اخر الروايات

رواية متاهتنا الفصل الثالث عشر 13

رواية متاهتنا الفصل الثالث عشر 13 


 


الفصل الثالث عشر: عطر الماضي!

                             


                                    

   لم تلتقِ أندريا زوجها طيلة الصباح التالي، علمت من نيكيتا أن صديقه الطبيب نيكولا ستافروس زاره باكرا و انفردا في غرفة المكتب حتى منتصف النهار، ساورها فضول قوي لمعرفة عما يتحدثان كل هذا الوقت، لكنها صرفت الأمر عن بالها، و مضت تساعد نيكيتا في تجهيز الطاولة للغداء.


+



   ظهر أخيرا ألكسندروس و في أثره نيكولا، أومأ لها هذا الأخير محييا و صافحها باحترام، في حين تباطأت خطوات زوجها، و نظر نحوها بشرود، كانت عيناه العسليتان مبهمتان للغاية. ابتسم لها على مهل و جلس بمحاذاتها منشرحا، أو محاولا أن يبدو كذلك! و أقسمت أندريا أن سرا ما يدور حول تغيره أمس، لو أنها ظلت بين يديه لربما كشفت سره، لكنها تصرفت بحماقة، و فرت منه كما لو أنه وحش!


1



   ومضت عيناه و تقلص وجهه، هل يُعاني من صداع آخر؟ لاحظت عليه شحوبا أقلقها، لكنها فكرت أنه لم يحظ بليلة جيدة بسببها، ربما شعر بالذنب لطرد قريبة السيد أوبري، أو ربما لم يهضم غروره أن زوجته هي التي نبذته قبل أن يفعل!


+



   اتجه الثلاثة بعد ذلك للاستمتاع بفصل القهوة على الشرفة الكبيرة، الجو كان منعشا و زقزقة العصافير تضفي ألحانا عذبة على المكان، ظلال الأشجار تتراقص تحت هيمنة شمس أغسطس بدلال، و الرياح تتمايل و تتلوى حاملة شذى الزهور إلى الأنوف.


+



   جلست أندريا على يمين ألكسندروس، فيما اتخذ نيكولا مقعدا على يساره، لاحظت أندريا أن زوجها استغنى عن السيجارة و الولاعة اللتان تظهران فجأة من أحد جيوبه عندما يحين موعد قهوته، هل يعقل أنه أقلع عن التدخين؟


1



   تطوعت نيكيتا لتقديم القهوة عوضا عن سيدتها، فأراحت أندريا يدها اليسرى على الطاولة مبتسمة للخادمة بامتنان، سكبت نيكيتا أول فنجان لسيد البيت، و مررته إليه عبر الطاولة، لكن الفنجان انزلق فجأة عن صحنه، و قبل أن تلسع القهوة الساخنة جلد أندريا، كانت يد ألكسندروس سباقة و انبسط كفه الكبير فوق يدها مانعا عنها الأذى.


4



   لم تستوعب أندريا ما جرى أمام عينيها، حدث كل شيء بسرعة البرق، في لحظة خارجة عن الزمن الراكد، قفزت تلك الحركة المجنونة مسببة لها صدمة عنيفة، لقد حماها ألكسندروس في أنبل و أجمل و أغبى شكل ممكن، و احترق بدلا منها!

   لم تستطع أن تفكر بوضوح و هي تتفقد يده مرتجفة، و تسأله مرارا و تكرارا عن شعوره، و تلومه ضمنا في الدقيقة ألف مرة على تلك البطولة السخيفة أمام صديقه، لكنها تساءلت لاحقا حين عالجه نيكولا و غادر مطمئنا: هل يُعقل أن تبلغ براعته في لعب دور الزوج المحب هذا الحد؟!


+



   رفضت أندريا كل احتجاجات زوجها حول كونه بخير، و أن الإصابة لا تسبب له أدنى ألم، و استمرت كل صباح و مساء تدهن ظهر يده اليمنى بمرهم جيد وصفه نيكولا متجاهلة فكرة أنه ربما يكره حتى أن تلمسه!


+



   لكنها في صباح اليوم الثالث لم تكن متماسكة بشكل يسمح لها أن تجلس بقربه، و تتنشق عطره، و تلمس جلده برعاية دمية متحركة، لمسته بقلبها و عينيها قبل أناملها، و شعرت كما لو أنه تسرب بتفاصيله إلى روحها و علق هناك، انتهت من تضميد يده، فأشاحت عنه، و أسرعت بالانصراف، و لم تتوقف حتى وجدت نفسها خارج البيت، عضت يدها لتهزم شهقة ملحة، و كادت تتماسك لولا ظهور ألكسندروس المفاجئ! هل لحق بها؟


+



          


                

   -أندريا!


1



   ذلك النداء اللطيف، و تلك الرنة اليونانية التي لا تلمسها في اسمها إلا على لسانه هو، رفضت أن تنظر إليه، فأدارها و أجبرها على ذلك بلمسة خافتة أسفل ذقنها، سبحت بعينيها المفعمتين عذابا و عشقا في تقاطيعه السمراء، و إذ بها تنفجر باكية!


+



   سحب رأسها إلى صدره، و ضمها بحنان سخي، و تركها كذلك تنتحب بقوة، ثم ببطء، ثم شعر بها تستكين، و لم يعد يسمع شهقاتها، فسألها مداعبا شعرها برقة:


+



   -هل هدأتِ؟


+



   هزت رأسها مكتفية بذلك القدر من الانتكاس العاطفي، فعلق بلوم:


+



   -لا ذنب لك فيما حل بي، كان مجرد حادث بسيط.

   رفع يده المضمدة، و تابع مازحا:


+



   -لن يتوقف نبض قلبي بسبب هذه البقعة الصغيرة، أنا قوي كفاية لأتحمل الألم.


+



   تذكرت أنه تحمل بشجاعة و صبر فنجان الملح و الفلفل الأسود، فوافقته قائلة:


+



   -أنت على حق! إنك قوي جدا، أظن أنك ورثت الكثير من جلادة محاربي إسبرطة!


+



   لمحت ضحكة ساحرة تتشكل على فمه الجذاب، فشاركته الضحك ممازحة:


+



   -أنا من تبدو اليوم هشة كشبكة عنكبوت!

   -إنك مشدودة الأعصاب!


+



   مرر يده السليمة على ظهر عنقها، و تمتم مطمئنا:

   -استرخي!


+



   تمنت أن تغمض عينيها و تنطلق نحو عناقه، غير أنها تمسكت بعروة الحذر، جال ألكسندروس ببصره حولهما، و اقترح ما لم تتوقعه:


+



   -هذا الجو مغرٍ للتنزه! ما رأيك لو نتريض قليلا؟


+



   خالته يمزح، أو يسخر منها، بيد أنه بدا جادا للغاية، بسط ذراعه نحوها منتظرا أن تتشبث به، فابتلعت ريقها، و منحته يدها بتردد، شد عليها بأصابعه القوية، و سارا سويا يغلفهما سحر الجزيرة الآسر.


+



   في البداية حافظا على غلالة الصمت، كأنهما في حضرة إله يوناني مقدس، غير أن لسان أندريا انطلق يعبر عن حنين كامن، و صور حركت الذكريات في قلبها. قالت بشاعرية و هما يتقدمان داخل دغل من الأشجار العطرة المتعانقة بفروعها:


+



   -ما ألطف هذه الروائح! هبوب الرياح الشرقية حاملة عبق البرتقال و اليوسفي و العنب، ليسقطه عند أقدام أشجار المستكة الشذية.


+



   التفتت صوب بحر إيجه الفيروزي الفاتن و تابعت حالمة:


+



   -و ما أعذب هذه الأصوات! حشرجة شباك الصيادين المنزلقة على الأسطح الخشبية، كبكبة الأسماك المتخبطة في الصناديق الزرقاء، و من هناك دحرجة الأمواج فوق شفاه الرمال، و زغردة طيور النورس حول رؤوس البحارة و حواف القوارب.


+



   عزف عطر محبوب على أنفها و شفتيها، عطر الزيتون! عطر الماضي الجميل، شهقت و استدارت صوب المكان الذي كان يجمعها كل يوم بألكسندروس الصغير، شجرة الزيتون المعمرة، شجرة الحب العذري، ضحكت و هي تردد بعفوية:


+



   -كان أبي يقول أنها مصدر بركة خيوس، شجرة يختصر نصف عمرها تاريخ أمم كاملة!


+



   تخلل سرورها شعور بالانقباض، أي ذكريات تسترجعها الآن؟ و أي عطر تستعذب تنشقه؟ لقد مات الحب في قلب ألكسندروس، ماتت الروائح و الأصوات و الرمزيات المعبرة عن طفولتهما الطاهرة!


2



   كان ألكسندروس هادئا، خاليا من العبوس و التجهم، دهشت له كيف لا يمتعض مثلا من استرجاعها تلك التفاصيل؟! لاحظت أنهما باتا قريبين من منزلها القديم، فهمست بخوف مشيرة إلى أبعد نقطة عنه:


+



   -فلنسر في ذلك الاتجاه!


+



   إلا أنه رفض أن يغيرا مسارهما، فسحبها و هو يحث الخطى نحو جزء متقدم من اليابسة إلى عمق المياه مشكلا رأسها بحريا يشبه ذراع أخطبوط كبيرة، استقر على ذلك الرأس البحري المحاط بالصخور الرمادية منزل مختلف عن بقية منازل خيوس، بقرميده الأحمر، و جدرانه البيضاء، و مصطبته الخشبية المسقوفة في الخارج، و المركب الأبيض المتمايل بنعومة فوق صفحة المياه قرب الصخور، إنه منزل والديها القديم، لقد بات مهجورا و رثا بشكل محزن!


+



   -لا بد من رؤية الماضي من كل جوانبه!


+



   تألمت أعماقها، هل يشير إلى الجانب المظلم من الماضي؟ إلى اليوم الأسود و تلك الواقعة؟ إلى أن مركب والدها المعطل جعله يختبر معنى اليتم و الغربة؟


+



   كافحت الدموع في عينيها، و هما يشقان الممر الخشبي المفضي إلى المنزل، بعض من حروف ”آل هيل“ على الباب تلاشت، المزلاج تصدأ، و المصطبة تآكلت هنا و هناك بفعل الرطوبة و الملح، دفع ألكسندروس الباب فأصدر صريرا مزعجا و مزق شباكا سميكة من نسيج العناكب!


1



   حمل الهواء الذي اقتحم المنزل رفقتهما بعض الغبار و فر به عبر نافذة مكسورة، كانت أندريا مشفقة على منزل طفولتها الذي بات كوخا مزريا، و مشفقة على زوجها الذي يزور بملء إرادته مكانا مشؤوما بكى فيه يوما ما أبويه بحرقة! لا بد أنه قوي فعلا ليتحمل هذا الألم و يكتمه!


+



   أفلتها كي تحظى بجولة خاصة وسط ذكريات البيت، عصفت بها صور كثيرة، مشاهد بهجة، و زوايا محتفظة بالضحكات و الدموع، عثرت على صندوق موسيقى صغير تلقته هدية من ألكسندروس، فتحته ضاحكة، لتقتحم تلك الضحكة دمعة هزمت كفاحها، يبدو أن الزمن أثر عليه فلم يعد يصدر الموسيقى التي تحبها! أزالت الغبار العالق بالصندوق، و احتضنته متذكرة حوارها مع ألكس الصغير قبل عشرين سنة:


+



   -سأهديك في عيد ميلادك السابع و العشرين سفينة! في ذلك الوقت سأكون ثريا جدا و سأحقق كل أمانيكِ.


1



   -و على متن السفينة سأهديك أنا أغنية جميلة، لأنني سأصبح آنذاك ألمع نجمة في العالم!


+



   -ستكونين حبيبتي و نجمتي إلى الأبد!


6



   لم تعد أندريا تستطيع تحمل المزيد من الذكريات، ركضت خارج المنزل، لكن ألكسندروس أدركها بقبضتيه قبل أن تعبر الباب، و سجنها بين ذراعيه في عناق دافئ و حنون تاقت له! ضمها إليه أكثر فأكثر، و داعب شعرها مبقيا فمها أسير شفتيه الواعدتين بكثير من الرقة و العطاء، فطوقته بذراعيها غارقة في سحر اللحظة، و لما ضغطت على ظهره بالصندوق الذي لا زال بين يديها، انبعثت ألحان موسيقى شوبان الحالمة، لكن العناق لم ينقطع بل امتد مستلهما قوته و شاعريته من عذوبة اللحن و بعده العاطفي!


8



نهاية الفصل الثالث عشر.


+




الرابع عشر من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close