اخر الروايات

رواية شهادة قيد الفصل التاسع عشر 19 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الفصل التاسع عشر 19 بقلم دودو محمد 

"شهادة قيد"19

"الفصل التاسع عشر"

فى صباح يوم جديد، استيقظت مهرة من نومها، وعيناها تجوبان الغرفة القاتمة من حولها. فجأة، انتفضت بجسدها الرقيق عند تذكر أحداث الأمس، واحتضنت قدميها إلى صدرها، فتساقطت دموعها كأمطار غزيرة. كانت شهقات البكاء تتعالى من حنجرتها، في لحظة ألم تقاوم فيها كل مشاعر الضعف. سمعَت صوت طرقات خافتة على الباب، فازدادت توتراً، وعلى صوتها المرتعش:
"م م مين؟"
أتاها صوت رجولي هادئ، يحمل عاطفة خاصة:
"أنا دكتور شريف، يا آنسة مهرة."

ردت عليه بصوت ملئ بالدموع:
"أدخل يا دكتور شريف."

فتح الباب، وظهر القلق على ملامحه عندما نظر إليها، وسأل بلهجة تحمل تساؤلاً حانياً:
"عاملة إيه دلوقتي؟"

فاضت الكلمات من فمها مع دموعها،
"خايفة أوي، حاسة إن اللي اسمه عاصم ده هيظهر ليا في أي وقت، ا ا أنا مكنتش متخيلة إنه بالشر ده."

أغلق عينيه بعمق، محاولاً كتم مشاعر الغيرة التي تعتريه، وقال:
"ده شيطان يا مهرة، وآذى مهران كتير ومازال بيأذيه، وإنتي شوفتي بعينك عمل فيه إيه هو وذات."

هزت رأسها بدموع، وسألت بقلق:
"طيب أبيه مهران عامل إيه دلوقتي؟ طمني على رجله."

ابتسم لها ابتسامة هادئة، وقال:
"الحمدلله، كويس. أنا خرجت الرصاصة من رجله وطهرت الجرح، وأديته مسكن وهو نايم دلوقتي."

تذكرت سارة، وصوت القلق يتسلل إلى نبرتها:
"سارة صاحبتي كانت مخطوفة معايا، متعرفش حصل أيه معاها؟"

أومأ برأسه ليهدئ من روعها وقال:
"متقلقيش، جات معاكم إمبارح، وبعد ما اطمنت عليكي، وصلها أخوكي ماهر لحد البيت."

تنهدت بارتياح، وقالت: "ماشي."

ثم تابع بصوت هادئ:
"يلا علشان تاكلي."

حركت رأسها بالرفض، وقالت:
"لا، مليش نفس."

توترت جواده نبرته، وقال:
"مافيش لا، انتي لازم تاكلي كويس. يلا، جهزي نفسك وتعالي."

نظرت إليه بتوتر، وقالت:
"م م مش هينفع أخرج كده."

رد عليها باستغراب:
"ليه مش هينفع؟"

نظرت إلى الأرض، ثم أخبرته بتلعثم:
"ا ا أصل الهدوم اللي عليا مقطوعة."

حاول كبت غضبه، وتحدث بنبرة حادة:
"هو اللي عمل فيكي كده صح؟"

نظرت إليه بعينيها المدمعتين، وأومأت برأسها تأكيدًا.

ضغط على أسنانه بغضب، شاعرًا بالحنق:
"الواطي الندل الجبان..."
ثم زفر بضيق، مضيفاً:
"هشوفلك حاجة من عند ذات تلبسيها مؤقتًا."

أنهى كلامه وخرج، وأغلق الباب خلفه، وهو يضغط على مقبض الباب بغضب شديد، يحاول تهدئة نفسه مما فعله عاصم بمحبوبته. أخذ نفسًا عميقًا، ثم أخرجه بهدوء، وتحرك نحو غرفة مهران، طرق الباب برفق. بعد ثوانٍ قليلة، فتح له مهران، الذي بدت على وجهه آثار الألم، وقال:
"صباح الخير يا شريف."

نظر شريف إلى ساقه بقلق، وقال:
"صباح النور. طمني على رجلك النهاردة عاملة إيه."

أجاب مهران بألم:
"وجعاني شوية، بس اللي وجعني أكتر نومة ذات كده من غير أي روح."

هز شريف رأسه متفهمًا، وقال:
"متقلقش، كلها ساعة وهتفوق، لأنها بقالها فترة مأخدتش الزفت ده، ولما أخدته، أدى إشارة لكل أعضاء جسمها بالتكاسل، علشان كده هي نامت كل ده."

تنهد مهران بوجع، وقال:
"أنا خايف عليها أوي يا شريف، لو محتاج ليها أي حاجة، قولي وأنا أجيبها ليها لو بملايين."

هز شريف رأسه رافضًا:
"لا يا مهران، لحد دلوقتي إحنا مش محتاجين حاجة لحد ما أعمل ليها التحاليل وأتأكد على الأعضاء الداخلية أنها متضررتش من تعاطي الجرعة."

أومأ مهران بالموافقة، وذهبت كلماته إلى شريف الذي قال محرجًا:
"احم، أنا محتاج حاجة من هدوم ذات علشان أديها لأختك تلبسها."

تذكر مهران ما حدث لها بالأمس، فاغلق عينيه بغضب، ورد:
"ماشي، هدخل أجيب ليها هدوم من الدولاب، وهروح أديها ليها."

أومأ شريف برأسه بتفهم، وقال:
"ماشي، بس متتأخرش علشان تفطروا."

أغلق مهران الباب، وتنفس بحزن شديد، واتجه إلى التخت، جالسًا بجوار ذات، حرك يده على شعرها، وتحدث بصوت مختنق: "فتحي عيونك يا ذات، خلي شمسي تشرق من تاني، واحشتني ضحكتك أوي، بترجاكي ارجعيلي."

ثم مال برأسه مقبلاً جبينها بحزن عميق، ونهض اتجه إلى خزانة الملابس، أخرج شيئًا من ملابس ذات، وتنهد بوجع، وتحرك خارج الغرفة. اتجه إلى غرفة مهرة، طرق على الباب، وسمع صوتها تأذن له بالدخول. فتح الباب ودخل، نظر إليها بغضب، وأعطاها الملابس، قائلاً:
"قومي غيري اللّي عليكي دي، وبعد كده تعالي نتكلم في اللّي حصل إمبارح."

نظرت له بدموع، وأومأت برأسها بارتعاد، ثم نهضت من على السرير، أخذت الملابس واتجهت إلى المرحاض. بدلت ملابسها وغسلت وجهها بالماء، ثم وقفت خلف الباب، أغلقت عينيها بتوتر، وأخذت نفسًا عميقًا، وأخرجته بهدوء، ثم تحركت للخارج، وقفت أمام مهران، وتحدثت بصوت مختنق:
"أنا عارفه إنت دلوقتي شايفني إزاي؟ وبتقول عليا إيه جواك، بس صدقني والله العظيم، انضحك عليا، معرفش أنا إزاي سمحت ليه إنه يعمل معايا كده. أنا تربيتكم يا أبيه، وكنت على طول بحطكم قصاد عيني، علشان مغلطش، وأهز صورتكم قصاد الناس، بس ده، معرفش كان بيحصلي حاجات غريبة معاه من أول لحظة أنقذني قدام باب الجامعة، كان فيه حاجة جوايا شاكه فيه، بس برضه لاقتني فجأة مشغوله بي. أنا غلطانة، عارفه، ومن حقك تزعل مني، بس وحياة أغلى حاجة عندك، تسامحني. طول عمري متعودة أغلط، وإنتوا تحتوني، وطبطبوا عليا. ولما كان بابا يزعقلي على حاجة، كنتوا أنتوا أول حضن أجري عليه وأترمي فيه، أبوس إيدك يا أبيه، سامحني، احميني من نفسي ومن الناس."

ظل نظره معلقًا عليها، وكأن قلبه رق مع أول كلمة قالتها. يعلم أنها مظلومة، وأنها دخلت لعبة ليس لها يد بها، لكنه لم يستطع تحمل فكرة أنها كانت بأحضان رجل. لن يقبل هذا على أخته، ويجب أن يعاقبها على هذا الفعل، حتى لا تفعله مرة أخرى. استقام بجسده، وتحدث بنبرة حاسمة لا تقبل النقاش:
"احنا ربينا أختنا على الأدب والاحترام على الأخلاق وطاعة ربنا، بس اتضح بعد اللي أنتي عملتيه ده أن تربيتنا دي كلها على الأرض. واللي قدامي دي واحدة معرفهاش، واحدة عبيطة، اضحك عليها بأقل مجهود، واترمت في أحضان راجل غريب، ووصلت إنه يكسر عينينا بسهولة. أنا مش مسامحك على اللي عملتيه يا مهرة، ومش هعدي اللي عملتيه ده بالساهل. من هنا ورايح، مافيش خروج من هنا، هتقعدي معايا، وهعيد تربيتك من أول وجديد. والجامعة بتاعتك، هجبلك الملخص بتاع المحاضرات لحد عندك. فاهمة."

تكلمت بدموع وترجي قائلة:
"مش مهم أنزل، مش مهم أي حاجة عندي، بس مش هقدر استحمل زعلك مني، بترجاك يا أبيه، سامحني، واللي إنت عايزه هنفذه بالحرف والله، أنا خلاص اتعلمت الدرس كويس أوي، وعمري ما هعمل كده تاني."

تحرك باتجاه الباب، وتحدث بنبرة جادة:
"يلا علشان تفطري."

أنهى كلامه وخرج من الغرفة، وأغلق الباب خلفه.

نظرت إلى أثره، ثم ارتمت على فراشها، وظلت تبكي بحزن شديد، مع كل دمعة كانت تتحرر مشاعرها المكبوتة، وكل ذكريات اللحظات السعيدة التي أصبحت من الماضي. تمنت لو أنها تستطيع العودة بالزمن، تتجنب تلك اللحظة التي فيها وقعت ضحية لأكاذيب عاصم. كان قلبها مكتظاً بالندم والضعف، لكنها أيضاً كانت تعرف أن التحديات المقبلة هي فرصتها لإعادة بناء نفسها. لا يمكن أن تتذكر تلك الأوقات المريرة دون أن تجد في نفسها القوة للتغيير. قررت في سرها أنها ستكون أقوى مما كانت، عازمة على مقاومة كل خيبة أمل والتخلص من كل نقطة ضعف. حزنها لن يحدد مستقبلها، بل سيكون دافعاً لها لتصبح الشخص الذي يحلم به كل من حولها وكل من يحبها.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»»
بدأت نور تحرك رأسها ببطء، واهتز جفنها في محاولة منها لفتح عينيها. وأخيرًا، استطاعت أن تنجح في ذلك، فتفاجأت بأن عاصم يجلس بجوارها، ينظر إليها بحب عميق. انتفضت في مكانها، ثم ارتمت داخل أحضانه غير مصدقة ما يحدث. بسعادة هادرة، قالت:
"عاصم حبيبي، أنت جيت أمته؟ واحشتني أوي!"
ضمها عاصم بقوة، محتفظًا بها في أحضانه لأطول وقت ممكن، ثم همس برقة في أذنها:
"مقدرش أسمع صوت حبيبي مضايق ومجيش، ولما سمعت صوتك امبارح، حسيت إنك حزينة. خلصت اللي ورايا بسرعة وجيت ليكي على طول."
ابتعدت عنه قليلاً وكوبت وجه بين يديها، ثم قالت بنبرة مليئة بالحب:
"بحبك أوي يا عاصم. طول ما أنت بعيد عني، بحس نفسي وحيدة، ضعيفة أوي. وجودك جنبي هو قوّتي."
ابتسم لها بحب، وارتمى داخل أحضانها كطفل صغير، وقال بصوت ضعيف يشوبه الخوف:
"اوعي تبعدي عني وتسبيني يا نور. لو ده حصل، هيكون الموت بالنسبة ليا هو مصيري. بس قبل ما أموت، هكون مدمر العالم كله؛ هخرج الوحش اللي جوايا، هخرب الدنيا قبل ما أسيبها."
شعرت بخوف شديد من نبرته التي تُنذر بالتحذير، لكن سرعان ما تغافلت عما قاله، وأجابت بنبرة هادئة:
"عمري ما هفكر أبعد عنك يا عاصم. أنت معنى الحياة الحقيقي. عرفت معاك معنى الحب، وعشت وياك أجمل ليالي العشق. أنت الأمان بالنسبة ليا. تفتكر هقدر أبعد عنك بسهولة كده؟"
أمسك يدها وقبلها بابتسامة سعيدة، ثم اعتدل واقترب من شفتيها، ملتهمًا إياهما بشراهة، ليبثّ لها اشتياقه العميق، وهما تائهان في عالمهما الخاص، حيث تذوب كل المخاوف والقلق في سحر لحظاتهما المشتركة. وكانت تلك اللحظات كفيلة بأن تنسيهما كل صعوبات الحياة والضغوط التي تدور حولهما. فتحت قلبها له، وكأن كل كلمة حب قالها قد أزالت كل جراحاتها السابقة. تأمل عاصم في عينيها العميقتين، حيث كان يرى فيها مرآة لنفسه، ملاذًا يلوذ به من عالم مليء بالمشاكل. الإحساس بالحب كان مهيمنًا عليهما، كعاصفة تعصف بمحيط هادئ، دافئة ومترابطة، وكأنهما اكتشفا سحر الحياة بمكان واحد.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»»
كان الثلاثة مجتمعين حول طاولة الطعام، يتناولون الطعام بلا شهية. كان كل واحد منهم يحمل في قلبه أحزانًا وأوجاعًا عميقة. لكن سرعان ما كسر هذا الصمت الرهيب صراخٍ قادم من غرفة أخرى، مما جعلهم ينتفضون ويتجهون نحو الصوت. توقف مهران أمام الباب، ونظر إلى شريف ومهرة، قائلاً:
"خليكم انتوا هنا، ولو احتاجت إي مساعدة هنادي عليكم."
أنهى حديثه ودلف إلى الداخل، أغلق الباب خلفه، ونظر حوله إلى الفوضى التي تسببت بها ذات في الغرفة، ثم التفت إليها قائلاً:
"ذات، اهدي من فضلك، علشان خاطري."
ردت بصراخٍ عميق:
"خرجني من هنا، بقولك، خرجني!"
أومأ مهران برأسه بهدوء وقال:
"طيب، اهدي بس، واللي أنتي عايزاه هعمله ليكي."
كان صوته مخنوقًا، لكنه مملوء بالعشق. عندما رأت ذات عجزه، تحركت برأسها بشكل هستيري، ثم صاحت:
"أبعد عن الباب، ملكش دعوة بيا، خرجني من هنا أحسنلك!"
اقترب منها ببطء، كأنه يسير فوق زجاج مكسور، وقال بنبرة مختنقة، لكنها مليء بالعاطفة:
"ذات، علشان خاطري، اهدي. اتحملي شوية. أنا مش قادر أشوفك بتتعذبي كده. عارف أن غصب عنك، و اللي حصلك ده بسببي، علشان تحميني أنا وأختي. بس وجعك كسرني من جوه. كنت ما صدقت انك اتحسنتي، والحياة بدأت تضحك لينا. علشان خاطري، ارجعيلي يا ذات."
اقترب منها واحتضنها بقوة، مثلما يتمسك الغريق بقشة، سمح لدموعه بالانهمار للمرة الأولى أمامها، وكانت دموعه صادقة، مليئة بالترجي والاستعطاف، كأنها تعكس مدى الألم الذي يعيشه. حركت ذات يدها ببطء شديد، متناسية آلامها أمام دموع هذا الجبل الباكي، واحتضنته بقوة، وتحدثت بصوت ضعيف يكاد يختفي من شدة الألم:
"بلاش دموعك يا مهران، دول غاليين عليا. أنا بموت، صدقني روحي بتنسحب مني بالبطء. محتاجالك جنبي أقوى، علشان خاطري."
كانت كلماتها كصرخة استغاثة، تحمل في طياتها أملًا ضائعًا وحبًا مشتتًا. ابتعد مهران عن حضنها، ثم أمسك بوجهها بين يديه، ونظر إلى عينيها الباكيتان وكأنهما بحيرة من الوجع. قال بحزن:
"احنا الاتنين محتاجين لبعض، يا ذات. قوتنا في وجودنا جنب بعض، إيدي في أيدك نعدي المحنة دي ونرجع أقوى من الأول."
كانت نظراته مليئة بالتصميم، كأنه يرسخ في نفسها فكرة أن الأمل لا يزال موجودًا، حتى وسط العواصف. أغلقت عينيها، محاولةً تحمل الألم الذي يسيطر على جسدها، لكن كل شيء حولها كان يسبح في بركة من الكآبة. أمسكت بذراع مهران بقوة، وكأنها تريد أن تستمد القوة منه، وتحدثت بين دموعها:
"أبوس إيدك، ساعدني يا مهران، اتخلص من الوجع ده. بموت والله."
كانت كلماتها جرس إنذار، كفى بها مناداتها المحبطة للعون. هتف مهران باسم شريف الذي جاء مسرعًا، يعلم ما الذي يحتاجه، وكان ممسكًا بيده حقنة مهدئة. اقترب من ذات وأعطاها الحقنة، وكأنها طوق نجاة لها في بحر من المعاناة. ثم خرج مرة أخرى من الغرفة، تاركًا خلفه صدى مشاعر الحب والقلق التي تجسد مشهدًا لن يُنسى. بدأ مهران تتلاشى صورته عن ذات، وتسابقت الدموع على وجنتيها، وكأنها تودع كل لحظة حلوة جمعتهم، وأغلقت عينيها مستسلمة لعالم آخر، ربما يحمل لها حلمًا ورديًا تعيشه بسلام مع مهران بعيدًا عن ظلام الواقع ووجع الحياة. مال مهران بجسده، حاملاً ذات بين ذراعيه. اتجه بها إلى السرير، وضعها عليه، ودس عليها الغطاء جيدًا، ثم حرك يده برفق على وجهها، محاولاً إزالة عبراتها بحزن عميق. قبل عينيها بعشق خالص، مثل شمس تطارد الضباب، ثم خرج من الغرفة وتركها في عالم من الآمال والذكريات التي ترفرف في سماء قلبه.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
وصلت حملة أمنية إلى الفيلا الخاصة بعاصم، وعندما فتح لهم الباب، ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه رغم القلق الذي تولد في داخله. كان يعلم أن المثول أمام السلطات قد يكون أكثر تعقيدًا مما يبدو على السطح، لكنه قرر أن يتصرف بروية. نظر إليهم بتساؤل قائلاً:
"أيوه، خير؟"
حاول أن يبدو واثقاً، بينما كانت أفكاره تتسابق في ذهنه، أجاب أحد رجال الأمن بنبرة جادة مختزلة، تعكس احترافه: "مطلوب القبض على حضرتك، فياريت تتفضل معانا من غير شوشرة."
أومأ عاصم برأسه بهدوء، رافعاً يديه بشكل غير عدائي، قائلاً:
"أوك، وأنا معنديش أي مشكلة خالص."
كانت نبرة صوته واثقة رغم الموقف المحيط به، وكأنه يحاول أن يمسك بزمام الأمور. أحس بضغط أعصاب أمام النظر المتربص للرجال المحيطين به، لكنه كان عازماً على الحفاظ على رباطة جأشه.فجأة، خرجت نور مهرولة من داخل الفيلا، عيناها تحملان مزيجاً من الغضب والخوف، وصرخت:
"انتوا عايزين من جوزي أيه؟ أكيد اللي بعتكم مهران الكلب لعبة وسخة زيه!"
كانت تلك الكلمات تخرج من قلبها، فقد أصبحت تشعر بأن العالم يتداعى من حولها، وأن كل شيء من حبها إلى حياتهم الزوجية يمكن أن يتأثر بهذه اللحظة الحاسمة.ربت عاصم على يدها بحنو، متحاشياً الارتباك في عينيها، وقال:
"اهدي يا حبيبتي، متخافيش. أكيد فيه حاجة تخص الشغل. أنا متعود على الحاجات دي. ادخلي جوه ومتفتحيش لأي حد الباب، فاهم يا حبيبي؟"
كان المدلول في صوته يعكس رغبته في تهدئتها، وأنه سيعود إليها قريبًا، محاولاً رسم مشهد الاطمئنان في عقلها المضطرب.نظرت له بدموع في عينيها، واختلج صوتها بخوف:
"أنا خايفة عليك يا حبيبي."
كانت تلك الكلمات كالرصاص تطير عبر قلبه، وابتسم لها رغم شعوره بالقلق، محاولاً أن يظهر لها القوة في وقت تتصاعد فيه المخاوف.قبل رأسها بحب وحنان، رابطاً بين قلبيهما، وقال:
"متخافيش يا قلب وروح حبيبك. يلا بقى، ادخلي جوه، وأنا ساعه بالكتير وهكون عندك."
كانت تلك اللحظة كما لو كانت الاشتباك الأخير بين اليأس والأمل، وكان عاصم يعلم أن عليها أن تحافظ على إيمانها مهما كانت العواصف التي تمر.أومأت برأسها بالطاعة واندفعت إلى الداخل، بينما ارتسمت ابتسامة شريرة على وجهه، وتحت ستار الثقة، كان هناك شعور بالإصرار على عدم الاستسلام. نظر إلى الضابط الواقف أمامه، قائلاً بثقة:
"أنا جاهز، يلا بينا."
كانت الكلمات كأنها سلاح يلوح في الهواء، تعلن عن استعداده لمواجهة ما سيأتي.تحرك معهم إلى الخارج، ورغم رفضه التام، صعدوا إلى السيارة الخاصة بالشرطة "البوكس"، بينما انطلقوا نحو مديرية الأمن.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
جلس يزيد على مقعده، مشدوداً بنظرة فارغة إلى الأمام، غارقاً في أفكاره المشتتة. كانت تلك اللحظات من الصمت الثقيل تشعره بالقلق، كأن أفكاره تتصارع مع بعضها البعض دون أي حل يلوح في الأفق. لكنه سرعان ما قُطعت خيوط تفكيره بدخول والدته، التي أطفأت لهيب الصمت بقولها:
"سرحان في إيه يا روح أمك؟ هتفضل قاعد كده كتير وحاطط إيدك على خدك؟"
زفر بضيق، ورفع نظره إليها بنفاد صبر، قائلاً:
"مش هنخلص بقى من تقطيمك وكلامك فيا كل شوية! أعمل إيه يعني؟ الولا لازق فيها، مش بيسيبها تخرج من غيره. حتى المرة الوحيدة اللي خرجت، بلّغوني الرجالة بوجودهم، رحت مكانهم ولقيتهم بيتخطفوا. فرحت وقلت أخيراً خلصنا منهم، لكنهم رجعوا تاني زي القرود."
جلست بجواره، ورسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة، وقالت:
"وأيه العمل يا حيلتها؟ كده الشركة وكل حاجة هتروح مننا!."
نظر أمامه بشر، وعبر عن عزم واضح في نبرة صوته مشبعة بالعزم والإرادة:
"أنا بحاول أوصل لناس اللي كانوا خطفينهم، شكلهم ناس مقتدرة وهيكونوا مفيدين لينا، وهينفعونا كتير."
تحركت شفتيها بعدم اقتناع، وجاء صوتها متهكماً ولكن بنبرة توحي بالقلق:
"لما نشوف أخرتها إيه، شكلِك هتسوحنا يا ابن بطني، وكل حاجة هتروح من إيدينا."
تنهد بضيق، واستقام بجسده بغضب، قائلاً: "أنا ماشي، القاعدة في البيت ده بقت تخنق."
أنهى كلامه بغضب عابر وغادر المنزل، محاملاً معه غيظاً شديداً ومشاعر متضاربة، في حين كان سليم يستمع إليهم بصمت، دون أن يشعروا بوجوده، بينما خفق قلبه بخوف على ابنة أخيه. عاد بسرعة إلى مكتبه، وأغلق الباب خلفه بإحكام، ثم جلس على مقعده بوجه شاحب، وأمسك هاتفه، وأجرى اتصالاً سريعاً، متشوقاً للرد. بعد ثوانٍ معدودة، سمع صوتاً رجولياً رد عليه قائلاً:
"مهران، يا ابني، فتح عينك كويس، وخلي بالك على ذات. ابني ناوي يتحالف مع عاصم عليكم علشان ياخد الشركة وفلوسها وينتقم منها."
أتاه صوته المتألم، قائلاً:
"متقلقش على ذات، مش هسمح لحد يمس شعره واحدة منها."
رد عليه سليم بقلق:
"انت كويس يا ابني!؟ صوتك تعبان."
تنهد بحزن، وجاء صوته متعباً كأحمال الدنيا:
"أنا كويس متقلقش، وذات في أمان معايا. بس زي ما اتفقنا، خلي عينك على ابنك ومراتك مفتوحة كويس قوي. وأياك عاصم يحس بأي حاجة، واللي اتفقنا عليه هيتم في ميعاده."
أنهى سليم المكالمة، بينما كان شعور الخوف يتصاعد داخله على ابنة أخيه، متمنياً سلامتها فيما هو آت.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
جلس الثلاثة بعد مشهد ذات المروع ينظرون أمامهم بصمت، حيث كانت الأجواء مشحونة بقلق شديد، حتى كسرت مهره هذا الصمت متحدثة بقلق عميق:
"شكلها بتتعذب أوي، إحنا السبب. ضحت بنفسها علشانه."
كانت تعبر عن إحساس بالذنب والخوف، فالصورة التي رأوها قد أضعفت مقاومتها للواقع المرير الذي تعيشه ذات.

نظر مهران إلى الاتجاه الآخر متجاهلاً حديث مهره، في حين كانت ملامح وجهه تحمل آثار ما حدث، وبدأ يتحدث إلى شريف بنبرة مكلومة تحمل ثقل الألم:
"أنا مش قادر أستحمل أشوفها كده يا شريف. اتصرف وساعدها، أرجوك."
كانت كلماته تنبع من قلب ممزق بالحزن والفقد، وكأنه يستنجد بشريف لإنقاذهم من فخ الذي وقعوا فيه.

تنهد شريف بقلة حيلة، محاولاً استعادة رباطة جأشه، وبتنبيه مهني أوضح:
"يا مهران، سبق وقلتلك إن اللي بيحصل ليها ده شيء طبيعي، خصوصاً بعد ما كنا خلصنا من أعراض الانسحاب ورجعت أخدت جرعة تانية وكبيرة. إحنا رجعنا لنقطة الصفر، أو لنقطة قبل الصفر، لأن الانتكاسة دي مش الأولى ليها. نطمن بس، بالتحاليل والأشعة عليها، ونبدأ رحلة علاج أقوى من التانية."

زفر مهران بضيق، مذهولاً عن النتائج السيئة التي قابلتهم، وتحدث بصوت مختنق كفأر محاصر:
"وحياة ذات عندي، لأدفعه التمن غالي قوي للكلب ده على اللي عملوا فيها. اطمن بس عليها وأفضي ليه."
مشاعره كانت تغلي كنوع من الثأر.

نظر شريف إليه بعدم رضا، وتكلم بصوت محذر كأب حريص:
"كفاية يا مهران! شايف أنت اللي حصل لمهرة وذات بسببك. خليك بعيد، والشرطة هيتصرفوا معاه، ده شغلهم مش شغلك أنت."
كانت كلماته محاولة لثنيه عن التهور، فهو يعلم أن الغضب قد يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها.

رد عليه مهران بغضب يكاد يختنق عند ذكر المعاناة، ضغط على سنانه محذراً:
"إياك وإياك يا شريف تتكلم معايا تاني كده. وقتها هكسرك صف سنانك، وأنسى صداقتنا من أساسه، فااااااهم؟"

أنهى كلامه بعنف، واندفع بغضب إلى غرفته، ليخبط الباب خلفه بقوة كمن يحاول حجب العالم الخارجي.

انتفضت مهره مكانها، ونظرت إلى شريف بقلق عميق، متسائلة بصوت مذعور:
"والعمل إيه دلوقتي يا شريف؟ أنا خايفة على أبية مهران. شكله مش ناوي على خير وممكن يتأذى بسبب غضبه ده."

زفر شريف بضيق، محاولاً طمأنتها لكنه كان هو الآخر مضطرب، ونظر إلى مهره محاولاً تهدئتها قائلاً:
"متقلقيش يا مهرة، ماهر متابع أخوكي علشان ميتهورش ويأذي نفسه. وقريب إن شاء الله هنخلص من كل ده."

هبطت دمعة من عينيها، وتكلمت بصوت مختنق، كمن يختنق بمرارة الواقع:
"أنا حاسة أننا في كابوس نفسي أصحى منه."

أغلق شريف عينيه، محاولاً عدم الاقتراب منها بسبب حساسية الموقف، ولكنه لم يستطع منع نفسه من الاقتراب وإزالة عبراتها بأنامله، ونظر في عينيها وهو يتحدث بصوت هامس، محاولاً زرع الهدوء فيها:
"بلاش دموعك يا مهرة، علشان خاطري. اطمني، كل ده هيعدي إن شاء الله ومحدش هيحصله حاجة."

نظرت في عينيه باستغراب، وشعرت بشيء غريب يعصف بقلبها، لكنه جعلها تشعر ولو للحظات عن الأمل، لكنها حاولت طرد هذه الأفكار من رأسها، مبتعدة عنه بسرعة، وابتلعت ريقها بصعوبة، قائلة بتلعثم:
"أ أ أن شاء الله."
كانت الكلمات تكاد تتلاشى فيها.

ابتسم لها ابتسامة هادئة، حرصاً منه على تخفيف توتر الموقف، وتحدث بنبرة عاشق، يظهر فيها اهتمامه الصادق:
"تعرفي إنك جميلة أوي يا مهره."

تنحنحت بإحراج، كما لو كانت الكلمات قد تُعبر عن أفكار لم تكن معدة مسبقاً، وقالت مرتبكة:
"ش ش شكراً."
لم تعرف كيف تتجاوب مع مشاعرها.

وفي تلك اللحظة، سمعوا صوت جرس الباب. نهض شريف واقترب من الباب، وفتحه ليجد مديحة، والدة مهران، تفاجأ بالبداية، لكنه انتبه سريعاً ومال بجسده، مقبلا يدها باحترام، قائلاً بحفاوة:
"نورتي يا أمي، اتفضلي."
أنهى كلامه ممسكا بيدها ليساعدها على الدخول.

ربتت مديحة على يده بحنو قائلة:
"واحشتني يا واطي! كده متسالش عليا؟ طول الوقت ده؟ مش كفاية صاحبك اللي بقالي كتير مشوفتهوش؟"

ابتسم لها بحب، وكأنه قرأ ما في قلبها، وقال معتذراً:
"حقك عليا يا أمي، متزعليش مني. غصب عني والله، المصحة أخده مني وقته كله. ولولا الظروف اللي احنا فيها، كان زماني لحد دلوقتي مطحون فيها. سيبك مني، أيه القمر ده كله؟ أنتي بتكبري وتزيدي حلاوة أوي كده ازاي؟"

ابتسمت له على كلماته، وقالت:
"يوه! ينيلك يا ولا، لسه دمك خفيف زي ما أنت."

لكنها تفاجأت بوجود مهره، نظرت لها باستغراب، قائلة:
"مهره!! انتي هنا بتعملي إيه؟ مش المفروض إنك في رحلة؟"

نظرت إليها بتوتر، ثم نظرت إلى شريف طالبةً النجدة. وبالفعل، تكلم شريف موضحاً:
"أيوه، المفروض أنها تكون في الرحلة دلوقتي، بس ابنك مهران المجنون رفض وخاف عليها وصمم إنها تقعد معاه هنا، ومتروحش الرحلة. بس مرضتش تقولك أحسن عمو مراد يعرف ويحصل مشكلة بينه وبين مهران كالعادة."

أومأت مديحة برأسها بتفهم، قائلة:
"والله أحسن حاجة عملها مهران، أنا أصلاً قلبي مكانش مرتاح للرحلة دي."

تنهدت مهرة بارتياح، واستشعرت الأمان في حضن والدتها، واندفعت في أحضانها، ونظرت إلى شريف بأمتنان.

ربتت مديحة على ظهرها بحنو، ثم ابتعدت عن مهرة، ونظرت حولها تبحث عن مهران، قائلة بتساءل:
"أمال مهران فين؟ أنا هتجنن عليه؟"

نظر شريف إلى الغرفة التي يتواجد بها، وتذكر وجود ذات معه، أحس بثقل المسؤولية عليه، وابتلع ريقه بتوتر، وقال:
"ا ا اتفضلي يا أمي اقعدي وانا هروح أبلغه بوجودك."

أجلست مهره والدتها على الأريكة، وتحرك شريف باتجاه الغرفة، طرق عليها وانتظر، إلى أن فتح مهران له الباب بوجه عابس، وتحدث وهو ينظر إلى الداخل:
"افندم؟ عايز إيه؟"

نظر شريف خلفه، ثم اقترب منه وقال بصوت هامس:
"والدتك بره وبتسأل عليك."

اتسعت عينا مهران بعدم تصديق، وركض سريعاً نحوها، متجاوزاً ألم الجرح، واقترب منها، وارتمى في أحضانها، متشبثاً بها كطفل صغير، قائلاً:
"واحشتيني أوي يا أمي! أنا مش مصدق نفسي، أخيراً شوفتك. أنا كنت هتجنن عليكي."

أفاضت مديحة بالقبلات على وجهه، في كل أنحاء وجهه، كأنها تحاول إعادة كل لحظة منه افتقدتها، غير مصدقة أنها تراه أمام عينيها، بين أحضانها. تمسكت به بقوة، ودموعها تتساقط، قائلة:
"يااااه يا مهران! أااه يا حبيبي، كنت هتجنن عليك. خوفت، ربنا يسترد أمانته قبل ما أشوفك. واحشت أمك، يا قلب أمك، يا نور عيون أمك."

قبل مهران يدها، وتحدث بشوق، وكأن كل كلمة تحمل عبء فترة غيابه:
"صوتك كان واحشني أوي، وريحتك. بحس نفسي لسه عيل صغير مشتاق لحضن أمه. حقك عليا يا حبيبتي، كان غصب عني."

ربتت مديحة على وجنته بابتسامة حنونة، مثل دفء الشمس في يوم شتوي:
"قلبي وربي راضين عنك يا ابني ليوم الدين."

تكلم شريف بمرح قائلاً، محاولًا تفريق الأجواء المنزوية:
"قلبي الصغير لا يحتمل، كفاية بقي! هعيط وربنا، واغرق ليكم المكان دموع. أنتم حرين! أنا عندي مشاعري فيااااضة."

ابتسموا على كلماته، لكن في تلك اللحظة، سمعوا صراخ ذات، فانتفضوا جميعاً، وركضوا باتجاه الصوت، ليتفاجؤوا بـ...


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close