رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثالث 3 بقلم نرمين نحمد الله
خرجت رقية أخيراً من غرفتهما مع إكرام التي كانت الأن تبتسم في رضا...
تنهد ياسين في ارتياح وهو يلمح علامات الاطمئنان علي وجه إكرام...
والذي انتقل تلقائياً للسيد عاصم الذي ابتسم بدوره وهو يقوم من مكانه ليهتف في حزم :
_سنرحل الآن...
تشبثت به رقية وهي تهمس في رجاء:
_ابق قليلاً يا أبي...
ربت علي ساعدها وهو يقول بحنان:
_سنزورك لاحقاً يا بنتي...
+
سارت معهما رقية تودعهما حتي الباب...
وكذلك ياسين الذي،شد السيد عاصم علي يده وهو يهتف في مودة:
_هنيئاً لك رقية يا ياسين...عندما تمر الأيام ستشكرني علي هديتي هذه لك.
ابتسم ياسين بشحوب وهو يختلس نظرة إليها....
ثم همس بهدوء:
_أنا أشكرك عليها من الآن يا عمي...لا تقلق عليها معي.
+
رمقهما عاصم بنظرة رضا أخيرة...
ثم رحل مع إكرام في هدوء...
أغلق ياسين الباب خلفهما برفق...
ثم التفت إليها ليجدها تتوجه نحو غرفتها الصغيرة...
لحق بها بسرعة وهو يهتف:
_رقية...انتظري.
وقفت مكانها تنتظره...
حتي وصل إليها ليتطلع إلي ملامحها التي عادت لجمودها...
ازدرد ريقه ببطء وهو يقول بحزم:
_أريد التحدث إليك.
+
أومأت برأسها إيجاباً...
فسار معها ليجلس جوارها علي الأريكة...
لاحظ بوضوح اختلاجة أناملها المضمومة فهمس بحنان:
_أنتِ خائفة مني؟!
رفعت رأسها تقول بكبرياء:
_ولماذا أخاف منك؟!
أمسك كفها هامساً:
_لا تخافي مني يا رقية...لن أؤذيكِ يوماً...
ابتسمت في سخرية وهي تسحب كفها من كفه ثم قالت ببرود:
_أولاً أنا لست خائفة منك ولن أفعل...لو كنت تعرف شيئاً عن المرأة التي تزوجتها لعلمت أن رقية الهاشمي لا تخاف إلا من خالقها...وثانياً لا داعي لمشاعرك الرقيقة هذه فهي لا تعنيني...لا تمنحني مالست بحاجة إليه!!!
+
زفر بقوة وهو يهتف في ضيق:
_رقية! لن تستقيم حياتنا بهذه الطريقة!
ارتفع حاجباها وهي تهتف في سخرية:
_حياتنا؟!!!! يبدو أنك أسأت الفهم ...من قال أن لدينا حياة؟!!! أنا هنا ضيفة في منزلك...ستحسن ضيافتي ثم أرحل في سلام...
كز علي أسنانه وهو يقول في حزم:
_أنا لم أقرر بعد هذا الأمر...لم أمنحكِ كلمتي.
+
هزت رأسها تقول ببرود:
_لن يشكل هذا فارقاً لدي!!!
+
اشتعل الغضب في عينيه فواجهته ببرود عينيها هاتفة في صلابة:
_ما الذي تريده بالضبط يا ياسين؟!
+
أشاح بوجهه عنها وهو لا يدري بم يمكن أن يجيبها...
هو نفسه لا يعرف ماذا يريد...
عقله مشتت في وديان كثيرة...
وغياب آسيا الغامض هذا يقتله ببطء...
يزيد شتاته أكثر...
ويثقل علي روحه فيمنعه التفكير في أي شئ!!!
+
وقفت رقية لتقول ببرود:
_عندما تعرف ما الذي تريده أخبرني.
نظر إليها طويلاً ثم قال بحزم أخافها نوعاً:
_اجلسي .
+
ترددت للحظة لكن الشرر المتطاير في عينيه أخافها رغم أنها كرهت الاعتراف بذلك..
فجلست وهي تشيح بوجهها عنه كي لا تصطدم بنظراته المشتعلة...
أدار وجهها إليه لينظر في عمق عينيها وهو يسألها في عتاب حازم:
_في عُرف رقية الهاشمي ....هل هذه طريقة مناسبة لمعاملة زوجك؟!
دمعت عيناها بقهر وهي تشعر بقوتها تنسحب منها تدريجياً...
قرب وجهها إليه عندما لمح دموعها ليقبل جبينها بخفة هامساً:
_امنحينا بعض الوقت يا رقية...قبل أن تشهري كل سيوفك في وجهي هكذا.
+
ضغطت علي شفتيها بقوة كي تمنع نفسها من البكاء في هذه اللحظة...
إنها أول مرة في حياتها تشعر فيها بأنها وحيدة هكذا...
بعيدة عن دعم عائلتها الذي تخلت عنه بإرادتها يوم وضعت خطتها بالانفصال عنه...
فهي تعرف مدي سعادتهم وفخرهم بهذه الزيجة...
ولن يوافقوها بسهولة علي الانفصال عنه....
ضعيفة هي كما لم تعرف نفسها طوال عمرها....
لكنها لا تريده أن يري ضعفها هذا...
رقية الهاشمي لن تسمح لأحد أن يري ضعفها خاصة هذا الرجل!!!
+
شعر ياسين بما تعانيه...
فابتعد بأنامله عن وجهها وهو يسألها في هدوء:
_ما الذي قلتِه لوالدتك عنا؟!
أطرقت برأسها وهي تهمس :
_كما اتفقنا...أخبرتها أن كل شئ علي ما يرام.
+
أومأ برأسه في تفهم...
ثم رفع وجهها المطرق إليه لتدهشه حمرة وجنتيها...
ابتسم في حنان وهو يلاحظ خجلها الذي أدهشه!!!
لم يخطئ حين قال أن لهذه المرأة وجوهاً عدة!!!
من كان يري قسوة ردها وصلفها منذ قليل...
لا يصدق هذا الخجل الذي يلون وجهها الآن...
+
لكنه لا ينكر أنه جعلها تبدو ...
رائعة!!!
+
همس بعد لحظات من تأمل صفحة وجهها الفاتنة:
_لن أعاود الاعتذار إليك بالكلمات يا رقية فكل الكلام لن يخفف مثقال ذرة مما سببته لك من ألم...لكنني أعدكِ أن أبذل كل ما أستطيع كي أعوضك عما حدث.
+
أخذت نفساً عميقاً ثم همست:
_دعني وحدي الآن يا ياسين...
ربت علي كفها وهو يقول برفق:
_أنا أثق بعقلك يا رقية...أثق أنك ستتخذين القرار الصحيح.
رفعت إليه عينين حائرتين...
فابتسم بشحوب قائلاً:
_فقط ثقي في شئ واحد...أنا لن أفعل سوي ما يرضيكِ.
ابتسمت ابتسامة ضعيفة وهي تقوم من مكانها...
لتهمس في استسلام غريب علي شخصها الذي اعتاده:
_سأبقي في غرفتي قليلاً...
+
سارت بضع خطوات نحو غرفتها فاستوقفها بندائه باسمها...
توقفت مكانها فتوجه إليها ثم أمسك كتفيها هامساً وهو ينظر إلي عينيها بحنان عاتب:
_في عُرف ياسين النجدي...زوجتي لا تبكي سوي في حضني أنا...عندما أعجز عن منحك الحنان الذي ترغبين يمكنك ساعتها البحث عنه في حضن والدك!!!
+
أطرقت برأسها في خجل وهي تشعر بمشاعر مختلطة...
هذا الرجل يملك سلاحاً خطيراً في مواجهتها...
سلاح...يعرف متي يشهره في وجهها فتنهار حصونها كاملة...
سلاحٌ ميزته جلياً في عينيه ومنذ أول لقاء...
ولا تبالغ لو قالت أنها وافقت عليه وحده دون جميع خاطبيها لأجله...
إنه حنانه هذا الذي يفيض في عينيه...
وكأنه ينبع من بئر لا يجف ولا يغيض...
حنان يعدها بأمان الكون كله...!!!
+
طال إطراقها الصامت للحظات...
تمالكت فيها شتات روحها المبعثرة...
+
ثم رفعت رأسها إليه تقول بهدوء يناقض اشتعال جوارحها الآن:
_وأنت لا تنادِني "حبيبتي" ادعاءً أمام الناس..لو كنتَ أحببتَ ابنة عمك حقاً لما سمحت للسانك بقولها لغيرها ولو كذباً!!!
+
اتسعت عيناه في صدمة...
وهو يتذكر عندما قالها لها متكلفاً أمام والديها ليقنعهما بطبيعية وضعهما....
لكنها تركته لصدمته وهي تنسحب من أمامه في هدوء لتغلق باب غرفتها خلفها بالمفتاح كعادتها...
ظل واقفاً مكانه لفترة يتأمل الباب المغلق الذي اختفت خلفه هذه المرأة الغريبة...
رقية الهاشمي...
لغز أيامه القادمة...
الذي سيتعبه كثيراً حتي يفك طلاسمه كما يبدو!!!
==========================================================================
جلست مارية جواره يتناولان غداءهما في المشفي...
هتف حمزة بمرح:
_أنتِ تلميذة نجيبة لن تحتاجي سوي بضعة دروس أخري وبعدها ستكونين ماهرة...
+
هزت رأسها وهي تقول بيأس:
_أنت تقول هذا فقط لتشجعني...اللغة العربية صعبة جداً ...وأنا لا أجد حافزاً لتعلمها.
تنهد في خفوت ثم قال بجدية:
_إنها لغة وطنك ولغة القرآن...ألا تحبين أن تقرئي القرآن من المصحف مثلنا.
نظرت إليه طويلا دون أن ترد...
فغمغم في شرود:
_عندما ذهبت للعمرة العام الماضي...رأيت أناساً لا ينتمون للعرب يبكون وهم يمسكون المصحف يتمنون لو يجيدون القراءة فيه بالعربية....
+
رفعت حاجبيها بدهشة وهي تقول:
_هل ذهبت للعمرة؟!
مط شفتيه في استياء وهو يسألها:
_ألا تعرفين معني العمرة أيضا؟!
غمغمت في خجل:
_أعرفها طبعاً...والدي أداها مرتين من قبل ...لكنني لم أتخيل أن تكون قد أديتها في عمرك هذا...أبي لم يؤدها إلا بعدما تجاوز الخمسين وكذلك أصدقاؤه الذين رافقوه كانوا في نفس السن.
أطرق برأسه قليلاً ...
ثم رفعه إليها ليقول بهدوء:
_مارية ...هل تعلمين أنني أحب اسمك جداً منذ زمن بعيد...
ابتسمت في سعادة وهي تقول بفخر:
_حقا؟!
ابتسم لسعادتها الطفولية وهو يقول:
_نعم...إنه اسم السيدة مارية القبطية ...زوجة من زوجات النبي صلي الله عليه وسلم...هل كنتِ تعلمين هذا؟!
هزت رأسها نفياً في خجل وهي تقول:
_أنا لا أستخدمه هنا كثيراً...أصدقائي يدعونني ماري...وأنا لا أخفيك قولاً...لا أحب التعمق في الحديث حول ديني وجنسيتي...
+
هتف بضيق:
_لماذا يا مارية؟!
قالت بارتباك:
_العالم كله الآن يصم الإسلام بأنه دين الإرهاب والحوادث التي تحدث في كل مكان تؤكد ظنهم هذا...
تفحصها بنظراته طويلاً ثم هتف بجدية:
_وهذا هو دورك الحقيقي هنا .
رفعت حاجبيها بدهشة هاتفة:
_دوري أنا؟!
+
أومأ برأسه إيجاباً وهو يقول بحزم:
_نعم...دورك ودوري ودور كل مسلم يأتي هنا...أن يريهم قدوة حسنة ومثالاً جيداً للإسلام الذي لا يعرفوه...لا أن يتنصل من دينه وينجرف وراءهم دون تمييز!!!
+
أطرقت برأسها وهي تقول بحيرة:
_هذه هي المرة الأولي التي يحدثني فيها أحدهم بهذه الطريقة...حتي والدي لم يكن مهتماً بشئ من ثقافة الشرق سوي بنقطة واحدة ...أن أحتفظ بعذريتي حتي أتزوج...وكأن هذا هو كل ما يهم الشرقيين في نسائهم...هذه مشكلة من هم مثلي ...أنصاف العرب...أنا أشعر دوماً أني ممزقة ...غريبة بين الجميع...عندما أكون وسط أصدقائي هنا يقولون عني العربية الغريبة...وعندما يصطحبني أبي لزيارة أعمامي في مصر يدعونني الأجنبية الشقراء...وأنا بين هاتين الثقافتين عالقة...لا أكاد أشعر بالانتماء لأي منهما...
+
تنهد قائلاً:
_لقد أخطأ دكتور آدم عندما تركك هكذا...من الطبيعي أن تكوني بكل هذا الشتات مادمتِ لم تعرفي جيداً قيمة ما تملكيه...
ثم أردف بقوة:
_أنت مسلمة مارية...مسلمة...اختار الله لك أعظم الديانات لتولدي بها فلماذا تزهدين فيها هكذا؟!
تفحصته طويلاً ثم قالت بإعجاب واضح:
_عندما أسمعك تتكلم هكذا أشعر بالحماسة والفخر...ليت كل المسلمين مثلك هكذا!!
+
ابتسم وهو يقول بثقة:
_لو استطعتِ أن تكوني مثلي بهذه الحماسة والفخر بدينك فستنجبين للعالم أطفالاً مثلك ...
قامت من مكانها وهي تهتف في حماس طفولي:
_حسناً يا دكتور حمزة....لقد أثرت حماسي....من اليوم سأجتهد في دروس العربية والقرآن...مارية آدم ستكون أفضل منك .
قالتها وهي تخرج له لسانها مغيظة إياه فضحك ضحكة طويلة ....
ثم قال بإعجاب:
_مارية ستكون أفضل فتاة في العالم أجمع!
==========================================================================
انتظرها حتي أنهت صلاتها ثم اقترب منها ليجلس جوارها علي الأرض هامساً:
_تقبل الله!
همست بابتسامتها الحنون:
_منا ومنكم يا بدر.
ربت علي كفها وهو يقول بحنان:
_ما رأيك لو آخذك مع الصغير غداً للمدينة...أنت لم تذهبي للتسوق منذ زمن بعيد...والصغير مل البقاء هنا...
أومأت برأسها إيجاباً وهي تقول :
_هذه فرصة جيدة لنزور عمتي أيضاً...
+
أشاح بدر بوجهه عنها...
هو يكاد يعرف الغرض الحقيقي من زيارتها لعمتها...
لقد لمحت له بالأمر لكنه لم يجارِها فيما تفكر فيه...
سمية الحبيبة تريد تزويجه من ابنة عمتها نغم...
تظن أنه يمكن أن يفكر في امرأة أخري سواها هي...
هي التي اختارها قلبه منذ زمن بعيد لتكون له كل شئ...
لا...
لن يتزوج نغم ولا غيرها...
هو كفيل بنفسه وبابنه...
وحتي لو رحلت كما يزعمون...
لن يسمح لامرأة أخري أن تحتل مكانها عنده ...
سمية ستظل حبيبته الوحيدة...
+
تأملت شروده في قلق...
وهي تكاد تقسم بعلمها بما يدور في خاطره...
لكنها لن ترضي له أن يضيع عمره بعدها...
بدر لازال في ريعان شبابه...
وهو وحيد بلا عائلة ولا أصدقاء...
إنه يحتاج لإخوة لولده...
ولامرأة تعتني به وتمنحه الحب الذي سيفتقده بعدها...
ونغم ستكون زوجة مثالية له...
فهي جميلة وشابة وفوق كل هذا ...
هي ابنة عمتها...
من مثلها سيعتني بالصغير بعد وفاتها؟!!!!
+
أمسكت بكفه وهي تقول في رجاء:
_بدر...أنت لم ترفض لي طلباً منذ عرفتني.
نظر إليها بقوة وهو يهتف في حدة:
_إلا هذا يا سمية...إلا هذا!!
تأوهت في قوة وهي تهتف في ألم:
_أنت تظن أنك تسعدني بوفائك هذا؟! علي العكس ....أنت تزيد عذابي...أنا أموت في اليوم ألف مرة وأنا أتخيلك وطفلي تتعذبان بعدي...لا تزِدْ ألمي يا بدر....أرجوك.
+
أمسك كفها وهو يهتف بقوة:
_لا تحمليني ما لا أطيق يا سمية...أنا لن أحتمل أن تدخل حياتي امرأة غيرك أنت...أنت التي أحببتها منذ الصغر وكبرت أمام عيني لحظة بلحظة...قلبي وعقلي قبل جسدي لن يعترفا بغيرك في حياتي.
أطرقت برأسها...
فأردف في توسل:
_لماذا تستبقين الأحداث يا حبيبتي...لا تضيعي وقتنا في التفكير في أمور لم يأت وقتها بعد...دعينا نستمتع بأيامنا معاً...
تنهدت في حرارة...
فقام يقبل رأسها وهو يهمس في حب:
_لو تعلمين يا حبيبتي...أن لحظة واحدة معك تكافئ كل الكون...لا تحرميني ابتسامتك يا سمية...ابتسامتك التي عشقتها منذ وعيت علي هذه الدنيا...
+
ابتسمت بسعادة وهي تشعر بكلماته تحيي رميم قلبها...
بدر الحبيب الذي لا تذكر يوماً في حياتها مر عليها دون أن تحبه...
+
وها هو ذا يثبت لها في كل يوم...
أن الحب ليس مجرد خيال في كتب العاشقين...
لكنه حقيقة واقعة...
حقيقة تحياها وتحيا بها كل دقيقة من عمرها معه...
عمرها القصير الذي يهدده المرض في كل يوم...
لكنها ستعيشه وتستمتع معه به حتي آخر لحظة!!!!
==========================================================================
هبطت جويرية درجات سلم منزل العائلة الكبير...والذي يتكون من عدة طوابق...
كل طابق به شقتان...
يحتل جدها إحدي شقتي الطابق الأول...وأبقي الثانية الخالية لحمزة الغائب حتي يعود....!!!!
+
أما الطابق الثاني...
فإحدي الشقتين لفريدة وبناتها....والمقابلة لراجية وولديها حذيفة وعمار...
والآن يشغل ياسين وعروسه رقية إحدي شقتي الطابق الثالث...
أولاد النجدي لا يخرجون من بيته...
ولا عن قانونه وأوامره...!!!!!
وقد قضي قاسم النجدي بكلمته منذ زمن بعيد...
آسيا لحمزة...
وجويرية لعمار...
وساري لحذيفة..
وحده ياسين الذي اختار له أن يتزوج من خارج العائلة...
لأنه كان يخطط منذ البداية لتزويجه من بنات إحدي العائلات ذات السلطة والنفوذ...
وحده ياسين من أحفاده الذي كان يصلح لهذه المهمة...
فهو الوحيد الذي أكمل تعليمه العالي وأنشأ لنفسه شركة صغيرة كبرها بمجهوده ومال عائلته ليصبح لها مكانها في السوق بعد سنوات قليلة....
بينما فشل كل من عمار وحذيفة في تعليمهما واكتفيا بالعمل في التجارة...
لذلك كان ياسين هو الوحيد من أحفاد النجدي الذي يلائم نسب عائلة الهاشمي ويليق برقية ربيبتهم!!!
+
نعم...بنات فريدة تفوقن جميعاً في دراستهن ...
جويرية تخرجت في كلية الآداب ...وبعد إلحاح طويل علي جدها فتح لها مشروعها الخاص الذي ربما لا يدر عليها ربحا كبيرا لكنه يضمن لها العيش وسط العالم الذي تحبه...
مكتبة لبيع الكتب في مدينتهم الصغيرة تقضي بها جويرية أغلب وقتها بعيداً عن سلطان آل النجدي...
وسط أبطالها علي الورق...
+
أما آسيا فقد تخرجت هذا العام فقط في كلية الطب ...
آسيا العزيزة الغائبة كانت ستتسلم عملها بعد شهر واحد فقط في مشفي مدينتهم العام...
+
وساري الصغيرة آخر العنقود...
لازالت تكمل دراستها في كلية الهندسة...
التي اختارتها بإصرار وتنتوي التفوق فيها....
+
فريدة الغالية نجحت في تربية بناتها علي خير وجه...
لكن فعلة آسيا الطائشة ستدمر تاريخها كله!!!!
+
غرقت جويرية في شرودها وهي تنزل الدرجات ببطء حزين...
وكل الأفكار السابقة تراودها ثم تراجعت كلها لتحتل رأسها فكرة واحدة...
آسيا!!!!
آسيا التي اختفت منذ أيام ولا خبر عنها!!!!
قلبها يكاد ينفطر عليها وهي تتعجب كيف لم يعثر عليها أحد...!!!!
فريدة تكاد تموت قلقاً كلما مر يوم دون أن تعود...
تري....أين أنتِ يا آسيا؟!
+
قطعت أفكارها عندما شعرت بأحدهم يسحبها من ذراعها ليدخلها الشقة الخالية التي تخص حمزة ثم يغلق الباب خلفه بسرعة...
شهقت في عنف للمفاجأة عندما وجدت نفسها فجأة تستند للباب المغلق...
وأمامها يقف هو بملامحه التي تكرهها...
عمار!!!
+
كان صدرها يعلو ويهبط في انفعال لكنها هتفت في حدة:
_ما هذا الذي فعلته ؟! هل جننت؟!
ابتسم وهو يحاصرها بينه وبين الباب المغلق قائلاً بخشونته المعهودة:
_كيف حالك يا جوري...أنت ما عدتِ تزوريننا كالسابق...تضيعين وقتك كله في تلك المكتبة...
+
ازدردت ريقها في توتر وهي تدفعه بكفها هاتفة في صلابة مصطنعة:
_ابتعد يا عمار...لا يصح أن تقترب مني هكذا ولا أن تحتجزني في هذه الشقة الخالية...ماذا لو رآنا أحدهم؟!
أزاح كفها الذي تدفعه به عن صدره ليعاود الاقتراب منها وهو يقول بثقة:
_أنت في حكم زوجتي...
ابتعدت عن حصار جسده وهي تشعر بالخوف لكنها قالت بقوة:
_أنا لا أوافق علي هذا الزواج وأنت تعلم.
عقد حاجبيه بغضب وهو يهتف:
_كفاكِ دلالاً يابنة عمي!!!! كلمة قاسم النجدي لا ترد....أنت زوجتي برغبتك أو رغماً عنك.
هتفت بحدة:
_أي رجل أنت؟!!! تريد الزواج مني رغماً عني!!!!
جذبها من ذراعها بقوة فتأوهت وهي تهمس في توسل:
_دعني يا عمار...
ألصق ظهرها بالحائط وهو يمسك كتفيها هاتفاً في حدة:
_هل تريدين عصيان جدك كشقيقتك الهاربة التي جلبت لنا العار جميعاً؟!!
+
سالت دموعها علي وجنتيها في قهر وهي تشعر بهوان نفسها...
مجرد جارية أخري من جواري النجدي قرر قاسم منحها لحفيده هذا دون حتي أن يسألها عن رأيها....
هي جويرية النجدي التي كانت تسير بين زميلاتها وقريناتها في المدرسة والجامعة كالملكات بجمالها الهادئ وطلتها الفاخرة وثراء عائلتها الذي لا يخفي علي أحد...
ليست في حقيقة الأمر سوي جارية...
جارية في ثياب ملكية...!!!
لا يحق لها اختيار حياتها ولا زوجها...
قاسم النجدي هو الآمر الناهي هنا...
ولا أحد يملك حق الاعتراض!!!
+
تأمل دموعها التي كانت تحرق صدره وهو يقاوم أن يضمها لصدره...
يعرف أنها لا تحبه لكنه لن يتنازل عن أن تكون زوجته...
بل إنه يعتبرها بالفعل كذلك!!!
ألم يقل قاسم النجدي كلمته؟!!!
إذن فقد قضي الأمر!!!!
+
لكن ما يحرق قلبه حقاً هو إحساسه بالكره في نظراتها نحوه...
وهو الذي لم يعشق امرأة في حياته سواها...!!!!
منذ صغرهما وهي تكبر أمامه كالزهرة التي تتفتح في بطء...
حتي صارت لوحة رائعة تسرق الأنظار...
كان يخشي أن يقضي قاسم النجدي بتزويجها من ياسين فهو أكبر أحفاده وهي الكبيرة في أخواتها...
لكن القدر وقف معه...
عندما قرر قاسم أن يتزوج ياسين من خارج العائلة...
لتكون جويرية...نصيبه وقسمته...
وما أحلي هذا النصيب!!!
+
تأمل الرعب الناطق في نظراتها بأسف ثم مد أنامله يمسح دموعها هامساً بخشونة لا تليق بعاطفته نحوها:
_لا تنظري إلي برعب هكذا...أنتِ لا تنظرين إلي شبح!!
+
أغمضت عينيها بقوة وهي تودوهي تود لو تخبره أنه فعلاً كذلك...
هو الشبح الذي يطارد أحلامها الوردية فيبعثرها جميعاً...
هو المارد الذي يخنق كل أمل لها في الحياة بعيداً عن سجن آل النجدي...
هو أقسي حقيقة تنتظرها ولا تعرف كيف يمكنها الفكاك منها!!!!
+
ظل يمسح دموعها بأنامله في رقة لا تليق بغلظة طباعه...
وكأنه استعذب ملمس خدها فقالت في رجاء خائف:
_لا تلمسني يا عمار...
قبض أنامله بقوة ثم ابتعد عنها وهو يقول بخشونة:
_سأبتعد عنك يا جوري...لكن ليس لوقت طويل...سأحدث جدي في الأمر لنتم زواجنا بمجرد ظهور شقيقتك ال...!!
+
لم يتم عبارته لكن معناها المهين وصلها...
أطرقت برأسها وهي تفكر...
كم كانت آسيا صادقة عندما قالت أن فريدة أنجبت ثلاث جوارٍ!!!
وبقدر ما كانت تتمني عودة آسيا لتطمئن عليها...
بقدر ما تكره أن تعود الآن...حتي لا يتم زواجها بهذا الرجل!!!
لن تحتمل العيش مع عمار هذا تحت سقف واحد...
إنه يخيفها...
منذ صغرهما وهو يحب إثارة ذعرها...
حتي كبرت وكبر الخوف منه داخلها...
وعندما علمت أن قاسم النجدي قرر منحها له كزوجة...
سقط قلبها بين قدميها...
لكنها لم تملك حق الاعتراض...
كل ما استطاعت فعله أن تتضرع إلي الله ألا تكون له ...
كيف يمكن أن تتزوجه...
وهي ترتجف رعباً عندما ينظر إليها...؟!!!
+
لازالت تتعجب من الفارق الشاسع بين ياسين وعمار...
رغم أنهما أخوان...
لكن الأمر يبدو وكأن الحياة قد وضعت الحنان كله في ياسين واختصت عمار وحده بكل الغلظة والخشونة....
وهي التي تمنت طوال عمرها رجلاً يحتويها بحنانه...
يعوضها يتم طفولتها وافتقادها لأبيها...
رجلاً يكون هو صديقها وأخاها وأباها قبل أن يكون زوجها...
رجلاً...هو أبعد ما يكون عن عمار الخشن الغليظ الذي يثير خوفها بمجرد النظر إليه!!!
+
راقب صمتها الحزين بأسف وهو يتمني لو تحمل له من المشاعر ولو ذرة واحدة مما يحمله نحوها...
هو يعرف أنه خشن الطباع لا يجيد فنون الهوي كغيره من الشباب...
لم تكن له أي علاقة مع أي امرأة...
ولا يجيد التلاعب بأحاديث العشق...
بل ...لا يجيد حتي التعبير عن مشاعره...
لكنه موقن أنها لو منحته الفرصة فستشعر بكل هذا الحب الذي ادخره لها وحدها طيلة هذه السنوات...
من المستحيل أن يحمل عشقاً جارفاً هكذا بقلبه ولا تشعر هي به !!!!
غداً...
عندما تتزوجه وتكون معه في بيته ...
ربما استطاع أن ينقل إليها ولو نذراً يسيراً من نداءات قلبه الصامتة!!!!
+
ابتعد عنها آسفاً وهو يقول بغلظة:
_هيا اذهبي لعملك...وأعدي نفسك للزواج عندما تظهر شقيقتك.
+
رمقته بنظرات مقهورة...
وهي تفتح الباب لتنزل الدرجات المتبقية من السلم...
ذاهبة إلي المكتبة التي تملكها وتقضي بها أغلب يومها...
لعلها تعيش في خيالها بين الكتب الحياة التي لم يمنحها لها واقعها التعس!!!
+
راقب انصرافها بقلب حزين...
وهو يتمني لو تتبدل نظراتها التي اعتادها هذه ...
لو يري في عينيها يوماً نظرة حب...
فهل يأتي هذا اليوم؟!!!
==========================================================================
أمسك بدر كفها وهما يتجولان في إحدي المولات بالمدينة الكبيرة المجاورة للمزرعة...
بينما أمسكت هي بكف الصغير ...
تلفتت عن يمينها لتنظر لبدر ثم عن يسارها لتبتسم للصغير...
ثم حمدت الله سراً...
إنها تشعر الآن وهي تمسكهما بكفيها وكأنها امتلكت العالم كله...
دمعت عيناها وهي تقول في نفسها سراً...
لو مِتّ الآن فسأكون راضية...
لقد منحني الله جنة صغيرة علي الأرض...
جنة هي بدر وطفله...
فما الذي بقي من هذه الدنيا لأرجوه بعد؟!!!!
+
نظر بدر إليها وهو يسألها باهتمام:
_هل تعبتِ من المشي؟!
هزت رأسها نفياً وهي تقول بسكينتها المعهودة:
_لا ...أبداً...الصغير سعيد للغاية بهذه النزهة...دعنا نذهب به للملاهي...
أومأ برأسه إيجاباً وانحني ليحمل الصغير لكنها هتفت برجاء:
_دعه في يدي...أحب أن أمسكه هكذا!
+
أغمض عينيه في ألم وهو يشعر بما في نفسها هذه اللحظة...
وكيف لا؟؟!!!!
وهي سمية توأم الروح وشقيقة القلب؟!!!
سمية التي تمسك طفلها الآن وكأنها تتشبث به خوفاً من أن يسرقها الموت في أي لحظة...
تتشبث به وكأنه كنزها الذي ادخرته طوال عمرها القصير وتخشي أن تفقده...!!!
+
تمالك مشاعره العاصفة وهو يسير معهما حتي وصلوا لمدينة الألعاب...
ركب بدر مع الصغير إحدي الألعاب وهو يلوح لها بكفه في مرح....
كانت سمية تراقبهما بمزيج من الفخر والفرح وهي تري السعادة الواضحة علي وجه صغيرها ...
ابتسمت في حنان...
وهي تستخرج هاتفها من حقيبتها...
لتأخذ لهما بعض الصور...
وعندما انتهيا من اللعب...
طلب منها بدر أن يأخذ لهم عدداً من الصور الجماعية....
تغيرت ملامح وجهها وأغمضت عينيها بقوة وهي تهمس في اعتراض:
_لا يا بدر...لا أريد أن تلتقط لي صوراً معكما.
عقد حاجبيه في شدة وهو يسألها:
_لماذا يا سمية؟!
+
ابتسمت في شحوب وأشاحت بوجهها دون أن ترد...
ماذا يمكنها أن تقول له؟!!!
هي لا تريد أن يحتفظ منها بأي ذكري تنغص عليه حياته بعدها...
بل هي تتمني فعلاً لو يتمكن من نسيانها كي يمضي في حياته بعدها هو والصغير...
لا تريد له أن يدفن نفسه في أطلال ماضٍ لن يعود ليضيع عمره هباءً!!!!
+
بدر يعشقها!!!
هي تعلم أكثر من غيرها من تكون سمية بالنسبة إليه!!!
في ظروف غير هذه كانت ستكون أكثر النساء سعادة بحب كهذا!!!!
لكن في وضعها الحالي...
ستكون أنانية منها لو تدفنه معها حياً...
لو سمحت له بالسير خلف قلبه والعزوف عن الحياة بعدها!!!!
+
أمسك بكفها وهو يهتف في حزم:
_سنلتقط صوراً لنا معاً...ليست واحدة...بل عشرات....
امتلأت عيناها بالدموع وهي تهمس :
_لا تفعل...لا تعاند القدر يا بدر...ما أماتته الأيام لن تحييه الذكري!!!
+
وكأنه لم يستمع إليها...
تناول هاتفه ليلتقط لها وللصغير عشرات الصور...
ابتسمت رغماً عنها وهي تري عناده الذي طالما عشقته...
اتسعت ابتسامتها عندما منح هاتفه لأحد المارة وطلب منه أن يلتقط لهم صورة جماعية...
أقسم بداخله أن تظل تنير روحه للأبد...
سمية الغالية لن تموت بداخله أبدا!!!!!
==========================================================================
_انتحرت؟!
هتفت بها رقية في جزع وهي تضع كفها علي شفتيها ممسكة بهاتفها....
اندفع نحوها ياسين بسرعة وهو يسألها بلهفة تمتزج بالخوف:
_من هذه التي انتحرت؟! مع من تتحدثين يا رقية؟!!
التفتت نحوه بملامح مضطربة...
ثم ناولته الهاتف...
وهي ترمقه بنظرات مشفقة...
تناول منها الهاتف بأصابع مرتجفة....
وقلبه ينتفض برعب لم يعرفه طوال عمره...
هل من الممكن أن تكون هي؟!!!!!
+
وصله صوت السيد عاصم يهتف بجزع:
_رقية ....أين ذهبتِ يا بنتي؟!
خرج منه صوته بصعوبة يقول ببطء:
_أنا ياسين يا عمي.
صمت السيد عاصم للحظات ...
ثم استجمع شجاعته ليقول بنبرة مواسية:
_لله ما أعطي وما أخذ يا بني...لقد وصلت تحرياتنا إلي أن ابنة عمك كانت متواجدة قرب شاطئ البحر...حيث وجدنا حقيبة يدها وبها بعض أوراقها...استدعينا فريق البحث والانقاذ...لنجد ملابسها التي كانت ترتديها لكننا لم نعثر علي الجثة...
1
جثة؟!
جثة؟!
بمَ يهذي هذا الرجل؟!!!!!
آسيا...جثة؟!!!!
ترنح قليلاً في وقفته فأسندته رقية وهي تهتف في جزع:
_تماسك يا ياسين...
نظر إليها في دهشة للحظات...
ثم تحولت نظراته للتوسل وهو يهمس في ألم:
_هذا ليس حقيقياً...أليس كذلك؟!
+
نقلت بصرها بتوتر بينه وبين الهاتف...
ثم تناولته منه لتقول لوالدها في اقتضاب:
_سأحدثك لاحقاً يا أبي.
+
أغلقت الاتصال بسرعة...
ثم سحبت ياسين- الذي كان يقف مصعوقاً -من كفه لتجلسه علي أحد الكراسي...
صبت له كوباً من الماء وهي تقول بخوف حقيقي:
_ياسين...اشرب هذا.
لم ينظر إليها بل ظل وجهه علي جموده الشارد...
فهتفت بقوة وهي تهزه من كتفيه وقلبها يكاد يتوقف قلقاً:
_ياسين...هذه ليست حقيقة بعد!
التفت نحوها بحدة أخيراً فقالت بسرعة:
_طالما لم يعثروا علي....
+
تلعثمت في نطق الكلمة قليلاً مشفقة من تأثيرها عليه ....ثم أردفت بخفوت:
_طالما لم يعثروا علي جثتها فهذا يعني أنه لا يزال هناك أمل أن تكون علي قيد الحياة.
+
عاد يشيح بوجهه عنها في شرود...
وهو لا يكاد يستوعب هذا الذي سمعه -لتوه-...
هل من الممكن أن تفعلها آسيا؟!!!
هل فعلتها لأنه خذلها؟!!!!
اتسعت عيناه في ارتياع...
أي جرحٍ تركه في قلبها كي تقدم علي الهرب وإنهاء حياتها بهذه الطريقة؟!!!!
لو كان يعلم أنها ستفعلها لكان وقف في وجه جده ورفض هذه الزيجة...
بل ربما كان قد هرب معها ليتزوجا بعيداً عن طغيان النجدي!!!
لو كان يعلم أن آسيا صغيرته الحبيبة ستقتل نفسها لقدم روحه فداءً لها!!!!
+
وضعت رقية كفها علي كتفه في تردد...
وهي تهمس في وجل:
_ياسين!
+
لم ينظر إليها...
لكنه وقف ليتجه نحو باب الشقة....
تبعته بسرعة وقلبها يرتعد خوفاً عليه...
صعد درجات السلم فتبعته في وجل مشفق مما ينتويه...
دون أن تجرؤ علي سؤاله....
حتي وصل لسطح المنزل...
فتح الباب ببطء لينطلق صريره المعتاد...
+
توجه نحو الجدار الذي حفر عليه نقشهما يوماً...
أول حرف من حروف اسمه بالانجليزية يلتف حول حرفها الأول ليحتويه وكأنه يحتضنه!!!!
تحسس النقش علي الجدار وقد امتلأت عيناه بالدموع التي أبت أن تغادرهما...
وقفت رقية مبهورة تراقب النقش الذي يتحسسه علي الجدار...
لاريب أنه يخصهما....هو و آسيا...
خفق قلبها بقوة وهي تشعر بمزيج هائل من المشاعر...
+
شفقة...
علي هذا الرجل الذي فقد معشوقته غدراً...
غيرة...
علي قلب رجل يفترض أنه زوجها ومع هذا تراه مدلهاً في حب سواها. .
ذنب...
لأن وجودها في هذه العائلة هو الذي تسبب في هذه المأساة...
خوف...
من مستقبلها المجهول في هذا البيت بعد ما حدث!!!!
وأخيراً...
عشق...
عشق جارف لم تعرف له سبباً وليس لها عليه سيطرة ...
عشق لهذا الرجل أمامها والذي لا يكاد يراها ولا يشعر بها...
وهي من هي!!!!
رقية الهاشمي...
من كانت تلقب بنجمة السماء التي تهفو إليها القلوب...
لكن قلبها الأحمق للأسف...لم يتعلق سوي بهذا الرجل!!!!
+
قطع أفكارها عندما التفت إليها فجأة من شروده...
وكأنه لاحظ وجودها الآن فقط!!!
ليقول بصوت متهدج:
_دعيني وحدي يا رقية...أرجوكِ!
+
ترددت قليلاً...
ثم حسمت أمرها وغادرته...
لتختبئ خلف باب السطح تراقبه دون أن يشعر خوفاً من أن يؤذي نفسه....
+
لم تمض لحظات حتي سمعت صوت نشيجه الباكي...
عضت علي شفتيها بقوة وهي تراه يخبط رأسه في الجدار عدة مرات...
كادت تذهب إليه لتمنعه من أن يؤذي نفسه...
لكن ساقيها تجمدتا...
تماماً كقلبها الذي فقد دقاته...
وهو يراقب مسلسل خسارته المستمر...
لكن بشفقة هذه المرة!!!
==========================================================================
أغلق قاسم باب غرفته خلفه بعدما أعطي أوامره بألا يدخل عليه أحد...
توجه نحو الجدار الذي علقت عليه صور أولاده...
تأمل الصور كلها بتفحص جامد...
ثم تعلقت عيناه بصورة سعد.....
أطرق برأسه للحظات مستنداً علي عصاه...ثم أزاحها بعيداً...
سقطت عباءته من علي كتفه...
فأمسكها بيديه ثم وضعها علي صورة سعد...
حتي غطاها تماماً...
ثم همس في ألم لم يخلُ من شموخ النجدي المعتاد:
_لن أستطيع أن أنظر لصورتك بعد يا ولدي...لقد أضاع والدك أمانتك!
+
دمعت عيناه لأول مرة منذ سنوات طويلة....
بالتحديد...
منذ تلك المرة التي ودع فيها حمزة قبل سفره للندن...
أحفاده هم نقطة ضعفه الوحيدة...
يشهد الله أنه لم يرد لهم يوماً إلا الخير كما يراه...
هو يعرف أنه قد يقسو عليهم أحياناً...
لكنه يري ما لا يرونه...
هو يريد أن يضمن لهم الحماية من غدر الأيام...
العائلة هي الضمان الوحيد لأفرادها...
هي أمانهم وسندهم.
+
لن يسمح لحبات العقد أن تنفرط!!!!
+
إن كان سمح لياسين بالزواج من خارج العائلة ليستمد النفوذ والسلطة من عائلة الهاشمي....
لكنه لن يسمح بالمزيد من التشتت...
جويرية وساري لن تنالا مصير آسيا...
لن تسحبهما الدنيا بعيداً عنه...
ستبقيان في كنف العائلة محميتين بابني عمهما...
عمار وحذيفة....
ويجب أن يتم هذا في أقرب وقت...
حتي يطمئن علي ما تبقي من أمانة ولده سعد!!!!
+
جلس علي كرسيه في انهيار وهو يفكر ...
ما الذي دفع آسيا لتفعل فعلتها هذه؟!!!
ما الذي يدفعها للانتحار وإنهاء حياتها بهذه الطريقة ؟!!!
+
اتسعت عيناه في ارتياع...
وقد جاءه خاطر مزعج....!!!!!
هب من مقعده ليتوجه نحو باب الغرفة يفتحه بسرعة ليصرخ في غضب:
_أريد ياسين حالاً!!!!
+
لم تمض بضع دقائق حتي كان ياسين واقفاً بين يديه في انكسار....
تأمله قاسم طويلاً ثم قال في صرامة:
_أغلق الباب وتعال هنا.
+
أطاعه ياسين في صمت...
ليعود إليه صاغراً...
نظر إليه قاسم للحظة ثم هوي علي وجهه بصفعة مدوية....
ضم ياسين قبضته بقوة ثم أغلق عينيه في ألم....
عندما قال قاسم بصوت خفيض وهو يكز علي أسنانه:
_ما الذي حدث بينك وبين آسيا بالضبط حتي تلجأ للانتحار؟!
+
فتح ياسين عينيه ببطء وهو ينظر إليه في ارتياع....
لا يصدق ما يحاول جده التلميح إليه....
جذبه قاسم من ياقة قميصه وهو يسأله بقسوة:
_هل اعتديت علي عرض ابنة عمك؟!
هتف ياسين بسرعة:
_لا يا جدي...أقسم لك أنني لم أمسها يوماً ...
ثم أردف بخفوت:
_سوي تلك المرة ليلة الزفاف.
+
ضاقت عينا قاسم وهو يتأمله في تفحص...
ياسين لا يكذب...
لو كان يفعل لاكتشف ذلك بسهولة!!!!
+
إذن لماذا انتحرت تلك الفتاة؟!!!
ما الذي دفعها لهذا؟!!!!
حتي لو كان عاقبها علي فعلتها المشينة ليلة الزفاف بإقصائها عن العائلة لفترة...
لكن هذا لا يستوجب أن تلجأ لقتل نفسها...
يوجد سر في هذا الأمر!!! !
ظل صامتاً للحظات يتأمل ياسين في غضب مكتوم...
ثم قال بصرامة:
_عد لزوجتك...واذهب بها بعيداً عن هنا....سافر بها لأي مكان...هي لا ذنب لها في هذه المأساة التي حلت علينا.
هتف ياسين بجزع:
_لكن يا جدي ...أنا أريد البقاء جوار عمتي فريدة وبنتيها....كيف أتركهما في هذه الظروف؟!!!
وقف قاسم في شموخ مستنداً علي عصاه وهو يقول في حدة:
_عمتك فريدة لا تريد رؤية وجهك أصلاً...أنا لا أدري ما الذي كان يدور خلف ظهري لكنها تحملك المسئولية بشكل أو بآخر....اصنع لها معروفاً ولا تدعها تراك هذه الأيام....
+
قال ياسين بضراعة:
_صدقني يا جدي...أنا لم أؤذ آسيا يوماً...أنا...
+
قطع عبارته وقد اختنق حلقه بغصته...
لا يستطيع أن يكمل عبارته...
ماذا يمكنه أن يقول؟؟؟؟
آسيا هذه التي يتهمه أنه آذاها وأنه سبب موتها...
كانت أقرب إليه من روحه!!!!
كانت رفيقة قلبه وعمره...!!!!
كانت...
كانت...
أغمض عينيه بألم وهو،ينتبه أنه صار يتحدث عنها بصيغة الماضي...
آسيا صارت ماضياً...
وهي التي كانت الحاضر والمستقبل!!!!!!
==========================================================================
فتح عمار باب تلك الغرفة الصغيرة المنزوية في مدخل المنزل...
تقدم ببطء وهو يميز جسدها وسط ظلام الغرفة تجلس علي الأرض رافعة ركبتيها إلي صدرها وتدفن وجهها بينهما....
تحتضن ركبتيها بذراعيها ويهتز جسدها بانتفاضة البكاء...
توقف مكانه لحظات يرقبها بعينين ملتاعتين....
ثم جلس جوارها مستنداً علي الحائط وهو يهمس بخشونته التي تعرفها:
_كنت أعرف أنني سأجدك هنا.
+
رفعت رأسها إليه لكن نظراتها خلت من الخوف هذه المرة....
لم يترك الحزن في عينيها مكاناً لمشاعر أخري!!!!
نظر إليها للحظات ثم قال بخفوت:
_عندما كنتُ أثير خوفك في صغرنا كنتِ تحتمين بهذه الغرفة...وعندما توفي والدك رأيتكِ تبكين هنا...لهذا كنت واثقاً أنك ستختبئين هنا...
+
عادت تدفن وجهها بين ذراعيها وهي تنشج في صمت...
رغم أنها لم تتصور عمار هذا يفهمها هكذا لكنه محق!!!
هذه الغرفة هي التي تلجأ إليها عندما تريد الاختباء عن عيون الناس لتختلي بأحزانها...
وكم تتوق لهذا الآن...
تتمني لو تكون بشجاعة آسيا فتهرب من هذا الجحيم...
تتمني لو تعيش بعيداً عن رقّ آل النجدي الذي فرض عليها فرضاً...
تتمني لو تملك القدرة علي الاختيار والحب والحياة...
ولا تموت ذليلة معذبة كآسيا!!!!
+
عادت تتذكر آسيا فازداد نحيبها وهي تشعر بالقهر...
أي ظلم هذا الذي يدفع فتاة في عمر الزهور كآسيا لتلقي حتفها بهذه الصورة...؟!!!!
+
يقولون أنها انتحرت...
لكنها تعرف أن آسيا لا تفعلها...
لكن ربما آذاها أحدهم وتعرض لها ثم ألقاها في الماء ليخفي جريمته....
عقدت حاجبيها بشدة عندما راودها هذا الخاطر المزعج...
وشعرت بسيف من النار يخترق قلبها....
أخذ صدرها يعلو ويهبط في انفعال وهي تتخيل أسوأ ما يمكن أن تكون قد تعرضت له آسيا الحبيبة....
رفعت رأسها بسرعة وهي تقول بانهيار:
_افتح النافذة بسرعة يا عمار...لا أستطيع التنفس.
+
نظر إليها لحظة بقلق...
ثم هب بسرعة ليفتح النافذة....
عاد يجلس جوارها وهو يترقبها بتفحص...
كان صدرها ينتفض...
بل جسدها كله وكأنها فعلاً عاجزة عن التنفس!!!!
+
أمسك بكتفيها يرفعها لتقف وهو يقول بقلق:
_اهدئي يا جوري ...
تأملت ملامحه في شرود وقد عادت إليها صورة آسيا وهي تقول لفريدة:
_لقد ربيتِ ثلاث جوارٍ...
نعم...
هن جوارٍ لدي قاسم النجدي ...
يمنحهن لمن يشاء!!!
لقد أفلتت الجارية الأولي من قبضته...
لكن الدور قادم إليها...
وإلي ساري الجارية الثالثة!!!
+
عمار المخيف سيكون زوجها الذي ستنجب منه جوارٍ مثلها...
هذا قدر كل فتيات النجدي!!!!
+
هز كتفيها بقوة وقد بدأ يشعر بالرعب من نظراتها المتجمدة وأنفاسها المتلاحقة...
ثم هتف بقوة:
_جوري...انظري إلي...
هزت رأسها نفياً وهي ترفض النظر إليه....
وصورة آسيا تحتل رأسها ...
ثم صورته وهو يقول :
_كلمة قاسم النجدي لا ترد....أنتِ زوجتي برغبتك أو رغماً عنكِ!!!
+
دارت بها الأرض وهي تشعر بنفسها كالريشة في مهب الهواء....
لتسقط فجأة بين ذراعيه...
فاقدة للوعي...
+
*****
انتهى الفصل الثالث
+