رواية خيوط القدر الفصل السابع 7 بقلم سارة المصري
الفصل السابع
توقفت سيارة فارهة أمام مقر مجموعة الالفى الشهيرة والتى تعد امبراطورية اقتصادية عريقة وقوية ليس فى مصرفقط بل فى الشرق الاوسط بأسره ، اسسها محسن الالفى الذى كان له دور فى بناء الاقتصاد الوطنى منذ عشرات السنين وورث الامبراطورية من بعده ولده الوحيد عبدالرحمن الذى تطورت الشركات على يده وتشعبت أعمالها اكثر ، وكان لعبد الرحمن ولدين الاكبر وهو أيمن والاصغر وهوادهم ، فوقع العبء على أيمن ليتجهز لادارة الامبراطورية العظيمة من بعد والده ، بعد ان اختار ادهم ان يبتعد عن كل هذا ويسلك طريقا منفردا خاصا به ، فزاد العبء اكثر على ايمن الذى أدخله والده الى سوق العمل وهو بعد لم يتجاوز الثامنة عشر ، وما أثار دهشته هو النجاحات التى كان يحققها أيمن فى هذا العمر الصغير ، حتى كان يحسده كل منافسيه على ولده الذى اخذ يؤهله ليكون نسخة أخرى منه تستطيع المحافظة على كل هذا المجد الاقتصادى الواسع ، وبالفعل أصبح ايمن ينتقل من نجاح الى آخر وازدهرت المجموعة تحت ادارته اكثر واكثر ، واصبحت هى الاولى بلا منازع ، وأصبح الجميع يهاب أيمن ويقيم له الف حساب .
دار السائق حول السيارة ليفتح الباب لايمن الذى هبط فى خطوات واثقة الى باب المجموعة حيث كان فى انتظاره آخر حمل حقيبته واتجه معه الى المصعد ليفتح الباب له ويستقله معه ، خلع أيمن نظارته الانيقة والتفت بحركة تلقائية الى المرآة ليتاكد من هندامه وقبل ان يبتعد بوجهه عنها ، ثبت نظراته للحظات وهو يدقق الرؤية جيدا ،لقد كان يراها هى ، بعد مرور اكثر من ثلاثة عشر عاما لا زال يراها فى كل مرآة تماما كما رآها لاول مرة ، بعد ان انتهى كل شىء وانتهت مشاعره واصبح نسخة اخرى من والده لازال يراها حتى أصبح يكره اى مرآة ، فهى تذكره بأنه فى يوم ما كان انسانا يملك بعض المشاعر ، قبل ان يتلقى الضربة القاصمة ، تنهد وهو يعود بذاكرته للقاء الاول منذ اكثر من عشر سنوات ، كان فى الثالثة والعشرين من العمر ، كان يقف ايضا امام مرآة يجرب سترة فى احدى المحلات حين وجد انعكاس صورتها فى مرآته وهى تبتسم كملاك قائلة ” حلو اوى يا فندم ..المقاس مظبوط ؟؟؟ولا نحب نغيره ” ، تاملها للحظات فى المرآة قبل ان يلتقت اليها قائلا ” انتى مين ؟؟“ ، تنحنحت فى خجل قائلة ” انا بشتغل هنا فى المحل ..اسمى شهد ”
لا يدرى كيف ولماذا تنازل عن جديته وهو ليس من النوع الذى تفقده فتاة عقله ايا كان جمالها وهى لم تكن صارخة الجمال ، بل كانت ملامحها هادئة وبريئة للغاية ، ابتسم فى رقة تناسب برائتها وهو يقول“ وانا ايمن ” ، ومن هذه اللحظة اصبح ايمن يراها فى كل مرآة ينظر اليها و...“ أيمن باشا ” ، انتبه على نداء الساعى فخرج من المصعد وكأنه يخرج من ذكرياته ليعود الى واقعه من جديد ، ليعود الى ايمن رجل الاعمال الناجح الذى حمله أبوه منذ نعومة أظافره مسئولية الحفاظ على الامبراطورية ايا كان الثمن وتحمل معها مسئولية اخيه وامه الذى لم يعد يربطه بدنيا المشاعر والحب شيئا غيرهما .
******************************************************************************
الايام والظروف المتشابهة والوحدة كل تلك العوامل كانت كافية لصنع صداقة بين مرام وندى ، خرجت صداقتهما عن حدود الجيم فأصبحا يلتقيان فى اكثر من مكان ويتسوقان سويا ويبثان بعضهما البعض الهموم ، بدأت مرام الحديث فى هذا اليوم بينما كانا يتناولان الطعام فى احدى المطاعم قائلة فى مرح ” بحس يا ندى ان عندك حكاية ..مخبياها جوة عنيكى دى ”
قالت ندى وهى تلتهم طبق السلطة امامها ” وانتى يا مرام ..شكلك عندك حكاية اكبر ”
قالت مرام وهى تعبث بشوكتها ” ومحتاجة احكيها لحد وميقوليش انى مجنونة ”
تركت ندى الطعام وقالت ” مجنونة !!!...للدرجادى ”
هزت مرام رأسها وهى تقاوم البكاء قائلة ” انسى ..هتحكيلى انتى الاول ”
شعرت ندى ان مرام بحاجة اكثر الى الكلام فالكلمات كانت على طرف شفتيها ولكنها تراجعت فقالت فى صوت حنون ” مرام ..عاوزة اسمعك انتى الاول ”
تنهدت مرام ونظرت الى ندى نظرة طويلة ثم عادت لتنظر الى طبق المعكرونة امامها وهى تعبث به بالشوكة قائلة ” انا اتعس زوجة فى العالم .“
شهقت ندى فى دهشة وقالت ” معقول ...برغم كل اللى بتحكيه عن اهتمام وحب جوزك ”
واصلت مرام ” ندى ارجوكى سيبنى اتكلم من غير ما تقاطعينى ..يمكن دى المرة الوحيدة اللى هقدر اتكلم فيها واطلع اللى جوايا ”
هزت ندى رأسها فواصلت مرام ” مفيش ست فى الدنيا اتعس من انها تعيش مع جوزها وتحس ان غيرها بتشاركها فيه وهيا مش موجودة ...يعنى عدم وجودها اقوى من وجودى ..اول مرة حسيت ان سليم بيحاول يقربلى لقيته بقولى انتى بتفكرينى بواحدة حبتها زمان ..وانا قولت اكيد بعدها كل حاجة اتغيرت ...اكيد كبرنا ونضجنا ومبقاش فيه مكان لاحلام المراهقة والطفولة ..بس ماطلعش حقيقى ”
نظرت مرام الى ندى التى كانت تحافظ على صمتها احتراما لرغبتها فواصلت مرام بعد ان مسحت دمعة حارقة على خدها ” عارفة يعنى ايه تبقى متجوزة واحد وحاسة ان فيه حد واقف بينكو ..عارفة بعنى ايه جوزك وهوا نايم جنبك ينادى عليها فى احلامه .انا ببقى حاسة كانى شامة ريحتها ..كانها بتبقى نايمة بينا احنا الاتنين ...وبالرغم من كل ده مقدرش أتخلى عن حبه جوايا ..كل يوم حبى بيزيد ليه أكتر وخوفى بيزيد اكتر واكتر ..ندى انتى متخيلة انى مش خايفة من انه يكون بيخونى ...متخيلة انى حتى مش عاوزة اتأكد او ممكن اكون خايفة اتأكد ...انا كل اللى بيرعبنى انه يسبنى ويروحلها ..انا مقدرش اعيش من غيره ..انا مريضة بحبه وعشانه ممكن اعمل اى حاجة ..من غيره حتى مش بقدر اتنفس ..بتخنق ”
لم تستطع مرام المواصلة فأخفنت وجهها بين كفيها لتخفى بكائها الصامت عمن حولها ، نظرت ندى الى الناس لتتاكد ان لا احد يلاحظ هذا ، ورفعت يدها تربت على كف مرام قائلة فى اشفاق ” مرام حبيبتى اهدى ”
وانزلت كفيها من على وجهها ونظرت الى وجهها الغارق فى الدموع وهى تقول ” هيا مش موجودة ...هيا انتهت من حياته ..انتى دلوقتى اللى بتشاركيه كل لحظة فيها ..انتى الواقع وهى مجرد خيال ”
ابتسمت فى سخرية قائلة ” ومن فينا مبيحبش يعيش مع الخيال اكتر من الواقع ”
قالت ندى فى جدية ” بس فى الآخر لازم يرجع للواقع ويعش الحياة اللى المفروض انه يعيشها ..هيا انتهت مبقتش موجودة ..الوقت والزمن هيحولوها لمجرد ذكرى ”
قالت مرام فى قلق ” ولو فى يوم اتقابلو او شافها ”
هزت ندى كتفيها قائلة ” اكيد مش هيضحى بحياته معاكى يا مرام عشان شوية ذكريات ...واكيد هيا كمان مش هتكمل معاه على حساب مراته ”
ـ تفتكرى يا ندى
قالت ندى فى عطف ” اى واحدة محترمة متقبلش تربط سعادتها بتعاسة حد تانى ..اى واحدة محترمة متقبلش انها تبنى بيتها على انقاض بيت تانى هيتخرب فوق راس واحدة غيرها ”
نظرت مرام الى النافذة وهى تقول فى مرارة ” وانا ياترى هقبل ان حياتى تكون متعلقة بقرار حد تانى ”
قالت ندى محاولة زرع جو من التفاؤل ” وليه نسبق الاحداث ..وليه نتخيل وجود حاجات مش موجودة ..مرام اللى بتحكيه عن جوزك ميعملوش غير راجل بيعشق مراته فعلا ...كل التفاصيل دى ميعملهاش غير حد بيحب بجد ”
مررت مرام يدها على وجهها وقالت ” او حد حاسس بالذنب لانه مش قادر يكون معايا بقلبه فبيحاول يعوضنى ويعوض نفسه فى نفس الوقت وهوا بيتخيلنى حبيته فى كل حاجة بيعملهالى ”
تراجعت ندى ورفعت حاجبها فى اعتراض قائلة ” لا بقا انتى خيالك واسع زيادة عن اللازم ”
اغلقت مرام عينها للحظات حاولت بعدها الابتسام وهى تقول ” للاسف يا ندى فى حاجات محدش يقدر يحس بيها غير اللى عايشها ولو كل اللى حواليه شايفينها وهم ” حاولت التخلص من تلك الحالة ونظرت الى ندى محاولة تصنع المرح قائلة ”وانتى بقا هتقوللى حكايتك ؟؟“
تفاجئت ندى بالسؤال هذه المرة وللحظات فكرت فى ان قصتها قد تكون متشابهة مع اختلاف الادوار فربما تبدو لمرام فى انها مكان زوجها المتعلق فى ستائر الماضى ناسيا حاضره ، ولكنها فى حيرة فالماضى امامها ليل نهار والمستقبل والحاضر امامها ايضا وهى عاجزة عن الاختيار ، لذا فلم تخبر مرام اى شىء عن قصتها حتى لاتراها فى مكان زوجها لا محالة ،ستراها ظالمة ، وربماكان هذا حقيقيا ، وان رفضت الاعتراف بينها وبين نفسها ، تهربت من السؤال واستغلت حالة مرام وقتها ووعدتها انها ستقص لها قصتها فى يوم آخر وهى تعلم جيدا انها لن تبر بوعدها ابدا .
*********************************************************
تبقى ما يقرب من ساعتين على انتهاء النوبتجية الليلية وبدأت الاجواء تهدا نوعا ما ، استأذنت اسماء لحظات لترد على هاتفها ، اختلس عمر نظرة الى ياسمين التى بدا عليها الارهاق بشدة ، كان يتمنى اى فرصة يستطيع بها الحديث معها على انفراد ويعرف انه من الصعوبة ان يتكرر موقف كموقفف المطر من جديد ، لذا فحين خرجت اسماء شعر بان هذه فرصة جيدة ، ولكن تاهت كلماته ولم يعرف حقا من اين يبدأ فقال ” شكلك تعبانة اوى ”
ردت ياسمين وهى تحرك رأسها يمينا ويسارا فى تعب ” فعلا كانت نبطشية مرهقة جدا ”
نظر الى ساعته قائلا ” خلاص اهى هانت والدنيا هديت خالص ” ، وتنفس فى يأس وهو يرى اسماء تدخل من جديد وقالت وهى تنظر الى هاتفها قبل ان ترفع نظرة سريعة الى وجه ياسمين ” دكتورة فى حد عاوزك برة ”
لوى عمر فمه فى انزعاج بينما نهضت ياسمين فى كسل وهى تتساءل ” مين يا اسماء ”
هزت اسماء رأسها فى لا مبالاة وهى تقول ” مش عارفة يا دكتورة والله ..ممكن حد من اهل الحالات عايز يطمن على ابنه ولا حاجة ” .
تابعها عمر وهى تخرج من الغرفة ورمق اسماء التى كانت تطالع هاتفها وتمنى لو خنقها بيده ، استرخى فى مقعده واخرج هاتفه ليعبث به وبعد دقائق عادت ياسمين وما ان وطأت قدمها ارض الغرفة حتى تبعها طبيب من الاستقبال والطوارىء ، اخبرهم بعد القاء التحية ، ان هناك حادث بالقسم وهو بحاجة الى مساعدتهم لسد عجز الاطباء كالعادة ، زفر عمر فى غيظ وهو يتمتم ” انا عارف انها ليلة باينة من اولها ” ، ورمق اسماء التى كانت تعبث فى هاتفها وقال فى مزاح لم يخفى منه غيظه ” يلا يا اختى انتى كمان بتليفونك ده ” .
وفى استقبال الطوارىء كانت هناك العديد من الحالات التى تحتاج الى رتق للجروح ، بدا عمر وياسمين العمل مع باقى الاطباء ، انتهى عمر من ثلاثة حالات بينما وقفت ياسمين على نفس الحالة وهو ما اثار دهشته فياسمين ماهرة وسريعة جدا والحالة قد رآهاا لا تحتاج لكل هذا الوقت ، لذا فحين انتهى من الحالة الاخيرة ولم يتبق سوى الحالة التى تعالجها ياسمين ، اقترب منها وفى الزحام لم تستطع ان تشعر بوجوده ، واستطاع هو ان يلحظ ارتعاد كفها وشرودها الذى تحاول التغلب عليه بهز رأسها بين الحين والآخر لتستفيق ، شعر بعدم قدرتها على مواصلة العمل ، فأراد ان يخفف عنها العبء فلازال يحتفظ بطاقته ، ولكنه خشى فى الوقت نفسه من رد فعلها ، ولكن فجأة استدارت ياسمين له وكانها تشعر بوجوده منذ ان جاء ولم تتفاجىء به ، مدت يدها له بالادوات قائلة ” دكتور عمر ..انا تعبانة اوى ..ممكن تكمل انت ”
نظر عمر فى قلق الى عينيها التى تفتحها فى صعوبة والى بشرتها الشاحبة وهو يتناول منها الادوات قائلا ” اكيد طبعا ممكن ت...“ولم يكمل جملته فقد اختفت من امامه .
عاد عمر الى غرفة استقبال الاطفال من جديد ، وقد تبقى على انتهاء النوبتجيه حوالى ربع الساعة ، بحث بتلقائية عن ياسمين بمجرد دخوله فلم يجدها ، وجد فقط اسماء تفرك عينيها كعلامة يومية على اقتراب انتهاء النوبتجية ، ازداد قلق عمر ولم يكن لديه الوقت ليلم نفسه كالعادة على اى مشاعر تجاهها فحالتها التى رآها عليها قد اربكته ، تنهد وهو شبه متاكد من المكان الذى تتواجد فيه ، يريد فقط الاطمئنان عليها من بعيد وسيذهب ولن يفسد خلوتها بنفسها .
ولكن حين وصل الى باب المشفى توقف للحظات وهو يفكر لماذا هو قلق عليها الى هذا الحد ؟؟، من تكون ياسمين هذه بالنسبة اليه ؟؟، لماذا اصبحت تشغل تفكيره فى الاونة الاخيرة ؟؟، لم يعد الامر مجرد فضول او مجرد لغز يريد فك طلاسمه ، بل هو شىء اكبر من ذلك ، هز عمر رأسه فى قوة لينفى هذا الهاجس ويزيحه تماما من عقله ، وواصل طريقه محاولا اقناع نفسه بأى شىء ، حتى زال كل شىء وتحدثت فقط مشاعره وقد كاد ان يقفز من مكانه فى تلك اللحظة التى رآها على الارض مغشيا عليها وقد سقط حجاب رأسها عنها ، ركع عمر فى هلع على ركبيته ورفع رأسها قليلا واخذ يضرب على وجهها ويناديها دون جدوى ، أحس نبضها ضعيف للغاية ، وبيديها باردتين وبالشحوب يزداد ويزداد ، نظر الى حجابها الذى تهاوى على كتفيها فأخذ طرحتها ووقف ينظر لها فى حيرة ، لا يعرف كيف يلفه حول رأسها ، فندى شقيقته ولبنى والدته لايرتديا الحجاب ، ولكن فى النهاية وضعه حول رأسها كما كان يلف الشال على رأسه فى رحلات السفارى وكان هذا جيدا اذ استطاع ان يخفى شعرها بأكمله ، حملها عمرعلى ذراعيه دون تفكير ، وهو يحاول ان يسارع الخطى بقدر المستطاع وقبل ان يصل الى باب المشفى توقف وهو يفكر انه لايعقل ان يدخل بها هكذا على ذراعيه بن زملائه ، لمح امامه احد الاسرة المتحركة فنادى من كان يدفعه ووضعها عليه واخذها بسرعة الى غرفة الاستقبال .
****************************************************************
” تطلبى حاجة يا بشمهندسة ..احنا هنجيب فطار بس عشان حضرتك نزلتينا بدرى اوى وملحقناش ” ، قالت ندى وهى تجلس على كرسى فى الشرفة المطلة على الحديقة ” لا يارضا متشكرة ” ،الح رضا كعادته ولكن فى النهاية تركها وعاد الى زملائه ، اخرجت ندى التابلت الخاص بها واخذت تتصفح صور الاثاث التى اختارتها مع أحمد ، ابتسمت فى رضا فالعمل يسير بشكل جيد وقريبا سيتم تسليم المنزل ، كانت تشعر بالقلق احيانا الاتقوم بعملها بشكل جيد فيقلل ذلك من قيمتها امام أحمد ويشك فى موهبتها ، رفعت نظرها من على التابلت وهى تردد اسمه بداخلها ” احمد ” ، لقد حاول مرارا وتكرار طوال الفترة الماضية التحدث اليها وهى تصده بكل الطرق ، ربما للحد الذى جعله ييأس ولا ياتى لمتابعة العمل طيلة الايام الماضية ، ورغم شعورها بالراحة لتخلصها من نظراته التى كانت تشعر انها تقيدها الا ان شعورا بافتقاده كان يزعجها ، نظرت الى التابلت من جديد وفتحت حسابها على الفيس بوك ووجدت نفسها تتجه الى خانة البحث وتكتب اسمه الاول احمد ، بعدها توقفت لتتذكر ماذا كان لقبه وهل يكتب حسابه باسمه ولقبه ام باسمه واسم ابيه ، تفاجأت بصوت من خلفها يقول ” مليش اكونت على الفيس وانتى عارفة كدة من زمان ”
انتفضت ندى وهى تضع يدها على صدرها وسقط التابلت فى حجرها فسارعت من جديد وامسكت به وضمته الى صدرها فى توتر ، خرج أحمد من خلفها ووقف الى جوارها قائلا ” خضيتك انا آسف ...انا كنت ...“
قاطعته ندى بسرعة وكانها تنفى عن نفسها تهمة ودون حتى ان تنظر الى عينيه ” انا مكنتش بدور عليك على فكرة ” وواصلت فى حدة ” هوا محدش فى الدنيا كلها اسمه احمد غيرك ”
ابتسم احمد ابتسامة أغاظتها ووقال ” خلاص ..انتى متضايقة ليه ؟؟“ ، ونظر الى العمال وهم يفترشون الارض ويتناولون افطارهم وقال ” انتى مش عاوزة تفطرى انتى كمان ؟؟“
ردت فى عصبية ” مش عاوزة ..انا اصلا مبفطرش ”
كانت تشعر وكانها ضبطت متلبسة بتهمة ولذلك كانت تتحكم فى اعصابها وانفعالها بصعوبة وحين رفع هاتفه قائلا ” لا انا هطلب اكل ليا وليكى ”
صرخت فى عصبية ” قولت مش عاوزة ”
نظر احمد وندى مباشرة الى العمال الذين التفتو الى صوتها فقالت فى احراج وهى تنهض من على كرسيها ” انا آسفة بعد اذنك ”
وقالت وهى تعطيه ظهرها ” محتاجة بس اتابع شوية حاجات ”
وجدت احمد يقترب ليقف امامها قائلا ” هروبك المرة دى مش هيفيدك انا مصر اتكلم معاكى ” ، ازعجتها كلمة هروب ، هل لازال يظن انه بداخلها او انها تخشاه ، قالت فى تحد وبابتسامة ” اهرب ..اهرب من ايه وليه ؟؟“
رد احمد وهو يشير بكرسى لها لتجلس ” خلاص اقعدى واسمعينى مادام مبتهربيش ولا خايفة ”
ابتلعت كلمته التالية بصعوبة وجلست وكلها اصرار ان تواجه ماتهرب منه حقا وتنهيه ، جلس احمد فى كرسى مقابل لها وقال ” وهو يشبك اصابعه وينظر لها ” ندى ..انا عارف انك زعلانة لانى مكنتش موجود معاكى فى اى حاجة فاتت و...“
وقبل ان يواصل قاطعته ندى ” انت ليه مصر تتكلم فى ده ..احنا مكنش فيه بينا حاجة تحتم عليك تكون موجود ..احنا كنا مجرد زملا او اصدقاء وعادى يعنى محدش من اصحابى وقف جنبى فى اللى انا كنت فيه ”
قال فى الم ” ندى ..انتى عارفة زى ما انا عارف ان احنا ماكناش لبعض مجرد زملا او اصحاب ”
ازدردت ندى ريقها ووضعت يدها تدلك رقبتها فى توتر فواصل احمد ” اليوم اللى قولتلك فيه عاوزة اقولك على حاجة ومشيت ..عارفة كنت عاوزة اقولك ايه ..عارفة ليه مشيت ”
نهضت ندى بسرعة ووقفت تستند الى جدار الشرفة وانحنت للامام قليلا وهى تتنفس فى عمق لتزيح توترها فتبعها احمد بدوره وقال ” كنت عاوز اقولك انى ...“
قاطعته ندى ” احمد ” فواصل دون ان يبالى بها ” كنت هقولك انى بحبك ولسة بحبك وكأن كل اللى فات معداش ..انتى فاكرة انى روحت مكتب الديكور صدفة ..مش عايز اقولك انا فضلت ادور عليكى اد ايه ”
أغمضت ندى عينيها وقالت بصوت مختنق ” خلاص يا احمد كفاية كدة ”
قطب أحمد حاجبيه وقال وهو يقترب منها اكثر ” ليكى حق تزعلى وما تبصيش فى وشى تانى ..بس لازم تعرفى ان السنين اللى فاتت دى معدتش عليا بالساهل ..كنت بفكر فيكى كل يوم وكل دقيقة وكل لحظة ..فى كل حاجة كنت بعملها ..كنت بشوفك فى وش كل بنت ببصلها ..بغلط باسمك مع اى واحدة اناديها ..كنت فاكر انى لما ابعد هنسى ..وكل يوم كان بيعدى كنت بتوحشينى اكتر من اليوم اللى قبله ..ندى انا كنت قربت اتجنن “
احتقن وجه ندى وشعرت بحرارة تكاد تحرق وجنتيها وسؤال حبسته بداخلها طويلا واطلقت عنانه اخيرا فى لهجة الم وعتاب ” وانت ليه مشيت ؟؟“
نكس احمد رأسه فى الارض وهو يزفر فى الم فواصلت ندى وهى تهز رأسها فى ألم ” عشان سوء ظنك ...عشان افتكرت ان فيه حاجة بينى وبين ادهم ..مش كدة...مشيت من غير ما تفكر حتى تسألنى ”
رفع رأسه من جديد وتنهد قائلا ” مش بس كدة ”
عادت ندى الى الطاولة حيث اعطت ظهرها لاحمد وعقدت ذراعيها قائلة ” ومبقتش عايزة اعرف حاجة ..انا حاليا فعلا مرتبطة بادهم ”
قال دون ان يتحرك من مكانه ” عرفان وامتنان لوقوفه جنبك ..بس انتى عمرك ما حبتيه ”
التفتت اليه قائلة ” اديك قولتها هوا وقف جنبى وقت انت ما سبتنى لوحدى ..هوا دايما معايا حتى وهوا عارف انى مبحبهوش عمرى فى لحظة ما هبقى خايفة انى هيسيبنى ويمشى زيك ...حب من غير احساس بالامان ملوش اى قيمة ”
خطا باتجاهها قائلا ” وامان من غير حب ميخلقش سعادة يا ندى ”
شعرت ندى بان كلماتها وطاقتها باكملها قد نفذت وعقلها بدا فى التشوش ، لم تستطع ان تبقى فى مواجهة عينيه اكثر من هذا وأيقنت انها خسرت تحديها وأنه لازال بداخلها مهما حاولت الانكار والتجاهل .
توقفت سيارة فارهة أمام مقر مجموعة الالفى الشهيرة والتى تعد امبراطورية اقتصادية عريقة وقوية ليس فى مصرفقط بل فى الشرق الاوسط بأسره ، اسسها محسن الالفى الذى كان له دور فى بناء الاقتصاد الوطنى منذ عشرات السنين وورث الامبراطورية من بعده ولده الوحيد عبدالرحمن الذى تطورت الشركات على يده وتشعبت أعمالها اكثر ، وكان لعبد الرحمن ولدين الاكبر وهو أيمن والاصغر وهوادهم ، فوقع العبء على أيمن ليتجهز لادارة الامبراطورية العظيمة من بعد والده ، بعد ان اختار ادهم ان يبتعد عن كل هذا ويسلك طريقا منفردا خاصا به ، فزاد العبء اكثر على ايمن الذى أدخله والده الى سوق العمل وهو بعد لم يتجاوز الثامنة عشر ، وما أثار دهشته هو النجاحات التى كان يحققها أيمن فى هذا العمر الصغير ، حتى كان يحسده كل منافسيه على ولده الذى اخذ يؤهله ليكون نسخة أخرى منه تستطيع المحافظة على كل هذا المجد الاقتصادى الواسع ، وبالفعل أصبح ايمن ينتقل من نجاح الى آخر وازدهرت المجموعة تحت ادارته اكثر واكثر ، واصبحت هى الاولى بلا منازع ، وأصبح الجميع يهاب أيمن ويقيم له الف حساب .
دار السائق حول السيارة ليفتح الباب لايمن الذى هبط فى خطوات واثقة الى باب المجموعة حيث كان فى انتظاره آخر حمل حقيبته واتجه معه الى المصعد ليفتح الباب له ويستقله معه ، خلع أيمن نظارته الانيقة والتفت بحركة تلقائية الى المرآة ليتاكد من هندامه وقبل ان يبتعد بوجهه عنها ، ثبت نظراته للحظات وهو يدقق الرؤية جيدا ،لقد كان يراها هى ، بعد مرور اكثر من ثلاثة عشر عاما لا زال يراها فى كل مرآة تماما كما رآها لاول مرة ، بعد ان انتهى كل شىء وانتهت مشاعره واصبح نسخة اخرى من والده لازال يراها حتى أصبح يكره اى مرآة ، فهى تذكره بأنه فى يوم ما كان انسانا يملك بعض المشاعر ، قبل ان يتلقى الضربة القاصمة ، تنهد وهو يعود بذاكرته للقاء الاول منذ اكثر من عشر سنوات ، كان فى الثالثة والعشرين من العمر ، كان يقف ايضا امام مرآة يجرب سترة فى احدى المحلات حين وجد انعكاس صورتها فى مرآته وهى تبتسم كملاك قائلة ” حلو اوى يا فندم ..المقاس مظبوط ؟؟؟ولا نحب نغيره ” ، تاملها للحظات فى المرآة قبل ان يلتقت اليها قائلا ” انتى مين ؟؟“ ، تنحنحت فى خجل قائلة ” انا بشتغل هنا فى المحل ..اسمى شهد ”
لا يدرى كيف ولماذا تنازل عن جديته وهو ليس من النوع الذى تفقده فتاة عقله ايا كان جمالها وهى لم تكن صارخة الجمال ، بل كانت ملامحها هادئة وبريئة للغاية ، ابتسم فى رقة تناسب برائتها وهو يقول“ وانا ايمن ” ، ومن هذه اللحظة اصبح ايمن يراها فى كل مرآة ينظر اليها و...“ أيمن باشا ” ، انتبه على نداء الساعى فخرج من المصعد وكأنه يخرج من ذكرياته ليعود الى واقعه من جديد ، ليعود الى ايمن رجل الاعمال الناجح الذى حمله أبوه منذ نعومة أظافره مسئولية الحفاظ على الامبراطورية ايا كان الثمن وتحمل معها مسئولية اخيه وامه الذى لم يعد يربطه بدنيا المشاعر والحب شيئا غيرهما .
******************************************************************************
الايام والظروف المتشابهة والوحدة كل تلك العوامل كانت كافية لصنع صداقة بين مرام وندى ، خرجت صداقتهما عن حدود الجيم فأصبحا يلتقيان فى اكثر من مكان ويتسوقان سويا ويبثان بعضهما البعض الهموم ، بدأت مرام الحديث فى هذا اليوم بينما كانا يتناولان الطعام فى احدى المطاعم قائلة فى مرح ” بحس يا ندى ان عندك حكاية ..مخبياها جوة عنيكى دى ”
قالت ندى وهى تلتهم طبق السلطة امامها ” وانتى يا مرام ..شكلك عندك حكاية اكبر ”
قالت مرام وهى تعبث بشوكتها ” ومحتاجة احكيها لحد وميقوليش انى مجنونة ”
تركت ندى الطعام وقالت ” مجنونة !!!...للدرجادى ”
هزت مرام رأسها وهى تقاوم البكاء قائلة ” انسى ..هتحكيلى انتى الاول ”
شعرت ندى ان مرام بحاجة اكثر الى الكلام فالكلمات كانت على طرف شفتيها ولكنها تراجعت فقالت فى صوت حنون ” مرام ..عاوزة اسمعك انتى الاول ”
تنهدت مرام ونظرت الى ندى نظرة طويلة ثم عادت لتنظر الى طبق المعكرونة امامها وهى تعبث به بالشوكة قائلة ” انا اتعس زوجة فى العالم .“
شهقت ندى فى دهشة وقالت ” معقول ...برغم كل اللى بتحكيه عن اهتمام وحب جوزك ”
واصلت مرام ” ندى ارجوكى سيبنى اتكلم من غير ما تقاطعينى ..يمكن دى المرة الوحيدة اللى هقدر اتكلم فيها واطلع اللى جوايا ”
هزت ندى رأسها فواصلت مرام ” مفيش ست فى الدنيا اتعس من انها تعيش مع جوزها وتحس ان غيرها بتشاركها فيه وهيا مش موجودة ...يعنى عدم وجودها اقوى من وجودى ..اول مرة حسيت ان سليم بيحاول يقربلى لقيته بقولى انتى بتفكرينى بواحدة حبتها زمان ..وانا قولت اكيد بعدها كل حاجة اتغيرت ...اكيد كبرنا ونضجنا ومبقاش فيه مكان لاحلام المراهقة والطفولة ..بس ماطلعش حقيقى ”
نظرت مرام الى ندى التى كانت تحافظ على صمتها احتراما لرغبتها فواصلت مرام بعد ان مسحت دمعة حارقة على خدها ” عارفة يعنى ايه تبقى متجوزة واحد وحاسة ان فيه حد واقف بينكو ..عارفة بعنى ايه جوزك وهوا نايم جنبك ينادى عليها فى احلامه .انا ببقى حاسة كانى شامة ريحتها ..كانها بتبقى نايمة بينا احنا الاتنين ...وبالرغم من كل ده مقدرش أتخلى عن حبه جوايا ..كل يوم حبى بيزيد ليه أكتر وخوفى بيزيد اكتر واكتر ..ندى انتى متخيلة انى مش خايفة من انه يكون بيخونى ...متخيلة انى حتى مش عاوزة اتأكد او ممكن اكون خايفة اتأكد ...انا كل اللى بيرعبنى انه يسبنى ويروحلها ..انا مقدرش اعيش من غيره ..انا مريضة بحبه وعشانه ممكن اعمل اى حاجة ..من غيره حتى مش بقدر اتنفس ..بتخنق ”
لم تستطع مرام المواصلة فأخفنت وجهها بين كفيها لتخفى بكائها الصامت عمن حولها ، نظرت ندى الى الناس لتتاكد ان لا احد يلاحظ هذا ، ورفعت يدها تربت على كف مرام قائلة فى اشفاق ” مرام حبيبتى اهدى ”
وانزلت كفيها من على وجهها ونظرت الى وجهها الغارق فى الدموع وهى تقول ” هيا مش موجودة ...هيا انتهت من حياته ..انتى دلوقتى اللى بتشاركيه كل لحظة فيها ..انتى الواقع وهى مجرد خيال ”
ابتسمت فى سخرية قائلة ” ومن فينا مبيحبش يعيش مع الخيال اكتر من الواقع ”
قالت ندى فى جدية ” بس فى الآخر لازم يرجع للواقع ويعش الحياة اللى المفروض انه يعيشها ..هيا انتهت مبقتش موجودة ..الوقت والزمن هيحولوها لمجرد ذكرى ”
قالت مرام فى قلق ” ولو فى يوم اتقابلو او شافها ”
هزت ندى كتفيها قائلة ” اكيد مش هيضحى بحياته معاكى يا مرام عشان شوية ذكريات ...واكيد هيا كمان مش هتكمل معاه على حساب مراته ”
ـ تفتكرى يا ندى
قالت ندى فى عطف ” اى واحدة محترمة متقبلش تربط سعادتها بتعاسة حد تانى ..اى واحدة محترمة متقبلش انها تبنى بيتها على انقاض بيت تانى هيتخرب فوق راس واحدة غيرها ”
نظرت مرام الى النافذة وهى تقول فى مرارة ” وانا ياترى هقبل ان حياتى تكون متعلقة بقرار حد تانى ”
قالت ندى محاولة زرع جو من التفاؤل ” وليه نسبق الاحداث ..وليه نتخيل وجود حاجات مش موجودة ..مرام اللى بتحكيه عن جوزك ميعملوش غير راجل بيعشق مراته فعلا ...كل التفاصيل دى ميعملهاش غير حد بيحب بجد ”
مررت مرام يدها على وجهها وقالت ” او حد حاسس بالذنب لانه مش قادر يكون معايا بقلبه فبيحاول يعوضنى ويعوض نفسه فى نفس الوقت وهوا بيتخيلنى حبيته فى كل حاجة بيعملهالى ”
تراجعت ندى ورفعت حاجبها فى اعتراض قائلة ” لا بقا انتى خيالك واسع زيادة عن اللازم ”
اغلقت مرام عينها للحظات حاولت بعدها الابتسام وهى تقول ” للاسف يا ندى فى حاجات محدش يقدر يحس بيها غير اللى عايشها ولو كل اللى حواليه شايفينها وهم ” حاولت التخلص من تلك الحالة ونظرت الى ندى محاولة تصنع المرح قائلة ”وانتى بقا هتقوللى حكايتك ؟؟“
تفاجئت ندى بالسؤال هذه المرة وللحظات فكرت فى ان قصتها قد تكون متشابهة مع اختلاف الادوار فربما تبدو لمرام فى انها مكان زوجها المتعلق فى ستائر الماضى ناسيا حاضره ، ولكنها فى حيرة فالماضى امامها ليل نهار والمستقبل والحاضر امامها ايضا وهى عاجزة عن الاختيار ، لذا فلم تخبر مرام اى شىء عن قصتها حتى لاتراها فى مكان زوجها لا محالة ،ستراها ظالمة ، وربماكان هذا حقيقيا ، وان رفضت الاعتراف بينها وبين نفسها ، تهربت من السؤال واستغلت حالة مرام وقتها ووعدتها انها ستقص لها قصتها فى يوم آخر وهى تعلم جيدا انها لن تبر بوعدها ابدا .
*********************************************************
تبقى ما يقرب من ساعتين على انتهاء النوبتجية الليلية وبدأت الاجواء تهدا نوعا ما ، استأذنت اسماء لحظات لترد على هاتفها ، اختلس عمر نظرة الى ياسمين التى بدا عليها الارهاق بشدة ، كان يتمنى اى فرصة يستطيع بها الحديث معها على انفراد ويعرف انه من الصعوبة ان يتكرر موقف كموقفف المطر من جديد ، لذا فحين خرجت اسماء شعر بان هذه فرصة جيدة ، ولكن تاهت كلماته ولم يعرف حقا من اين يبدأ فقال ” شكلك تعبانة اوى ”
ردت ياسمين وهى تحرك رأسها يمينا ويسارا فى تعب ” فعلا كانت نبطشية مرهقة جدا ”
نظر الى ساعته قائلا ” خلاص اهى هانت والدنيا هديت خالص ” ، وتنفس فى يأس وهو يرى اسماء تدخل من جديد وقالت وهى تنظر الى هاتفها قبل ان ترفع نظرة سريعة الى وجه ياسمين ” دكتورة فى حد عاوزك برة ”
لوى عمر فمه فى انزعاج بينما نهضت ياسمين فى كسل وهى تتساءل ” مين يا اسماء ”
هزت اسماء رأسها فى لا مبالاة وهى تقول ” مش عارفة يا دكتورة والله ..ممكن حد من اهل الحالات عايز يطمن على ابنه ولا حاجة ” .
تابعها عمر وهى تخرج من الغرفة ورمق اسماء التى كانت تطالع هاتفها وتمنى لو خنقها بيده ، استرخى فى مقعده واخرج هاتفه ليعبث به وبعد دقائق عادت ياسمين وما ان وطأت قدمها ارض الغرفة حتى تبعها طبيب من الاستقبال والطوارىء ، اخبرهم بعد القاء التحية ، ان هناك حادث بالقسم وهو بحاجة الى مساعدتهم لسد عجز الاطباء كالعادة ، زفر عمر فى غيظ وهو يتمتم ” انا عارف انها ليلة باينة من اولها ” ، ورمق اسماء التى كانت تعبث فى هاتفها وقال فى مزاح لم يخفى منه غيظه ” يلا يا اختى انتى كمان بتليفونك ده ” .
وفى استقبال الطوارىء كانت هناك العديد من الحالات التى تحتاج الى رتق للجروح ، بدا عمر وياسمين العمل مع باقى الاطباء ، انتهى عمر من ثلاثة حالات بينما وقفت ياسمين على نفس الحالة وهو ما اثار دهشته فياسمين ماهرة وسريعة جدا والحالة قد رآهاا لا تحتاج لكل هذا الوقت ، لذا فحين انتهى من الحالة الاخيرة ولم يتبق سوى الحالة التى تعالجها ياسمين ، اقترب منها وفى الزحام لم تستطع ان تشعر بوجوده ، واستطاع هو ان يلحظ ارتعاد كفها وشرودها الذى تحاول التغلب عليه بهز رأسها بين الحين والآخر لتستفيق ، شعر بعدم قدرتها على مواصلة العمل ، فأراد ان يخفف عنها العبء فلازال يحتفظ بطاقته ، ولكنه خشى فى الوقت نفسه من رد فعلها ، ولكن فجأة استدارت ياسمين له وكانها تشعر بوجوده منذ ان جاء ولم تتفاجىء به ، مدت يدها له بالادوات قائلة ” دكتور عمر ..انا تعبانة اوى ..ممكن تكمل انت ”
نظر عمر فى قلق الى عينيها التى تفتحها فى صعوبة والى بشرتها الشاحبة وهو يتناول منها الادوات قائلا ” اكيد طبعا ممكن ت...“ولم يكمل جملته فقد اختفت من امامه .
عاد عمر الى غرفة استقبال الاطفال من جديد ، وقد تبقى على انتهاء النوبتجيه حوالى ربع الساعة ، بحث بتلقائية عن ياسمين بمجرد دخوله فلم يجدها ، وجد فقط اسماء تفرك عينيها كعلامة يومية على اقتراب انتهاء النوبتجية ، ازداد قلق عمر ولم يكن لديه الوقت ليلم نفسه كالعادة على اى مشاعر تجاهها فحالتها التى رآها عليها قد اربكته ، تنهد وهو شبه متاكد من المكان الذى تتواجد فيه ، يريد فقط الاطمئنان عليها من بعيد وسيذهب ولن يفسد خلوتها بنفسها .
ولكن حين وصل الى باب المشفى توقف للحظات وهو يفكر لماذا هو قلق عليها الى هذا الحد ؟؟، من تكون ياسمين هذه بالنسبة اليه ؟؟، لماذا اصبحت تشغل تفكيره فى الاونة الاخيرة ؟؟، لم يعد الامر مجرد فضول او مجرد لغز يريد فك طلاسمه ، بل هو شىء اكبر من ذلك ، هز عمر رأسه فى قوة لينفى هذا الهاجس ويزيحه تماما من عقله ، وواصل طريقه محاولا اقناع نفسه بأى شىء ، حتى زال كل شىء وتحدثت فقط مشاعره وقد كاد ان يقفز من مكانه فى تلك اللحظة التى رآها على الارض مغشيا عليها وقد سقط حجاب رأسها عنها ، ركع عمر فى هلع على ركبيته ورفع رأسها قليلا واخذ يضرب على وجهها ويناديها دون جدوى ، أحس نبضها ضعيف للغاية ، وبيديها باردتين وبالشحوب يزداد ويزداد ، نظر الى حجابها الذى تهاوى على كتفيها فأخذ طرحتها ووقف ينظر لها فى حيرة ، لا يعرف كيف يلفه حول رأسها ، فندى شقيقته ولبنى والدته لايرتديا الحجاب ، ولكن فى النهاية وضعه حول رأسها كما كان يلف الشال على رأسه فى رحلات السفارى وكان هذا جيدا اذ استطاع ان يخفى شعرها بأكمله ، حملها عمرعلى ذراعيه دون تفكير ، وهو يحاول ان يسارع الخطى بقدر المستطاع وقبل ان يصل الى باب المشفى توقف وهو يفكر انه لايعقل ان يدخل بها هكذا على ذراعيه بن زملائه ، لمح امامه احد الاسرة المتحركة فنادى من كان يدفعه ووضعها عليه واخذها بسرعة الى غرفة الاستقبال .
****************************************************************
” تطلبى حاجة يا بشمهندسة ..احنا هنجيب فطار بس عشان حضرتك نزلتينا بدرى اوى وملحقناش ” ، قالت ندى وهى تجلس على كرسى فى الشرفة المطلة على الحديقة ” لا يارضا متشكرة ” ،الح رضا كعادته ولكن فى النهاية تركها وعاد الى زملائه ، اخرجت ندى التابلت الخاص بها واخذت تتصفح صور الاثاث التى اختارتها مع أحمد ، ابتسمت فى رضا فالعمل يسير بشكل جيد وقريبا سيتم تسليم المنزل ، كانت تشعر بالقلق احيانا الاتقوم بعملها بشكل جيد فيقلل ذلك من قيمتها امام أحمد ويشك فى موهبتها ، رفعت نظرها من على التابلت وهى تردد اسمه بداخلها ” احمد ” ، لقد حاول مرارا وتكرار طوال الفترة الماضية التحدث اليها وهى تصده بكل الطرق ، ربما للحد الذى جعله ييأس ولا ياتى لمتابعة العمل طيلة الايام الماضية ، ورغم شعورها بالراحة لتخلصها من نظراته التى كانت تشعر انها تقيدها الا ان شعورا بافتقاده كان يزعجها ، نظرت الى التابلت من جديد وفتحت حسابها على الفيس بوك ووجدت نفسها تتجه الى خانة البحث وتكتب اسمه الاول احمد ، بعدها توقفت لتتذكر ماذا كان لقبه وهل يكتب حسابه باسمه ولقبه ام باسمه واسم ابيه ، تفاجأت بصوت من خلفها يقول ” مليش اكونت على الفيس وانتى عارفة كدة من زمان ”
انتفضت ندى وهى تضع يدها على صدرها وسقط التابلت فى حجرها فسارعت من جديد وامسكت به وضمته الى صدرها فى توتر ، خرج أحمد من خلفها ووقف الى جوارها قائلا ” خضيتك انا آسف ...انا كنت ...“
قاطعته ندى بسرعة وكانها تنفى عن نفسها تهمة ودون حتى ان تنظر الى عينيه ” انا مكنتش بدور عليك على فكرة ” وواصلت فى حدة ” هوا محدش فى الدنيا كلها اسمه احمد غيرك ”
ابتسم احمد ابتسامة أغاظتها ووقال ” خلاص ..انتى متضايقة ليه ؟؟“ ، ونظر الى العمال وهم يفترشون الارض ويتناولون افطارهم وقال ” انتى مش عاوزة تفطرى انتى كمان ؟؟“
ردت فى عصبية ” مش عاوزة ..انا اصلا مبفطرش ”
كانت تشعر وكانها ضبطت متلبسة بتهمة ولذلك كانت تتحكم فى اعصابها وانفعالها بصعوبة وحين رفع هاتفه قائلا ” لا انا هطلب اكل ليا وليكى ”
صرخت فى عصبية ” قولت مش عاوزة ”
نظر احمد وندى مباشرة الى العمال الذين التفتو الى صوتها فقالت فى احراج وهى تنهض من على كرسيها ” انا آسفة بعد اذنك ”
وقالت وهى تعطيه ظهرها ” محتاجة بس اتابع شوية حاجات ”
وجدت احمد يقترب ليقف امامها قائلا ” هروبك المرة دى مش هيفيدك انا مصر اتكلم معاكى ” ، ازعجتها كلمة هروب ، هل لازال يظن انه بداخلها او انها تخشاه ، قالت فى تحد وبابتسامة ” اهرب ..اهرب من ايه وليه ؟؟“
رد احمد وهو يشير بكرسى لها لتجلس ” خلاص اقعدى واسمعينى مادام مبتهربيش ولا خايفة ”
ابتلعت كلمته التالية بصعوبة وجلست وكلها اصرار ان تواجه ماتهرب منه حقا وتنهيه ، جلس احمد فى كرسى مقابل لها وقال ” وهو يشبك اصابعه وينظر لها ” ندى ..انا عارف انك زعلانة لانى مكنتش موجود معاكى فى اى حاجة فاتت و...“
وقبل ان يواصل قاطعته ندى ” انت ليه مصر تتكلم فى ده ..احنا مكنش فيه بينا حاجة تحتم عليك تكون موجود ..احنا كنا مجرد زملا او اصدقاء وعادى يعنى محدش من اصحابى وقف جنبى فى اللى انا كنت فيه ”
قال فى الم ” ندى ..انتى عارفة زى ما انا عارف ان احنا ماكناش لبعض مجرد زملا او اصحاب ”
ازدردت ندى ريقها ووضعت يدها تدلك رقبتها فى توتر فواصل احمد ” اليوم اللى قولتلك فيه عاوزة اقولك على حاجة ومشيت ..عارفة كنت عاوزة اقولك ايه ..عارفة ليه مشيت ”
نهضت ندى بسرعة ووقفت تستند الى جدار الشرفة وانحنت للامام قليلا وهى تتنفس فى عمق لتزيح توترها فتبعها احمد بدوره وقال ” كنت عاوز اقولك انى ...“
قاطعته ندى ” احمد ” فواصل دون ان يبالى بها ” كنت هقولك انى بحبك ولسة بحبك وكأن كل اللى فات معداش ..انتى فاكرة انى روحت مكتب الديكور صدفة ..مش عايز اقولك انا فضلت ادور عليكى اد ايه ”
أغمضت ندى عينيها وقالت بصوت مختنق ” خلاص يا احمد كفاية كدة ”
قطب أحمد حاجبيه وقال وهو يقترب منها اكثر ” ليكى حق تزعلى وما تبصيش فى وشى تانى ..بس لازم تعرفى ان السنين اللى فاتت دى معدتش عليا بالساهل ..كنت بفكر فيكى كل يوم وكل دقيقة وكل لحظة ..فى كل حاجة كنت بعملها ..كنت بشوفك فى وش كل بنت ببصلها ..بغلط باسمك مع اى واحدة اناديها ..كنت فاكر انى لما ابعد هنسى ..وكل يوم كان بيعدى كنت بتوحشينى اكتر من اليوم اللى قبله ..ندى انا كنت قربت اتجنن “
احتقن وجه ندى وشعرت بحرارة تكاد تحرق وجنتيها وسؤال حبسته بداخلها طويلا واطلقت عنانه اخيرا فى لهجة الم وعتاب ” وانت ليه مشيت ؟؟“
نكس احمد رأسه فى الارض وهو يزفر فى الم فواصلت ندى وهى تهز رأسها فى ألم ” عشان سوء ظنك ...عشان افتكرت ان فيه حاجة بينى وبين ادهم ..مش كدة...مشيت من غير ما تفكر حتى تسألنى ”
رفع رأسه من جديد وتنهد قائلا ” مش بس كدة ”
عادت ندى الى الطاولة حيث اعطت ظهرها لاحمد وعقدت ذراعيها قائلة ” ومبقتش عايزة اعرف حاجة ..انا حاليا فعلا مرتبطة بادهم ”
قال دون ان يتحرك من مكانه ” عرفان وامتنان لوقوفه جنبك ..بس انتى عمرك ما حبتيه ”
التفتت اليه قائلة ” اديك قولتها هوا وقف جنبى وقت انت ما سبتنى لوحدى ..هوا دايما معايا حتى وهوا عارف انى مبحبهوش عمرى فى لحظة ما هبقى خايفة انى هيسيبنى ويمشى زيك ...حب من غير احساس بالامان ملوش اى قيمة ”
خطا باتجاهها قائلا ” وامان من غير حب ميخلقش سعادة يا ندى ”
شعرت ندى بان كلماتها وطاقتها باكملها قد نفذت وعقلها بدا فى التشوش ، لم تستطع ان تبقى فى مواجهة عينيه اكثر من هذا وأيقنت انها خسرت تحديها وأنه لازال بداخلها مهما حاولت الانكار والتجاهل .