اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الثاني 2 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الثاني 2 بقلم عائشة حسين 



                                    
بهالفصل الثاني

+


♡رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا♡
            ***********
جاءه قاسم يركض في خوف، صدره يعلو ويهبط بإنفعال حاد، أوقفه حامد محيطًا كتفيه بكفيه مُثبتًا له، يهديء من روعه 
«في ايه مالك ؟» 
أجاب قاسم من بين لهاثه بإنفعال وضيق «سمير صاحب القهوة الي على الجسر، ضرب عبود وهزجه وخلى العيال تُضربه بالحجارة» 
انتفض حامد واقفًا يحبس عن الصغير غضبه، يتوعد سمير بشر لا يصل لإدراك الصغير فيلوث براءته «بجا كدِه ماشي» 
انحنى ثانيةً يسأل قاسم وهو يمسح على وجهه ليهدأ ويبتسم ليطمئن ويسكن خافقه «فين عبود دلوك يا قاسم؟» 
أجاب قاسم بحزن عميق الأثر ودموعه البريئة تترقرق «جري ناحية البحر يا أبوي عند الموز» 
ضمه حامد بحنو قائلًا «ماشي متزعلش هنجيب عبود ونداويه ونأدب سمير» 
ضمه الصغير متشبثًا يبكي فزعًا وضيقًا مما حدث، فربت حامد على ظهره قبل أن يمسك بكفه ويسحبه مُتجهًا به ناحية النيل.. في الطريق رنّ هاتفه فرفعه مُجيبًا بابتسامة حنون «أيوة يا نجاة وحشاني» 
أجابته أمه بحنو «ازيك يا حامد عامل إيه يا ولدي» 
أجابها وهو يجلس فوق العشب منتظرًا إنهاء المكالمة حتى يسير لعبود مُراضيًا «الحمدلله يا حبيبتي أنتِ بخير وأبوي وجدتي» 
عاتبته نجاة «غيبتك طولت المرة دي يا حبيبي واتوحشتك» 
ضحك مشاكسًا لها «مطولتش أنتِ بس تلاجيكي متعاركة مع  الناظر فحسيتي بغيبتي» 
جاءه صوت والده «بطل قرّ يا واكلهم هو الناظر جادر عليكم أنتوا وأمكم ؟» 
سألته باهتمام «كيفها خالتك يا حبيبي وقاسم وبت خالتك وعيالها؟» 
أجابها وهو يفرك فروة شعر قاسم المنتبه له ومنصتًا باهتمام «حلوين يا أما يسلموا عليكي» 
قالت بشغف «مش هتجبلي قاسم يا حامد أشوفه» 
صمت حامد ينظر للصغير بحب ثم رفع نظراته للسماء وأجاب بتنهيدة «شوية يا أما» 
بنبرة مُلطخة بالحزن قالت «براحتك يا حبيبي بس متتأخرش عليَّ أنت كمان زي أخواتك، البيت من غيركم مالوش حِس ولا الأيام بيبجالها طعم » 
ابتسم حامد بتقدير قبل أن ينهض واقفًا يمازحها «يارب الناظر ميكونش جنبك» 
جاءه صوت والده الحانق «روحي معاهم يلا طالما كِده» 
ضحك حامد باستمتاع لمشاكستهما، واستمع بصبر لعتابهما ومراضاة والدته الرقيقة لوالده «مجصدش يا ناظر حجك عليَّ، يعني أنت مبتتوحشهمش؟» 
«أيوة غيّري الحديت وغلوشي على الكلام» 
تركته نجاة وطلبت من حامد «هات أكلم قاسم  جنبك يا حامد» 
منح حامد الهاتف لقاسم بطيب خاطر ورضا فتلقفه الصغير بفرحه ولهفة، حادثها هي وجدّه حتى اقتربا من جلسة عبود حينها أنهى الاتصال وسار مع والده بصمت. 
وضع حامد الهاتف بجيب جلبابه وجلس جوار عبود الجالس متربعًا يبكي كما الأطفال «بتبكي ليه بس؟» 
قالها وكفه تستقر على كتف عبود بحنو ومؤازة دافئة، ليستدير عبود بوجهه الملطّخ بالتراب والدموع تحفر فيه أخاديدًا طويلة، همس مستنجدًا «حامد» 
ابتسم له حامد فقال عبود بتلعثم ونبره مطموسة بالإنكسار «سمير ضربني... قطّع جلبية حبيبي» ضم حامد شفتيه متأسفًا مبتهج القلب لأجل تلك المودة قبل أن يواسيه ويمسح عن رأسه ووجهه التراب  «حبيبك هيجبلك غيرها وأحسن منها كتير» بكى عبود شاكيًا له «ضربني والعيال جالولي مجنون» 
اندفع قاسم يضم عبود في مواساة عفوية، فأبعده حامد وأمسك بكفه عبود مُشجعًا له على النهوض «تعالى معايا يلا عند تماضر» 
نهض عبود يتعكز على عصاه يتمسك قاسم بذراعه، وجوارهما يسير حامد في صمت، وصلوا لمنزل تماضر فأجلسه حامد ونظّف له ملابسه ووجهه وخصلاته المتشابكة، ثم ضمد له جُرحه بعناية واهتمام وبعدها جلس جواره قائلًا «فاضل ناكل» 
استند عبود بظهره للحائط في صمت وحزن، لا يشاركهم الثرثرة كعادته.. قال حامد يريد استمالته وإخراجه من حزنه «عندنا عشا إيه يا واد يا قاسم» 
فهم قاسم مغزى السؤال فقال بضحكة طفولية بريئة « عمتي جابت فطير» 
نظر إليهما عبود بإهتمام وانتباه، لكن سرعان ما أشاح ليتابع حامد بمرح «يلا يا قاسم هات الحِلة والبصل والسكين خلينا نعملوا التقلية على الكانون» 
قفز قاسم بحماس، ثم دخل المنزل وجلب ما طلبه الذي جلس يشعل النار ويهيؤها للطبخ. 
ابتسمت تماضر التي خرجت للتو وجلست جوارهم متدفئة بوجودهم وثرثرتهما، لم يدم صمت عبود قليلًا ولا إعراضه انضم يساعد بفرحة وسعادة وهو يخبر حامد «بحب الفطير يا حامد» 
ابتسم حامد لمعرفته بالأمر وصمت يتابع العمل بحماس وهو يشدو بصوته الجميل 
والجميع يرددوا خلفه 
«عشمان ف زيارة لروحي ..
تغسل أوجاعي وجروحي ..
روحي عنده يانفس وبوحي..
لحبيبي رسول الله ..
ومنايا زيارة الهادي ..
دانا قلبي عليه بينادي ..
واهو طار من شوقه فؤادي..
راح عند رسول الله ♥️♥️
نهض عبود مرددًا خلفه  فاردًا ذراعيه يدور حول نفسه برأسٍ مرفوع ونظرات تطوف في السماء وتجلي يملأ القلب ويُخضع الروح والجوارح . 
بعد قليل صمت حامد مكتفيًا بما أحدثه في نفوسهم من أثر فهتف عبود بمغزى وهو ينظر لحامد «حبيبي يارب» 
ضحك حامد وطلب من قاسم تقطيع الفطير «الرقاق» لقطع صغيرة في صحن واسع ووضعه فوق صينيه كبيرة منتظرًا . 
انتهى فتحلقوا حول الصينية بسعادة يتناولون الطعام بشهية مفتوحة .. قسّم حامد قطع البط عليهم جميعًا، وضع قطعة بكف خالته مُنبهًا لها «اللحم يا خالة» وأخرى بكف عبود الذي ابتسم في امتنان حقيقي، واختص قاسم بالجزء المحبب له، سأله قاسم بدهشة بعدما تابع بعينيه ما حدث «مخدتش منابك ليه يا أبوي؟» 
ابتسم حامد قائلًا «كلت يا قاسم الحمدلله، أنا أشبع لما أنتوا تشبعوا» 
هز قاسم رأسه بصمت غير مقتنع لا يفهم عُمق الأحرف والكلمات. 
بعد العشاء، صنع لهم حامد أكواب الشاي الساخنة وبعدها رتّب المكان وافترش  سريرًا من جريد النخل لعبود لينام فوقه مستريحًا، ثم أدخل قاسم جوار جدته التي سألته «رايح فين يا حامد؟» 
أجابها وهو يستعد للخروج «ولا حاجة هتمشى يا خالة» 
ضحكت تماضر لاكتشافها ما ينتويه ويخبئه عنها،وقالت تعرّيه له «اضرب من غير ما تكسّر يا حامد» 
ابتسم لاكتشافها أمره،استوقفته مرة أخرى بسؤالها «كيفه رؤوف يا حامد؟» 
وقف قليلًا صامت مُفكر قبل أن يُجيبها «على حاله» 
قالت بفطنة «سلملي عليه لغاية ما يجيني» 
قطب مستفسرًا «رؤوف هييجي هِنا؟ يبجى سرك باتع يا خالة » 
قالها بابتسامة واسعة، لتُجيبه بثقة «هيجي واد الحفناوي جريب بنص قلبه التايه» 
اقترب حامد وقبّل رأسها بحنو وتقدير قبل أن يغادر مُغلقًا الباب خلفه ينظر للسماء قائلًا «حبيبي يارب»
**********
جلس حامد بهدوء جوار شاب يبدو في الثلاثين من عمره، حول طاولة متهالكة في مقهى بسيط فقير الخدمات، ابتسم له ابتسامة عابثة تخفي من التوعّد أطنانًا وهو يحييه «ازيك يا سمير» 
رفع سمير حاجبه مُحييًا بغلظة ونفور «يا مُرحب يا حامد» 
نظر حامد حوله مدندنًا باستمتاع وهدوء بال وابتسامته العابثة تتألق فوق فمه 
«وإذا أساءَ العابِثونَ لجَمتُهمْ
وحلَلتُ عن هذا اللسانِ وِثاقي» 
تعجب سمير من دندنته وسخر بفظاظة وابتسامة عافتها مشاعر حامد الطيبة
«بتدندن زي عبود؟  هتتخبل زيه؟» 
اتسعت ابتسامة حامد وحك ذقنه قائلًا بصوت مسموع 
«فإذا تعدّى الجاهِلونَ حُدودَهُم
فالجَهلُ والطَّبعُ اللئيمُ رِفاقي» 
أنهى أبياته بلكمة قوية على أنف سمير أردته للخلف، فشهق سمير بغضب وهو يتحسس موضع اللكمة وينقّل نظراته بين نزف أنفه الذي لطّخ أنامله ووجه حامد وابتسامته العابثة، انتفض صارخًا 
«اتجنيت يا واد المركوب؟ كدها أنت دي؟» 
انتبه رواد المقهى على صوت سمير فنهضوا من أماكنهم واقتربوا لإحساسهم بأن حدثًا ضخمًا على أعتاب الحدوث، تهكم سمير باشمئزاز «شوية مجانين مخابيل» 
نهض حامد من جلسته بهدوء المسترخاه ،تناول كوب الشاي خاصة سمير وارتشف منه قليلًا ثم وضعه مكانه ممتعضًا لا يروقه المذاق اقترب من سمير يردد بنظرة مستهينة متلذذًا بصيده الثمين
«لكنّ لِي بينَ الحنايا خافِقًا
إنْ ضاقَ ذَرعًا ثارَ في أعماقي» 
زمجر سمير من هدوء حامد وأغاظته ابتسامته التي لا تفارقه ودندنته التي لا يفهمها، أمسكه حامد من تلابيبه وجذبه بقوة ناحيته رغم همهمات المتفرجين واعتراضهم وتلطيفهم الأمور بالكلمات  ،أدلى حامد بدلوه « بتضرب عبود برجلك، وكمان بتخلي العيال يجروا وراه بالحجارة» 
زعق سمير وجسده يرتجف رهبة من نيران نظرات حامد المشتعلة «وأنت مالك» 
ابتسم حامد ابتسامة واسعة قبل أن يقول بسخرية ويلحّن قوله «طب وأنا مالي وأنا مالي بالأحزان وأنا مالي» 
تشتت سمير لكنه تيقن اللحظة أن حامد مهووسًا ومجذوبًا مثل عبود، زعق سمير وهو يخلّص نفسه من قبضة حامد الفولاذية «كان من بجية أهلك» 
قبل أن يلكمه ويُجهز عليه ضربًا بقوته قال في عبث ومازالت السخرية قناعًا يضعه؛ يزين به أفعاله، والعبث سلاحًا في وجه أعدائه «لاااه بس مجانين زي بعض» ختم قوله بضحكة مستمتعة. قبل أن يبدأ معركة نهايتها محسومة. 
انتهى حامد من ضربه دون أن يتدخل أحد لمنعه اكتفوا بالمشاهدة وبعض الهمهمات المعترضة التي تُسكّن ضمائرهم، وضع حامد قدمه فوق صدر سمير ثم جذب كوب الشاي وارتشف منه بصوت تناغم مع أنّات سمير، لكن سرعان ما بصق ما ارتشفه «مبحبش الشاي بارد، ولا من غير قرنفل » 
ثم نظر لوجه سمير وابتسم بتشفي واستحسان لتلك الخريطة التي رسمها على وجهه وقال وهو يسكب بقايا الكوب فوق فم سمير «خد الشاي بتاعك ماسخ ومعجبنيش والله ما أنا شاربه أنت أولى بحقك» 
شهق سمير من المباغتة وحرّك رأسه يتفادى الشاي المسكوب، فابتسم حامد ورفع قدمه من على صدره وانحنى يحذره بشرّ ونظرات تألقت بالغضب «متجربش منه لا بخير ولا شر يا سمير عشان المرة الجاية هطفحك بدل الشاي تراب» 
انسحب حامد بعدها مدندًنا يختتم أبياته بقوله منسجمًا
«وإذا سُقِيتُ الوُدَّ فِضتُ مَودّةً
وازدَدتُ أَخلاقًا إلى أخلاقي» 
****************
في اليوم التالي ظُهرًا 
وقف على عتبات المنزل يطلق نظراته في الأجواء، ضيّق عينيه فوق جسد نحيل  يخطو فوق الأرض الحارة ممسكًا بقفة مصنوعة من الخوص،يتململ في مشيته من شدة حرارة الأرض وسخونتها تمتم حامد بحزن أبيات للشافعي
«يمشي الفقير وكل شيء ضده
                  والناس تُغلق دونه أبوابها» 

4




                
عرف هويتها حين دقق النظر فناداها بضيق متأثرًا برؤيتها تعاني «رأفة بت يا رأفة» 
جاءته راكضة تُلبي ندائه بحماس وهمّة عالية بعدما وجدت في ندائه إنقاذًا لها وراحة لها من عناء الطريق ، ركنت قفتها ووقفت أمامه تلهث رفعت كفها ومسحت عرقها المتصفد فوق جبهتها الصغيرة  «أيوة يا عم حامد عايز حاجة؟» ابتسم بحنو قبل أن يسألها مترفقًا بها أولًا قبل توبيخها وتقريعها «خدي نفسك يا بابا الأول» طلبت بابتسامة مزقها الإرهاق وهي ترمي نظراتها داخل المنزل تجاه وزير المياه البارد «ممكن شوية مية يا عم حامد؟» مررت لسانها فوق شفتيها بظمأ فدخل المنزل فورًا وجاء لها بكوب ماء بارد، منحه لها برفق فتجرعته بعطش شديد، تحت نظراته التي تحيطها بالعناية  منحته الكوب وهي تمسح فمها بكم جلبابها القديم متلذذة بطعم المياه  «ميتكم حلوة جوي، هي فيها إيه؟» 
ابتسم بحنو قبل أن يسألها بضيق «جوليلي الأول إيه مطلّعك في القيلة«الحر الشديد» كِده يا بت؟  مش نبهت عليكي متطلعيش غير في العصر أو الصبح» 
نظرت لقفتها قائلة بحزن وخيبة كبيرة على من في مثل عمرها «والله يا عم حامد من الصبح ألفّ ومبعتش غير ربطتين كزبرة وربطتين جرجير» 
أشفق عليها وارتجف خافقه من خيبتها، تنهد قائلًا بابتسامة محتويًا خيبتها بدفء مشاعره وصدقها «هاتيهم وروّحي» 
سألته وهي تربط حجابها القديم وتعقده حول وجهها المتصبب عرقًا «هتعمل بيهم ايه؟  دول دبلوا يا عم» 
قال وهو يُخرج من جيبه نقودًا ثمنًا لهم «عايزهم يا رأفة» 
ضيقت عينيها قليلًا على ملامحه بتفكير فابتسم قائلًا بحنان يأسر الأفئدة « روّحي يا بابا من الحر ومتطلعيش النهاردة تاني» 
تناولت منه المال وصمتت فقال وهو يركن القفة جانبًا « سبيها هِنا و تعالي أوصلك» 
خلعت حذائها القديم المهترىء ورفعته تنظر لثقوبه بإستياء وقلة حيلة وهي تقول بملل «هروّح لوحدي» 
سحب باب المنزل خلفه مستعدًا لمرافقتها «كده كده رايح الدكان أجيب شاي وسكر» 
رمت الحذاء المتهالك أرضًا وارتدته مستسلمة بعدما قلّبته بين كفيها بيأس  «ماشي يا عم حامد» 
وفي الطريق وقف أمام دُكان صغير لبيع الحلوى وأوقفها جواره، اشترى لها المثلجات والعصائر الباردة ومنحهم لها، فرفضت بضيق وامتنعت في حرج  شجعها وأغراها بأخذهم قائلًا «ابجا جبيلي كل يوم ربطتين جرجير وكزبرة بتمنهم» 
صمتت متحيرة تفكر بجدية ونظراتها لا تبرح الحلوى، لكن سرعان ما حسمت قرارها وجذبتهم من بين كفيه في لهفة وسرعة موافقة على اقتراحه الذي لاقى بنفسها قبولًا وصدى«ماشي» ركضت بعدها لبيتها سعيدة
سأله البائع بعدما تابع بفضول ما حدث 
«أنت دفعتلها ليه البت المكلومة دي، ما طول النهار تبيع هي وأبوها في الخضرة» 
حدّق فيه حامد لثواني قبل أن يتمتم ببقية أبيات الشافعي وهو يحك ذقنه 
«وتراه ممقوتاً وليس بمذنبٍ
                  ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأته مقبلاً
                   نبحت عليه وكشرت أنيابها» 
تناول حامد بعض المثلجات لولده والمقرمشات وهو يسأله بجدية كاذبة 
«مناخيرك فين يا عم سيد مشيفهاش فوشك» 
تفحص الرجل وجهه باحثًا عنها ممتعضًا من مزاحه يقول بضيق «فوشي يا أستاذ حامد» 
مال فم حامد بابتسامة قاسية وهو يُجيبه بتهكم وسخرية أغضبت الأخر «أمال أنا شايفها فحياة الناس ليه؟» 
لوى الرجل فمه ضائقًا، فقال حامد بنظرة حادة وتهديد مبطن «حرّص عليها لا تصحى متلاقيهاش فيوم» 
رمى كلماته ونقده ثمن المثلجات واستدارعائدًا من حيث أتى وعلى ثغره تتألق ابتسامة عابثة مدندنًا  

1



        

          

                
عليّ نحت القوافي من معادنها
                     وما عليّ إذا لم تفهم البقر
*******
♡في القاهرة داخل مطعم حمزة♡
انعزل رؤوف في ركن هادىء بعيد عن الأعين يقلّب الأوراق باهتمام وجدية وانشغال تام. بعد قليل رفع نظراته ودار بها في المكان متأففًا من كثرة العمل وإرهاقه… لمحها تتمايل واضعة الحلوى داخل فمها، نهض تاركًا مقعده منجذبًا لها، اقترب منها 
وهبط لمستواها على ركبتيه يحيط كتفيها بكفيه بلطف ورقة زائدة  يسألها بحنان مؤثر «اسمك إيه؟ » 
أجابت بدلال وهي تميل مبتسمة تلفظ اسمها،مطوقةً حروفه بالحب الذي ورثته للاسم «اسمي ورد» 
ابتسم بسعادة وهو يخبرها بإعجابه بينما أنامله ترتفع لتزيح غرتها الكثيفة جانبًا «حلو اسمك، مين أبوكي؟»
أجابته بغرور طفولي وفخر وهي تهز كتفها بحركة مستنكرة سؤاله «مش عارفني أنا ورد حمزة عبد الحكيم عامر» قالتها بفخر وهي ترفع ذقنها للأعلى بشموخ
فقهقه رؤوف بسعادة قبل أن يثني عليها في مودة  «ماشاء الله يا مُرحب بحلوة الحلوين وأميرتهم كلهم» 
ضحكت بجزل لإطرائه المحبب الذي أرضى غرورها، فمال ولثم رأسها سائلًا بنظرة لامعة «وأنتِ يابت الشيف جايه ليه مع أبوكي هنا» 
أشارت إليه ليقترب وهمست في أذنه بسرها الخطير «سكنه خايفه عليه فبعتتني أخُد بالي منه وأراقبه» 
قهقه رؤوف باستمتاع وإعجاب يتضافر مع حب كبير ينبت داخله للصغيرة اللذيذة 
«جميلة أنتِ يا ورد» 
قالت بغرور وهي تقفز لتجلس فوق كرسيه «عارفة حمزاوي بيقولي كده دايما» 
جلس رؤوف أمامها مُقرّبًا كرسيه من كرسيها مستمتعًا بمحاورتها، جاء حمزة مُرحبًا به في لطف ومودة «ازيك يا متر نورتنا والله، يارب ورد متزعجكش» 
داعب رؤوف خصلاتها ونظراته تفيض حنانًا ورقة «ياريت كل الإزعاج كِده والله ربنا يخليهالك» 
فرد حمزة ذراعيه مبتسمًا يدعوها لأحضانه «يلا علشان عمو بيحب يشتغل فهدوء» 
توسله رؤوف بحنان طاغي وهو ينظر إليها «سبهالي يا حمزة مفيش إزعاج» 
تردد حمزة قليلا واهتزت نظراته لكنه وافق على الفور لمعرفته بحب روؤف للأطفال وتعلقه الشديد بهم،خاصة وأن صغيرته تأخذ القلب وتسرقه من أول نظرة، هتف حمزة بخوف أبوي «خلي بالك منها طيب» ثم أوصاها «متزعجيش عمو» 
وافقت الصغيرة وهي تبتسم له بمكر يعشقه، فابتسم وهو يعرف اجابتها جيدًا فتلك الصغيرة قطعة مصغرة من سكنه، هزة حاجبها الآن تُعلن التمرد عليه وعدم الموافقة وإن نطقت بها في أدب «حاضر بس ابعتلي أيس كريم ولما يجي عمو جلال ناديني» 
قرص حمزة وجنتها قائلًا «عمو جلال أصلًا يجدر يجي هِنا وميشوفكيش دي القيامة تجوم» 
استأذن حمزة وغادر بينما جلس رؤوف أمامها يتابعها ويستمع إليها بإنصات واهتمام، يشاركها الحديث ويتحاور معها حتى نهض مُودّعًا، جاء حمزة واستلمها منه ورحل رؤوف الذي وقف حين نادت الصغيرة «مقولتليش اسمك ايه يا عمو» 
استدار بابتسامة فأجاب حمزة بدلًا منه «عمك رؤوف يا ورد» 
ابتسم رؤوف يؤكد القول «رؤوف يا أميرة الحلوين» 
أشارت له ملوحة بوداع حار وقبلات متعلقة في طرف كفيها وهي تخبره «هتوحشني يا عمو» ختمت قلبها بقلب صغير صنعته له بأناملها الصغيرة. 
ضربها حمزة على مؤخرة رأسها موبخًا «القاصي والداني أنت ِ وأمك تجولوله وحشتني وهتوحشني، مفيش أنا حبيتك كمان؟» 
هزت كتفيها قائلة «عادي أنا حبيته ويلا جبلي آيس كريم علشان مقولش لسكنك إنك اتصورت مع بنات حلوين يا حموزتها» 
دغدغها حمزة حتى انطلقت ضحكاتها تجذب رواد المطعم ثم حملها فوق كتفيه وسار بها ناحية المكتب قائلا «ماشي يا بت سكن بتأدبوني هي في البيت وأنتِ براه ربنا يعيني على لسانك ولسان أمك»
*********
«بمنزل رؤوف في القاهرة » 
وقف رؤوف في الشُرفة منشغل البال، شارد الذهن وفارغ القلب ينظر حوله بغير هدى، لا نقطة تجمع نظراته ولا شيء يستحق أن يقف عليه متأملًا، جاءه يونس حاملًا كوب النسكافية ممازحًا له «اتفضل يا سي رؤوف أي خدمة تاني» 
تطلّع إليه رؤوف مستغفرًا بحنق قبل أن يتناوله ويركن لصمت خانق قطعه صوت رنين هاتفه، جلس يونس أمامه يستمع وهو يُجيب بابتسامة تتقمص دور السعادة ونبرة مختنقة بحبال الملل 
«أيوة يا آيات إزيك» 
أجابته بنبرة مهتزة، مهترئة بالتردد «ازيك يا رؤوف عامل إيه؟» 
أجابها وهو يتكيء بظهره للكرسي «الحمدلله أخبارك إيه وأهلك عاملين إيه؟» 
أجابته وهي تطرد نفسًا حار مصاب بحمى الاضطراب «تمام بخير» 
صمتت كثيرًا فصبر منتظرًا جودها وعطائها من الكلمات،بينما ينظر إليه يونس رافعًا حاجبه يضرب كفًا بكف مغمغمًا بكلمات غير مفهومة، لكن رؤوف وجّه إليه نظرات صاعقة جعلته يصمت مبتلعًا سخافاته «رؤوف ينفع أزور خالتي؟» 
مال فمه بشبه ابتسامة كسولة ثقيلة في الظهور،تتراقص فوق فمه عند الحاجة وليصل إليها ترحيبه بالأمر عبر نبرته الودودة«تمام يا آيات مفيش مشكلة وسلمي عليها» 
تصنعت السعادة، سكبت الرضا في نبرتها وهي تشكره «شكرًا يا رؤوف» 
هتف يونس مستاءً «إيه؟  فين وحشتيني وبحبك وصوتك وحشني، ولا دا غزل من الماضي الجميل؟» 
تأفف رؤوف زاجرًا له بنظراته، لكنه تابع «إيه معدش فيه؟  الحب خلاص بجا عملة نادرة بين الأزواج؟» 
ابتسمت آيات بمرارة أصبحت عالقة بأيامها كالعلك وهي تستمع لكلمات يونس التي لا تجد فيها مرفأ أمان ولا شاطىء طمأنينة، بل تائهة في مركب مثقوب ألقت بمجاديفه في البحر يأتيها الحزن من كل مكان لا هي بميتة ولا حية. 
سألها رؤوف بشيء من حنو ورفق «محتاجة حاجة يا آيات من هِنا؟» 
قالت بزهد وهي ترسم بإبهامها فوق الأريكة المتربعة فوقها دوائر وهمية متداخلة «لا تسلم وتعيش يا رؤوف» 
صاح يونس ممتعضًا يعاتبها «يابت اطلبي حد لاحق؟! فلوس المتر كتيرة» 
دعت له متصنعة البهجة في الكلمات والحروف «ربنا يخليه لينا هو مش مخليني محتاجة حاجة» 
أنهى رؤوف العبث الدائر «ماشي يا آيات لما ترجعي كلميني» 
عاد بنظراته النارية ليونس الذي نهض قائلًا« احمينا يارب» 
***************
في منزل والد آيات سألتها أختها التي استمعت للمحادثة «هتروحي بردك يا آيات؟» 
مسحت آيات دموعها المسترسلة بوجع وحزن كامن بين ضلوعها وقالت بإصرار وعزم لا يلين «أيوة بجالي كَتير مشوفتهاش واتوحشتها» 
وضعت كفها موضع قلبها المُعذب وقالت «مش عايزة أتحرم من شوفتها» 
أشفقت عليها أختها من عذاب الضمير وقالت بربتة حانية «خلاص روحي بس اتحملي الي يجيكي من بت خالتك» 
قطع حديثهما دخول والدها طارقًا بعصاه، جلس أمامهما فوق أريكة بسيطة فاعتدلت آيات ومسحت دموعها بسرعة وشددت من وضع الحجاب على خصلاتها تخفيهم بأدب تعودت عليه 
«كيفك يا آيات وكيف جوزك وناسه؟»
أجابته بخفوت ووهن ينخر العظام «بخير يا أبوي» 
سألها بنظرة حادة متفحصة وهو يطرق بعصاه طرقة تحذيرية حازمة «مالك؟  أوعي تكوني زمقانه؟» 
هزت رأسها برفض قاطع «لاه» 
عاد يسألها بجفاء وهو يرمقها بقسوة «أُمال مش عوايدك يعني تيجي وتطوّلي ؟» 
قالت وهي تخفض نظراتها بعجزٍ وحزن وقلة حيلة هاربة من قسوته نافرة من جفائه الذي يضرب عمق قلبها  «رؤوف في مصر وجولت أجي أجعد مع أمي شوية» 
أشاح قائلًا بإمتعاض «ماشي تنوري» 
جاءت والدتها وجلست فرمى لها إشارة بسؤاله الذي خجل من نطقه فهزت رأسها بالرفض، مما جعله يتنهد بحسرة مستفسرًا «بيجولوا جوزك اشترى فدان في الأرض القبليه؟» 
أجابته بسرعة تخفي عنه امتعاضها من السؤال وفضوله الذي سيختتمه بوصلة توبيخ «معرفش رؤوف مبيحكليش حاجة» نهض والدها قائلًا بضيق «ماشي خليكي كده زي خيبتها لا عارفة حاجة ولا جادرة تجبيلك حتة عيل » 
عضت شفتيها تحاول السيطرة على شهقات بكائها، تحبس عنه انكسارها وتقيّد حزنها بالثبات، خرج من الحجرة دافعًا الباب بغضب ناري بينما غطت آيات وجهها بكفيها منتحبة، مرتعبة من زيارة خالتها تخشى العواقب  ومتعذبة بكلمات والدها الثقيلة على النفس التي يرميها بها كلما رآها هنا حتى كرهت المجيء وانقطعت عن زيارتهم، لكن نفسها تسللت في غفلة مُطالبة بشربة من ماضٍ نصفه بارد يرطب على قلبها ونصفه حار يهري كبدها.. ضمتها أختها بحنو بينما انسحبت والدتها خلف زوجها الذي أكمل الحديث زاعقًا ولم تملك زوجته ردعه أو إيقاف كلماته المسمومة
«سايبه العز وجاية؟ بتك فجرية وخايبة» 
«يا خوفي تطلع عاجر ومبتخلفش» 
نهضت تكتم شهقاتها بباطن كفها، ركضت للحجرة القريبة التي ما إن دخلتها حتى حررت شهقاتها ووجعها، وارتمت فوق الفِراش تدفن وجهها في وسادتها باكية بحرقة عظيمة 
******
صباحًا في قنا 
قبل وصولها لمنزل خالتها وقفت متأملة مازال بابه مفتوح على مصراعيه للجميع من يريدهم يدخل وينادي في بهوه الواسع المكشوف
التقطت أنفاسها وبعدها دخلت مرتجفة، تتطلع حولها برهبة، تلملم الشجن في نظراتها وتسكبه في كل ركن وزاوية من زوايا المنزل العتيق قديم الطراز، تطارد أشباحًا من ذكريات فتدور نظراتها في المكان بغير هدى ومرسى، ثبتت جسدها ممسكة بحافة كرسي عتيق تستمد من ثباته القوة والصلابة قبل أن تبدأ وصلة أخرى من جلد الذات بالذكريات والماضي وآثامه. 
فتحت عينيها منتفضة الجسد، مرتجفة الخافق الذي يئن الآن بحسرة حين استمعت شهقة غليظة منفلتة واستنكار حجته باطله «وه يا حزينة وجاية برچلك» 
ارتجف جسد آيات وتسلقت نظراتها جدار الرهبة الفاصل بين قلبها وعقلها، حملقت في الأخرى متوسلة بدموع متكدسة، لكن الأخرى انتفضت متحفزة كمن  رأى شيطانًا فُكّ من قيوده وجاء يطلب الغفران ، في نظراتها أهوال من الماضي ولهيب لذكرى جيفتها مُلقاه على قارعة طريق الحزن للمارة ، اندفعت في هجوم وغضب، دفعتها للحائط في مباغتة وهي تصرخ  «جاية ليه يا وش الشوم» 
كتمت آيات شهقاتها وابتلعتها؛ لتُجيب بتماسك هش ونظرات مكتظة بالدموع الغزيرة«خليني أشوف خالتي» 
كان جواب قولها لطمة قوية ممتزجة بشهقة منفلتة لآيات التي وضعت كفها على خدها محتفظة بالتأثير تاركةً له يتغلغل ليؤدي في قلبها صلاة جنازة لا تنتهي ولا يُغلق سرادق العزاء فيها.
صرخت الأخرى بتجبر «خالتك جولتلك اعتبريها ماتت ومتعتبيش هِنا تاني» 
توسلتها آيات بدموع حارقة وهي تتشبث بحافة الكرسي «والنبي يا هالة خليني اطمن عليها وأشوفها» 
دفعتها هالة من كتفها زاعقة «امشي يا آيات متجبيش لنفسك الأذى» 
بكت آيات ترجوها بضعف وانهزام «وحيات الغاليين يا هالة ورحمة أبوكي» 
زعقت هالة بنفاذ صبر وهي تضرب رأس الأخرى بغضب «امشي عشان الي هعمله مش هيلدّ على ناسك وأنا منجصاش» 
استمرت آيات في توسلها، مما جعل هالة تتأفف بضيق وإنزاعاج من زنها وإلحاحها البغيض ثم تمسك بذراعها وتسحبها لخارج المنزل دافعة لجسدها ناحية الشارع مُهددة «متجيش تاني لو جيتي هروح لناسك وأخرب عليكي يا آيات» 
نظرت آيات إليها نظرة طويلة قطعتها هالة بإغلاقها القوي لباب المنزل، احتوت آيات ارتجافة جسدها ولملمت خزيها بين جوانح مشاعرها وتحركت في ثبات عائدة لمنزل زوجها لو عادت وعرِف والدها ستنال منه ما لن تستطع تحمله ولا مواجهة رؤوف به، الذي قد يحيل حياة الجميع جحيمًا إن اقترب أحد من شيئًا يخصه. 
***********
القاهرة «صباحًا» 
دخل طاهر المشتل يصفق بكفيه ينادي مرة ويطلق بفمه صفيرًا مرة وهو يوزع نظراته في مشتلها مفتشًا عنها منتظرًا طلتها بأناقة  ، قطعت ندائه بضحكتها الناعمة وتلبيتها «أنا هِنا تعالى يا طاهر» 
وجدها تجلس أرضًا متربعة أمام بعض الورود، سألها بحاجبين ملتصقين في حيرة «بتعملي إيه يا هندسة؟»
ضحكت برقة وهي تخبره بصدق «بحكيلهم حكايات» 
هز رأسه بيأس، فأشارت له «اتفضل اقعد يا طاهر» 
جلس بالقرب منها فوق صندوق خشبي فقالت وهي تضم ورودًا حمراء لحضنها «عارف يا طاهر بتفاءل بالكلام معاهم، ولامرة حكيت أُمنية إلا واتحققت» 
همهم طاهر بعدما استمع بإهتمام وإصغاء لحديثها البريء «أمممم، طيب أنا عندي أُمنية تفتكري لو جولتهالهم تتحقق» 
طالعته قائلة بنصف نظرة وابتسامة رقيقة «اتمنى، بس تقولهالي الأول» 
تنهد طاهر قائلًا بشرود «هي مش ليا يا غزل هي لحد بحبه ومعنديش أغلى منه» 
انتبهت له تاركة ورودها تسأله بفضول «لمين؟» 
نظر إليها نظرة خاطفة ثم أخفض بصره في تأدب وقال «لأخويا»
اتسعت ابتسامة غزل وتأثرت بملامحه المتلونة بالشجن والصدق،بينما تابع طاهر «نفسي يبطّل يشيل همنا وياخد باله من صحته وحياته، نفسي يرتاح» 
تأثرت بقوله ومشاعره اللطيفة الصادقة وقالت في إعجاب «قلبك حلو يا طاهر زي الزرع» 
ضم شفتيه في خجل قبل أن يصارحها «هو علمنا كيف جلبنا يبجى حلو» 
قالت بإندفاع تخبره بما جال في خاطرها اللحظة «مبسوطة إني عرفتك يا طاهر» حمحم في خجل وأدب وهو يغضّ بصره عنها فضحكت برقة وقالت «عندي فضول أشوف مامتك بجد، مشوفتش حد متربي كدا فحياتي» 
قال طاهر بجدية «لو توافجي من بكرة عربية تيجي تاخدك وتوصّلك لجنا تجعدي معززة مكرمة فبيتنا كيف ما تحبي» 
شكرته بحرارة وهي تعاود النظر لورودها «شكرًا كتير يا طاهر عارفة إنك أدها» 
نهضت غزل واقفة تتجول في المكان معاتبة له تلومه «طاهر أنا خايفة عليك من المقال الي نزلته امبارح» 
تنهد قائلًا وهو ينهض من جلسته «خير بإذن الله» 
قالت بجدية ولهجة منفعلة «طاهر بلاش السياسة علشان متتأذيش»
ضحك قائلًا بلا مبالاة «ربنا الحافظ» 
تأففت قائلة بغيظ وخوف صادق حقيقي نبع من مودتها له «طاهر اسمع الكلام» 
ضحك هو تلك المرة قائلًا وهو يستعد للإنسحاب والمغادرة «فكرتيني بالغايب يا هندسة» 
قطبت تسأله وهي تراقب استعداده للرحيل «مين دا كمان يا برميل الشجن أنت» 
ضحك قائلًا «واحد حبيبي تملي غايب وسايبنا مشتاجين ليه» وقف يسألها  بتردد  وقد تذكر شيئًا«غزل في دار أيتام كانوا عايزين حد للحديقة يزرعها وكده» ثم صمت مترددًا فسألته «ها وبعدين؟» 
حك فروته قائلًا بحرج وابتسامة خجول «مش متأكد فيها فلوس ولا لا؟» 
ابتسمت تطمئنه ثم قالت متحمسة «هات العنوان ومتشيلش هم» 
صمت مضطرب الخواطر والأفكار فحثته بمرحها ومزاحها « ما تجيب يا واد عمي العنوان ولا هنتحايلوا عليك كَتير؟» 
ابتسم ابتسامة واسعة زادته جاذبية ووسامة وهو يشاركها الحماس والمزاح «ماشي يا بت عمي شرفيني بجا هناك» 
********
«القاهرة» 
في حديقة الدار وقف مُعجبًا بإلانجاز السريع، والهمّة الشديدة وحسن العمل، سحب هاتفه وأرسل رسالة صوتية لطاهر يُثني على فعلها ويشيد به «طاهر البشمهندسة هايلة» وصلته الرسالة فابتسم وردّها «عيب عليك» شرد طاهر قليلًا ثم أرسل له «عارف إنها هايلة» 
أعاد رؤوف هاتفه لجيب بنطاله واندفع يرحّب بمجيء أصدقائه ومعاونيه بسلام حار ومودة نابعة من القلب بصفاء لا تتلطخ بشبهة رياء أو تصنّع 
*ازيك يا جلال 
*ازيك يا حمزة 
انتهى سريعًا وانحنى جالسًا على ركبة واحدة يرحب بالصغيرة المُدللة «أميرة الحلوين ازيك؟» 
أخفضت نضارة الشمس خاصتها تتأمله قبل أن تبتسم وتُجيبه «ازيك يا عمو وحشتني» 
جز حمز على أسنانه بغيظ وحنق متوعدًا لها في سره فأحسّت الصغيرة باضطراب وقفته مما دفعها لترفع إليه نظراتها مُحركة حاجبها كإغاظة له، صمت رؤوف يتابعها بابتسامة واسعة وضحكة انفلتت حين أخرجت الصغيرة لسانها وعادت إليه مؤكدة «وحشتني يا عمو» 
فرد رؤوف كفه ينتظر جودها قائلًا «تعالي يا أميرة الحلوين» 
أثنى حمزة على التطور الواضح للحديقة وتبدل حالها والنباتات المزروعة فسار جوار جلال يتأمل التغييرات بينما سحب رؤوف الصغيرة بعدما استئذان والدها. 
تحركت جواره في دلال لا يليق بسواها، وقفت مكانها رافضة التحرك فانحنى يسألها «ايه؟» 
ابتسمت قائلة وهي تشير له بكفيها لينحني «هقولك سر يا عمو» 
منحها رؤوف أُذنه فهمست فيها بما جعل ملامحه تتبدل كليًا بالعديد من المشاعر المختلطة والمبهمة. 
*****************
جلس الثلاث رجال متحلقين حول الطعام مثرثرين ، تتأرجح أحاديثهم ما بين المزحات الرائقة والنقاش الجاد، استأذنت الصغيرة والدها لتلعب فتردد قليلًا ورفض أن تبتعد عن أحضانه أو تختفي عن نظراته، لكن رؤوف شجعه «سيبها الدنيا أمان» 
تردد حمزة بقلق لا يعرف مصدره، لكن رؤوف استمر في تشجيعه لتركها تلعب مع الصغار «سيبها متخافش عليها» 
حررها حمزة ومازال خافقه يضرب بنبضات القلق والخوف، تركها محاوطًا لها بنظراته مراعيًا لها من بعيد مما جعل رؤوف يبتسم داعيًا له فصديقه يستحق السعادة والراحة بعد كل هذا العناء.
بعد مرور مدة صرخ الجميع 
«حريقة، حريقة» 
انتفض راكضين بفزع ورعب  تجاه المبنى ، تركهم حمزة بحثًا عن فتاته لكنه لم يجدها في محيطه مما جعله يهتف لصديقيه بجنون «ورد فين؟» 
جاءتهم المُشرفة راكضة وقفت أمامهم
تسلب أنفاسها سلبًا باهتزاز وهي تخبرهم بتقطع «الحريقة في المطبخ» 
سأل رؤوف بجدية وغضب «في أطفال هناك؟» 
أجابت بخوف وارتجاف وهي ترطب حلقها بعدما جف من هول المصيبة «المهندسة الزراعية وشوية من الولاد هناك» 
صرخ حمزة بالمشرفة التي يعرفها حق المعرفة «ورد هناك؟» 
هزت رأسها بالموافقة والرعب يتملكها من ملامح حمزة ،استدار حمزة ضاغطًا رأسه بقوة من هول المصيبة ينادي اسمها بجزع «ورد»
سبقه رؤوف مقتحمًا الخطر، تسلل بين النيران غير عابيء أو مهتم كل ما يشغله الأطفال وكيفية إنقاذهم، نظر حوله لا يعرف متى ولا كيف اشتعلت وأصبحت بكل تلك الحدة والجوع الذي يجعلها تلتهم كل شيء في سرعة وانتقام.. اختلط ماضيه بحاضره، امتزج كالسم في كوب عصير ليس له طعم... نظر حوله مُفتشًا فوجد قطعة قماش سحبها ولفها حول كفه خوفًا من أن تخونه خاصة مع اقتحامه قلاع الماضي الآن.. التقط أنفاسه وقفز وسط النيران لا يعرف ما القادم لكن لا يعنيه. 
خلفه كان حمزة وجلال يفعلان مثله تمامًا 
وقفت غزل حائرة ورقعة النيران حولها تتسع ومكانها الآمن يتقلص، تدور حاملة بين ذراعيها صغيرة باكية تنادي باستغاثة «حمزة.. يا حمزة» 
خلعت غزل الجاكيت الخاص بها ولفّت به جسد الصغيرة في حماية، ضمتها متشبثة بها تحميها من ألسنة اللهب وتجهّم النيران في وجهيهما،تمنح جسدها هي للهب خوفًا على الصغيرة ،تُقدّم جلدها قربانًا لتكف الأذى عن طفلة بريئة .. ظلت مكانها تدور باحثة عن مخرج حتى رأت من يقتحم النيران فاردًا حوله دثار ثقيل منحت له الصغيرة مرتاحة الضمير راضية ومستسلمة لقدرها، سقطت غزل بعدها فاقدة للوعي حطبًا لنيران ثائرة. 
***********
انتهى

+



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close