رواية عزف السواقي الفصل التاسع 9 بقلم عائشة حسين
التاسع
+
♡رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا♡
خفق قلبه بجنون لا يكاد يميز صوت دقاته المتسارعة من صوت أنفاسه العالية وهو يسأل بارتجاف «الواد مات يا طاهر؟» سقط قلبه مُحطمًا متناثرًا في الأحشاء، صرخ فيه بقوة وهو يقف على حافة الجنون والإنهيار «جولتلك جبله دكاترة يا طاهر، جولتلك متسبوش»
تماسك طاهر يحاول تهدأته، متفهمًا لمعاناته وكيف لا وقد أخذ الصغير قلبه، وشعر بالشفقة تجاهه حد الهلاك «سبحانه من له الدوام يا أخوي»
أغمض عينيه يُعذب نفسه بالصور والهمس، ضحكة الصغير تعاود الطفو داخله، يسمعها يسمع ندائه عليه واستغاثته به، يتعذب ويتلوى قلبه في وجع فاق الحد، تتضافر الكلمات وتتداخل تتردد دون توقف تضرب جدران الروح وتهز الكيان، تختلط كلمات آيات تمتزج مع نداء الصغير وضحكته، يخطو أمامه بقدمه الصغيرة بل يخطو فوق قلبه لا يستطيع التمييز، يعلو الضجيج ومعه ضحكة الصغير؛ كفه الصغيرة تتحرك ممسكة بشرايينه، تعتصر وتدمي فتغوص أنفاسه، يضحك الصغير ضحكة تسبق قول آيات ورفضها الذي يطنّ بأذنه، يركض حوله مناديًا «بابا» كأنما يريد النجاة به من ظلم البشر.. ضغط على رأسه متألمًا بعدما ارتجف كفه وسقط هاتفه، عقله يذوب في ماء فائر شديد الحرارة يتلاشى به ثم يتبخر، تحرك مترنحًا الألم يستبيحه في قسوة ويسيطر في دناءة، الصغير يبكي يتوسل وينطق باستجداء «بابا»
ثم يختفى، يتلاشى، ويغرق هو، يسقط في هوّة سحيقة مظلمة لا يسمع فيها سوى صدى رفض آيات.. ثم تتداخل الأصوات من جديد ويظهر همس جديد ناعم يسحبه للنور «متسبنيش»
انتفض يتصبب عرقًا، لا يعرف متى جاء لخلوته ولا كيف سقط أرضًا، نظر حوله بتيه قبل أن ينهض ممسكًا بكفه، يبحث عن دوائه، الأشياء تقع وتتناثر من حوله كما أفكاره، تناول منه بعشوائية وارتمى فوق الأريكة يلتقط أنفاسه، سيحرر دموعه ربما ينجو، بعض العذاب يحتاج قربًا من الروح لتهدأ ثورته، وقربانه هو كان دمعة وحيدة وعزيزة وهمّس خافت «حجك عليا يا بابا من الدنيا وأهلها»
أغمض عينيه واسترخى ممددًا جسده فوق الأريكة حتى غفى.
استيقظ على صوت أذان الفجر، نهض جالسًا يستغفر ثم تحرك للمرحاض وتوضأ، افترش سجادته بالخارج وأقام الصلاة.. سجد طويلًا متمنيًا أن تفارقه الروح بهذا الوضع، أغمض عينيه وصمت مبعثر، تائه.. الكلمات تصطف داخله ولا تخرج، تقف على الأعتاب منتظرة ثم تُنحر.. يحاول فيختنق بالأحرف، تصنع الحروف طوقًا يلتف حول عنقه يخنقه، فيتنفس طويلًا بعمق ليهدأ.. لم يعد يدري ماذا يقول؟ النفس متشبعة بالمرارة ولا شمس أمل تشرق فتزيح الظلام، كيانه معتم يتحرك فيه بلا بصر أو بصيره، الطرق مسدودة والأبواب موصدة.. ولا دليل.. بكى، أبرق الألم ورعد فهطلت دموعه غزيرة، لم يتوقف مع كل دمعة كان يبوح ويفصح عما يتعبه، انفكت عقدة لسانه فباح بما يضيّق صدره وما التبس من أمره.
طلب العون والسداد وتوسل الراحة.
شكى له فاستراح، أنبت المطر داخله الراحة وسقاها فهدأت نفسه الثائرة، اعتدل راكعًا ينظر للسماء رافعًا كفيه في ذل وخضنوع..
أفاق من سكرته، على كف يتسلل لكتفه
التفت فالتقت عينيه بعيني والدته الحزينة
انتفض معتدلًا يسألها بحنان لا يتأثر بغدر ولا ينطفى بوهن «إيه طلّعك يا حبيبتي هِنا»
جلست لاهثة تضع كفها موضع قلبها موضحة بابتسامة أذابت حزنه «جيت أشوفك»
أمسك بكفها وضمه بين كفيه قائلًا «لو بعتيلي كنت جيتك»
أوضحت بقلق زاحم وسيطر على كل التعب «جومت من النوم جلجانة عليك معرفش ليه ولقيت رجليا جيباني هِنا»
قبّل كفها بحنوٍ وتقدير فالتقطت أنفاسها ونظرت إليه مليًا بعمق وهي تستفسر «مالك يا ولدي؟»
طأطأ رأسه بصمت مزقه وقال بوجع سيطر واستباح النفس وهزم الكيان «جلبي مشجوج شج يا أما» ارتجف قلبها وانتفضت قائلة بلهفة «بعيد الشر عنك يا حبيبي حصل إيه؟»
سقطت نظراته فوق كفها مترددًا في البوح ويخشاه، لكنه لا يستطيع الكتم، سيموت مقهورًا إن لم يتحدث تلك المرة، العلّة تُفسد الروح، الغدر سكينًا في الحشا يمزق... تنهد بإستسلام قبل أن يبوح بما كتمه ويحكي لها بإستفاضة.
مكث في خلوته ثلاثة أيام، وحده بأفكاره ونزاعاته، مكتفيًا زاهدًا لا يرغب في شيء، كتم نزيف روحه بالصبر وانتظر حتى يلتئم،عالجه باليقين وحسن الظن حتى لا يتقيح أو ينفتح... الجميع قلق عليه، طاهر يحاول مهاتفته ويونس، لكنه في كل مرة يطلب منهما أن يتركانه وحده..
تصعد عمته فيصمت ويترك لتنهيداته البوح ولعينيه الحزينة حرية التعبير عما يجيش داخله.. صائم يفطر على تمر ولا يبرح سجادته حتى يقضي الله في أمر قلبه ويفتيه في حزنه ويرزقه البصيرة.
بعدما استقرت النفس واعتدل ميزانها هبط أخيرًا وفي قراره عين الصواب وقمة النصر، دخل شقته فاستقبلته بابتسامة زائفة وسؤال يلوّثه الرياء.
وقف أمامها واجمًا يتأملها لدقائق مرّ فيهم عمره معها، تتابعت الصور وطفت المشاعر وغاص في القاع مُخرجًا بكفه مخلفاتها في الروح من مواقفها معه وكل المشاعر غير الحميدة التي أحسّ بها يومًا منها، أيام يبحث ويفتش عن سبب لفعلتها، لخديعتها، ماذا فعل لتحرمه؟ ما الجُرم الذي اقترفه بحقها وجعلها تحرمه من زينة الحياة، أي حقد امتلكته له جعلها تحرمه مما يتمناه ويريده،لا حلمه شفع له، ولا صبره، ولا جوده ولا خُلقه ماذا سيشفع إذن؟
لما سيصبر؟... ثلاثة أيام يفتش لها عن عذر ويفتش لنفسه عن سبب يجعله يتحمل بعد الآن ولم يجد.. ضم كفه كأنما يقبض بقوة على باقي العمر المهدور والمبعثر فوق أرصفة الانتظار لها وتقدّم خطوة، هتفت بحدّة وهي تنكمش على ذاتها من نظراته الغريبة والقاتمة ، تلملم ملابسها بكفها وتغلقها على جسدها بحذر «في إيه يا رؤوف؟» لفعلتها الآن مذاق العلقم، ذاب الصدى في الفم فتبخر الهدوء
واجهها بحدّة دون مواربة أو التفاف «بتاخدي منع حمل ليه؟»
انتفضت لا يعرف من وقع المفاجأة أو رفضًا لما يقول واستنكارًا له، ارتبكت«منع حمل إيه؟ منين جبت الكلام دِه؟»
صاح بكل القهر المكتوم والغضب المحبوس «مش عايزة تخلفي مني ليه ؟ بتحرميني ليه من حاجة بتمناها؟ وأنا محرمتكيش من حاجة؟»
ابتلعت ريقها وقالت مُكذبة قوله بغرور «بتتهمني ليه باتهام زي دِه؟ ومين جلك الكلام الفاضي دِه»
سلّط نظراته عليها قبل أن يندفع ناحيتها ويقيد ذراعها صارخًا «هنشوف الكلام الفاضي يا محترمة»
نفضت أنامله عنها وصرخت فيه بغضب ونظرات حارقة وهي تدفعه بعيدًا في نفور«كله دِه علشان تتبنى الواد مش كِده؟ عايز تطلعني غلطانه علشان تعمل الي على كيفك وهواك مش كِده»
تذكر الصغير متوجعًا، أحاطها بنظرة محتقرة ثم صفعها بكل الغضب والقهر المكتوم داخله منها، قبل أن تستوعب فعلته وتطلق بذاءات لسانها كان يهجم عليها مقيدًا كعكة رأسها في انتقام، يسحبها تجاه المطبخ غير عابيء بصراخها ونهرها له، لا يسمع سوى صرخات الصغير وندائه عليه.. منذ أن أعاد الحبوب لمكانها وهو يتابع نقص عددها في أمل أن يكون مخطئًا لكن هيهات، أوقفها أمام الخزانة ثم فتحها وأخرجه منها ملوّحًا به في وجهها المحمر انفعالا وغضبًا «أنا بتبلى صُح؟ بتهمك زور»
صدمتها تجلّت في شهقة مبتورة نصفها التقطه بسرعة ونصفها انحبس في جوفها خوفًا ورعبًا ، خطفته من بين أنامله بسرعة وقلّبته أمام نظراتها ثم قالت بهجوم وانفعال زاد ملامحه شراسة ورصيدها في قلبه نقصًا «أنت شوفت البرشام فخمنت من نفسك وحكمت من غير ما تسألني»
زاد احتقاره لها وتألق نفوره منها، ضغط شفتيه متمنيًا تمزيقها اللحظة، تابعت باكية تتصنع الانهيار، تعاتب بتبجح جلب له الغثيان «دا ظنك فيا يا رؤوف؟»
صرخ بقوة أرعبتها وجعلتها تنكمش على ذاتها «أنتِ إيه؟»
سيطرت على ارتجافتها وواصلت البكاء المرير قائلة «البرشام بتاع هدى كنت بشتريهولها علشان ظروفها المادية والمرة دي نسيته عندي»
صفعها لا يرى أمامه سوى انفراط أيام عمره من بين أنامله وسقوطها تحت أقدام تلك المخادعة، يعيد المواقف على عقله ويحصي الليالي التي تركته فيها وحده غير مهتمة ولا مبالية، سحقت عمره وأمانيه بجبروت ينبت بين جنباته القهر ويدفعه للثأر، انتفضت تشهق ببكاء حار لا يثلج صدره بل يزيده ألمًا ، هي رغم الهزيمة ستخرج منتصرة فائزة وهو مخدوع وخاسر العمر والراحة.
توقف على نداء عمته، تركها بعد أن دفعها ورحل، ركض الدرج حتى امتثل أمامهم فقالت الجدة بعتب حاني متمسكة بالهدوء «كِده يا رؤوف عايز تجبلنا عيّل طب ليه يا ولدي وأنت صلاة النبي عليك بصحتك و تخلف عشرة»
أجاب ومارد الغضب يتلبسه من جديد،يزعق بحنجرة من حديد دون توقف «مكنتش عايز أحرج آيات ولا أجي عليها جولت أجيبه أربيه وأخد الأجر لغاية ما ربنا يكرم»
تعجبوا من غضبه قالت جدته بضجر وصوتها يعلو برفض «واهي آيات مش عايزة ولا لادد عليها ولا عاجبها»
قال ساخرًا بفورة غضب يفصح عما في داخله من لهيب، يشعل الجمر في قلبه من جديد «لازم ميعجبهاش يا جدة ما هي الي مانعة الخلفة بمزاجها وبكيفها كل السنين دي»
استنكرت الجدة قوله وسارعت مستفسرة «واه كيف الكلام دِه»
قال رؤوف بغضب يتصاعد منه كالأبخرة وهو يدور في المكان كالأسد الجريح «الهانم بتستغفلني وبتاخد منع حمل من ورايا ومفهماكم بتتعالج وربنا مرايدش وبتتشكى وتتبكى »
صمتت نجاة بفهم بينما جادلت عمته بحنو كعادتها ملتمسةً الأعذار مشفقة عليه «يمكن بتاخده زي علاج يا ولدي»
قال رؤوف بحدّة وهو يلكم حافة الكرسي «هو مفيش علاج يا عمتي من الأساس ولا دكاترة، هو الي بيتعالج دِه يخبي علاجه؟ ويداريه في المطبخ ليه؟»
صمتت سماسم مستغفرة، بينما هتفت الجدة بصوت عالٍ بغير رضى وسخط «أمال جايبينها ليه؟ وايه لزمة جعدتها لما متخلفش؟ زينة في البيت؟ مش كفاية علّمتها وصرفت عليها وصبرت، حتة العيل مستخسراه فيك»
أغمض عينيه متوجعًا من الكلمة التي أصابت حشا القلب ومزقت الصبر، بالله ماذا جنى من نبله
سألته عمته وهي تراقب حزنه بأسف «ناوي على إيه يا ولدي؟»
زفر وصمت قليلًا ثم قال بإصرار «مش عايزها خلاص، كنت صابر بجول مظلمهاش، بعد الي عملته متلزمنيش تروح بيت أبوها وأنا هطلجها وكل حقوقها هتوصلها»
ضربت وجهها حين هبطت وسمعت جملته الأخيرة وقراره الأكيد، تعثرت في صعودها لكنها تماسكت وواصلت الصعود مفكرة، تفتش عن مخرج لها..
هاتفت هدى توسلتها أن تصدّق على كلامها، ستطلبها شاهد، رجتها بدموع وانهيار لمعرفتها بقلب أختها، قالت أن بيتها سيُخرب ولن يرحمها والدها، أقنعتها ووعدتها إن فعلت ومرّ الأمر بسلام لن تتناوله مجددًا وستعتني به وبمنزلها.
استسلمت هدى لإلحالها، أشفقت عليها من ما سيحدث فرضخت لها.
ابتسمت آيات بإنتصار، مسحت دموعها وشكرتها ثم ذهبت لتتزين،سترتدي ما يحب، وما يجعل نظراته تتوهج ، ستفعلها ليرضخ ، ستتدلل لأجل رضاه لن تتركه يحطمها،ويبصقها هكذا من حياته
بعد قليل كان يقف في الشقة زاعقًا باسمها « آيات »
امتثلت أمامه مرتعدة، دموعها لا تتوقف تحركت تجاهه ببطء تفرك كفيها بتوتر، قالت باضطراب «أيوة»
شملها بنظرة محتقرة ثم قال «لمي حاجتك وأمشي من هِنا»
اندفعت بكل ما أوتيت من صبر، تتوسله وترجوه تطرق كل الأبواب وتسلك كل الطرق وهي تبكي بحرقة
«افهمني يا رؤوف أنت ليه مش مصدق إنه مش بتاعي، طيب أنا هعمل كِده ليه؟»
قال بتهكم وهو يشملها بنظرة تحف السخرية زواياها بينما يدفعها عنه في قرف«والله أنا الي نفسي أعرف»
اقتربت منه وضعت كفيها على صدره ناظرة لعينيه المشتعلة هامسةً بتوسل«أنا مبكدبش حتى اسأل هدى»
قبض على كفها وضمه بقوة بين أنامله حد اختناقها بالألم، كاد يحطمه من شدة ضغطه وهي تكتم ألمها بين جوانحها وتتلوى بأنين محبوس، همس وهو يميل ناحيتها «أنتِ مبتعرفيش غير تكدبي»
اختلطت المشاعر مابين الألم والحقد والوجع، لكنها تحاملت لتنجو من العاصفة لا طاقة لها بوالدها سيسحقها لو علم ، لكن يمكنها أن تتحمل هذا الغبي قليلًا..ترقرت الدموع في عينيها وهي تتظاهر بالبراءة «أنا كدبت فأيه قبل كده»
رفع حاجبه قائلًا وهو يقبض على فكها ويضغطه يسحق كبريائها اللعين بحذاء غضبه،متذكرًا أفعال هذا الكبرياء في حقه «فين روشتات الدكاترة الي روحتيلهم يا آيات ؟»
زاغ البصر وتضاربت المشاعر، صمتت متخبطة وتائهة أي جحيم هذا وأي كابوس تعيشه ، ابتلعت دموعها في الجوف وهمست تحاول دون ملل «جولتلك مبيدونيش علاج لإن معنديش مانع فبرمي الروشتات مبهتمش»
سألها والحساب لا ينتهي كما عذابه «نزلتي لجدتي ليه؟ حكتيلها الي بينا ليه؟»
أحسّت أنها تغرق فتعلقت بطرف نبله، اعتذار لا يضر وقد ينقذها «أنا أسفة فدي أنا غلطت حقك عليا »
عادت لذراعيه تنثر القبلات فوق وجهه دون توقف، تركها متلذذًا بإنهزامها وذلها، ثم أبعدها رماها كما يرمي الحصى ويركله، رسم النفور فوق ملامحه ونحت الاشمئزاز في قسماته من فعلتها ثم قال باحتقار«عارفة أنا جرفان يا آيات ومش طايجك ولو حتى عملتي أكتر من الي بتعمليه دلوك، أمشي يا آيات مش عايزك، خلصت »
صرخت بقهر مكتوم تتوسله«خد كلّم هدى اسألها» صاح بغضب لم تختبره منه يومًا «اكتمي ولا نفس، ساعة وتكوني لميتي حاجتك ومشيتي »
استدار ليغادر لكنه عاد من جديد واقترب منها، ربت على خدها قائلًا بتهكم «نسيت أجولك متنسيش تاخدي لهدى شريط برشام جديد أصل دِه ناجص منه برشامتين وجوليلها مبروك على الحمل لما جالي أبو عبد الله نسيت أباركلها»
توقفت أنفاسها المتسارعة، حملقت تستوعب قوله بصدمة فهز رأسه مؤكدًا بتشفي وابتسامة خبيثة نشرت في قلبها الخراب.
تابع تحطيمه دون رأفة بها أو ذرة شفقة «أسبوع وتبعتي أهلك ياخدوا حاجتك عشان هتجوز يا آيات والعروسة الجديدة عايزها تيجي على نضافة»
*******
عاد في نفس الليلة للقاهرة، أغلق شقته وهرب لعمله، أثناء جلوسهم حول الطعام حكى لأخوته باختصار عما حدث ورغبته في طلاق آيات، صفق يونس مُشيدًا بفعلته سعيدًا بالخطوة «يا رؤوف يا جامد»
بينما انزعج طاهر وعبس في ضيق قائلًا بلطف «كنت اديها فرصة يا رؤوف»
لكزه يونس ضائقًا متأففًا «اسكت أنت بلا فرصة» ثم تابع ببهجة «دا أحلى خبر والله خليها تغور»
زجره رؤوف بنظرة جانبية ليتأدب في كلماته لكنه تجاهل وقال مشجعًا «أتجوز يلا عايز أبجا عم»
ظل طاهر على عبوسة وضيقه مشفقًا، تأمله رؤوف قليلًا وابتسم للطفه وحنوه البالغ وطول صبره، طاهر هو رجل كل الفرص دون كلل أو ملل، يستوفي السبعين عذر ويضيف عليهم، قلبه يتسع للجميع باخطائهم ونواياهم السيئة ليس ضعفًا بل حُلمًا، بداخله قوة كامنة مدفونة في الأعماق لم تظهر بعد ولم تتأثر، داخل صدفتها محمية،و في وجهه هيبة في ملامحه قبول.. لكنه يخشى عليه من أن تلوّثه الدنيا، يخاف غدرها به وغدر البشر.
تذكرها اللحظة قفزت صورتها تحتله احتلالًا، ابتسم قائلًا «طاهر البشمهندسة الزراعية فين؟»
انتبه طاهر على سؤاله فعادت صورتها على السطح طافيةً، ابتسم مُجيبًا «قصدك غزل؟»
ارتبك رؤوف، وكان للاسم وقعًا خاصًا في قلبه، اهتزت نظراته فانتبه يونس مراقبًا بخوف و مما زاد قلقه وضاعف توتره رؤوف في سؤاله «فينها مبتجيش ليه تعرف عنها حاجة، أجصد هتكمّل شغل الدار ولا أجيب غيرها» أجاب طاهر بعفوية «سافرت خلاص»
سأله رؤوف بلهفة وهو ينفض كفيه عن الطعام «سافرت فين وليه؟»
ثبّت يونس نظراته على وجه رؤوف بشك،وحاصره طاهر بالاستفسار غير المنطوق فنهض محمحًا يتوارى من سوء ما فعل، يتبرأ من لهفته «أجصد هترجع قريب تكمل ولا خلاص؟»
لم يفطن طاهر لشيء صدقه ببساطة وابتسم متنهدًا في حيرة «مش عارف يا أخوي»
سأله رؤوف محاولًا كبح فضوله «طيب أنت تعرفها منين؟»
ارتبك طاهر من سؤال أخيه نظر ليونس الذي عبس بضيق غير مفهوم وتبدد مرحه فجأة، لم يجد عند يونس طلبه ولم يفهم سر ما أصابه قال في صراحة «مشتلها كان جنب الشجة الي كنت ساكن فيها مع أصحابي»
قال رؤوف وهو يضم حاجبيه علامة الجدية وهو يتحرك في الشقة «فين مشتلها بالضبط؟»
سأله طاهر تلك المرة بإندهاش «ليه؟»
أجاب رؤوف متملصًا من قبضة نظرات يونس «عايز أبعتلها حق شغلها في الدار»
أحنى طاهر رأسه وقال «مش هترضى هي جالت لله»
رفع رؤوف حاجبه يستفسر بمحاصرة«هي جالتلك كِده؟»
هز طاهر رأسه قائلًا «أيوة من أول يوم نزلت قالت مش عايزة»
قال رؤوف بجدية شديدة «لاه دِه حقها وتعبها»
تضايق طاهر من إصراره خوفًا على مشاعر غزل فقال مدافعًا «غزل ممكن تزعل، ميبجاش دِه معروفها بعد الي حصل يا أخوي»
صمت رؤوف بتفكير، لو يعرف طاهر أنه يريد التزود برؤيتها، أن يكون هناك مكان يذهب إليه ويراها كلما غلبه الشوق وتنازعت أفكاره، افتقدها تلك المرة وافتقد رقة قلبها مع الصغار.. هز رأسه بتفهم لطاهر وغادر للمطبخ مُفكرًا في تلك المشاعر التي تعصف به.
اشتعل رأس يونس بالقلق، يخيفه ما شعر به اللحظة وقرأه في كلمات أخيه وتوتره.
انعزل طاهر بهاتفه بعدما أيقظ سؤال رؤوف الشوق داخله، فتح صفحتها مترددًا في السؤال عنها، مُحرجًا من مراسلتها، يريد الاطمئنان عليها وعلى رحلتها لكنه مقيّد... تنهد بإستسلام وترك هاتفه.. أمسك بأوراقه وانشغل بها حتى وصلته رسالتها الصوتية ففتحها بلهفة مبتسمًا «أسيبك شوية يا صعيدي تخرب الدنيا؟ إيه البوست الي نزلته ده؟ ليه كده يا طاهر؟ أرجوك امسحه متسببش لنفسك مشاكل»
اتسعت ابتسامته وراسلها مبتدئًا بالسلام عليها والسؤال عن أحوالها ثم أجاب عن أسئلتها «متجلجيش يا هندسة خير»
ضحك على الوجه الغاضب الذي أرسلته وانتظر قولها التالي بقلبٍ يرفرف، حين تأخرت كتب بمغزى «عمرك أطول من عمري يا هندسة» لم تفهمه ولم تفهم مقصد قوله فتجاهلته وكتبت مهددًة له «طاهر لو ممسحتش البوست مش هكلمك تاني»
راوغ «ليه بس يا هندسة»
كتبت بصدق «طاهر أنا خايفة عليك بجد، لو سمحت قلبك أنقى وأجمل من إن حاجة تلوثه، السياسة وناسها وتوابعها مش ليك يا طاهر»
تهرّب منها «طمنيني أخبارك إيه؟ هترجعي متى؟»
كتبت عازمة بإصرار «يا تمسحه يا مفيش كلام بينا تاني»
أنهت كلماتها وأغلقت الهاتف، أعادته لموضعه فوق الكومود وتمددت، تبتعد عن ضجيج العالم والناس قدر المستطاع، تختلي بنفسها منقّية روحها من شوائب الأيام، حين فتحت هاتفها لتُطمئن صفوة تفاجأت بمنشوره فاستشاطت غضبًا وسارعت بمراسلته.
سحبت من تحت الوسادة رسائل مجهول الهوية، قرأتها فابتسمت، أنارت مشكاة كلماته روحها فابتهجت ورقصت دقاتها طربًا، نطقتها على مهل تتذوق معناها مرة وتمررها على قلبها المجدب مرات، طوتهم وأعادتهم لمكانهم الآمن تحت الوسادة هامسةً «ليه أنت من بين كل الغرباء الي تشاركني عزلتي؟»
*********
بمنزل غزل وقف والدها في الشرفة يدخن بشراهة، وتفكير عميق جعل زوجته تربت على كتفه متسائلة عن سبب شروده وبقائه وحده، انتبه لوجودها فدهس بقايا سيجاره وأجابها وهو يسحب أخرى ويشعلها «مشغول على غزل»
جلست أمامه مهونةً عليه «مالها ماهي زي الفل»
صعق هدوئها بنظرة حادة قبل أن يهتف بعصبية «إزاي زي الفل مش فاهم؟ البنت اتشوهت وحياتها اتدمرت وسافرت ومش عارف هيحصل إيه؟»
طمأنته قائلة بلطف وتفهّم «قدر ربنا وإن شاء الله خير»
انتفض صائحًا فيها بعصبية مفرطة وغضب مشوش بأفكاره السامة « فين الخير مش شايفه؟»
زفرت مستغفرة ثم هدأته «استغفر ربنا مش كدا ربنا له حكمته وبإذن الله تبقى كويسة»
صرخ فيها «إزاي هادية كده ومش حاسة بالبنت والي فيها»
رمقته بعتب قائلة «ليه بتقول كدا؟ لا طبعا حاسة بيها وزعلانة علشانها بس كلامك دا اعتراض على أمر ربنا، ادعيلها أحسن»
هاجمها بغضب «ولا حاسه بيها ولا زفت، بذمتك كلمتيها؟ سألتي عليها؟ حاولتي معاها متسافرش؟»
قالت بحكمة مبتلعة غصة كلماته، تبارز ثورته بهدؤها «كلمتها بس قافلة الفون، ومحاولتش معاها علشان شايفة إن سفرها كويس ليها، غزل عاقلة وذكية وعارفة بتعمل إيه وإيه الي محتجاه علشان ترجع زي الأول وتتقبل وضعها الجديد»
صرخ وهو يلكم الطاولة بقهر «لو بنتك مكنتيش قولتي كدا، لو تهمك مكنتيش وافقتي تبعد عنك وحاولتي معاها ألف مرة»
نهضت واقفة تعاتبه وتلومه بحزن «الأم مش الي تخلف بس، الأم هي الي بتربي برضو وأنا مقصرتش مع غزل بالعكس»
اهتزت حدقتاه ببعض التردد الممزوج بالندم لكنه واصل هجومه بغطرسة وعدم اهتمام «قصرتي وهي فمحنتها ودا أهم وقت»
أجابته بثبات ونظرات لومها تُصبّ بغزارة فوق رأسه «عملت الي أقدر عليه معاها، وغزل أنت عارفها كتومة وحمولة وبتساعد نفسها بنفسها»
عض قبضته في حسرة متأوهًا بألم لأجلها فاقتربت منه وربتت فوق كتفه موضحةً بصبر «اطمن غزل قوية وجدعة هتطلع من المحنة أفضل، مش هتتهز ولو حصل هتقف من تاني»
أنهت كلماتها وخرجت فضرب بكفه فوق حافة سور الشرفة متأوهًا بوجع.
أحيانًا يسوّل له شيطانه حرق الدار بمن فيها والانتقام لها، وأحيانًا يدعو على من كان سببًا في أذاها.. رفع رأسه للسماء وهتف مستنجدًا مستغيثًا يطلب راحة النفس التي لن ينالها وهو يعرف «يارررب»
******"
ظل يونس مستيقظًا يتقلب على جمر مما أحسه وشعر به اليوم، مشاعر رؤوف التي ظهرت جلية كارثة تنذر بالهلاك، ولا يعرف هل يدفع طاهر للارتباط بغزل وإنهاء الأمر والخروج من هذا المأزق حتى لا يتورط رؤوف أكثر ويسقط في هوة العجز، أم يترك الأمر لوقته وأوانه.
يخشى لو ترك الأمر وتجاهله يتطور ويدمر علاقتهم، لو علم طاهر لتنازل بمحبة وصفاء لأخيه ولن يلتفت لقلبه ومشاعره سيقتلهم كمدًا، لو علم رؤوف لعاتب نفسه على ما ليس بيده... دائما ما كانت مشاعر رؤوف حذره في التقدم ناحية الأخرين، ربما شعر أخيرًا بالخواء فترك لقلبه العنان.. ماذا فيها تلك الغزل ليتهافت عليها الأخوان؟ ما الذي يميزها ليدق قلب رؤوف ويفتح أبوابه ويتعلق طاهر بها..
ضغط رأسه ولا يعرف من يستشير؟ ومن يخبر بتلك المصيبة.. ربما هي هواجس أو تخيلات منه، لا يعرف حقًا ماذا يفعل؟
نهض من مكانه على صوت صراخ وطرق وتحطيم.. فتح باب الشقة ونظر حوله فلم يجد شيئًا، مطّ شفتيه وكاد يغلق الباب حتى لمح بابها مواربًا، ترك شقته وتقدم في حذر، وقف يصفق بكفيه وهو ينادي بضجر «أنتِ يا دكتورة الهم»
ازداد الطرق قوة فدفع الباب بقلق، واندفع للداخل ينادي بحذر حتى وجدها ملقاه أرضًا رأسها تتوسد بركة دماء واسعة.
+
#انتهى
+

