رواية خيوط القدر الفصل الرابع 4 بقلم سارة المصري
الفصل الرابع
رفعت ندى سماعة الهاتف لتستقبل مكالمة من مديرها يخبرها فيها بأن هناك عميلا مهما فى الطريق الى مكتبها ، كانت تضع اللمسات الاخيرة لديكور امامها وتضيف بعض التعديلات ، لذا أرادت ان تستغل تلك اللحظات قبل ان يأتى العميل فى مراجعته حتى تتفرغ تماما لعملها القادم ، دققت النظر فى رسمها وهى تضع القلم فى فمها وانتبهت بعض لحظات على صوت يحييها ” صباح الخير ” ، أخرجت ندى القلم من فمها ورسمت على شفتيها ابتسامة عمل روتينية وهى تنهض لترحب بالعميل ، وما ان وقعت عيناها عليه حتى انتفضت وتراجعت قليلا قبل ان تتسمر فى مكانها وتمسك بطرف مكتبها لتقاوم تلك الرجفة التى أصابتها حتى انها لم تلحظ كفه الممدود لها ليصافحها ، لقد كان احمد ، لامست يدها كفه وسحبتها بسرعة حتى لا يشعر بارتعادها ، وعادت لتجلس على كرسيها من جديد كانها تغوص فيه ، اغمضت عيناها للحظات استرجعت بها مشاهد بعيدة منذ عامين او يزيد ، احمد كان معيدا فى الجامعة تعرفت عليه فى عامها قبل الاخير ، كان يراها طالبة مجتهدة او ربما كانت تلك هى الحجة المناسبة لاقترابهما من بعضهما البعض ، ساعدها كثيرا فى دراستها ونشأت بينهما صداقة فى البداية او هكذا اسمياها ، لم يخبرها احمد بمشاعره ولا هى، ولكن النظرات والاهتمام كانت تشى بكل شىء ، استمرت علاقتهما لشهور طويلة الى يوم اقيم فيه حفل ترفيهى لدفعة ندى ، دعت احمد الى الحفل والغريب انها حينما دعته هاتفيا اخبرها ان هناك امرا هاما يود اخبارها به ، لم تستطع ندى النوم ليلتها وهى تفكر فى الطريقة التى سيخبرها به عن مشاعره ونظراته وخجله وتلعثمه، وجعلت تتدرب على كتمان رد الفعل حتى لاتظهر عليها السعادة المفرطة الكافية بجعلها تضمه على الفور ، وفى منتصف الحفل تركها أحمد لدقائق ليحضر لها الايس كريم الذى تحبه ، وفى تلك اللحظات سمعت ندى احدهم يناديهافى المايك لتصعد على المسرح ، كادت ندى ان تطير من السعادة هكذا اراد ان يخبرها بما يحمله نحوها ، صعدت الى المسرح فى خجل فكانت المفاجأة ادهم كان من يقف أمامها يحمل باقة زهور كبيرة ويتحدث بكلمات لم تع منها شيئا من صدمتها ويطلب منها الموافقة على الزواج به ، الصدمة الجمت لسانها تماما ، فنظرت الى أدهم فى غيظ وحنق وطلبت منه تاجيل الحديث الى وقت آخر ، هبطت بسرعة سلم المسرح غير منتبهة لنظرات الهيام الموجهة من زميلاتها الى ادهم ودهشتهن فى ان ترفض شخصا كهذا او حتى تتردد ، بحثت عن احمد فى المكان كله فلم تجده وحين عادت الى المكان الذى تركته فيه وجدت عبوتى الايس كريم مسكوبتين على الارض ، ركلت الارض فى ضيق وواصلت بحثها من جديد دون جدوى ، أخذ احمد اجازة من الجامعة اسبوعا كاملا علمت بعده انه ترك الجامعة بأسرها وذهب الى جامعة اخرى ، ومن هذا الوقت لم تعرف عنه شيئا الا حين وجدته امامها الان ينظر لها بتمعن وابتسامة هادئة على شفتيه ، جلس بدوره وهو يقول ” ازيك يا ندى ”
ازدردت ريقها وهى تتظاهر بالنظر فى احدى الاوراق ” الحمد لله ”
اضاف فى تعجب ” كنت فاكرك هتشتغلى مع والدك ”
هزت ندى رأسها فى أسف وهى تقول ” فى حاجات كتير اتغيرت بعد ما انت ..“ ولم تكمل الجملة امسكت بقلمها وقالت فى عملية ” تحت امرك ..اقدر اساعدك فى حاجة؟؟ ”
ابتسم وهو يشبك اصابعه قائلا ” اكيد ..انا جاى اصلا ليكى ”
رفعت ندى حاجبها فى دهشة فواصل مصححا ” اقصد انى جاى للمهندسة ندى ”
ادارت ندى حدقتى عينيها يمينا ويسارا ثم قالت وهى تشير بقلمها ” اه ..انت العميل اللى قالولى عليه ”
قال باسما ” بالظبط ”
هل هذه مصادفة ، ام ان الاقدار تأتى احيانا فى صورة مصادفة ، لماذا يعود الان ؟؟، تأخر كثيرا ، هل سيتعاملان معا برسمية كان لم يجمعهما شىء فى يوم ما ، ولكن مهلا مالذى جمعهما من الاصل؟؟ ، لم تخبره ولم يخبرها بشىء ، انتهى الامر بينهما كصديقين لا اكثر ، لا داعى للتوتر ، فلتعامله كأى شخص عادى ، لم تكن هناك قصة بدأت لكى تنتهى ، لم يكن بينهما وعد لم يبر به ، عليها ان تتعامل على هذا الاساس ، هكذا فكرت ندى واتخذت قرارها وبدأت تهدىء من اعصابها ، وسكنت الرعدة التى المت بها وان كانت نبضات قلبها لازالت تتزايد ، نظرت له فى جدية وهى تعطيه ورقة وتقول ” تمام ..هنبدأ شغل ..حضرتك هتكتبلى العنوان ..اه نسيت هوا بيت ولا مكتب ولا ايه بالظبط ”
قال بلهجة بدت عليها الضيق من طريقتها ” فيلا ”
نظرت له ندى فى دهشة ”فيلا ” لم يكن احمد ميسور الحال لهذه الدرجة ، لم يكن يمتلك حتى سيارة من اين له بالفيلا ؟؟، ولكنها تنهدت وهى تلوم نفسها وما شأنها هى فليسكن فى اى مكان وليملك ما يملكه ، أضافت وهى تعطيه القلم متحاشية النظر فى عينيه ” حضرتك هتكتبلى مساحتها والمبلغ اللى انت مش عاوز تزود عنه كمان ”
واضافت وهى تخرج كارت صغير ” ده رقمى هتكلمنى فى اقرب وقت عشان ناخد العمال نشوقها وناخد فكرة ”
بدا الضيق واضحا على وجهه اكثر ولكنها لم تأبه به ونهضت لتقول فى رسمية ” فرصة سعيدة جدا يا فندم ”
نظر لها احمد فى عتاب قائلا ” فى ايه يا ندى ؟؟“
**************************************************************
سمع عمر صوت ضحكات تصدر من غرفة الاستقبال قبل ان يصل اليها ، تعجب عمر وقطب حاجبيه متسائلا هل جاءت طبيبة اخرى غير ياسمين هنا ، اختلس النظر بعين واحدة وهو يختبىء خلف الباب الذى كان شبه مفتوح ، فوجد ياسمين مع اسماء الممرضة وللدهشة كانت تضحك ، عقد حاجبيه للحظات يتأملها ، انها جميلة حقا ، ابتسامتها رائعة ، لايدرى هل هى هكذا حقا ام لانه لم يرى سوى وجهها العابس فأوحى له خياله جمالا لابتسامتها ، ولكن لا ..عينيها كانت تبرقان كنجمتين لامعتين فى سماء مظلمة ، لماذا تحرم هذه الحمقاء وجهها من تلك الاشراقة الرائعة ، انتبه عمر فجاة الى نفسه والى الابتسامة التى ارتسمت على ثغره وهو يراقبها ، مالذى يفعله ؟؟، .
طرق الباب والقى التحية وما ان وقعت عينه على ياسمين حتى لمح بقايا ابتسامة على ثغرها بدأت فى التلاشى تدريجيا ، وعاد لوجهها العبوس الذى اعتاده منها ، بعد قليل دخل طبيب أكبر سنا وهو يرتدى قناع ويطلب منهم ارتداء اقنعه مثله وهو يقول ” اشتباه فى التهاب سحائى ..البسو ماسكات ” ، ارتدى عمر وأسماء الاقنعة الخاصة بهم بينما لم ترتدى ياسمين شيئا ، ظن عمر انها لاتملك واحدا فناولها واحدا من علبة امامه لترتديه ، تنهدت وهى تأخذه منه وتهز رأسها شاكرة قبل ان تلقى به على المكتب دون ان ترتديه .
لم يعقب عمر على تصرفها فقد اعتاد منها هذا ، على كل حال هى ليست طفلة ، بل طبيبة وتعرف جيدا خطورة الوضع وما يجب عليها ان تفعله بالضبط ، انتهى الطبيب من فحص الحالة وامر بتحويلها الى مشفى آخر ليتم عزلها . لم تكن هناك حالات اخرى ، فاستأذنت ياسمين لدقائق لتجرى مكالمة فلم يستطع عمر مقاومة فضوله فسأل اسماء ” هيا ملبستش الماسك ليه ؟؟”
رفعت أسماء حاجبيها قائلة ” بتقول بتتخنق منهم ”
مط عمر شفتيه فى دهشة رآه مبررا واهيا ، تعرض نفسها للخطر من أجل انها تتضايق من قناع ، نظر الى الباب حيث خرجت وهو يتمتم ” فعلا انسانة غريبة ”
سمعته أسماء فقالت فى لهجة دفاعية ” بس طيبة جدا على فكرة ”
نظر لها عمر فى دهشة فواصلت أسماء ” هيا ممكن تكون عنيفة فى ردودها شوية ..بس ليها مواقف كتير شوفتها بعينى بتقول انها انسانة رقيقة جدا ”
كان عمر يريد منها ان تستفيض أكثر وتحكى كل ماتعرفه عن ياسمين ولكنه خشى من ان تلاحظ اسماء اهتمامه ، ولكن هل هو حقا مهتم ؟؟، لقد استفزته هذه الفتاة للغاية استفزازا لذيذا بدأ يتخلى به عن ضيقه وحنقه منها ، والحقيقة ان كلام اسماء كان يبدو منطقيا فقد راى بعينه تعاملها المتناهى الرقة مع المرضى وصبرها واحتمالها فى تكرار اسألتهم وثرثرتهم احيانا فى الاشياء المهمة والغير مهمة ، كان لديها احتمالا لا يملك هو جزءا منه .
انتهت نوبتجية هذه الليلة التى كانت هادئة الى نوع ما ..خلعت ياسمين معطفها وألقت التحية وذهبت فى الوقت الذى أوقفت اسماء عمر للحظات لتسأله عن بعض الاشياء الخاصة بمريض لها ، لمح عمر ” الاى دى ”الخاص بياسمين وقد نسيته على المكتب ، ترك اسماء بسرعة ليلحق بها ويعطيه لها ، وجدها تقترب من باب المشفى ، فاسرع ليلحق بها قبل ان تغادر ولكنها انحرفت الى طريق آخر ، الى الحديقة ، فضوله تجاهها جعله يبطء من خطواته ليتبعها ليعرف الى اين تذهب ، كانت تنحرف من طريق الى طريق ولا يعرف اين وجهتها حتى وصلت فى النهاية الى مكان تحيط به الاشجار من كل اتجاه ، جلست على شىء اشبه برصيف صغير ، مالذى تفعله هنا فى هذا المكان البعيد المخيف ، وقف بعيدا خلف احدى الاشجار يراقبها ، تفاجىء بها تخلع حذائها وتستند بظهرها الى الشجرة الكبيرة وتمد يدها تحت حجابها تدلك رقبتها ، قبل ان تمد يدها الى الهاتف لتشغل موسيقى هادئة وتغمض عينيها فى سكينة ، نظر عمر الى صورتها فى ” الاى دى ” ثم عاد الىها لينظر لها وهى تسترخى بهذه الطريقة وفى هذا المكان البعيد عن الانظار ، ثم توقف عن التفكير وربما حتى عن التنفس حين رأى دموعا تنساب من عينيها المغمضتين ويديها تمر على جسدها كأنها تربت على روحها ، امسك بالشجرة حتى كادت اظافره تغرس فيها ، نظر الى صورتها من جديد وهو يتساءل ياسمين من تكون ؟؟
*****************************************************************
فتح سليم الباب بببطء والساعة تقترب من الواحدة صباحا ، عم السكون التام أرجاء المنزل منذ ان تركه صباحا ، نظر الى الطابق الاعلى وزفر فى ضيق وهو يتذكر ماحدث ، اتجه الى غرفة مكتبه لم يكن يرد مواجهه اخرى تفقده أعصابه اكثر ، لقد تركها صباحا خشية ان يؤذيها ففى غضبه لا يرى أمامه ، انشغل بجهاز حاسوبه يراجع عليه بعض الاعمال بعد ان طلب من الخادمة احضار فنجان قهوة ، بعد دقائق كانت أمامه ، وضعت القهوة ولاحظ انها أطالت الوقوف فرفع نظره اليها متسائلا ، فقالت الخادمة وهى تحتضن الصينية التى قدمت عليها القهوة فى توتر ” مرام هانم يا سليم بيه ..مخرجتش من اوضتها من الصبح ”
انتفض سليم واقفا وهو يقول ” مخرجتش من الصبح؟؟..ازاى ؟؟“ ، واندفع يجتاز السلالم قفزا حتى وصل الى الغرفة ليجدها ملقاة أرضا دون حراك ، هزها بقوة وهو يخشى ان تكون عاودت محاولتها السابقة فى الانتحار ، فتحت عيناها فى صعوبة وتنفست فى صعوبة اكبر وهى تغلق عينيها من جديد ، أخذ سليم يضرب على وجهها فى عنف وتوتر بالغ وهو يناديها دون استجابة ، أخرج هاتفه بسرعة وطلب من اكرم مساعده احضار طبيب على الفور ، بينما حملها هو الى الفراش وظل يكرر محاولاته دون جدوى ، بعد اقل من ربع ساعة كان اكرم عنده يستأذن فى دخول الطبيب ، سمح له سليم بفحصها والقلق يلتهمه بشراسه ، كان يقرض أظافره ويهز جسده وهو ينظر الى وجهها الشاحب وشعرها الرطب الذى انتفش .
أخذ يلوم نفسه لما لما يأخذها المشفى مباشرة ، التوتر والقلق شل تفكيره تماما ، ماذا لو كانت محاولة انتحار بالفعل ؟؟، ضرب جبينه فى عنف فلو كان مايفكر به صحيحا فكل لحظة ستمر ستدفع مرام من حياتها الثمن ، انهى الطبيب فحصه وقال وهو يضع ادواته فى حقيبته وينظر الى سليم القلق قائلا ” خير ان شاء الله ..ضغطها انخفض شوية الظاهر انها زعلت ولا حاجة ”
لم يعقب سليم على كلامه بل قال وهو يضم كفيه اليه قائلا ” يعنى مفيش حاجة خطيرة ..انا خايف تكون خدت حاجة كدة ولا كدة ”
قال الطبيب وهو يكتب رشتة طبية ” لا ابدا متخافش ..انا عاوز حد يجيبلى المحاليل والادوية دى دلوقتى بس ”
ناول سليم الروشتة الطبية لاكرم الذى كان يقف خارج الغرفة وهو يصف له مكان صيدلية قريبة ، بينما ظل هو الى جوار زوجته .
*************************************************************************
أخذت ندى تخدش على اوراقها بالقلم فى عشوائية وهى تضع ذقنها على كفها الايسر وتحملق فى النافذة ، تفكر فى كل ما مر اليوم ؟؟، وما مر قبل اليوم وما حدث منذ عامين ؟؟، كل شىء حتى أصغر التفاصيل ، تفاصيل اول لقاء اول ابتسامة اول كلمة ، كل نظرة عابرة حملت اى معنى ، تفاصيل اللقاء الاخير بكل ما فيه ، هزت ندى رأسها لتستفيق من عالمها هذا ، مالذى تفعله ؟؟، لقد انتهت تلك القصة ، ثم اى قصة ؟؟؟، لم تكن هناك قصة من البداية نشات لكى تنتهى ، حين انفصلا آخر مرة كانا مجرد صديقين ، فلتعامله اذن بشكل طبيعى ليس فيه اى جفاء فلم يكن حبيبا غدر بها او وعدها وأخلف وعده ، يجب ان تعامله على انه مجرد معرفة قديمة ، شعرت بالرغبة فى التحدث الى عمر عنه ، ولكنها تراجعت وهى ترى ان تضخيم الامور من شانه ان يجعل لها قيمة من العدم ، فلا يجب ان تعطى الامر حجما من الاساس ، ربما كان هذا اختبارا لتعرف انها تجاوزت كل ما مضى وتخوض التحدى مع ادهم بكامل ارادتها متجاوزة كل العقبات واولها عقبة الماضى .
قررت ان تبدا العمل معه بدون اى ضغط ، بل انها ستفعل معه ما تفعله مع اى عميل ، اخرجت الورقة التى كتب فيها رقمه واتصلت به لتأخذ موعد لبدأ العمل ولكن لم يأتيها اى رد منه .
بمجرد ان انتهى الرنين ، رن جرس هاتفها برقم أدهم ، لم تعد تشعر بالانزعاج من تكرار مكالماته بل فى بعض الاحيان تشعر انها تفتقدها ، فتحت المكالمة بابتسامة وتحدثت معه لما يقرب من ساعة ، وحين وردتها مكالمة من احمد على الانتظار لم تعبأ به ، كان ادهم يتحدث وهى تسمع او تتظاهر انها تسمع لتشتت انتباهها بأى نبرة صوت تخرجهها مما هى فيه ، انهى ادهم مكالمته لها متمنيا أحلاما سعيدة ، استقبلت بعدها مكالمة من احمد الذى اعتذر عن عدم رده فى البداية لانشغاله ، واتفق معها على بدء العمل بعد أسبوع لوجود امور عالقة فى عمله .
لم تشأ ندى ان تطلق مسميا على الحالة التى تشعر بها ، بل انها أصرت ان تكون بهذا القرب من احمد حتى تثبت لنفسها انها تجاوزته قبل ان تستطيع ان تفتح صفحة اخرى مع ادهم او غيره ، كان اختبارا حقيقيا لمشاعرها الغير متوازنة فى هذا التوقيت ، مامر خلال عامين لم يكن هينا ابدا ربما بدل بداخلها كثير من الاشياء ، ولكن لم يبدل من حبها للتحدى وتحدى ذاتها هو أكثر انواع التحدى الذى تعشقه فماذا ستكون نتيجة تحديها هذا ؟؟.
*************************************************************
”مع السلامة يا حبيبتى ”
انهى ادهم مكالمته مع ندى فى الوقت الذى طرقت امه الباب برفق وهى تحمل بيدها فنجانا من الشاى ، نهض ادهم لياخذه منها وهو يقول ” بنفسك يا ست الكل ...“ ، نظرت امه الى الهاتف فى يده فجلست امه على طرف الفراش وهى تقول ” كنت بتكلمها برضه ؟؟“
وضع ادهم فنجان الشاى على المنضدة وهو يقول لامه مشاكسا ” شغل الحموات من دلوقتى ولا ايه ؟؟”
تجاهلت امه دعابته وواصلت فى سخرية ” والست هانم بقا مش هتتكرم وتحدد معاد الفرح ولا هتفضل تدلع كدة على طول...ليها حق ماهى لاقية اللى مستحملها ومجاريها ”
تنهد ادهم وكأنه اعتاد هذا من امه وقال ” وبعدين ياماما مش اتفقنا كل حاجة فى وقتها ؟؟“
نهضت وهى تقطب حاجبيها قائلة فى غضب ” كل حاجة فى وقتها كل حاجة فى وقتها ..انت بقالك كام سنة يا بنى بتجرى وراها ..ايه يعنى حلوة شوية ماالحلوين كتير ”
قال ادهم لامه معاتبا ” انتى برضه تعرفى عن ابنك انه يحب واحدة لمجرد انها حلوة ”
واصلت امها كانها لم تسمعه ” كان مالها ريهام بنت خالك ..حلوة وبتحبك وبتتمنالك الرضا ترضى ..فيها ايه التانية زيادة عنها ”
نهض أدهم وتأهب ليرد على الحوار الذى لا ينتهى كل يوم ” فيها اللى مش موجود فى اى حد ..انى بحبها ومش عاوز حد تانى غيرها ”
قالت امه فى رجاء ” بلاش ريهام لو حاسس انى بفرضها عليك ...شوف واحدة تانية اى واحدة غير اللى ملوعاك ومطلعة عينك دى ”
هنا سمع ادهم صوت ضحكات ايمن اخيه وهو يستند الى باب غرفته قائلا ” متقلقيش عليه يا ماما ..ده لو عايز واحدة تانية ميت واحدة هتجرى وراه ..سى كازانوفا معجباته كتير بس هوا اللى غاوى حب ومرمطة ”
نظرت له امه وقالت فى غضب ” انت تكرمت وجيت اخيرا يا ايمن باشا ”
ضحك ادهم وهو يغمز لايمن بمعنى ان الحوار سينتقل اليه هو الان فقالت امه وهى تبدل النظر بينهما ” ربنا واعدنى باتنين واحد غاوى جرى ورا واحدة ملوعاه والتانى غاوى يعيش على الاطلال ”
ابتسم ايمن فى حزن واضح نفضه سريعا وهو يقول مازحا ” لا انا اروح انام احسن واسيبك تتلقى وعدك انا مالى انا ”
رمقته أمه فى غيظ بنما عاتبها ادهم فى حنان مدركا الالم الذى اثارته امه بداخل اخيه حتى وان أخفى هذا كما تعود ليثبت للجميع انه اصبح بلا مشاعر قائلا ” ليه كدة يا ماما ”
التفتت اليه امه وواصلت حديثها بين اللوم والنصيحة ، حديثا مطولا استمع له ادهم بارهاق وقد فقد الامل فى اقتناع امه بوجهةنظره فتركها تقول ما يحلو لها وهو يرتشف الشاى ويتابعها تتحدث عن هذه وتلك ، وعن ضرورة الزواج بالعقل لا القلب ، وعن كم الزيجات التى فشلت لا عتمادها على الحب فقط فالحب وحده لا يمكنه ان يعمر بيتا وهكذا حتى ان انتهى ادهم من فنجان الشاى فنظر الى امه وهو يضعه على المنضدة قائلا ” تسلم ايدك يا ست الكل ” وبحركة سريعة استلقى على الفراش وسحب الغطاء حتى غطى رأسه فقالت امه فى غضب وهى تشد الغطاء ” هوا انا بكلم نفسى ؟؟“
اقترب ادهم من يدها وقبلها قائلا ” ماما ...مفيش فايدة من اللى بتعمليه ابدا انا مش هتجوز غيرها ...تصبحى على خير ”
*******************************************************************************
جلس سليم على كرسى قريب من فراش مرام يراقبها وهى غارقة فى النوم ، نظر الى ضعفها والى المحلول المغذى الذى يتسرب الى وريدها ، لم بنتبه الى أنه لم يبدل ثيابه ، فخلع سترته بالكاد وفك رباط عنقه والقاه جانبا ، انحنى ليقترب أكثر من وجه مرام ونظر للاعلى وهو يتنهد ويتذكر كلام والدها قبل ايام من وفاته ” أنا امنتك على كل حاجة يا سليم ..كل حاجة املكها لو عايزنى حتى اكتبلك كل حاجة بيع وشرا معنديش مانع ..بس اغلى حاجة عندى ومتتقدرش بمال هى مرام ...بعد موتى مش هيبقا ليها حد ,,اوعى تتخلى عنها او تسيبها يا سليم لاى سبب ..بنتى امانة فى رقبتك ”
قام سليم من على كرسيه وخلع حذائه وتمدد على الفراش الى جوار مرام وسحبها على صدره وهو يمسح على شعرها فى حنان بالغ ، انها مرام التى اعطته كل شىء ، مشاعرها وحبها واموالها واحلامها ولو امتلكت المزيد لاعطته اياه ، انها مرام التى وقفت الى جواره ونقلته الى عالم آخر ، عالم الثراء والبورصة ، مرام التى فضلته على ابناء السفراء والوزراء .
فكر فى انه لابد وان يكون هناك سببا قهريا لما فعلته ، ربما كان الخوف ما كان ينبغى عليه ان يشك فى حبها ولو للحظة ، شعرت بانفاسه ففتحت عينيها ونظرت حولها كأنها تحاول تذكر ما حدث ، وبنظرة دامعة قالت فى ضعف ” انا اسفة يا سليم ..ارجوك ما تسيببنش انا كنت ه...“ وضع يده على ثغرها قائلا ” هشششششششش“ وقبل رأسها وهو يضعه على صدره من جديد لتواصل النوم وهو يشعر براحتيها تستقران على صدره وبالنوم يتسسل الى جفونها سريعا ، فأسند رأسه الى رأسها واغمض عينيه محاولا معها تناسى كل ما حدث
رفعت ندى سماعة الهاتف لتستقبل مكالمة من مديرها يخبرها فيها بأن هناك عميلا مهما فى الطريق الى مكتبها ، كانت تضع اللمسات الاخيرة لديكور امامها وتضيف بعض التعديلات ، لذا أرادت ان تستغل تلك اللحظات قبل ان يأتى العميل فى مراجعته حتى تتفرغ تماما لعملها القادم ، دققت النظر فى رسمها وهى تضع القلم فى فمها وانتبهت بعض لحظات على صوت يحييها ” صباح الخير ” ، أخرجت ندى القلم من فمها ورسمت على شفتيها ابتسامة عمل روتينية وهى تنهض لترحب بالعميل ، وما ان وقعت عيناها عليه حتى انتفضت وتراجعت قليلا قبل ان تتسمر فى مكانها وتمسك بطرف مكتبها لتقاوم تلك الرجفة التى أصابتها حتى انها لم تلحظ كفه الممدود لها ليصافحها ، لقد كان احمد ، لامست يدها كفه وسحبتها بسرعة حتى لا يشعر بارتعادها ، وعادت لتجلس على كرسيها من جديد كانها تغوص فيه ، اغمضت عيناها للحظات استرجعت بها مشاهد بعيدة منذ عامين او يزيد ، احمد كان معيدا فى الجامعة تعرفت عليه فى عامها قبل الاخير ، كان يراها طالبة مجتهدة او ربما كانت تلك هى الحجة المناسبة لاقترابهما من بعضهما البعض ، ساعدها كثيرا فى دراستها ونشأت بينهما صداقة فى البداية او هكذا اسمياها ، لم يخبرها احمد بمشاعره ولا هى، ولكن النظرات والاهتمام كانت تشى بكل شىء ، استمرت علاقتهما لشهور طويلة الى يوم اقيم فيه حفل ترفيهى لدفعة ندى ، دعت احمد الى الحفل والغريب انها حينما دعته هاتفيا اخبرها ان هناك امرا هاما يود اخبارها به ، لم تستطع ندى النوم ليلتها وهى تفكر فى الطريقة التى سيخبرها به عن مشاعره ونظراته وخجله وتلعثمه، وجعلت تتدرب على كتمان رد الفعل حتى لاتظهر عليها السعادة المفرطة الكافية بجعلها تضمه على الفور ، وفى منتصف الحفل تركها أحمد لدقائق ليحضر لها الايس كريم الذى تحبه ، وفى تلك اللحظات سمعت ندى احدهم يناديهافى المايك لتصعد على المسرح ، كادت ندى ان تطير من السعادة هكذا اراد ان يخبرها بما يحمله نحوها ، صعدت الى المسرح فى خجل فكانت المفاجأة ادهم كان من يقف أمامها يحمل باقة زهور كبيرة ويتحدث بكلمات لم تع منها شيئا من صدمتها ويطلب منها الموافقة على الزواج به ، الصدمة الجمت لسانها تماما ، فنظرت الى أدهم فى غيظ وحنق وطلبت منه تاجيل الحديث الى وقت آخر ، هبطت بسرعة سلم المسرح غير منتبهة لنظرات الهيام الموجهة من زميلاتها الى ادهم ودهشتهن فى ان ترفض شخصا كهذا او حتى تتردد ، بحثت عن احمد فى المكان كله فلم تجده وحين عادت الى المكان الذى تركته فيه وجدت عبوتى الايس كريم مسكوبتين على الارض ، ركلت الارض فى ضيق وواصلت بحثها من جديد دون جدوى ، أخذ احمد اجازة من الجامعة اسبوعا كاملا علمت بعده انه ترك الجامعة بأسرها وذهب الى جامعة اخرى ، ومن هذا الوقت لم تعرف عنه شيئا الا حين وجدته امامها الان ينظر لها بتمعن وابتسامة هادئة على شفتيه ، جلس بدوره وهو يقول ” ازيك يا ندى ”
ازدردت ريقها وهى تتظاهر بالنظر فى احدى الاوراق ” الحمد لله ”
اضاف فى تعجب ” كنت فاكرك هتشتغلى مع والدك ”
هزت ندى رأسها فى أسف وهى تقول ” فى حاجات كتير اتغيرت بعد ما انت ..“ ولم تكمل الجملة امسكت بقلمها وقالت فى عملية ” تحت امرك ..اقدر اساعدك فى حاجة؟؟ ”
ابتسم وهو يشبك اصابعه قائلا ” اكيد ..انا جاى اصلا ليكى ”
رفعت ندى حاجبها فى دهشة فواصل مصححا ” اقصد انى جاى للمهندسة ندى ”
ادارت ندى حدقتى عينيها يمينا ويسارا ثم قالت وهى تشير بقلمها ” اه ..انت العميل اللى قالولى عليه ”
قال باسما ” بالظبط ”
هل هذه مصادفة ، ام ان الاقدار تأتى احيانا فى صورة مصادفة ، لماذا يعود الان ؟؟، تأخر كثيرا ، هل سيتعاملان معا برسمية كان لم يجمعهما شىء فى يوم ما ، ولكن مهلا مالذى جمعهما من الاصل؟؟ ، لم تخبره ولم يخبرها بشىء ، انتهى الامر بينهما كصديقين لا اكثر ، لا داعى للتوتر ، فلتعامله كأى شخص عادى ، لم تكن هناك قصة بدأت لكى تنتهى ، لم يكن بينهما وعد لم يبر به ، عليها ان تتعامل على هذا الاساس ، هكذا فكرت ندى واتخذت قرارها وبدأت تهدىء من اعصابها ، وسكنت الرعدة التى المت بها وان كانت نبضات قلبها لازالت تتزايد ، نظرت له فى جدية وهى تعطيه ورقة وتقول ” تمام ..هنبدأ شغل ..حضرتك هتكتبلى العنوان ..اه نسيت هوا بيت ولا مكتب ولا ايه بالظبط ”
قال بلهجة بدت عليها الضيق من طريقتها ” فيلا ”
نظرت له ندى فى دهشة ”فيلا ” لم يكن احمد ميسور الحال لهذه الدرجة ، لم يكن يمتلك حتى سيارة من اين له بالفيلا ؟؟، ولكنها تنهدت وهى تلوم نفسها وما شأنها هى فليسكن فى اى مكان وليملك ما يملكه ، أضافت وهى تعطيه القلم متحاشية النظر فى عينيه ” حضرتك هتكتبلى مساحتها والمبلغ اللى انت مش عاوز تزود عنه كمان ”
واضافت وهى تخرج كارت صغير ” ده رقمى هتكلمنى فى اقرب وقت عشان ناخد العمال نشوقها وناخد فكرة ”
بدا الضيق واضحا على وجهه اكثر ولكنها لم تأبه به ونهضت لتقول فى رسمية ” فرصة سعيدة جدا يا فندم ”
نظر لها احمد فى عتاب قائلا ” فى ايه يا ندى ؟؟“
**************************************************************
سمع عمر صوت ضحكات تصدر من غرفة الاستقبال قبل ان يصل اليها ، تعجب عمر وقطب حاجبيه متسائلا هل جاءت طبيبة اخرى غير ياسمين هنا ، اختلس النظر بعين واحدة وهو يختبىء خلف الباب الذى كان شبه مفتوح ، فوجد ياسمين مع اسماء الممرضة وللدهشة كانت تضحك ، عقد حاجبيه للحظات يتأملها ، انها جميلة حقا ، ابتسامتها رائعة ، لايدرى هل هى هكذا حقا ام لانه لم يرى سوى وجهها العابس فأوحى له خياله جمالا لابتسامتها ، ولكن لا ..عينيها كانت تبرقان كنجمتين لامعتين فى سماء مظلمة ، لماذا تحرم هذه الحمقاء وجهها من تلك الاشراقة الرائعة ، انتبه عمر فجاة الى نفسه والى الابتسامة التى ارتسمت على ثغره وهو يراقبها ، مالذى يفعله ؟؟، .
طرق الباب والقى التحية وما ان وقعت عينه على ياسمين حتى لمح بقايا ابتسامة على ثغرها بدأت فى التلاشى تدريجيا ، وعاد لوجهها العبوس الذى اعتاده منها ، بعد قليل دخل طبيب أكبر سنا وهو يرتدى قناع ويطلب منهم ارتداء اقنعه مثله وهو يقول ” اشتباه فى التهاب سحائى ..البسو ماسكات ” ، ارتدى عمر وأسماء الاقنعة الخاصة بهم بينما لم ترتدى ياسمين شيئا ، ظن عمر انها لاتملك واحدا فناولها واحدا من علبة امامه لترتديه ، تنهدت وهى تأخذه منه وتهز رأسها شاكرة قبل ان تلقى به على المكتب دون ان ترتديه .
لم يعقب عمر على تصرفها فقد اعتاد منها هذا ، على كل حال هى ليست طفلة ، بل طبيبة وتعرف جيدا خطورة الوضع وما يجب عليها ان تفعله بالضبط ، انتهى الطبيب من فحص الحالة وامر بتحويلها الى مشفى آخر ليتم عزلها . لم تكن هناك حالات اخرى ، فاستأذنت ياسمين لدقائق لتجرى مكالمة فلم يستطع عمر مقاومة فضوله فسأل اسماء ” هيا ملبستش الماسك ليه ؟؟”
رفعت أسماء حاجبيها قائلة ” بتقول بتتخنق منهم ”
مط عمر شفتيه فى دهشة رآه مبررا واهيا ، تعرض نفسها للخطر من أجل انها تتضايق من قناع ، نظر الى الباب حيث خرجت وهو يتمتم ” فعلا انسانة غريبة ”
سمعته أسماء فقالت فى لهجة دفاعية ” بس طيبة جدا على فكرة ”
نظر لها عمر فى دهشة فواصلت أسماء ” هيا ممكن تكون عنيفة فى ردودها شوية ..بس ليها مواقف كتير شوفتها بعينى بتقول انها انسانة رقيقة جدا ”
كان عمر يريد منها ان تستفيض أكثر وتحكى كل ماتعرفه عن ياسمين ولكنه خشى من ان تلاحظ اسماء اهتمامه ، ولكن هل هو حقا مهتم ؟؟، لقد استفزته هذه الفتاة للغاية استفزازا لذيذا بدأ يتخلى به عن ضيقه وحنقه منها ، والحقيقة ان كلام اسماء كان يبدو منطقيا فقد راى بعينه تعاملها المتناهى الرقة مع المرضى وصبرها واحتمالها فى تكرار اسألتهم وثرثرتهم احيانا فى الاشياء المهمة والغير مهمة ، كان لديها احتمالا لا يملك هو جزءا منه .
انتهت نوبتجية هذه الليلة التى كانت هادئة الى نوع ما ..خلعت ياسمين معطفها وألقت التحية وذهبت فى الوقت الذى أوقفت اسماء عمر للحظات لتسأله عن بعض الاشياء الخاصة بمريض لها ، لمح عمر ” الاى دى ”الخاص بياسمين وقد نسيته على المكتب ، ترك اسماء بسرعة ليلحق بها ويعطيه لها ، وجدها تقترب من باب المشفى ، فاسرع ليلحق بها قبل ان تغادر ولكنها انحرفت الى طريق آخر ، الى الحديقة ، فضوله تجاهها جعله يبطء من خطواته ليتبعها ليعرف الى اين تذهب ، كانت تنحرف من طريق الى طريق ولا يعرف اين وجهتها حتى وصلت فى النهاية الى مكان تحيط به الاشجار من كل اتجاه ، جلست على شىء اشبه برصيف صغير ، مالذى تفعله هنا فى هذا المكان البعيد المخيف ، وقف بعيدا خلف احدى الاشجار يراقبها ، تفاجىء بها تخلع حذائها وتستند بظهرها الى الشجرة الكبيرة وتمد يدها تحت حجابها تدلك رقبتها ، قبل ان تمد يدها الى الهاتف لتشغل موسيقى هادئة وتغمض عينيها فى سكينة ، نظر عمر الى صورتها فى ” الاى دى ” ثم عاد الىها لينظر لها وهى تسترخى بهذه الطريقة وفى هذا المكان البعيد عن الانظار ، ثم توقف عن التفكير وربما حتى عن التنفس حين رأى دموعا تنساب من عينيها المغمضتين ويديها تمر على جسدها كأنها تربت على روحها ، امسك بالشجرة حتى كادت اظافره تغرس فيها ، نظر الى صورتها من جديد وهو يتساءل ياسمين من تكون ؟؟
*****************************************************************
فتح سليم الباب بببطء والساعة تقترب من الواحدة صباحا ، عم السكون التام أرجاء المنزل منذ ان تركه صباحا ، نظر الى الطابق الاعلى وزفر فى ضيق وهو يتذكر ماحدث ، اتجه الى غرفة مكتبه لم يكن يرد مواجهه اخرى تفقده أعصابه اكثر ، لقد تركها صباحا خشية ان يؤذيها ففى غضبه لا يرى أمامه ، انشغل بجهاز حاسوبه يراجع عليه بعض الاعمال بعد ان طلب من الخادمة احضار فنجان قهوة ، بعد دقائق كانت أمامه ، وضعت القهوة ولاحظ انها أطالت الوقوف فرفع نظره اليها متسائلا ، فقالت الخادمة وهى تحتضن الصينية التى قدمت عليها القهوة فى توتر ” مرام هانم يا سليم بيه ..مخرجتش من اوضتها من الصبح ”
انتفض سليم واقفا وهو يقول ” مخرجتش من الصبح؟؟..ازاى ؟؟“ ، واندفع يجتاز السلالم قفزا حتى وصل الى الغرفة ليجدها ملقاة أرضا دون حراك ، هزها بقوة وهو يخشى ان تكون عاودت محاولتها السابقة فى الانتحار ، فتحت عيناها فى صعوبة وتنفست فى صعوبة اكبر وهى تغلق عينيها من جديد ، أخذ سليم يضرب على وجهها فى عنف وتوتر بالغ وهو يناديها دون استجابة ، أخرج هاتفه بسرعة وطلب من اكرم مساعده احضار طبيب على الفور ، بينما حملها هو الى الفراش وظل يكرر محاولاته دون جدوى ، بعد اقل من ربع ساعة كان اكرم عنده يستأذن فى دخول الطبيب ، سمح له سليم بفحصها والقلق يلتهمه بشراسه ، كان يقرض أظافره ويهز جسده وهو ينظر الى وجهها الشاحب وشعرها الرطب الذى انتفش .
أخذ يلوم نفسه لما لما يأخذها المشفى مباشرة ، التوتر والقلق شل تفكيره تماما ، ماذا لو كانت محاولة انتحار بالفعل ؟؟، ضرب جبينه فى عنف فلو كان مايفكر به صحيحا فكل لحظة ستمر ستدفع مرام من حياتها الثمن ، انهى الطبيب فحصه وقال وهو يضع ادواته فى حقيبته وينظر الى سليم القلق قائلا ” خير ان شاء الله ..ضغطها انخفض شوية الظاهر انها زعلت ولا حاجة ”
لم يعقب سليم على كلامه بل قال وهو يضم كفيه اليه قائلا ” يعنى مفيش حاجة خطيرة ..انا خايف تكون خدت حاجة كدة ولا كدة ”
قال الطبيب وهو يكتب رشتة طبية ” لا ابدا متخافش ..انا عاوز حد يجيبلى المحاليل والادوية دى دلوقتى بس ”
ناول سليم الروشتة الطبية لاكرم الذى كان يقف خارج الغرفة وهو يصف له مكان صيدلية قريبة ، بينما ظل هو الى جوار زوجته .
*************************************************************************
أخذت ندى تخدش على اوراقها بالقلم فى عشوائية وهى تضع ذقنها على كفها الايسر وتحملق فى النافذة ، تفكر فى كل ما مر اليوم ؟؟، وما مر قبل اليوم وما حدث منذ عامين ؟؟، كل شىء حتى أصغر التفاصيل ، تفاصيل اول لقاء اول ابتسامة اول كلمة ، كل نظرة عابرة حملت اى معنى ، تفاصيل اللقاء الاخير بكل ما فيه ، هزت ندى رأسها لتستفيق من عالمها هذا ، مالذى تفعله ؟؟، لقد انتهت تلك القصة ، ثم اى قصة ؟؟؟، لم تكن هناك قصة من البداية نشات لكى تنتهى ، حين انفصلا آخر مرة كانا مجرد صديقين ، فلتعامله اذن بشكل طبيعى ليس فيه اى جفاء فلم يكن حبيبا غدر بها او وعدها وأخلف وعده ، يجب ان تعامله على انه مجرد معرفة قديمة ، شعرت بالرغبة فى التحدث الى عمر عنه ، ولكنها تراجعت وهى ترى ان تضخيم الامور من شانه ان يجعل لها قيمة من العدم ، فلا يجب ان تعطى الامر حجما من الاساس ، ربما كان هذا اختبارا لتعرف انها تجاوزت كل ما مضى وتخوض التحدى مع ادهم بكامل ارادتها متجاوزة كل العقبات واولها عقبة الماضى .
قررت ان تبدا العمل معه بدون اى ضغط ، بل انها ستفعل معه ما تفعله مع اى عميل ، اخرجت الورقة التى كتب فيها رقمه واتصلت به لتأخذ موعد لبدأ العمل ولكن لم يأتيها اى رد منه .
بمجرد ان انتهى الرنين ، رن جرس هاتفها برقم أدهم ، لم تعد تشعر بالانزعاج من تكرار مكالماته بل فى بعض الاحيان تشعر انها تفتقدها ، فتحت المكالمة بابتسامة وتحدثت معه لما يقرب من ساعة ، وحين وردتها مكالمة من احمد على الانتظار لم تعبأ به ، كان ادهم يتحدث وهى تسمع او تتظاهر انها تسمع لتشتت انتباهها بأى نبرة صوت تخرجهها مما هى فيه ، انهى ادهم مكالمته لها متمنيا أحلاما سعيدة ، استقبلت بعدها مكالمة من احمد الذى اعتذر عن عدم رده فى البداية لانشغاله ، واتفق معها على بدء العمل بعد أسبوع لوجود امور عالقة فى عمله .
لم تشأ ندى ان تطلق مسميا على الحالة التى تشعر بها ، بل انها أصرت ان تكون بهذا القرب من احمد حتى تثبت لنفسها انها تجاوزته قبل ان تستطيع ان تفتح صفحة اخرى مع ادهم او غيره ، كان اختبارا حقيقيا لمشاعرها الغير متوازنة فى هذا التوقيت ، مامر خلال عامين لم يكن هينا ابدا ربما بدل بداخلها كثير من الاشياء ، ولكن لم يبدل من حبها للتحدى وتحدى ذاتها هو أكثر انواع التحدى الذى تعشقه فماذا ستكون نتيجة تحديها هذا ؟؟.
*************************************************************
”مع السلامة يا حبيبتى ”
انهى ادهم مكالمته مع ندى فى الوقت الذى طرقت امه الباب برفق وهى تحمل بيدها فنجانا من الشاى ، نهض ادهم لياخذه منها وهو يقول ” بنفسك يا ست الكل ...“ ، نظرت امه الى الهاتف فى يده فجلست امه على طرف الفراش وهى تقول ” كنت بتكلمها برضه ؟؟“
وضع ادهم فنجان الشاى على المنضدة وهو يقول لامه مشاكسا ” شغل الحموات من دلوقتى ولا ايه ؟؟”
تجاهلت امه دعابته وواصلت فى سخرية ” والست هانم بقا مش هتتكرم وتحدد معاد الفرح ولا هتفضل تدلع كدة على طول...ليها حق ماهى لاقية اللى مستحملها ومجاريها ”
تنهد ادهم وكأنه اعتاد هذا من امه وقال ” وبعدين ياماما مش اتفقنا كل حاجة فى وقتها ؟؟“
نهضت وهى تقطب حاجبيها قائلة فى غضب ” كل حاجة فى وقتها كل حاجة فى وقتها ..انت بقالك كام سنة يا بنى بتجرى وراها ..ايه يعنى حلوة شوية ماالحلوين كتير ”
قال ادهم لامه معاتبا ” انتى برضه تعرفى عن ابنك انه يحب واحدة لمجرد انها حلوة ”
واصلت امها كانها لم تسمعه ” كان مالها ريهام بنت خالك ..حلوة وبتحبك وبتتمنالك الرضا ترضى ..فيها ايه التانية زيادة عنها ”
نهض أدهم وتأهب ليرد على الحوار الذى لا ينتهى كل يوم ” فيها اللى مش موجود فى اى حد ..انى بحبها ومش عاوز حد تانى غيرها ”
قالت امه فى رجاء ” بلاش ريهام لو حاسس انى بفرضها عليك ...شوف واحدة تانية اى واحدة غير اللى ملوعاك ومطلعة عينك دى ”
هنا سمع ادهم صوت ضحكات ايمن اخيه وهو يستند الى باب غرفته قائلا ” متقلقيش عليه يا ماما ..ده لو عايز واحدة تانية ميت واحدة هتجرى وراه ..سى كازانوفا معجباته كتير بس هوا اللى غاوى حب ومرمطة ”
نظرت له امه وقالت فى غضب ” انت تكرمت وجيت اخيرا يا ايمن باشا ”
ضحك ادهم وهو يغمز لايمن بمعنى ان الحوار سينتقل اليه هو الان فقالت امه وهى تبدل النظر بينهما ” ربنا واعدنى باتنين واحد غاوى جرى ورا واحدة ملوعاه والتانى غاوى يعيش على الاطلال ”
ابتسم ايمن فى حزن واضح نفضه سريعا وهو يقول مازحا ” لا انا اروح انام احسن واسيبك تتلقى وعدك انا مالى انا ”
رمقته أمه فى غيظ بنما عاتبها ادهم فى حنان مدركا الالم الذى اثارته امه بداخل اخيه حتى وان أخفى هذا كما تعود ليثبت للجميع انه اصبح بلا مشاعر قائلا ” ليه كدة يا ماما ”
التفتت اليه امه وواصلت حديثها بين اللوم والنصيحة ، حديثا مطولا استمع له ادهم بارهاق وقد فقد الامل فى اقتناع امه بوجهةنظره فتركها تقول ما يحلو لها وهو يرتشف الشاى ويتابعها تتحدث عن هذه وتلك ، وعن ضرورة الزواج بالعقل لا القلب ، وعن كم الزيجات التى فشلت لا عتمادها على الحب فقط فالحب وحده لا يمكنه ان يعمر بيتا وهكذا حتى ان انتهى ادهم من فنجان الشاى فنظر الى امه وهو يضعه على المنضدة قائلا ” تسلم ايدك يا ست الكل ” وبحركة سريعة استلقى على الفراش وسحب الغطاء حتى غطى رأسه فقالت امه فى غضب وهى تشد الغطاء ” هوا انا بكلم نفسى ؟؟“
اقترب ادهم من يدها وقبلها قائلا ” ماما ...مفيش فايدة من اللى بتعمليه ابدا انا مش هتجوز غيرها ...تصبحى على خير ”
*******************************************************************************
جلس سليم على كرسى قريب من فراش مرام يراقبها وهى غارقة فى النوم ، نظر الى ضعفها والى المحلول المغذى الذى يتسرب الى وريدها ، لم بنتبه الى أنه لم يبدل ثيابه ، فخلع سترته بالكاد وفك رباط عنقه والقاه جانبا ، انحنى ليقترب أكثر من وجه مرام ونظر للاعلى وهو يتنهد ويتذكر كلام والدها قبل ايام من وفاته ” أنا امنتك على كل حاجة يا سليم ..كل حاجة املكها لو عايزنى حتى اكتبلك كل حاجة بيع وشرا معنديش مانع ..بس اغلى حاجة عندى ومتتقدرش بمال هى مرام ...بعد موتى مش هيبقا ليها حد ,,اوعى تتخلى عنها او تسيبها يا سليم لاى سبب ..بنتى امانة فى رقبتك ”
قام سليم من على كرسيه وخلع حذائه وتمدد على الفراش الى جوار مرام وسحبها على صدره وهو يمسح على شعرها فى حنان بالغ ، انها مرام التى اعطته كل شىء ، مشاعرها وحبها واموالها واحلامها ولو امتلكت المزيد لاعطته اياه ، انها مرام التى وقفت الى جواره ونقلته الى عالم آخر ، عالم الثراء والبورصة ، مرام التى فضلته على ابناء السفراء والوزراء .
فكر فى انه لابد وان يكون هناك سببا قهريا لما فعلته ، ربما كان الخوف ما كان ينبغى عليه ان يشك فى حبها ولو للحظة ، شعرت بانفاسه ففتحت عينيها ونظرت حولها كأنها تحاول تذكر ما حدث ، وبنظرة دامعة قالت فى ضعف ” انا اسفة يا سليم ..ارجوك ما تسيببنش انا كنت ه...“ وضع يده على ثغرها قائلا ” هشششششششش“ وقبل رأسها وهو يضعه على صدره من جديد لتواصل النوم وهو يشعر براحتيها تستقران على صدره وبالنوم يتسسل الى جفونها سريعا ، فأسند رأسه الى رأسها واغمض عينيه محاولا معها تناسى كل ما حدث