي معني الحياة بالنسبة ليا. لو أنا مش فارق معاكي، فأنتي تفرقي معايا أوي. وبعدك عني، معناه موتي."
كانت كلماته تتردد في غرفته كصدى، بنبرة غاضبة، لكنه لم يستطع أن يتجاهل مشاعر الحب العميقة التي انطلقت من داخله. "شيلي فكرت الطلاق دي من دماغك، يا ذات، فاهمة؟"
كانت حواراتهما أشبه برقصات متلاطمة بين الإصرار والاستسلام، وكل محاولة للاقتراب كانت تنتهي بالنفور.أنهى كلماته بغضب شديد، مغادراً الغرفة، بل غادر المنزل نهائيًا. رغم حزنها، إلا أن قلبها كان يتراقص فرحًا بتمسك مهران بها لهذه الدرجة، وكأنها كانت تطالع مشاعر الحب غير المعلنة التي فاضت في كلماته. ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها، وأعادت شعرها إلى الوراء، تفكر في الخطوة القادمة في حياتها. هل ستسير قدمها نحو الحرية، أم ستبقى حيث كانت، عالقة بين حب يمزقها ومواقف تحاصرها، تتساءل عما إذا كانت تملك شجاعة اتخاذ القرار.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»
صعدت ساره إلى السيارة من الخلف، وهي تشعر بتغيرات في مشاعرها. كانت الأجواء مشحونة، والضغوطات لم تتوقف، بل امتدت إلى كل جوانب حياتها. عندما رأت ماهر ينظر إليها باستغراب في المرآة، شعرت بتوتر شديد يجتاحها، وكأن قلبها يخفق بسرعة غير مريحة. قائلة بأسف:
"ا ا اسفه، م م مش هينفع اقعد جنبك."
ابتسم لها ابتسامة هادئة، محاولاً تخفيف الأجواء المشحونة التي تملأ السيارة، وقال بحنو:
"لا طبعا براحتك، المهم طمنيني على أختي، مقالتش ليكي حاجة."
كان صوته مليئًا بالقلق، كما لو كان يطلب منها ليس فقط أخبار أختها، بل أيضاً أن تطمئن قلبه.
نظرت له بضيق، وعبّرت عن مشاعرها الغاضبة بنبرة حادة:
"قصد حضرتك إيه؟ هو انت مفكر هنقل ليك الكلام اللي بيحصل بينا، لو ده قصدك يبقى سوري مستحيل اعمل كده واخون صاحبة عمري."
زوّى حاجبيه بضيق وحيرة، فرد على استغرابه بصوت متوتر:
"هو فيه أيه؟ محسساني أني طلبت منك أسرار دولية. أنا مقصدش حاجة، على فكرة أنا بطمن على أختي عادي يعني."
ردّت عليه بنبرة غاضبة، قائلة:
"والله أختك عندك، لو حابب تطمن عليها روح اعمل كده بنفسك بدل ما انتوا متجاهلين وجودها في حياتكم. علشان أول غلطة تعملها في حياتها، لو بتحبها أوي كده، كنت دعمتها ووقفت جنبها في أزمتها، مش جيتوا عليها أكتر. انت وعدتني أنك هتتفهم اللي حصل ده وهتتعامل معاها بكل هدوء، إنما اللي حصل كان العكس. انتوا بتدمروا أختكم بأيديكم، ياريت تحتويها انت واخوك بدل ما تروح تدور على الاحتواء ده برة. عن إذنك."
كانت الكلمات مثل طلقات مدفع، تتردد في فضاء السيارة.
فتحت الباب ونزلت منها، ودفعت الباب بغضب، كما لو كانت تحاول أن تطرد مشاعر الإحباط المكدسة بداخلها.
نظَر إليها بذهول، وترجل سريعاً من السيارة وركض خلفها، ممسكاً بذراعها بغضب، قائلاً:
"انتي ازاي تتكلمي معايا كده وصوتك يعلى عليا!؟"
كانت ردة فعله تعبر عن اندهاشه من تغير مجرى الحديث.
نظرت له بضيق، وتحدثت بضيق:
"لو سمحت، سيب دراعي، ميصحش كده."
ترك ذراعها وتحدث بأسف:
"أنا آسف إني لمستك، بس طريقتك في الكلام مستفزة. كل اللي عملته إني سألتك على أختي علشان أطمن عليها منك، لأنكم بنات مع بعض، وهتقدر تتكلمي معاكي بأريحية أكتر. مكانش قصدي كل اللي قولتيه ده كله."
كان صوته يحمل نبرة من الاعتذار، محاولًا استعادة اللحظة قبل أن تبتعد بعيدًا.
تنحنحت بإحراج، واعتذرت:
"ا ا أنا اسفه، بس طريقة حضرتك في السؤال كأني مجرمة وبتستجوبها، علشان كده انفعلت بالطريقة دي."
شعرت بعدم الارتياح، كأنها تضع درعًا لحماية نفسها.
ابتسم لها، قائلاً بمزاح بعد لحظة من الصمت:
"أعمل إيه طيب؟ طبيعة شغلي مأثرة عليا في الكلام."
كانت زاوية فمه تميل إلى الابتسامة، كأنه يحاول جعل الموقف أخف من عبء الصراع.
ابتسمت بخجل بسبب كلماته، وأجابت:
"ح حصل خير، ممكن تسيبني أروح لأنني اتأخرت عليهم في البيت، وهيحصل مشكلة."
رد عليها بنبرة جادة، آمراً:
"طيب، امشي يلا، اركبي العربية، وأنا هوصلك بسرعة. ومافيش أي اعتراض لأن هوصلك يعني هوصلك."
تركت أوامره مجالا لها للتأمل في ما حدث.
ظلت تنظر له بتوتر، ثم تحركت مرة أخرى إلى السيارة وصعدت بها من الخلف، تتراقص أفكارها بين الغضب والارتياح.
ظل ماهر يتابعها بابتسامة جميلة على شفتيه، مملوءة بالحنان والأمل، ثم تحرك إلى السيارة وصعد أمام المقود، وبدأ بتشغيل المحرك، متجهاً بها إلى منزل سارة. وبين الحين والآخر كان ينظر إليها من خلال المرآة، محاولاً لكسر جليد الموقف وإعادة التواصل من جديد.
««««««««««««««««»»»»»»»»»»»
جلس مهران في سيارته، يعتصره الغضب القاتل، وكأن قلبه يتمزق بسبب تخليها عنه. كيف له أن يجد نفسه عالقاً في موقف كهذا؟ كان يعشق ذات بشغف، وهي أيضاً تكن له الحب، وهو متأكد من ذلك، كما تدل نظرات عينيها حين يكونان معاً. لكن ثنيها عن موقفها لم يكن سهلاً، بل كان الأمر أشبه بتسلق جبل شاق. توقع رد فعلها الغاضب عندما تتعرف على أمر زواجهم، لكنه لم يتخيل أبداً أنها ستطلب الطلاق بشكل عاطفي وجذري، تاركةً إياه وحيداً، محطماً كالزجاج المكسور. كانت الأفكار تدور داخل رأسه كفيروس يؤدي إلى شلل دماغي، تتصارع ذكرياته الجميلة مع الواقع الأليم. اهتز رأسه بالرفض، بينما كانت يده تضرب المقود بغضب شديد، والصرخات تنفجر من صدره كثور هائج. كلما تذكر نطقها بكلمة الطلاق، كانت نبضات قلبه تتسارع وكأنها تدق ناقوس الخطر، حتى استسلم أخيراً وأسند رأسه على المقود، مملوءً بالأسى، بينما دموعه تتساقط بحرقة، وكأن قلبه ينفطر تحت وطأة الأحزان المتراكمة. بعد فترة، عُلم هاتفه برنين اتصال، حيث فرح للحظة أعتقد أن المتصل قد تكون ذات، تلك التي أغرقت حياته بالسعادة وأنشأت عالماً جميلاً حوله. لكن بدا له الأمر كمن يستفيق من حلم جميل، وابتسم بخيبة أمل عندما رأى رقماً غير معروف. أجاب بصوت مختنق، كمن يتحدث من جحيم قلبه، قائلاً:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
تحدث إليه صوت أنثوي يعرفه جيدًا:
"مهران، عايزه اقابلك بسرعة، الموضوع خطير."
رد عليها ببرود كالصقيع قائلاً:
"مش فاضيلك، هو عاصم بتاعك مش مكفيكي ولا إيه؟"
ردت بصدمة، وكأن كلماتها تحاول الوصول إلى أعماق قلبه المحطم:
"مهران، احترم نفسك، أنا اتصلت بيك لأن الموضوع خطير ولازم تعرف قبل ما تتأذى أنت وذات."
عندما سمع اسم ذات، تنبه مهران بكل حواسه، قائلاً بغضب متقد:
"اسم مراتي ميجيش على لسانك، فاهمة؟"
صمتت للحظات، بينما كانت أفكارها تتقافز في ذهنها، ثم قالت مشدوهة:
"مراتك!! أنت اتجوزت ذات يا مهران؟"
أجابها بغضب شديد، وكأن نيران الاستياء تشتعل في داخله:
"أيوه، يا نور، ذات مراتي، اتفضلي اتكلمي، إيه الكلام المهم اللي عايزة تقولي."
بتأثر حزين، دمعة عيونها بالدموع، قالت:
"مش هينفع في التليفون، قولي إنت فين، وأنا جاية ليك."
زفر بضيق، كمن يتعامل مع ضغوط الحياة المتزايدة، ثم أعطاها العنوان وأغلق الخط، تاركاً الهاتف بجواره كما تترك الذكريات الحزينة. بعد وقت قصير، كانت نور تقف أمامه، متخفية خلف وشاح على وجهها، كأنها تعلن عن حضورها المستتر في خضم الأحداث الإضطرابية. فنظر لها باستغراب، مبتسماً بتهكم، يحاول أن يخفف من وطأة الموقف:
"مدام بدأتي تطلعي من وراه بالشكل ده، يبقى عرفتي حقيقته الوسخة. قولي اللي عندك، وخلصي."
نظرت له بحزن عميق وكأن آلامها تفيض من عينيها، وصعدت السيارة، متحدثة بصوت مختنق:
"اركب، نتكلم في العربية أحسن ما حد يشوفنا ويروح يبلغ عاصم."
زفر مرة أخرى بضيق، وصعد إلى السيارة، بينما ظل نظره مشدوداً إلى الأمام، كمن يحاول الهروب من قدوم العواصف. فجأةً، تكلمت نور بصوت خافت، يخرج كهمسات الرياح:
"عاصم اتفق مع واحد اسمه يزيد ابن عم ذات، علشان يأذيكم، هيروح عندك بليل بحجة أنه جاي يعتذر وندمان، وهيحط مادة من الهيروين لذات، علشان ترجع تخده تاني، وكمان هيحط عندك فى الشقه ويبلغ عليك علشان تتسجن، ويخلى الجو ليهم ويقدروا يخدوا الشركه ويستخدموها فى الشغل المشبوه بتاعه، انا مش مصدقه نفسي عاصم يطلع بالشر ده، طيب ازاي!؟ ده أنا صدقت أنه ملاك لو مكنتش سمعته بودني بالصدفه وهو بيتفق مع اللي اسمه يزيد ده مكنتش هصدق أبدا أنه كده."
ارتسمت ابتسامة شامتة على وجهه، وتحدث بتهكم مفعم بالمرارة:
"ليه مش عاصم، ده الملاك ابو جناحات، اللى عايز يحميكي مني، وانا الشرير الشيطان اللى كان عايز يعتدى عليكي ويرميكي رمية الكلاب، روحي بقى لحبيب القلب، وافرحي بي واتحامي فيه، اما مراتي انا، هعرف احميها منهم كويس اوي."
وضعت يدها على يده، وملأت عينيها بالدموع التي تجري كجدول حزين:
"مهران، أنا آسفة بجد. عاصم عرف يخدعني ووقعني في شباكه بسهولة. وللأسف، أنا حبيته، وحبي ليه عمى عيوني عن الحقيقة."
نظر لها بنظرة خالية من أي تعاطف، كمن فقد القدرة على تصديق الكلمات الرائجة، وقال بتهكم السخرية:
"اللي يشيل أربة مخرومة يستحمل بقى، يلا، اتفضلي انزلي من عربيتي، مراتي واحشتني وعايز أروح ليها."
نظرت له بدموع تجري على وجنتيها، وهبطت من السيارة، تاركةً خيبة الأمل خلفها، كمن يترك كنزاً غالياً في وسط عاصفة، عائدة إلى منزلها الذي أصبح سجناً تنتظر فيه تنفيذ الإعدام. أما هو، فنظر أمامه بغضب يتأجج من جديد:
"زيد من عذابك معايا، يا عاصم، نهايتك قربت أوي يا حبيب والديك."
أنهى كلامه بصوت عالٍ، وأدار السيارة بسرعة جنونية، عائداً نحو المنزل، وكأن قلبه يتوق للراحة وسط خيبات الآمال والكوابيس المتراكمة.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»
كانت مهره تجلس على الأريكة بملل شديد، بعد مغادرة ساره إلى بيتها. زفرت بضيق، ونظرت إلى الباب بتوتر، قبل أن تنهض سريعًا وتخرج منه. هبطت إلى الأسفل، ووقفت أمام باب الشقة التي يعيش بها شريف، مترددة. لكن أخيرًا، اتخذت قرارها، وضغطت على زر الجرس، منتظرةً أن يفتح لها. بعد عدة ثوانٍ، ظهر شريف أمامها، وقد رسمت ملامح الصدمة على وجهه. ظلت تفرك يديها بتوتر شديد، وتحدثت بصعوبة: "ش ش شريف م م ممكن نتكلم شوية؟" ظل ينظر إليها بصمت، يشعر وكأنها مجرد تهيؤات أو جن عقله، ويتخيل أنها تتحدث معه. حركت يدها الصغيرة أمام عينيه المتحجّرتين من الدهشة، وقالت:
"ش ش شريف، أنت سامعني؟"
انتبه إلى حالته المزريه، وانحرج، فتنحنح وقال:
"ها...ا ا اه، سمعك. خ خ خير يا مهره، فيه حاجه؟"
نظرت حولها باستغراب وقالت:
"هنا ه ه هنتكلم هنا واحنا واقفين على الباب."
نظر إليها باستغراب، وقال بتوتر:
"أيوه طبعًا، ما هو مش معقول هتدخلي عندي الشقة وأنا لوحدي، ولا أنا هطلع ليكي الشقة وأخواتك مش موجودين وأنتي وذات لوحدكم، ولا إيه رأيك؟"
شعرت بالإحراج وأومأت برأسها بتوتر، فقالت:
"ص ص صح، أنت عندك حق."
ابتسم لها ابتسامة هادئة، تكلم بتساؤل:
"كنتي عايزه تتكلمي معايا في أيه بقى؟"
فركت يديها قليلاً، وتحدثت بتلعثم:
"ك ك كنت عايزاك تقنع أبيه مهران وماهر يخلوني أنزل الجامعة بتاعتي. فيه حاجات مش بفهمها من الملخص اللي بيجيبه ليا ده، وكمان زهقت من القعدة في البيت لوحدي ذات، طوال النهار في أوضتها. وأبيه مهران يا أما معاها في الأوضة، يا أما مش موجود في البيت أصلاً، وماهر في الشغل على طول، وحتى لما بيجي، مش بيكلمني من أساسه. زهقت ومليت بجد يا شريف."
عند سماع اسمه من بين شفتيها، اهتز كيانه. ابتلع ريقه بصعوبة، وحاول أن يتكلم قائلاً:
"م م مهره، أطلعي دلوقتي، أرجوكي، ومتقلقيش، أنا هكلم مهران، وأقنعه أخليه ينزلك الجامعة."
قفزت بسعادة كطفلة صغيرة، وقالت بعدم تصديق:
"بجد يا شريف!! أنت بجد محصلتش، انت جميل أوي."
أغلق عينيه حتى يتمكن من التحكم في مشاعره، لكنه فشل في ذلك. اقترب منها، والتقط أنفاسه قبل أن يتكلم بصوت هامس بجوار أذنيها:
"إنتي لو مطلعتيش دلوقتي حالًا من قصادي، مش مسؤول عن اللي هيحصل يا مهرة."
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، جعلت جسدها يتخشب أمامه. نظرت له بتوتر، والكلمات علقت في حلقها. ابتسم شريف على رد فعلها، وتراجع مرةً أخرى إلى الوراء، وقال بصوت هادئ:
"يلا يا مهرة، اطلعي فوق، وأنا هخلي مهران يوافق على رجوعك لجامعتك."
أومأت برأسها بخجل، وركضت سريعًا إلى الأعلى، أغلقت الباب خلفها. أسندت ظهرها عليه، ووضعت يدها على قلبها حتى تهدأ دقاته قليلاً. بينما كان هو، ينظر إلى أثر مهره بعشق خالص، وتنهد بسعادة عندما أحس بمشاعر تجاهه من قبلها، عاد إلى الداخل، وأغلق الباب خلفه، يسترجع لحظة قربه من محبوبته.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
عاد مهران إلى المنزل ونظر في اتجاه غرفة مهرة، حيث كانت مضيئة. تنهد بحزن وانطلق نحو غرفته، دلف إلى الداخل وأغلق الباب خلفه. وجد ذات جالسة على السرير، تترقب عودته، وكان من الواضح من عينيها المنتفختين أنها بكت طويلاً. زفر بضيق وحاول تجاهل وجودها كي يؤجل الحديث إلى وقت آخر. توجه إلى المرحاض، لكن قبل أن يتحرك إلى الداخل، سمع صوت هتفها الحزين تقول:
"مهران، احنا مكملناش كلامنا."
أغلق عينيه بضيق، فهو ليس لديه الطاقة للمناقشة الغير المرغوب فيها. زفر بنفاد صبر وتحدث بصوت هادئ لكنه محتدم بالغضب:
"كلامنا ملوش كمالة يا ذات، أنا قولتلك شيلي موضوع الطلاق ده من دماغك خالص، لأن مستحيل هفرط فيكي مهما حصل."
نهضت بغضب وصاحت بصوت عالٍ:
"هوووو ايه! مافيش طلاق، هتعيشني معاك بالغصب. لو عندك نخوة ورجولة، طلقني!"
لم يتحمل الصمود أكثر من ذلك، وكأن جبلًا ينهار تحت وطأة الأحمال التي يحملها. توهجت عينيه بالأحمر من شدة الغضب، واقترب منها بخطوات هادئة تمهّد لعاصفة قادمة، بحيث بدت ملامحه مثل لوحة معقدة تعكس صراعات داخلية. ارتعدت ذات من هذا المنظر، وابتلعت ريقها بصعوبة، فهي لم تره بهذه الهيئة من قبل. أخيرًا، وقف أمامها مباشرة، أمسك ذراعها بقوة حتى كادت تكسر في يده، وظل يحركها بشدة وهو يصرخ:
"قولتلك مااااافيش طلاق، واه هعيشك معايا غصب عنك. أما الرجولة فأنا هوريها ليكي حالا."
دفعها على السرير واقترب منها وسط صراخها المستنجدة، كما لو كان يقترب من قمة جبل خامد يحاول إشعال ثورته الداخلية. عَمَى الغضب عينيه وقلبه، لم يسمع صراخها ولم يستجب لتوسلاتها كي يبتعد عنها، حتى لم يشعر بالباب حين انفتح فجأة. اقترب منه شريف وأبعده بصعوبة عن ذات، وأخرجه من الغرفة متجنبًا عدة لكمات تلقاها من مهران. بينما أخذت مهرة ذات إلى أحضانها بعد أن رأت جسدها يرتعش بخوف شديد، وقالت بأسف: "حقك علينا يا ذات، ابيه مهران مش كده. ولا عمره ما كان كده، معرفش ايه وصله للحالة دي، أنا أول مرة أشوفه بالشكل."
تمسكت ذات بها بقوة وظلت تبكي، وجسدها يرتعش من الخوف، وكأن كل دمعة منها تحمل ثقل الجراح التي تملكها الروح. أما مهران، فقد كان كالثور الهائج، يدفع شريف بقوة من أمام الباب، محاولًا العودة إلى ذات. لكن شريف كان واقفًا أمام الباب بثبات، وقال بغضب:
"ما تهدا يا ابني، انت أيه حصلك! عمري ما شوفتك كده، عايز تعتدي على مراتك؟! أنت اتجننت؟ ده لو كان حصل، يبقى كنت خسرت ذات مدى الحياة، فوق يا مهران، فوق!"
ظل يدفع كل شيء أمامه ويحطّمه بجنون، قبل أن تصيبه حالة من الانهيار. لم يكن يسمع أو يتحدث، كل ما أراد فعله هو تحطيم ما تقع عليه عينه. كانت أنفاسه تتسارع، وكأن قلبه يسعى للخروج من صدره، ليواجه العواصف التي تعصف بروحه. أخيرًا، ارتمى على الأرض، وصدره يعلو ويهبط من شدة المجهود الذي بذله، ثم خرجت منه صرخة كذئير الأسد تبعتها شلالات من الدموع تتسابق على خده، تعبيراً عن احتباس الألم والمعاناة التي عانى منها طويلاً.جلس شريف بجواره، احتضنه بقوة ليعلمه أنه بجانبه، لن يتخلى عنه حتى لو تخلى عنه العالم كله. تحدث بنبرة هادئة حزينة، تستمد قوتها من الصداقة العميقة التي تربط بينهما:
"إيه اللي وصلك للحالة دي يا صاحبي؟ عمرك ما كنت كده!"
تكلم مهران بين شهقاته كطفل صغير فقد أمه:
"بعد ذات عني معناه موتي يا شريف. أنا بعمل كل حاجة علشان أحميها ومتبعدش عني، وهي بكل سهولة تقولي طلقني! بتطلب مني موتي."
رد شريف بعقلانية، محاولاً تجريد مهران من مشاعر الغضب غير المبررة:
"أطلق صراحها يا مهران، وهي لو ليك هترجع تاني لعشها. الحب عمره ما كان بالغصب، ولا ينفع نشحته. الحب لو مكانش متبادل ما بين اتنين يبقى ملوش لازمة. طلقها وخليها تكون حرة، وهي لو بتحبك بجد هترجعلك تاني، صدقني."
نظر له مهران بدموع، وقال بنبرة ضعيفة، تتسرب منها مشاعر الضعف:
"مش هقدر على بعدها يا شريف، ده هي النفس اللي بتنفسه."
أومأ شريف برأسه بتفهم، انطلاقًا من معرفته العميقة بمشاعر صديقه:
"عارف يا مهران إنك بتحبها وروحك فيها، بس الهوا اللي بتتنفسه لو مكانش نقي هيخنقك وتموت. لازم تتصافوا الأول وتبدأوا حياة جديدة بكامل إرادتكم، انتوا الاتنين."
أطال مهران النظر إلى شريف، يفكر في كلام صديقه بعقلانية، وبعد أن هدأ واستقام بجسده، تحرك نحو الباب، حيث بدأ يظهر في عينيه رمق من الأمل، ربما يحمل وعدًا بالتغيير. نهض شريف بسرعة وأمسك ذراعه، نظر له بقلق، وكأن صدمته من حالة مهران ما زالت تطارده بأصداءها. ربت مهران على يده بهدوء، مطمئنًا إياه:
"متقلقش، أنا هديت خلاص وهنفذلها اللي هي عايزاه."
انتهى من كلامه وغادر الغرفة، متجهًا إلى الغرفة المتواجد بها ذات، نظر إلى حالتها وشعر بنغزة في قلبه، لكنه أظهر عكس ذلك. وقال بنبرة جادة:
"مهرة، روحي أوضك."
نظرت له بخوف، لكن انتفضت مكانها عندما سمعت صراخ مهران، وهو يقول لها:
"مهررررة، روحي أوضك."
ركضت سريعا وخرجت من الغرفة، أغلق الباب خلفها، ثم نظرت ذات له بخوف شديد، وظلت تبكي، محملة برعب غير معهود من الأحداث المتلاحقة. نظر إليها نظرة مطولة، حيث كان في عينيه مزيج من الألم والحب، ثم قال:
"مش انتي عايزة تطلقي، أنا هنفذلك طلبك، بس مافيش رجوع لبيت عمك، هتعيشي في شقتك تحت، وهفضل برضه أحميكي."
نظرت له بدموع وظلت صامتة، لكن اتسعت عيناها وتعالت دقات قلبها عندما سمعت مهران يقول لها: "انتي طالق يا ذات..."
