اخر الروايات

رواية عزف السواقي كامله وحصريه بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي كامله وحصريه بقلم عائشة حسين 



                                          
الفصل الأول 

1


رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا
اللهم إن هذا العمل خالصًا لوجهك الكريم، ابتغي به رضاك فاجعله لي حجة وشفيعًا لي وتقبله مني بقبول حسن. 

2


هبط درجات السلم ببطء كعادته حتى وصل حيث تجلس جدته في ركنها المميز الذي يكشف المنزل كله أمام نظراتها ويمكّنها من رؤية الداخل والخارج، رمى الصباح ببشاشته المعهودة وحنانه الآسر«صباح الخير يا جَدتي» 
ابتسمت فتشابكت تجاعيد وجهها وقالت وهي تناوله كفها ليُقبله في تقدير ومودة «صباح الخير يا حبيب جدتك» ربت فوق كفها بكفه كأنه يُلصق قبلاته ويثبّت مودته  ثم جلس جوارها فتأملته بنظراتها متسائلة بحنو وفخر لا يبرح نظراتها حين تطالعه «لابس يعني كده من بدري» 
ابتسم له قائلًا ونظراته تشرد في البعيد المجهول «مسافر مصر يا جدتي ادعيلي» 
رفعت كفيها في تضرع داعية «ربنا يحفظك وينصرك يا ولدي ويجعلّك في كل خطوة سلامة» 
انضم إليهما والده يهتف بمزاح يخالط كلماته «مبتدعيش غير ليه، هو الي عالحجر ، كنه هو الي ولدك مش أنا» 
جاورهما عدنان منتظرًا قدوم الطعام، فمصمصت العجوز مندهشة مستنكرةً«بتغير من ولدك يا حزين؟» 
أجاب عدنان بمزاح طفولي اعتاد عليه مع والدته ومشاكسة تعكس لطفه ومرونة شخصيته «أيوة ليه هو أحسن مني فأيه؟ ولا يعني عشان شعره المسبسب وريحته الحلوة» 
ربتت السيدة على كتف رؤوف المستمع ببسمة هادئة كأنما تؤكد حبها وفخرها 
أشاح عدنان يسأل والدته بمشاكسة مبدلًا الحوار « إلا جوليلي يا أما أبوكي مسميكي أرضينا ليه؟  وهو كان فجري ومحلتوش حاجة.. ولا جال أصبّر نفسي؟ طب كان سماكي أرض واحدة يا باي على الفشخرة» 
هتفت الجدة وهي تحيط رأسها بكفيها مستنجدة بالجالس جوارهما شاردًا «روؤف خد أبوك من جاري هيخوتني» 
ابتسم رؤوف وعاد من شروده قائلًا برزانة «اتحمليه يا جدتي» 
قالت الجدة وهي تضرب ولدها «والله عيالك أعجل منك وأرسى منك، الي زيك بيفض مجالس وأنت ممسخر» 
نهض عدنان قائلًا «المجالس فيها إيه غير وجع الراس بس يا أما، هروح أستعجل الفطور عشان ألحق طابور الصباح» 
رحل يدندن بأشعاره كعادته فمالت السيدة تجاه رؤوف متسائلة بفطنة «خبر ايه يا ضي العين إيه شاغل بالك ومعكر صباحك» 
ضم رؤوف كفها ورفعه مُقبلًا يطمئنها «مفيش شغل يا جدة» 
ربتت الجدة على كتفه داعية له بحرارة «ربنا يريح بالك يا ولدي ويهدي عليك الخلج وملايكة الأرض والغريب والماشي طريج» 
أثنى رؤوف على دعوتها مبتهجًا متفائلًا بها «يارب يا جدتي» 
نادت السيدة على العاملة «هنية يا هنية همي بالفطور خلي الغالي يلحج يغير ريجه جبل ما يسافر» 
خرجت السيدة مهرولة تُلبي «من عنيا يا أم عدنان» 
تجمعوا حول الفطور الذي تناول منه رؤوف القليل ونهض يقبّل رأس جدته التي هتفت بدهشة «واه يا ولدي أنت لحجت؟» 
اعتذر في أدب «يا دوب يا جدتي مع السلامة فرعاية الله» 
شيعته جدته بالدعوات واللهفة حتى غاب عن ناظريها، نفض عدنان كفيه ونهض هو الأخر مغادرًا لعمله،  في طريقه للخارج لمح رؤوف آيات تستعد للمغادرة فناداها «آيات تعالي أوصلك» 
وقفت مكانها تفكر قبل أن تندفع تجاهه قائلة «ليه الكرم دِه يا متر» 
فتح لها رؤوف باب السيارة قائلًا بابتسامة سريعة الظهور، سريعة الاختفاء« بدل ما تمشي اركبي معايا» 
جاورته في السيارة مستفسرة«هتتأخر المرة دي؟» 
أجابها بجدية وهو يقود السيارة بانتباه «مش عارف يمكن أيوه ويمكن لا» 
طلبت بأدب «ينفع أروح أجعدهم عند أهلي يا متر؟» 
قال ببساطة «مفيش مشكلة لو هيريحك دِه ويبسطك» 
شكرته بابتسامة حنون وصمتت تنظر من نافذة السيارة بشرود فلا حديث يجمعهما سويًا ولا نقاش يربط أفكارهما، لكل واحد منهما شخصيته وميوله واتجاهاته المختلفة. 
وصلا للمدرسة القريبة، فمالت تقبله على خده شاكرة «شكرًا يا رؤوف تروح وتيجي بالسلامة» 
ابتسم لفعلتها العفوية وقال بمزاح خفيف «أي خدمة يا ميس» 
ودعته بإشارة من كفها وهي تراقب البنات ينظرن إليها بحسد وغبطة، يتابعن ما يحدث باهتمام، متأكدة أنها ستكون حديثهن والحدث محل ثرثرتهن لهذا اليوم، كيف لا وهي زوجة رؤوف الحفناوي سيد القرية الأول وصاحب الجماهيرية الأعلى في كل الأوساط 
وحبيب الجميع دون استثناء،  أخفضت كفها ودخلت المدرسة بهدوء. 
***********
           *في القاهرة *
استقبلت غزل دخوله المشتل بمرحها المعتاد «اهلا اهلا بالصعيدي» 
ابتسم طاهر في أدب وقال وهو ينظر للزرع حوله «الله ينور يا هندسة فين الورد بتاعي» 
حملت غزل أصيصًا مزروعًا بالورد مختلف الألوان وقدمته له بابتسامتها التي تضاهي الورد فأشاح في أدب بعدما تناوله منها وقال «بكام بجى يا هندسة؟» 
ابتعدت عنه تشاكسه برقتها المعهودة «ببلاش أنت مش أجدع مني يا صعيدي» 
سحب طاهر محفظة نقوده رافضًا «الكلام ده لو وردة مش زرعة» 
قالت بإعجاب واضح وعفوية قاتلة «لهجتك تجنن» 
ضم شفتيه وأخفض بصره في أدب وخجل، فضحكت وابتعدت عنه مقلدة له «بجولك إيه ما تستضيفني عندكم كام يوم نفسي أروح الصعيد» 
هتف طاهر بنبرة ودودة «يا سلام يا مُرحب دي قنا تنور» 
كادت تجيب لولا رنين هاتفه، فابتسم حين رأى اسم المتصلة وابتعد قليلًا، ترك أصيص الورد جانبًا وأجاب «ازيك يا حاجة؟» 
نظرت الأم لشاشة الهاتف بإفتقاد شديد «ازيك يا طاهر؟  ازيك يا ضنايا» 
أجاب طاهر بإبتسامة حنون «الحمد لله يا أما بخير وأحسن حال» 
عاتبته بحنان «كدا يا طاهر أخوك بيشتكي منك وكمان مش عايز تجيني، تعالى يا ولدي شم هوا نضيف وكُل لجمة زينة» 
حرّك طاهر الهاتف في المشتل قائلًا «شوفي يا أم طاهر الجمال، نفسي تشمي الي أنا شامه يا غالية» 
قالت والدته بحنين «يا طاهر متلفش وتدور على أمك تعالى مع أخوك أشوفك وكفياك رمَح فالدنيا» 
قال بمراوغة «ما احنا اتخلجنا علشان نرمح في الدنيا يا حبية جلبي أمال اتخلجنا ليه؟» 
قالت منزعجة منه «مش هاخد منك حج ولا باطل يا واد بطني.. طيب أمك موحشتكش؟» 
ابتسم بشجن وحنين قبل أن يعدل عن مشاكسته ويقرّ بجدية «وحشتني والله» 
قالت بتوسل «راضي أخوك وتعالى معاه يا طاهر أمانة ما تزعله منك» 
هز رأسه بالموافقة طائعًا لها «حاضر يا أما متشليش هم» 
دعت له بعاطفة «ما يزور جلبك الهم واصل يا طاهر» 
أمم خلفها بحنين «أمين ويخليكِ ليا يا وميحرمنيش من وجودك» 
سألها بإهتمام «بجيتي شاطرة اهو وبتتصلي وتفتحي الكاميرا» 
قالت ممتنة «يونس أخوك علمني كل حاچة أخر مرة جه فيها» 
هتف بإستحسان ونظراته تذهب للجالسة أرضًا جوار شجرة تُلمّع أوراقها وتحرك شفتيها بما يدل على الكلام، عاد ببصره لوالدته «كتر خيره، عايزة حاجة أجبهالك وأنا جاي؟» 
قالت بحنو واستعطاف «عايزك تُصدُج ومتتأخرش يا طاهر» 
ابتسم قائلًا في طاعة «حاضر يا أما» 
«يحضرلك الخير يا طاهر مع السلامة يا ولدي» 
«مع السلامة يا حبيبتي» 
وضع هاتفه في جيب بنطاله وتحرك ليجلس بالقرب من غزل يسألها «بتكلمي الشجرة يا هندسة» 
أجابت ببساطة شديدة وهي تتابع عملها بحب «أيوة بكلمه وأغنيله كمان وأدلعه» 
ضحك طاهر فزمت شفتيها وزجرته بنظرة حادة لشعورها في ضحكته بالسخرية، أوضح موقفه « أصل غريبة» 
قالت بإقتناع تام ومتعة حقيقية «ليه غريبة أنا بحسه روح زي أي روح، على فكرة بيسمع» 
هتفت مندهشًا «كمان» 
تأففت بانزعاج فتراجع «عارفة بتفكريني بأخوي يا هندسة بيحب الزرع جوي والخضرة بيقول نفس كلامك » 
ضحكت قائلة وهي تنهض مُتجهة لشجرة أخرى «أممم خسارة لولا إني هتخطب كنت قولتلك عرفني عليه» 
نهض ينفض كفيه قائلًا بيأس «وهو للأسف بيبانه مجفولة يا هندسة» 
ابتسمت غزل وسألته بمزاح ومرح «تشرب شاي يا صعيدي تجيل حبر» 
نظر لساعة معصمه ثم هتف «لا أنا اتأخرت» 
قبل أن يمسك بأصيص الزرع سألها «هتعزميني على خطوبتك؟» 
قالت «لو هتيجي مفيش مانع» 
قال بابتسامة ودودة «مبروك يا هندسة وشكرًاعالورد» 
قالت وهي تنشغل بورودها «الله يبارك فيك مع السلامة» جلست متنهدة بعدها متذكرة كيف تعرفت على طاهر 
«فلاش باك» 
حول طاولته كان يجلس واضعًا سماعات أُذنه، لا يدقق النظر فيما حوله بل غائب بأفكاره وروحه، يغمض عينيه ويربع ذراعيه منسجمًا مع سماعات أُذنه. 
سحب سماعات الأذن حين جاء النادل ووضع الأطباق الصغيرة فوق الطاولة البسيطة، فشكره وذكر الله على طعامه قبل أن يتناوله. 
من خلفه كانت تجلس هي جوار صديقتها تضرب فوق الطاولة بمرح واستمتاع مغنية خلف المذياع الذي انطلق يشدو بأغنية لشادية، رددت خلفها بشجن وحماس جعله يتوقف عن التهام طعام ويدير رأسه ليرى تلك المتحمسة التي تردد خلف المغنية، لكن النادل الواقف حجبها عنه فأدار رأسه واضعًا من جديد سماعات أُذنه لينعزل. 
حمد الله ونهض من مكانه يحساب على طعامه وأثناء تمزيقه للزحام كان أحدهم يسحب من جيب بنطاله محفظة نقوده، راقبت غزل ما يحدث بضيق وغيظ.. همت بإعلامه وتنبيهه لكن تحذير صديقتها منعها «ملناش دعوة» 
استنكرت غزل القول وسلبية صديقتها بإمتعاض رافضة عدم التدخل، لكن كان لصديقتها رأي آخر «يا حبيبتي عايزة تتحبسي؟ غزل مفيش يوم يعدي من غير مشاكل » 
تأففت غزل لا تعنيها كلمات صديقتها بل يعنيها هروب السارق بكل بساطة، ووقوف هذا المسكين أمام الكاشير مفتشًا عن نقوده. 
استدار عائدًا لطاولته يبحث بتدقيق، مرت من جواره مستمعة لحديثه نفسه «وه راحت فين» ابتسمت حينما بلغت الفهم بهويته الصعيدية ولهجته الأخاذة، وقفت أمام الكاشير تدفع لهما وله. 
عاد بعدها معتذرًا «معلش يا أخينا شكلي اتسرجت والله، هبعت أجيب فلوس» 
استدرات مبتسمة براحة وهي تستمع لكلماته مستمتعة.. 
ابتسم البائع قائلًا بما أملته عليه غزل «ولا يهمك يا صعيدي أنت ضيفنا الحساب اتدفع» 
رفض وامتزجت نبرته الثابتة الرخيمة بالحدة «تشكر يا عم» 
قال الرجل وهو ينظر بطرف عينيه لغزل التي تهمّ بالمغادرة « هو أنتم أجدع مننا والله ما يحصل» 
شكره ببعض الضيق من ذلك الموقف «الله يخليك أنتم أهل كرم» 
عاد لمقعده منتظرًا قدوم أخيه يونس بالأموال، وحين جاءه اتجه ليدفع فاتورة ما تناول لكن البائع أخبره بضحكة «يا بني اتدفعت هي وكمان طبق حلو» 
سأل بحدة غلبت حديثة «مين دفع» 
أجابه الرجل المُسن «بنت زي القمر جات دفعتلك ومشيت» 
سأله بإندهاش «فين؟»أخبره الرجل وهو ينظر للمارة «مشيت» 
تأفف في انزعاج وضيق، حتى انتبه على صوت الرجل يشير صارخًا «اهي الي لابسة أسود» انتبه طاهر لقوله واستدار ليعرف هويتها، لكن اختفائها من أمامه كان له سبق الاستئثار بها، صعدت الحافلة، ركض ربما يلحق بها مناديًا «يا آنسة» 
أدارت رأسها لشعورها بأن المنادي يقصدها، فوجدته واقفًا خلف الحافلة منزعجًا، لوحت له مبتسمة وقد فهمت ما يريد قوله قبل أن تختبيء ملامحه خلف غيوم المارة وبُعد المسافة، فيكفيها أنه رأي إشاراتها وبالطبع ابتسامتها المطمئنة. 
عاد وقد انطبعت ملامحها في ذاكرته، سأل عنها الرجل فأخبره أنها تأتي كل جمعة فإن أراد حقًا شكرها عليه أن يأتي مرة أخرى. 
نظر طاهر للطريق بصمت فهو لا يعرف هل سيعود أم لا.. 
جلست غزل جوار صديقتها قائلة «الصعيدي الي دفعتله كان بيجري ورا العربية» 
قالت صديقتها بضحكة ساخرة وتهكم «كان طخك علشان دفعتيله» 
ضربتها غزل معترضة رافضة تهكمها «سخيفة» 
شردت قليلًا ثم
ابتسمت عائدة للواقع تخبر صديقتها بما جال في خاطرها «ياريتني رجعت اتكلم معاه شوية لهجته تجنن» 
استنكرت الصديقة قولها وغايتها بملامحها، فلكزتها غزل وغنت بخفوت وترنم «وأنت تحس الشوق أكتر مني وقلبك عطشان»
ابتسمت غزل للذكرى وإصرار طاهر على شكرها عادت بعد شهر للمكان فأخبرها صاحب المطعم إنه منذ ما حدث يأتي كل جمعة منتظرًا لها ليرد دينه، تعجبت غزل واستنكرت إصراره وثباته،  في تلك الجمعة جاء طاهر وتم اللقاء شكرها بشدة وصمم على دفع فاتورتها فمنحته عنوان مشتلها وغادرت، جاءها بعدها مرة حاملًا بعض الأطعمة كهدية من والدته حتى عرفت أنه يسكن قريبًا من مشتلها فأصبح يتردد عليه من وقتٍ لآخر على فترات متباعدة. 
**************
في اليوم التالي بالقاهرة 
استيقظ يونس زافرًا بضجر، اعتدل ملتقطًا أنفاسه قبل أن يرتدي قميصه القطني ويتحرك تجاه الباب الذي يُطرق بقوة وإلحاح، مسح وجهه لاعنًا قبل أن يفتح الباب،ارتبك حارس العمارة وتوتر فسأله يونس بغضب مكتوم «في إيه يا عم رجب على الصبح» 
صحح له رجب بضحكة سمجة وهو يحك خصلاته البيضاء النافرة من طاقيته الصوف «جصدك على المسا» زمجر يونس فتراجع رجب عن مزاحه الثقيل وقال بإرتباك «جارتنا الجديدة عيزاك توصلها كهربا» 
ضرب يونس الباب برفض في وجه رجب، فتراجع رجب مستغفرًا… عاد يونس للحجرة لكن سرعان ما طُرق الباب مرة أخرى فاندفع متوعدًا له، فتح الباب صارخًا في وجهه «لاه لاه لاه» 
توقفت كلماته في حنجرته حين سقطت نظراته على الواقفة جوار رجب متحفزة، أوضح رجب وهو يبتلع ريقه «الدكتورة فيروز يا بيه جارتك الجديدة» 
تأملها سريعًا ثم غض بصره وقال بغضب «أيوة اتشرفنا أعمل إيه؟» 
منحته رأس المشترك قائلة ببرود من بين أسنانها «ولا حاجة وصّلنا كهربة يا أستاذ» 
رفض يونس بضيق «لاه شوفي غيري أنا عايز أنام ومش فاضي» 
أوضحت له وهي تأخذ نفس عميق تسيطر به على انفعالها وغيظها من هذا المغرور الوقح «اتفضل نام حضرتك واحنا هنعمل كل حاجة ولما نخلص هنقفل الباب» 
قال بسخرية «مبحبش حد يدخل بيتي» 
تأففت بصوت مسموع «اللهم طولك ياروح» 
أغلق يونس الباب بعدما قال ببسمة مستفزة «طوليها بعيد عني» 
استدارت ناحية رجب الواقف يتابع باستمتاع غير مفهوم ثم قالت «ربنا يكفينا شر البهايم والله» 
فتح يونس الباب حين وصله صوتها، اندفع يسألها بغضب «جصدك إيه يا مهزجة أنتِ» 
تراجعت خطوة متفاجئة من هجومه ثم اعتدلت وعدّلت من جاكت بدلتها الرسمية قائلة «ما أنت من بتوع القاف جيم الجدعان أُمال مالك» 
وقف يسألها بحاجب مرفوع «يعني إيه القاف جيم دي؟» 
ابتسمت موضحة له «صعيدي يعني، وأنا أعرف الصعايدة جدعان وخدومين» 
عدّل يونس من ياقة قميصه البيتي وحمحم قائلًا بفخر «من يومنا مش جديد علينا» 
اقتربت ممسكة بالسلك الكهربائي ترمش بعينيها في براءة قائلة «طيب يلا ساعدنا» 
رمقها شذرًا ثم سألها «بالنسبة لربنا يكفيكِ شر البهايم؟» 
سألته ببراءة مصطنعة ودهاء «حضرتك منهم؟» 
أجاب بحدة وسرعة «لاه طبعًا» 
قالت بابتسامة ظفر «خلاص أخدت الكلام عليك ليه؟» 
أُعجب بطريقتها وذكائها فسألها «بتشتغلي إيه؟» 
ابتسمت قائلة بفخر «دكتورة تغذية» 
لوى فمه بطريقة تهكمية قبل أن يسخر منها «تخسيس وشد ورخي» 
فغرت فمها فربت يونس على خد رجب مازحًا «شوفي بجى كرش رجب عشان تاعبنا معاه» 
سألته مستاءة من طريقته الساخرة واستهزائه بمهنتها «أنت بتشتغل إيه» 
أجاب رجب بسرعة «ده بشمهندز يونس» 
هزت رأسها واضعة كفها فوق جبهتها قائلة «مهندس!؟ هو يوم باين من أوله» 
فهم يونس ما تعنيه فقال ببرود وهو يعود لشقته «أيوة بالضبط يا بتاعة الكروش أنتِ» 
أغلق الباب في وجههما وزعق من خلفه «معنديش كهربا لحد» 
عاد لفراشه يفرك منابت شعره ضاحكًا، تسطح فوق الفِراش على بطنه وغاص في النوم بينما الأخرى بالخارج تلعنه. 
بعد مرور ساعتين كان جرس شقته يرن من جديد، نفض الدثار وخرج متوعدًا لها، فتح الباب زاعقًا «مش جولت مفيش زفت» 
ابتسم رؤوف قائلًا «لا مجولتليش أنا» ابتسم يونس واقترب منه معانقًا في مودة قبل أن يُدخله الشقة وخلفه رجب الذي وضع الحقيبة ووقف منتظرًا تعليمات رؤوف، نقّده رؤوف المال الذي جعله يشكره في ابتهاج بينما غمز له يونس يحذره من أن يخبره بما حدث لكن رجب تجاهله وابتسم متسائلًا وهو يعدّ النقود «تؤمر بحاجة يا رؤوف بيه؟  أجيب أوصل للدكتورة كهربا ولا لاه؟» 
فهم يونس أنه حكى له عن الشجار ورفضه مساعدتها، نظر رؤوف لأخيه قائلًا بنظرة متوعدة «هروح اعتذرلها وأوصلها بنفسي» 
فغر يونس فمه باستنكار فانسحب رجب من أمامه متشفيًا في يونس الذي غادر للمطبخ مغمغمًا بغيظ، خلع رؤوف سترته ورفع أكمامه حتى مرفقيه، وخرج مُتجهًا للشقة المقابلة، طرق الباب في أدب جم قبل أن يستدير منتظرًا إجابتها، خرجت متسائلة «مين» 
أعطاها رؤوف جنبه وغض عنها بصره ثم سألها بأدب وذوق «أنا روؤف ساكن مع البشمهندس يونس بعتذر لحضرتك عن سخافة البشمهندس بس هو لما بيصحى من النوم كده» 
ابتسمت فيروز ونظرت ليونس الواقف أمامهما يتابع بغيظ، فأردف رؤوف بشهامة «تجدري حضرتك توصلي الي عيزاه تحت أمرك أنا موجود» 
شكرته فيروز ضاغطة على حروفها «متشكرة جدًا والله لذوق حضرتك» 
هتف رؤوف برضا «الشكر لله تحت أمرك» 
انسحب رؤوف للشقة تاركًا الباب مفتوح تأهبًا واستعدادًا لأي طلب منها ومساعدة.. 
جلس رؤوف ملتقطًا فنجان القهوة الذي أعدّه له يونس موبخًا له على فعلته وحماقاته «الجار للجار يا زفت ودي بنت» 
لوى يونس فمه ساخطًا متوعدًا رجب في سره قبل أن يسترخي في جلسته ويخبره «هي الي بدأت وسخيفة» 
ترك رؤوف فنجانه وعاد بظهره للمقعد قائلًا في سخرية «معاها حج المهندسين دول ميتطاجوش» 
ضحك رؤوف هازئًا منه متشفيًا فيه فقال يونس بصوت مسموع «ماشي يا رجب الكلب أنتِ وبتاعة الكروش الي بره دي» 
حذره رؤوف بحدة وجدية «يونس إياك تجربلها» 
لوّح يونس بذراعه ممتعضًا يلعنهم جميعًا، طرق رجب الباب فغادر يونس لحجرته قائلًا «طيب يا أخويا يا عاجل يا كبير خليك معاهم أنت وساعدهم أنا راجع أنام» 
تنهد رؤوف في استياء منه قبل أن ينهض ويساعد ببشاشة ورضا. 
***********
تسللت صفوة للحجرة ووقفت جوار فِراش أختها ثم زعقت بصوت عالي «غزل قومي العريس وصل» 
انتفضت النائمة في غفلة، اعتدلت تسأل بإرتباك «جه إزاي هي الساعة كم؟  أحنا دلوقت امتى؟ هو أنا نمت أد إيه؟» 
ارتدت خفها بسرعة واتجهت ناحية الخزانة دون وعي فقهقهت أختها وهي تقترب منها فاستدارت غزل صارخة في وجهها لشعورها بالخديعة، ابتعدت أختها عنها موبخة «في واحدة خطوبتها النهاردة ونايمة للضهر» 
تأففت غزل بضيق وهي تندفع تجاه الكومود الفاصل بين الفراشين قائلة «ما أنا نمت الفجر» 
التقطت هاتفها وفتشت فيه وهي تستمع لسؤال أختها الناقد لأفعالها «وسهرانة ليه يا ست غزل؟» 
أجابت غزل بإبتسامة واسعة حالمة «كنت بكلم بودي» 
اقتربت أختها ناصحةً بإنزعاج شديد «مش قولنا نخف كلام لما يكون حاجة رسمي» 
قالت غزل معاتبة لها تبرر موقفها «كلامنا عادي مش زي ما أنتِ فاهمة» 
قالت أختها بلطف «الكلام بيجر بعضه يا غزل وأنا مش عيزاكي… 
قاطعتها غزل وهي تستدير وتقبلها متوسلة «صفوة بليز احنا خلاص هنتخطب ولما يرجع باباه هنكتب الكتاب» 
تراجعت صفوة رغم عدم اقتناعها ورضاها بأفعال أختها وانسياقها خلف مشاعرها الوليدة دون حذر، خاصة أنها لا ترتاح للمدعو عبد الرحمن من الأساس ولا تتقبله زوجًا لأختها خاصة وهي تسمع عنه الكثير من الحكايات والقصص، لكنها مستسلمة تنصح بحذر وتوجّه بصبر وها هو أبدى حسن نيته. 
نادت والدتهما عليهما «يا بنات في إيه؟ ما تيجو تساعدوني» 
اندفعت غزل وعانقتها متسائلة بدلال «وأنا كمان يا مامتي أساعدك» 
أبعدتها والدتها ورمقتها بحدة مفتعلة قائلة «أمال إيه؟  » 
اتجهت غزل ناحية الخزانة وسحبت منشفة وهي تعترض«أنا العروسة» 
زجرتها والدتها بنظرة حادة قبل أن تأمرها برفق «صلي يا غزل وحصليني عالمطبخ» 
تأففت غزل ودبدبت معترضة قبل أن تنسحب للحمام وتخرج صفوة لمساعدة والدتها.
***************
في المساء
التف الجميع حول الطاولة الكبيرة التي يرأسها رؤوف الحفناوي، يناقش محاميه في قضايا المكتب ويراجع البعض منها معهما ويرتب العديد منها ويقسّم الأعمال بينهم في فطنة وحنكة، تابعت لمياء منبهرة به وبجاذبيته المُهلكة، تواضعه وسهولة الحديث معه، رحابة صدره وإنصاته لكل محاميه بتقدير واهتمام رغم أنه من أنجح وأشطر محامي البلد، ضحكاته الرزينة وغض بصره عن الفتيات 
شكره الدائم لمجهودهم المبذول وذكائهم، لا ينسب الفضل لنفسه بل يثني عليهم بتواضع. 
قال وهو يرفع أكمامه لمرفقه «بقول إيه يا شباب هطلب عشاء كل واحد يختار الي عايزه» 
ضجت الحجرة بالإعتراض والشكر، لكنه ضرب بكفه فوق الطاولة منهيًا الجدل بقوة «قرار نهائي يا شباب» 
هتف واحد منهم مازحًا «يعني مش هتخصمه من الراتب يا بوص» 
نهض رؤوف وتحرك تجاه مكتبه بالحجرة الأخرى قائلًا «عيب قزازة الميه الي قدامك دي كمان مخصومة» 
ضحك الشباب وانعزل كل اثنين للحديث، وانكمشت هي تتابع بعيني الإعجاب مديرها الجديد الودود، كتب الشباب طلباتهم ومنحوه الورقة فأملى على المطعم طلباته وعاد لهم من جديد فتحمس كل الموجودين أكثر للنقاش والعمل. 
جاء الطعام وعمل رؤوف على تقسيمه وتوزيعه عليهم بكل تواضع 
قبل أن يجلس ويتناول طعامه. 
رن هاتفها فالتفت الرؤوس ناحيتها في تساؤل وفضول، توردت بخجل قبل أن تخفض نظراتها للهاتف الموضوع جوارها بجانب الطعام، ضغطت زر الرسالة الصوتية دون قصد فانطلق صوت الأخرى كالقذيفة «يا بغلة متأخرة ليه؟  مش قولتلك تسيبك من الكشك الي بتشتغلي فيه ده؟  بتبعيني يوم خطوبتي» 
مسحت لمياء كفيها بسرعة وارتباك والجميع صامت تلقائيًا فُتحت الرسالة الأخرى «مأخرك ليه الواكل ناسه جناب البيه الصعيدي الي شغاله معاه» 
ابتلعت لمياء ريقها بتوتر قبل أن تلتقط هاتفها بسرعة وتنهض معتذرة «آسفة آسفة جدًا» 
جذبت حقيبتها بسرعة ورحلت راكضة في حرج شديد جلب الدموع لعينيها… أشفق عليها رؤوف فنهض حامدًا الله وهو يشير لأحد الشباب «رامز يلا هنوصل لمياء الوقت اتأخر فعلا وأنا مخدتش بالي» 
نهض رامز بعدما مسح كفيه بالمناديل المبللة وسحب جاكت بدلته وتبع رؤوف الذي التقط مفاتيحه وغادر يلحق بتلك المسكينة.. 
رآها واقفة أسفل البناية جسدها يرتعش بعصبية، صعد سيارته وجواره رامز وتحرك حتى وقف أمامها وناداها «يلا يا لمياء هوصلك» 
وقفت مترددة في ضيق وخجل، فابتسم ليطمئنها وقال «يلا عشان تلحقي خطوبة صاحبتك» 
ارتبكت من مزاحه، لكنها اقتربت وصعدت في المقعد الخلفي شاكرة بخفوت «شكرًا لحضرتك» 
مازحها رؤوف بلهجته  ليخفف من وطأة الحدث على نفسها «جولي لأم لسان طويل الواكل ناسه بيجولك مبروك ربنا يتمملك بخير آسفين على التأخير» 
ابتسمت بتوتر فقال وهو ينظر للطريق أمامه «مليني العنوان» 
بعد قليل كانت تهبط من السيارة بالقرب من منزلهم، شكرته لمياء بحرارة«شكرًا لحضرتك وآسفة على الي حصل» 
ابتسم روؤف وهز رأسه بتفهم «مفيش حاجة» 
تحركت لمياء ناحية عمارتهم، بينما ركن رؤوف سيارته مقترحًا على رامز «بقولك إيه تعالى نشرب كوبايتين شاي عالقهوة القريبة الي هنا» 
ضرب رامز كفًا بكف هازئًا من رغبته «رؤوف بيه الي المحكمة بتتهز من مرافعاته هيقعد زينا كدا ويشرب شاي عالقهوة» 
فكّ رؤوف الحزام عن جسده قائلًا «قوم يالا» 
اقترح رامز بمرح «عايز سحلب» 
جلس روؤف بصحبة رامز حول طاولة صغيرة لبعض الوقت يتحدثان. *************
جلس عدنان جوار زوجته مبتسمًا يمازحها كعادته بمزاج رائق «واه يابت يا نجاة محلوة وزايده النص» 
ضحكت السيدة بخجل من كلماته وغزله، تعاتبه برقة «بطل الكلام دِه يا أبو رؤوف كبرنا عيالنا بجوا طولنا» 
كرمش ملامحه معترضًا على قولها عابسًا في رفض «مين دول الي كبروا؟  احنا لسه صغيرين زي ما أحنا» 
قالت بابتسامة حنون «الي زيك جد» 
انتفض ينهاها في مزاح «طب بس بس ونامي» 
قالت متنهدة بحزن ترثي حال بكريها «لو رؤوف كان ربنا كرمه بحتة عيل كان زمان عياله ماليين علينا البيت وبيجولولك يا جَدي» 
تمدد عدنان تحت الغطاء قائلًا بسلام نفسي «دلوك يخلف؟ متزعليش حالك بكره تزهجي من دوشة عياله» 
داعب خدها بأنامله فابتسمت مبتهجة لحنوه ورفقه بها، ودلاله الذي يغدقه عليها رغم مرضها الدائم  وصحتها الضعيفة، نظرت إليه في امتنان ثم صارحته بحزن «صعبان عليا الي عامله فروحه وبيلف فساقية ولا مدور على خلفة ولا ساعيلها، جلبي حاسس لساه بيدور والموضوع الجديم مالي راسه » 
قال عدنان يطمئنها «تلاجيه نسي» 
قالت بصدق ويقين «ولدي وعرفاه لساه بيعس ويفتش في الي راح ومش هيهدأ ولا يرتاح له بال غير لما يوصل»
شاركها الخوف والقلق، وصمت مُفكرًا في الأمر ثم اعتدل على ظهره قائلًا بشجن خالط كلماته المتحسرة «دي سنين طويلة فاتت» 
هتفت بألم احتل ربوع قلبها « منسيش ولا هينسى يا عدنان بيفكر نفسه بيه كل يوم وكل ليلة يا حبة عيني» 
هتف عدنان وهو يتثاءب «ربنا يهديه مفيش حاجة هترجع الي راح» 
نام على جنبه ومازحها ليصرفها عن التفكير في الأمر والحزن«بجولك إيه ما تجيبي بوسة يا أم رؤوف» 
ضحكت في خجل من كلماته، فهتف ساخرًا «بتتكسفي وعيالك طولك» 
قالت وخديها يتوردان «هفضل كده طول العمر يا ناظر» 
رفع الدثار على وجهه قائلًا «نامي عشان الناظر وراه طابور الصبح» 
**********
استيقظ رؤوف من نومه ونظر لشاشة الهاتف قبل أن ينهض ويعتدل ذاكرًا الله، مسح وجهه وتحرك من الحجرة يبحث عن أخيه حتى وجده جالسًا أمام التلفاز ينقر فوق هاتفه، رمى له رؤوف التحية قبل أن يتوجه ناحية الحمام «صباح الخير» 
رفع يونس رأسه من على الهاتف مُجيبًا تحيته ببشاشة «صباح الخير إيه كل النوم ده؟» 
بعد قليل كان رؤوف يجلس ممسكًا بفنجان قهوته يقلّب في هاتفه بإهتمام، يرسل الرسائل الصوتيه بالتعليمات.. 
دقائق وصدع صوت آخر في الهاتف «أيوة يا رؤوف» 
سأله رؤوف بجدية بينما ترك يونس هاتفه متنبهًا «أنت فين من ساعة ما جيت مظهرتش» 
أجابه طاهر بود «والله يا باشا اهو فشغل يمين وشمال» 
هتف رؤوف بضيق «مش هتجعد فمكان واحد علشان أعرف أوصلك أمك بتسأل عليك وعايزة تشوفك» 
أجاب طاهر متملقًا «طمنها أنت يا أخويا يا حبيبي  بجى وجولها جريب هيرجع» 
سأله رؤوف من بين أسنانه بغيظ «مروحتش المكتب ليه زي ما جولتلك؟» 
راوغ طاهر في الحديث «أنا ماليش فجو المكاتب والمرافعات لو عندك مجال هودي حد تبعي» 
حك رؤوف ذقنه مستفسرًا في سخرية «تبعك؟  » 
هتف طاهر بضحكة «بنوتة جمر وشاطرة» 
استنكر رؤوف بحنق بينما كتم يونس ضحكته«كمان» 
توسله طاهر بود واستعطاف «حبيبي وأخويا أنا جولتلها هشغلك عند أكبر محامي أحنا مش شوية برضو» 
سخر منه رؤوف بتأفف «مش عليا البوجين دول متجاملش على جفايا» 
هتف طاهر ضاحكًا «أمال أجامل على جفا مين يا أخوي هو في أحلى من جفاك» 
نهره رؤوف في حدة وجدية «طاهر» 
تصنع طاهر الحزن وأجاب «خلاص ياعم هتذلنا» 
هتف رؤوف «خليها تروح المكتب أنا يومين وراجع جنا وعايز أشوفك جبل ما أرجع» 
هتف طاهر بفرحة «كبير من يومك والله» 
أخذ رؤوف هاتفه وتحرك تجاه حجرته بينما نهض يونس على صوت جلبة بالخارج، فتح الباب ونظر أمامه ليجد الطبيبة جارته تقف مودعة سيدة «يا فندم افهمي» 
وقفت السيدة أمامها ممسكة بكف طفلة صغيرة تقول لها بغضب «أفهم إيه؟  والله ما في حد مبيفهمش غيرك يا دكتورة الندامة أنتِ»
فغرت فيروز فمها مستنكرة توبيخ السيدة وفظاظة القول وتجرؤها عليها لهذا الحد، رمقتها السيدة بنظرة ساخرة متشفية قبل أن تردف بغيظ «مش عارفة تديها دوا يتخنها أمال أنا جيالك ليه وبدفعلك ليه؟» 
كتم يونس ضحكاته وتقدم يحاول فض النزاع مما زاد من استياء فيروز، سألها بهدوء «خير يا فندم بتتخانجي مع الدكتورة ليه» 
رمقتها السيدة بنظرة مستهينة قبل أن تخبره باستياء «بس متقولش دكتورة» 
كتم يونس ضحكاته واستفسر منها «طيب هي عملت إيه؟» 
صرخت فيروز في وجهه «أنت مالك؟» 
لوت السيدة فمها وقالت «والنبي دا ذوق عنك» 
أجاب يونس بفخر «المهندسين ذوق من يومهم» 
أردفت السيدة بحنق وهي ترسل الشرارات من عينيها لفيروز «يرضيك يا بشمهندس نتابع معاها أدي شهرين ومشحططانا وراها من عيادة لعيادة فالآخر لا أنا خسيت ولا البت تخنت لا دا كمان خست» 
استمع يونس بصبر ليغيظ فيروز فاستطردت السيدة بحرقة «لو اشتريت للبت برطمان مفتقة من العطار الي تحتنا كانت تخنت، ولو جبت أوبلكس الي فالإعلان كنت خسيت» 
نصحها يونس انتقامًا من جارته «كدا المفروض تستردي فلوس الكشف طالما مفيش نتيجة» 
شهقت السيدة كأنما انتبهت للتو وقالت تؤكد قوله«والله معاك حق» ثم مصمصت السيدة وهي تقيّم الواقفة بنظرة مستهجنة «خلهوملك ينفعوكي تجيبي مفتقة يمكن جحا ينفع نفسه المرة دي» 
صرخت فيروز وقد تفاقم غيظها «قصدك إيه يا ست أنتِ» 
هبطت السيدة درجات السلّم تاركة سؤال فيروز مُعلقًا بينما هتف يونس مقهقهًا «الدكاترة معدش عندهم ضمير» 
هتف روؤف بنبرته التحذيرية الحادة الذي تابع عن بعد ما يحدث «يونس» 
تراجع يونس خطوة قبل أن يستدير ويغادر مُلبيًا، بينما عادت فيروز للشقة مغتاظة بشدة تكاد تبكي من فرط إحراجها وغضبها، أمسكت بكرة صغيرة مطاطية وضغطت عليها مهدئة نفسها «اهدي يا فيرو اهدي» 
ضربه رؤوف خلف عنقه مُعنفًا له على تدخله «يا حبيبي ارحمني أنت وأخوك هو أنا هفضل أربي فيكم لغاية متى؟» 
ضحك يونس وابتعد عنه قائلًا بمرح «لغاية ما تخلف وتستبدلنا» 
سأله رؤوف باستهزاء «ولومخلفتش » 
قال يونس ببساطة «هنفضل كده» 
جلس رؤوف ينتعل حذائه قائلًا «يبجى أجوزكم أنتم و أخلص منكم » 
رفض يونس «لا يا حبيبي مش هتجوز غير لما أنت تخلف وتأكدي إن الموضوع حلو، أنا مش هضحي براحتي كده ببساطة» 
قال رؤوف «ربنا يصبرني والله» 
أردف يونس بمزاح «ربنا يرزقك بالخلف الصالح يا متر» 
صمت رؤوف يظهر على ملامحه عدم الإقتناع والاستهانة، نهض يمسد قميصه بكفه ويرفع أكمامه قبل أن يخرج من الشقة تاركًا يونس خلفه يدعو «ربنا يهديك يا أخوي» 
****************
          «في قنا» 
استبقت الباب حين سمعت صوت عبود يهلل بالخارج ويناديها بفرحة وبهجة خاصة تعرف سببها «حامد جه يا تماضُر» 
تحسست بكفها حتى وصلت لعصاها الغليظة أمسكت بها ونهضت متعكزة عليها تشاركه الفرحة بقدومه، وقف أمام الباب الخشبي البسيط يطرق مناديًا «يا خالة» 
أسرعت الخطى حتى عبرت الحجرة البسيطة للردهة الصغيرة تُجيبه «تعالى يا ولدي» 
خطا للداخل بلهفة، اقترب وضمها مقبلًا رأسها في تقدير وحنو وهو يسألها عن حالها «كيفك يا خالة اتوحشتك» 
رفعت كفها تتحسس وجهه كما تفعل دائمًا تتلمسه ليكتمل تواصلها الروحي معه «كيفك يا ولدي طولت الغيبة المرة دي» 
مازحها قائلًا وهو يساعدها ليجلس بها أرضًا « جال يعني عارفة الأيام أنتِ يا تماضر وشايفة الصبح من الليل» 
ضحك عبود من خلفهما ضحكة صاخبة مستمتعًا بمشاكستهما، بينما قالت تماضر بعاطفة «لما اتوحشك بعرف أن غيبتك طولت، نهاري جيتك وليلي غيبتك » 
شاكسها بطريقته الحنون «واه يا خالة» 
مالت وسألته بهمس «جبتلي العسلية الي وصيتك عليها» 
أجاب بتأكيد «كيف أنسى؟  بس جوليلي بتجرشيها كيف وأنتِ مفكيش ولا سِنة» 
ضربته بكفه على كتفه تشاركه مزاحه «أنت مالك أكلها زي ما أكولها» 
حك عبود رأسه المشعث وقال بنبرة ممطوطة «وأنا عايز عسلية يا حامد» 
تعجبت تماضر وهي تمد عصاها لتضربه «واه سمعتنا يا مكفي؟» 
قفز عبود مبتعدًا يضحك قائلًا «ملحجتنيش ملحجتنيش» 
ضحك حامد على أفعالهما وقال «جبتلكم أنتوا الأتنين وجبتلك جلابيه يا عبود» 
نظر إليه عبود بحب ثم شردت نظراته وقال «عبود مش عايز جلابيه عبود عايز حامد  فرحان ويحب » 
سخر منه حامد ضاحكًا «لاه حامد  بيحب تماضر بس ومش هيحب غيرها خلاص مش هجبلها ضُرة» 
حرك عبود أنامله وشبكهما وهو يقول بإقرار «  نضرتها ونضرتك والجلوب اتواصلت» 
نهرته تماضر متعجبة «بتجول إيه يا مخبل أنت» 
تجاهلها عبود وتابع وهو يقلّب نظراته «أنا هجيبهاله هِنا، هيجعد معاها» 
تجاهل حامد قوله وهذيانه فهو اعتاد منه هذا الأمر… خرج عبود يهذي بالكلمات تبين حامد منها القليل ثم صرف ذهنه وعاد يمازح الحالة ويسأل عن أحوالها «طمنيني عليكِ يا خالة؟» 
أجابت برضا «الحمدلله يا ولدي فنعمة» 
نظر حامد للدار البسيطة المبنية بالطوب اللبني الممسوحة بالطين المظلل بلون أبيض وآخر أزرق «مش هتسبيني أبنيلك البيت مسلح» 
مصمصت متعجبة غير راضية «مالي بيه المسلح يا واد هتجوز فيه؟  » 
مازحها قائلًا وهو ينهض ويركن البهجة التي أحضرها جانبًا ويقوم بتنظيف المنزل وترتيبه «عشان أتجوز فيه أنا معاكي يا خالة» 
ضحكت قائلة «لاه معيزاش ضرة» 
حاول إقناعها بمرح «ليه بس يا تماضُرمش بدل ما أنا رايح جاي ومليش مكان أجعد فيه» 
قالت بصدق «لاه جال مسلح جال، عايزها تولع علي، أنا كده مرتاحه والبيت طراوة وريحه حلو» 
قال يقنعها بمزاح «هركبلك مكيف من الي بيجيب هوا بارد» 
سخرت ممصمصة بشفتيها «لاه دا أنا مرتاحة كِده» 
سألها وهو يتابع ما يفعل بهمة ونشاط «بتشغلي المروحة الي جبتهالك؟» 
قالت ممتعضة هازئة «يابوي ما عفشة كل ما العيال يشغلوها تجول ورّ ورّ فوداني ومحملهاش، بتجيب سموم» 
ضحك قائلًا بيأس «محتار معاكي أنا» 
طلبت منه برفق «العيال بيسألوا عليك أول ما العصر ييدن هتلاجيهم جايين يرمحوا ورا المخبل عبود» 
فض ما جاء به من حقائب يخبرها «جبت لكل واحد الي طلبه»
ثم سأل بنظرات باحثة 
«أمال فين الواد قاسم مباينش » 
دعت له بتضرع «ربنا يخليك يا ياولدي ويطرح البركة فيك ويديك كدهم وأكتر،قاسم مع العيال فضل مستنيك شوية وبعدها رجليه كلته وطلع يرمح معاهم» 
سخر من قولها «سته مرة واحدة جولي بس واحد ولا اتنين تاني يا خالة» 
ضربته بعصاها معاتبة «اطلب كتير أنت بتطلب من كريم» 
همس بحزن عتيق «الله كريم يا خالة يصلح الحال» 
سمع حامد صوت الأطفال يصرخون باسمه «عم حامد» 
فنهض من جلسته واندفع للخارج في لهفة، رأهم يركضون تجاهه في اشتياق وخلفهم عبود، ضحك وهو يفتح ذراعيه مستقبلًا لهم، يبادلهم عناقهم بنفس الحفاوة والمودة الخالصة 
جلس على ركبتيه يستقبل كلمات الاشتياق ويرد على أسألتهم بصبر حتى سمع صوت أذان العصر فاندفعوا ناحية مجرى الماء بالقرب من ماكينة الزراعة توضأوا ووقفوا خلفه ليؤمهم كما يفعل.. حين انتهى جلس تحت الجميزة الضخمة والتفوا حوله يحكي لهم مغامراته الوهمية المخترعة من خياله الخصب 
ثم سألهم عن أحوالهم وحدًا تلو الآخر وهو يضم صغيره لصدره، بعد استماعه لهم 
وزّع عليهم ما أحضره لهم جميعًا.. 
بالقرب كانت تماضر تجلس وجوارها عبود يخطط على الأرض بعصاه يرسم. 
صنع لهم حامد الشاي الذي يحبونه ووزعه عليهم بحب ورضا، حين انتهت الجلسة ودعه الصغار وعاد هو ليجاور خالته بعد استئذنه قاسم في الذهاب معهم فأذن له برحابة محذرًا له من التأخير «متى هعيش هنا علطول يا خالة تعبت من الترحال وجلبي هنا» 
هتف عبود وهو يخطط فوق الأرض الترابية «جلبك هناك… مش هِنا» 
استنشق حامد الهواء الطازج فأجابت تماضر بأمل ينبت في حشا القلب «لما تلاجي جلبك هاته وتعالى بيه، الترحال مكتوب على الي ميلاجيش جلبه يا حامد» 
هز رأسه غير مقتنع قبل أن يشرد كعادته وكما يحب في السماء ونجومها وقمرها وهل عشق يومًا غير السماء بزخارفها وزينتها. 
****************
بعد قليل 
همس حامد وهو يضم صغيره قاسم «عايزك تطلع الأول ذاكر كويس» 
قال الصغير بنبوغ وثقة مفرطة بنفسه «اطمن هطلع الأول على المدرسة كلها» 
فرك له حامد منابت شعره ضاحكًا ثم قبّل رأسه وقال «مش هتدخل تنام مع جدتك» 
قال الصغير معترضًا وهو يتشبث به «لاه هنام جنبك عشان وحشتني» 
رفض حامد خوفًا عليه «الجو برد عليك هِنا» 
زم الصغير شفتيه رافضًا وهو ينكمش بأحضانه رافضًا بعناد «عادي نتغطى» 
استسلم حامد لرغبة الصغير الذي همس بسؤاله مابين النوم واليقظة «أبوي ما تقولي أمي كان شكلها كيف؟» 
ابتسم حامد قائلًا وهو يرفع عينيه للسماء «كانت جميلة زي النجوم وبهية كيف القمر» 
ابتسم الصغير يغالب النعاس ليستمع لفيض والده يروى حاجته لأمه بالحديث عنها. 
«كنت بتحبها» همس بها الصغير قبل أن تجذبه الأحلام لعالمها وأجّل هو الإجابة. 
نهض ووضعه فوق الفِراش البسيط المصنوع من جريد النخل والمُعدّ لنومه أمام المنزل أسفل النافذة بالقرب من تعريشة العنب. 
جاوره ذاكرًا الله حتى نام منتظرًا قدوم يومٍ جديد لا يعرف ماذا يخبيء له. 
في منتصف الليل وأثناء دخوله ليتوضأ لصلاة القيام  وقف يراقب استيقاظ خالته ينتظر ندائها ليلبي
استيقظت بصمت، اعتدلت جالسة ذاكرة الله، فسارع حامد مُقتربًا منها يعرض مساعدته برضا ويطمئن عليها «خير يا خالة إيه مصحكي دلوك؟»  تنهدت بعبوس قبل أن تذكر الله وتقصّ عليه حُلمها الذي رأت والرسالة، سألها حامد وقد أصابته عدوى عبوسها وضيقها«واد المركوب ملجاش مكان ينجسه غير الجبانة وفوق القبور والميتين؟  بيجلج رجدتهم كمان» 
تنهدت تماضر بحزنٍ ويأس، نهض حامد بعدما قرّب منها كوب المياه البارد  وخرج متلحفًا بشاله، يخفي معالم وجهه ذاكرًا الله متوكلًا عليه ومستعينًا به، أدخل صغيره جوار خالته في الدفء وأغلق الباب الخشبي جيدًا ثم رحل. 
بخطوات واسعة مرّ بين القبور مترحمًا داعيًا، حتى وصل للمكان المقصود، فتح الباب الخشبي المتهالك بقوة أرجفت القلوب وسحقت الطمأنينة في الصدور، توقفت النظرات المرتعبة على جسده والأسئلة تتقافز من الأفواه كالبصقات  «أنت مين؟  وعايز إيه؟ وإيه جابك هنا؟» 
رمقهم حامد بنظرة حادة غليظة نبتت من غضبه ثم أقترب مُجيبًا بهدوء «أنا جابض الأرواح» 
نظر الثلاثة لبعضهم قبل أن ينفجروا في الضحك بهوس وعدم اتزان، ابتسم ابتسامة لم تظهر لهم واقترب قائلًا يخطف نظرة للسماء«حبيبي يارب هونها» 
نظر بإشمئزاز لأوراق اللعب وزجاجات الخمر التي ركلها بقدمه قبل أن يسحب واحدًا من تلابيبه فنظرا الاثنان لبعضهما في ارتعاب وتوجس وهما يتساءلان بقلق بدأ يتسرب في عروقهما «عايز إيه يا جدع أنت؟» 
لكم الذي وقف مهتزًا وأوقعه أرضًا وهو يخبرهم بنبرة حادة غليظة ومتوعدة ساخرة «ما جولت جابض لأرواح ومخلص الأموات منكم» 
سحب آخر وهجم عليه يضربه بحنق وغيظ وهو يهتف «بتجرفوهم وهما ميتين كمان؟» 
هكذا تناوب عليهم حتى أرقدهم جميعًا يئنون ويتألمون من شدة ضرباته، بصق فوق أجسادهم المُلقاه قبل أن يسحب واحدًا قد فقد وعيه وجرّه أرضًا حتى وصل لشجرة عتيقة على أطراف التُرب وبقرب مبنى قديم مجهور لغسل الأموات، نصب جسده على الشجرة ثم لفّ الحبل الغليظ حوله مثبتًا، ترنحت رأس الرجل ينظر للمكان مرتعبًا يغمغم وهو يبكي كالنساء في زعر «يا حزني رابطني فين يا عم، دي مغسلة الميتين» 
ضحك قائلًا وهو يبتعد ليشمله بنظرة راضية «اهو تتونس بالعفاريت ويتونسوا بيك» ضحك حامد قبل أن يجر الباقيين ويفعل بهما ممثلًا بجسديهما كما فعل بصديقهما، ثم جلس قليلًا يستمع لألمهم وتوجعاتهم وندبهم بتلذذ واستمتاع، نظر للسماء وتأمل القمر قائلًا «حبيبي يارب» بعدها نهض مُغادرًا لا يهتم لندائتهم ولا توسلاتهم ولا صرخاتهم بل يقابلها بضحكات صاخبها متشفية تمزق السكون وتحرقهم بالقهر والغيظ. 
على الطريق قابل عبود يهيم في الطرقات، يمشي تارة ويهرول تارة ولسانه لا يتوقف عن الذكر، جاوره في السير قائلًا في مزاح«رايح فين يا حزين دلوك ليموتوك وياخدوا أعضاءك؟» 
قال عبود بنبرة متكسرة متهللًا برؤيته «كنت بشوفك وأنت بتضربهم» 
قلّد عبود حركات حامد وطريقة ضربه فضحك حامد بمتعة ، ثم دار عبود حول نفسه قبل أن يرفع رأسه للسماء ويقلّد حامد «حبيبي يا رب» 
ضحك حامد على أفعاله فحثه عبود على القول مثله فلبى حامد رافعًا رأسه للسماء «حبيبي يارب» 

+


#انتهى

+



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close