رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثاني 2 بقلم نرمين نحمد الله
_لماذا يا آسيا؟! لماذا فعلت ذلك؟!
هتفت بها فريدة وسط دموعها فصرخت آسيا بألم :
_أنا لم أفعل شيئاً...أنتم الذين تفعلون...وأنا لا شئ...مجرد لعبة في أيديكم....مجرد جارية!!
كادت فريدة ترد لولا أن تدخلت جويرية لتقول بتعقلها المميز:
_دعيني معها وحدنا يا أمي...
+
غادرتهما فريدة في تحسر...
وهي تشعر بقلبها يتمزق...
كيف لا..
وقطعة من قلبها توشك أن تفارقها ولا تدري متي سيمكنها رؤيتها ثانية...؟!!!!
فريدة تعرف قاسم النجدي جيداً...
لن يسمح بعودة آسيا إلا بعد وقت طويل...
طويل جدا....
+
بينما كانت جويرية تقول لآسيا برفق:
_اهدىي يا آسيا...وترفقي بنفسك...اليوم كله كان صعباً عليك.
+
ارتمت آسيا في حضن شقيقتها وهي تنشج في صمت...
لا تصدق أن عالمها الذي عرفه عمرها القصير ...
قد انهار هكذا بغمضة عين...
سيبعدونها عن هنا...
عن والدتها وأختيها ...
وياسين!!!!!
+
ياسين...
هل تراه نسيها الآن متنعما بدفء أحضان زوجته؟!!!
هل رضي بعد أن ضمها اليوم لصدره لأول مرة....أن يعاود ذلك مع غيرها...؟!!!
هل قبل بهذا...
هل طاوعه قلبه الذي تملكته كما تملكها؟!!!
+
عادت تنتحب بقوة فربتت جويرية علي ظهرها وهي تهمس في حنان:
_أمي تشبهك دوماً بقطعة الكريستال...تقول أنك هشة مثلها سهلة الكسر...لكنني أعرف أنك بداخلك امرأة قوية...ستتقبلين قدرك صامدة...
هزت آسيا رأسها بيأس ...
فأردفت جويرية بحنان عاتب:
_أنا أشعر بك يا آسيا...صدقيني...لكنك اليوم قسوتِ علي الجميع...وعلي نفسكِ أولاً....
+
رفعت إليها آسيا عينين ضائعتين...
وقد بدأت الغمامة تنقشع عن عينيها رويداً رويداً...
لتتبين -لتوها-فداحة ما اقترفته الليلة...!!!!!
يا إلهي!!!
أي جنون هذا الذي أصابني الليلة؟!!!
هكذا حدثت نفسها وهي مصدومة....
+
عادت جويرية تربت علي ظهرها هامسة:
_من يدري؟! لعل الله اختار لك الخروج من هذه الدوامة التي أغرقتك...لا تنظري لأمر جدي برحيلك علي أنه عقاب ...بل ربما هو هدية القدر لتبدئي من جديد...
+
عادت دموعها تسيل علي خديها وهي تشعر بالغربة...
يالغربتي بعدك يا ياسين!!!!
أي وطن سيقبلني بعدما لفظتني من أرضك...؟!!!
وأي بيت سيأويني وقد كنت أنت أمان جدراني كلها...؟!!!
+
اقتربت منهما ساري تقول بهدوء لا يناسب الموقف:
_دعيها يا جويرية...بعض الدروس نحتاج لنتعلمها بأنفسنا...لا أن يعلمنا إياها أحد....
التفتت إليها آسيا بدهشة فأردفت ساري بابتسامة حنون:
_لست أدري متي سيمكنك العودة إلينا...لكنني واثقة من شئ واحد...عندما تعودين إلينا ستكونين آسيا جديدة...آسيا قوية لا يكسرها أحد...
+
مدت كل من جويرية وآسيا ذراعيهما إليها...
لتندس بينهما في حضن أخوي جماعي...
لا تدري أي منهن متي يمكنهن التنعم بمثله مجدداً...
==========================================================================
فتح ياسين عينيه علي ضوء الصباح الذي ملأ الغرفة...
نظر حوله بتفحص ليتبين موقفه الجديد...
ابتسم في سخرية مريرة وهو يسترجع أحداث الأمس الصاخبة...
ثم انتفض بقلق عندما سمع أصوات جلبة تحت نافذة غرفته...
قام من فراشه في جزع...
ثم فتح النافذة بسرعة...
ليسقط قلبه تحت قدميه...
إنها السيارة التي ستقل آسيا وحدها لمنزل خالها في منفاها الجديد هناك...
وها هي ذي الحبيبة الغالية...
تقف مودعة فريدة وأختيها بفيض من الدموع...
+
ناداها قلبه دون لسانه فلم تخيب رجاءه...
رفعت رأسها إليه وكأنها كانت تترقب حضوره ...
لتلتقي عيناهما في حديث طويل...
يليق بوداع كهذا...
قبل أن تطرق برأسها لتستقل السيارة التي انطلقت بها بعيداً عن الجميع ...
+
لقد قال القدر كلمته الأخيرة...
ورحلت آسيا..
حاملة قلبه معها!!!!
+
هكذا فكر وهو يغلق النافذة...
ليسند رأسه علي الجدار مخفياً دمع عينيه الذي يبكيها الآن...
آسيا...
حبيبته وصديقته وابنته...
وحلم العمر الذي غادر -لتوه- عالمه...
إلي الأبد...
+
ظل علي حاله هذا بضع دقائق...
حتي سمع صوت جرس الباب لينتبه فجأة للغريبة التي تقيم معه...
الغريبة التي يفترض أنها زوجته...!!!
والتي نامت ليلتها وحدها في الغرفة المجاورة...
زفر بقوة ...
وهو يخرج من غرفته إلي غرفتها...
متجاهلاً صوت الجرس...
طرق الباب برفق عدة مرات فلم تجبه...
استبد به القلق وهو يتردد في فتح الباب...
ثم خاطب نفسه ...
إنها زوجتك يا أحمق...!!!!
افتح واطمئن عليها...
+
فتح الباب بهدوء...
وهو يتقدم نحوها...
ليتأمل ملامحها الجميلة النائمة ...
يكاد يقسم أنها المرة الأولي التي يتبين فيها ملامحها جيداً...
لم تزد في نظره- منذ خطبها له جده -عن كونها امرأة فحسب...
كل النساء بعد آسيا متشابهات ...
كلهن سواء...!!!!
+
خفق قلبه بإشفاق وهو يلمح بقايا الدموع المتجمدة علي وجنتيها...
+
عقد حاجبيه بضيق وهو يشعر بكرهه لنفسه...
أي وغد هذا الذي يجعل زوجته تبيت ليلة زفافها وحدها بدموعها علي خدها هكذا...؟!!!
وليست أي زوجة...
إنها رقية الهاشمي...!!!!
التي يعرف جيداً كم من العائلات التي كانت تتمناها لبنيها...
ربما لو لم يكن قلبه ملكاً لآسيا لكان الآن أسعد أهل الأرض بزوجة كهذه!!!!
+
اقترب منها ليجلس علي طرف الفراش ....
لامس وجنتها بأصابعه برفق...
ففتحت عينيها لتهمس بصوت نائم وكأنها تحلم:
_ياسين.
ازدرد ريقه ببطء وهو يشعر بتأثير همسها هذا عليه...
عندما انتفضت من مكانها بقوة وقد انتبهت لموقفهما لتهتف بحدة:
_ما الذي تفعله هنا؟!
+
قام من جوارها ليقول بهدوء لا يخلو من الاعتذار:
_جرس الباب يرن...لا يليق أن يراكِ أحد نائمة هنا.
قامت من سريرها ...
لتقابله بعينين واثقتين قائلة:
_هل فكرت فيما قلته لك بالأمس؟!
+
أشاح بوجهه عنها وهو لا يدري ما الذي يمكنه قوله لها...
إنه حتي لم يتذكرها- هي شخصيا-ً قبل أن يرن الجرس..
فكيف بما تظنه اتخذ فيه قراراً؟!!!
عاد يلتفت إليها وقد عاد الجرس للرنين قائلاً :
_هذا ليس وقتاً مناسباً للحديث...
+
أومأت برأسها إيجاباً وهي تهمس:
_معك حق...
قالتها وهي تخرج من الغرفة الصغيرة لتدخل غرفتهما وتغلق بابها خلفها....
تنهد في ضيق وهو يتوجه نحو باب الشقة ليفتحه ...
ليطالعه وجه أمه راجية التي هتفت بفرح:
_مبارك يا حبيبي...مبارك.
انطلقت الزغاريد العالية وراجية تحتضنه بقوة...
لتدخل الخادمة واضعة صينية الطعام علي المائدة...
ثم تنصرف في هدوء...
لتسأله راجية بلهفة:
_كيف حالك مع عروسك؟!
+
أطرق برأسه ولم يرد...
فعقدت حاجبيها في ضيق...
عندما فتح الباب لتخرج منه رقية...
+
شهقت راجية في انبهار وهي تتأمل رقية التي خرجت في أبهي صورة...
ملكة حقيقية !!!
سبحان من صورها بهذه الطلة الفاتنة...
وهذه الهالة من السحر التي تحيط بها أينما حلت...
توجهت نحوهما رافعة رأسها في كبرياء وهي تصافحها في برود...
لكن راجية احتضنتها بقوة هاتفة:
_مبارك يا حبيبتي ....مبارك.
+
ابتسمت رقية برقة وقد استشعرت طيبة هذه المرأة التي بددت سحب برودها لتهمس بخجل:
_شكراً يا عمتي.
قالت راجية بطيبة:
_قولي لي يا أمي...يشهد الله أنني أحببتك كأولادي.
+
أطرقت رقية برأسها وهي لا تدري كيف ترد...
فشعرت راجية أن الوضع بين ياسين وزوجته ليس علي ما يرام...
وهذا ما لا تتعجبه بعد فضيحة الأمس...
آسيا الحمقاء أفسدت ليلة العمر علي ولدها بفعلتها المشينة...
لكنها نالت جزاء فعلتها...
الحاج قاسم نفاها بعيداً عن هنا...!!!!!
1
صحيح أن ما حدث لن يُنسي...
لكن الأيام ستداوي هذا الأمر...
هما فقط يحتاجان لوقت...
الفتاة رائعة وياسين يستحق زوجة مثلها....
فقط ...لو ينزع آسيا هذه من رأسه...!!!!
+
ربتت راجية علي رأس رقية برفق...
ثم قالت لياسين:
_زوجتك رائعة يا ياسين...بارك الله لكما....
أومأ ياسين برأسه إيجاباً فمنحته راجية نظرة متفهمة...
غادرتهما بعدها سريعاً...
+
توجهت رقية إلي غرفتها الصغيرة فاستوقفها هاتفاً:
_رقية...ألن تتناولي طعامك؟!
قالت ببرود:
_لا أريد...
توجه نحوها لتطالعه ملامحها الجليدية التي تداري بها انكسارها....
انكسارها الذي يتفهمه ويشعر به ويشفق عليها منه...
لكنه لا حيلة له!!!!
+
اقترب منها وقال بحنان لا يدعيه:
_أرجوكِ اجلسي وكلي معي...وبعدها سأنفذ لك ما يرضيكِ....
+
مس قلبها هذا الحنان الذي كان يقطر من كلماته...
هذا الحنان الذي شعرت به دوماً كلما نظرت إليه...
والذي جعلها تطمئن له وحده دون غيره...
لم تكن تعلم وقتها أن هناك أخري سبقتها لتمتلك مفاتحه كلها...
ولا تترك لها سوي مجرد جسد بلا قلب تحمل اسمه علي قسيمة زواج...!!!!
+
طال صمتها فعاد يهمس في رجاء:
_رقية...أرجوك لا تزيدي عذابي لأجلك...أنا أعرف أني آلمتك كثيراً بالأمس لكنني...
أغمضت عينيها بقوة وهي تقاطعه هاتفة:
_لا تذكر شيئاً عن حادثة الأمس.
+
عقد حاجبيه بضيق وهو يري صدرها يعلو ويهبط في انفعال...
لاريب أنها الآن تتذكر مشهده وهو يحتضن آسيا وسط كل ذاك الحضور...
لاريب أنها الآن غاضبة حد الاحتراق...
وهو لا يلومها كثيراً ...
بل علي العكس...
هو شديد العجب من قوتها لتكمل الزفاف لآخره وتجئ معه هنا...
بل وتحدثه بكل هذا الهدوء...
لو كانت هذه آسيا لكانت أقامت الدنيا ولم تقعدها!!!!!
+
آسيا...!!!!
آسيا...!!!
عادت أفكاره تتركز حول الحبيبة الراحلة ليشرد بعيداً غافلاً عن تلك التي تراقب شروده بألم!!!
ألم من أدركت خسارتها منذ أول المعركة لكنها مجبرة علي تحملها للنهاية...
==========================================================================
+
سارت جواره في مشفي والدها وهي تقول بمرح:
_تخيل لو كنت رأيتك هنا قبل لقائنا الأخير....كنت سأفقد وعيي رعباً وأنا أتصورك قاتلاً مخبولاً يطاردني.
ضحك هاتفاً بالعربية:
_قدر ولطف!
رفعت حاجبيها في عدم فهم فقال بهدوء لا يخلو من الضيق:
_أحزن كثيراً عندما أتذكر أنك لا تجيدين العربية رغم أنك مصرية ومسلمة أيضاً.
ثم التفت نحوها هاتفاً:
_ألا تقرئين القرآن؟!
همست بخجل لم تعرف سببه:
_أنا أحب الاستماع إليه عندما يقرأه والدي...لكنني لا أجيد قراءته...
أطرق برأسه للحظات ثم رفعه إليها هاتفاً بمرح:
_ما رأيك أن يعطيك المجرم المخبول دروساً في اللغة العربية؟!
التمعت عيناها بمرح وهي تصفق في جذل كالأطفال ثم قالت:
_سيكون هذا رائعاً.
+
تأمل فرحتها بإعجاب حقيقي...
منذ رآها أول مرة في حديقة والدها وهو يشعر نحوها بانجذاب غريب...
جمالها الغربي المستمد من والدتها الانجليزية المطعم بلمحة شرقية محببة ...
وروحها الطفولية بنظراتها المنبهرة به دوماً وكأنه مخلوق فضائي من عالم غريب...
وضحكتها الرائقة الحلوة وكأن صاحبتها لم تعرف يوماً حزناً ولا ضيقاً...
+
باختصار...
مارية آدم كانت مزيجاً من كل ما يعشقه حمزة في النساء...
باستثناء أنه كان يستشعر دوماً انتقاصها من شأن عربيتها ودينها...
وهو ما سيكون شغله الشاغل في الفترة القادمة...
ضحك سراً للمفارقة الغريبة التي تجعلها هي نافرة من وطنها مصر في حين يتوق هو فقط لتقبيل ترابه...!!!!
مصر لم تكن لحمزة مجرد اسم علي أوراق هويته...
لكنها كانت ذكريات رائعة مرت... حرمته الحياة منها ظلماً وعدواناً...
ليجد نفسه هنا منفياً بلا أهل ولا عائلة...
كشجرة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار...!!!
+
قطع أفكاره صوت هاتفها التي تناولته لتجيب ببساطة:
_آندي...افتقدتك كثيراً...سآتيك حالاً...
عقد حاجبيه بشدة...
عندما أغلقت الاتصال ببساطة لتواجه ضيقه -الغير مبرر-في عينيه...
هزت رأسها في تساؤل فسألها بصوت جاهد ليكون هادئاً:
_من آندي هذا؟!
ابتسمت لتقول ببساطة:
_إنه صديقي منذ الطفولة...لابد أن تتعارفا...سيحبك جداً...
+
أطرق حمزة برأسه وهو يشعر بالضيق...
رغم إقامته هنا منذ عدة سنوات...
لكن الدم الصعيدي الذي يجري في عروقه لايزال يصعب عليه استيعاب هذه الأمور...
خاصة وهو يشعر بأحاسيس مختلفة نحو مارية...
هي ليست فقط جارته وزميلته في عمله...
لكنه يشعر أنها صارت جزءاً من عالمه...
جزء يحق له تملكه والغيرة عليه...
+
تأملت إطراقه الصامت بدهشة وهي تهتف:
_ماذا بك يا حمزة؟!
رفع إليها عينين غامضتين ثم ابتسم في خبث هاتفاً:
_لو نطقتها صحيحة كما ينبغي فسأخبرك.
حاولت عدة محاولات مضحكة لتنطق حرف الحاء في اسمه لكنها فشلت جميعاً...
فضحك في صخب هاتفاً:
_ستكونين تلميذة متعِبة.
ابتسمت في خجل أذاب قلبه فهمس في حنان:
_لكنني لن أيأس!
==========================================================================
سارت بها السيارة تنهب الطريق نهباً...
لقد حددوا مصير الجارية بالنفي نحو المجهول...
حتي يصدروا قراراً بإعادتها من جديد...
+
انتفض قلبها بغضب لم يلبث أن تحول لشعور بالخزي الشديد...
ما هذا الذي تجرأت علي فعله بالأمس...؟!!!
كيف سمحت لنفسها بهذا التصرف المشين؟!
لا...لم تكن هي!!!
آسيا التي تعرفها لم تكن لتفعل شيئاً كهذا أبداً...
لكنها بالأمس كانت واحدة أخري...
واحدة فقدت قلبها...
وفقدت عقلها وراءه!!!!
+
تنهدت في يأس وهي تعود برأسها للوراء ناظرة للطريق في استسلام...
تري كيف سيعاملها خالها عندما تذهب إليه...؟!!
وهل سيعرف بالفضيحة التي حدثت في زفاف ياسين...؟!!
بالطبع سيعرف...
الجميع سيعرفون...!!!
وحينها ستكون آسيا اللعوب سيئة التربية حديث الجميع...!!!!
+
للمرة الأولي في حياتها تشعر أن جدها قاسم كان حكيماً في قراره...
ربما كان هذا هو الصواب للجميع...
أن تبتعد بعد فعلتها المشينة...
ليبدأ ياسين حياته من جديد...
رقية الهاشمي ورغم كونها غريمتها الآن...
لكنها زوجة رائعة...تليق بياسين الحبيب...
نعم...من الأفضل أن تبتعد آسيا عديمة القيمة كما يراها الجميع...
ولاسيما لو ابتعدت للأبد!!!
+
للأبد؟!!!!
+
التمعت الفكرة في رأسها فعمل عقلها بسرعة لتنفيذها...
انتظرت حتي وصلت السيارة لسوق كبير في منتصف مدينة في الطريق...
فهتفت تقول للسائق:
_انتظرني هنا...سأشتري شيئاً بسرعة وأعود.
تردد السائق قليلاً لكنها لم تمنحه فرصة الاعتراض فقد فتحت باب السيارة لتندفع بسرعة نحو أحد محلات الملابس المنتشرة في المكان...
+
طال غيابها كثيراً فتململ السائق في مقعده وهو يغمغم في سخط:
_فتيات مدللات!!
لكن سخطه تحول لقلق كبير عندما مرت قرابة الساعة ولم تعد...
أغلق السيارة ودخل المحل الذي رآها تتوجه إليه ليجده خالياً منها...
سأل عنها العامل الواقف عن الباب بعدما وصف له ما ترتديه ليتبين أنها غادرت المحل من الباب الآخر...
+
انتفض السائق في هلع وهو يتخيل ما سيفعله به قاسم النجدي لو علم عن اختفائها هكذا!!!!
ظل يسير بسيارته بحثاً عنها عشوائياً في الشوارع المحيطة لكنه لم يجدها...
لقد اختفت آسيا النجدي...
أو بالأدق...
هربت الجارية!!!
==========================================================================
_أين ابنتك يا فريدة؟!
صرخ بها قاسم النجدي في غضب هادر فانتفضت فريدة وسط سيل دموعها هاتفة في أسي:
_لا أعرف...أقسم لك يا عمي أنني لا أعرف...
ثم تناولت كفه تقبله وهي تهتف في رجاء:
_أعدها يا عمي أرجوك ابحث عنها وأعدها.
نفضها عنه في حدة وهو يهتف بغضب:
_بالطبع سأعيدها....وسأعلمها الأدب بنفسي...يبدو أنك فشلت في تربية تلك ال...
قاطعته هاتفة :
_أعدها فقط واحبسها هنا كما تشاء...لا تجعلها تري حتي نور الشمس...لكن أعد لي بنتي يا عمي ...أرجوك.
قالتها ثم اندفعت في بكاء هستيري....
فضرب قاسم الأرض بعصاه بقوة وهو يصرخ:
_اغربي عن وجهي ...هيا...
+
تركته فريدة وهي،تتوجه لغرفتها منهارة...
لحقتها بنتاها اللتان لم تكونا أفضل حالاً منها...
ما الذي ستفعله آسيا الهشة الرقيقة في عالم كهذا وحدها...؟!!!
من يدري ما الذي أصابها الآن...؟!!!
1
انتحبت فريدة بقوة وهي ترفع كفيها للسماء هاتفة بين دموعها:
_احفظها يارب العالمين...ردها لي سالمة!
+
سالت دموع جويرية وهي تربت علي كتفها هامسة:
_لا تقلقي يا أمي...جدي سيعيدها إن شاء الله.
هتفت ساري التي كانت تبكي هي الأخري:
_رغم أني أخشي عليها عقاب جدي عندما يعيدها ....لكن أي شئ أهون مما يمكن أن تلاقيه...
اندفعت ساعتها فريدة في بكاء يقطع القلوب وهي تهمس:
_حبيبتي يابنتي.
+
تطلعت جويرية لساري في قلق...
كلتاهما كانت تشعر أن آسيا لن تعود...
آسيا هربت من سجن قاسم النجدي بإرادتها وكسرت حصار أسواره لأول مرة في تاريخ العائلة....
وهو ما لن يمرره قاسم النجدي بسهولة...
عندما يجدها ستكون النتيجة كارثية علي الجميع....
وإن لم يجدها ...
فسيكون الوضع أسوأ!!!!
للأسف...
لقد سارت آسيا في الطريق الذي لا رجوع منه...
واختارت أسوأ البدائل!!!!
+
تباً لحب كهذا!!!!
حب يفقد المرء عقله وحريته وقراره...
ليدفعه في طريق لم يتخيل يوماً أن يسير فيه....
لقد ضاعت آسيا...
ضاعت وسط قسوة الناس المفرطة ورقة قلبها الشديدة....
+
============================
+
جلست رقية علي كرسي مائدة السفرة ...
تراقبه يسير في الغرفة كليث حبيس....
منذ علم باختفاء آسيا...
وهو يبدو كالمجانين!!!!!
وبقدر ما كانت تشعر نحوه بالغضب....
تشعر الآن نحوه بشفقة غريبة...
+
بعيداً عن كونه زوجها....
لأنها تتناسي هذه الحقيقة الآن!!!!
هو رجل عاشق أجبر علي الزواج منها بعيداً عن معشوقته التي اختفت الآن ولا أحد يعرف عنها شيئاً...
وآسيا الغائبة ليست فقط حبيبته ...هي أيضاً ابنة عمه....
والدماء الصعيدية الأصل في عروقه تعتبر فعلتها هذه جريمة شرف تستحق القتل....
إن كانت تشفق علي آسيا خوفاً من ألا يجدها جدها....
فهي تشفق عليها أكثر لو وجدها!!!!!
من يدري ما الذي سيفعلونه بها؟!!!!!
+
بينما كان ياسين في غرفته يسير ذهاباً وإياباً...
يشعر بالنيران تأكل صدره....
المصائب تتوالي عليه تباعاً...
وكل واحدة أقسي من أختها...
في البداية حرموه منها ليزوجوه من أخري...
ثم أبعدوها عنه في منفي بعيد...
وها هو ذا يفقدها تماماً دون حتي أن يعلم مكانها الآن...
+
ضرب الجدار بقبضته بعنف وهو يفكر...
فتاة في جمال آسيا وقلة خبرتها مالذي ستفعله في هذا العالم وحدها....؟!!!
انقبض قلبه وهو يتخيل لو تعرض لها أحدهم بسوء...
كيف ستدافع عن نفسها؟!!!!
+
ظل يضرب الجدار بقوة ضربات عديدة متتالية....
حتي شعر بكفها يمسك كفه وهي تهمس :
_رفقاً بنفسك يا ياسين...
التقت عيناه بعينيها ليصدمها منظر الدموع في عينيه....
يالله!!!!!
إلي هذه الدرجة تعشقها يا ياسين؟!!!
هكذا حدثت نفسها وهي تراقب الألم المغروس في عينيه...
+
أشاح بوجهه عنها فابتلعت غصتها ومرارة حسرتها لتقول بكبريائها الخادع:
_سأكلم أبي ...سيجدها...لا تقلق.
التفت إليها بلهفة تمتزج بالأمل وهو يهتف:
_حقاً؟!
ابتسمت في سخرية وهي تقول بثبات:
_هل نسيت من هم أصهارك يا ياسين؟!
+
تأملها بدهشة متفحصة...
هذه المرأة غريبة...
عندما أمسكت كفه منذ قليل وتطلع لعينيها رأي فيهما حناناً ليس له حدود....
حنان احتضن ألمه وحزنه برفق خبير...
لكنه الآن وهي تكلمه بهذه الطريقة....
يشعر بها كملكة قوية تتحدث من فوق عرشها في كبرياء....
+
كيف يمكنها أن تمزج حنانها بقوتها في هذا المزيج الساحر...؟!!!
+
قطعت أفكاره عندما تناولت هاتفها لتحدث أباها عن الأمر بكلمات مقتضبة...
يكاد يقسم أنه لمح دموعاً في عينيها لكنها اختفت بسرعة كما ظهرت....
يبدو أنها تجاهد نفسها كي لا تبدي انكسارها أمامه!!!!
+
أنهت الاتصال مع والدها سريعاً ثم قالت له بثبات دون أن تنظر إليه:
_لا تقلق...والدي وعدني أنه سيجدها....وسيحرص علي سرية الأمر.
ابتسم بضعف هامساً:
_شكراً يا رقية.
تجاهلت شكره...
تماماً كما تجاهلت تأثير همسه باسمها علي قلبها....
لتقول بكبرياء:
_أعرف أن الوقت ليس مناسباً...لكن والداي يريدان زيارتنا للمباركة...وكنت أود أن أعرف قرارك .
عقد حاجبيه في شدة وهو يقول في حيرة:
_قراري؟!
ابتسمت في سخرية وهي تقول:
_نعم...قرارك...هل تتعجب الكلمة إلي هذه الدرجة؟!!!!
+
أطرق ياسين برأسه وهو يفكر...
هو فعلاً يتعجب الكلمة...
قاسم النجدي لم يجعل لأي فرد من هذه العائلة فرصة لاتخاذ قرار....
هو الآمر الناهي هنا...
وهم فقط ينفذون...
قرأت حيرته في صمته فقالت بهدوء بنكهة الحسرة :
_حسناً يا ياسين...بما أنك عاجز عن اتخاذ القرار كما يبدو فسأعطيك كلمتي...يشهد الله أنني جاهدت نفسي كثيراً كي لا أقولها أنا...ففي عُرف رقية الهاشمي...من العيب جداً أن أتخذ قراراً في وجود زوجي حتي لا أتهم ولو أمام نفسي أنني أستغل مكانة عائلتي...لكنني منحتك الفرصة وأنت رفضتها....
+
تطلع نحوها بترقب فأخذت نفساً عميقاً ثم قالت بثبات:
_لست زوجي يا ياسين!
عقد حاجبيه في غضب فيما أردفت بنفس الثبات:
_سنستمر في هذه التمثيلية السخيفة لفترة من الوقت حتي لا يكون شرفي مضغة في الأفواه...كفانا فضيحة الزفاف التي لن ينساها الناس سريعاً...
هز رأسه قائلاً:
_ماذا تعنين؟!
واجهته بقوة عينيها هاتفة:
_نحن غريبان فرضت عليهما الظروف العيش في بيت واحد...لكن أمام الناس سيكون الأمر عادياً ...حتي يمضي بعض الوقت...وبعدها...ستطلقني...
تهدج صوتها في كلمتها الأخيرة...
وعجزت عن الاحتفاظ بثباتها الوهمي أمامه...
فتجمعت الدموع في عينيها...
وهي تفر لغرفتها هاربة...
لتغلق الباب خلفها بالمفتاح...
+
اندفع وراءها ليطرق الباب هاتفاً:
_افتحي يا رقية....
+
ظل يطرق الباب حتي آلمته يده...
لكنها لم تجبه ...
ولا حتي بكلمة...
لقد قالت رقية الهاشمي كلمتها...
وانتهي الأمر....
==========================================================================
جلست سمية جلستها المفضلة تراقب الخيل في المزرعة...
طالما كان هذا المشهد ملهباً لخيالها...
عندما تعدو الجياد بانطلاق لا يعرف القيود...
ووراؤها خلفية طبيعية من شمس الأصيل الغاربة...
+
سرحت بأفكارها وهي تتذكر تلك الأيام السعيدة...
عندما كانت صحتها تسمح لها بركوب الخيل مع بدر...
فينطلقان معاً في عالمهما الخاص الذي اختاراه هنا في هذه المزرعة...
بعيداً عن كل الناس...
كم كانت تتمني لو تعيش حتي تري طفلها فارساً كأبيه...
يمتطي جواده ويسير جوار فتاته التي اختارها...
لينجب لها ولبدر أحفاداً كثيرين...
يملئون هذه المزرعة...
ويعوضونهما عما افتقده كلاهما من دفء العائلة...
+
لكن هذا المرض اللعين لم يختطف صحتها فحسب...
لكنه اختطف سعادتها وأحلامها أيضاً!!!!
لن تعيش حتي تري أحفادها...
بل ...
ربما لن تعيش حتي تري طفلها يستطيع ركوب الخيل كأبيه...!!!
+
أغمضت عينيها في قوة وهي تستغفر الله سراً ثم همست في خشوع:
_راضية يا رب...راضية!
+
تقدم نحوها بدر ببطء وهو يلاحظ شرودها الحزين...
ربت علي رأسها الذي تحافظ الآن علي تغطيته بالوشاح دوماً حتي في نومها كي لا يري أحد كيف صار حال شعرها بعد العلاج الكيميائي....
+
رفعت رأسها إليه لتهمس بحب:
_بدر!
جلس جوارها ليتصنع المرح هاتفاً:
_طفلك هذا مرهق جدا...لقد جعلني أروي له الحكاية ثلاث مرات حتي نام.
ذكرها حديثه بقرارها الذي اعتزمته فقالت في تردد:
_بدر...كنت أريد التحدث معك في أمر هام.
+
أمسك كفها يقبله وهو يقول بحنان:
_تفضلي.
أطرقت برأسها وهي تقول بتعقل:
_الأعمار بيد الله ...لكنني كنت أود الاطمئنان عليك وعلي طفلنا...كنت أفكر لو ...تتزوج!
+
تنهد في حرارة وهو يشعر بألمهما المشترك....
ثم قام من مقعده ليجثو علي ركبتيه أمامها ثم رفع رأسها إليه هامساً:
_أنا متزوج بالفعل...متزوج من أروع امرأة في الدنيا.
ابتسمت وقد فاضت عيناها بالدموع هامسة:
_حسناً...سأحاول أن أصدقك...لكن هذه المرأة الرائعة ستتركك قريباً وتريد الاطمئنان عليكما قبل رحيلها.
دمعت عيناه وهو يهتف في توسل:
_لا تقولي هذا يا سمية...أنت تذبحينني،في كل مرة تتفوهين بها بهذه الكلمة.
ربتت علي كتفه وهي تقول :
_هذا ما كنت أعنيه بالضبط...أنت ترفض تصديق الحقيقة وتهرب منها...وأنا أخشي أن يداهمني الموت قبل أن أطمئن عليكما...
قام من مكانه وهو يهتف :
_لن أعترف بأي حقيقة الآن سوي بأنك معي...جواري...حبيبتي وزوجتي...وأم طفلي...لا تفتحي هذا الموضوع ثانية أرجوك.
قالها وهو يعود بخطوات مندفعة نحو منزلهما...
لتطرق برأسها من جديد...
بدر الحبيب لازال يراعي مشاعرها لأقصي درجة...
لازال يحاول تأجيل استيعابه لحقيقة لم تعد تحتمل المجادلة....
شعرت بكف تربت علي كتفها ...
فرفعت رأسها هامسة:
_مرحباً يا عمي.
جلس العم كساب جوارها وهو يقول بحنان:
_كيف حالك يابنتي.
هتفت برضا:
_الحمد لله رب العالمين.
تأملها الرجل بإشفاق...
هذه الشابة الصغيرة التي اختارها المرض مبكراً ليختطفها من زوجها وطفلها...
لكنها كما يراها راضية محتسبة...
تحمد الله علي الضراء قبل السراء...
+
قال بقلق:
_لقد رأيت بدر يعود للمنزل مندفعاً....هل دار بينكما شئ؟!
واجهته بوضوح هاتفة:
_بدر يجب أن يتزوج يا عمي...يجب أن أطمئن عليه وعلي طفلي قبل أن ....
لم تستطع إكمال عبارتها وقد غرقت كلماتها في دموعها التي انهمرت علي وجنتيها كالسيل....
فارتفع حاجبا كساب في تفهم...
سمية النبيلة تريد إكمال معروفها مع ابن أخيه للنهاية...
تريد أن تري البسمة علي وجوه الجميع قبل أن تغلبهم دموعهم بعد رحيلها...
سمية النبيلة تفكر في الجميع قبل نفسها كعادتها....
لكنه يعرف بدر جيداً...
بدر لن يتزوج بأخري...
ليس في حياتها وربما بعد موتها أيضاً...
سمية في حياة بدر ليست مجرد زوجة ولا حتي حبيبة...
سمية هي شعاع النور الذي انتشله من مستنقع الماضي الأليم...
ليفتح له عالماً جديداً هنا....
سمية جعلته يولد من جديد...
+
قال كساب بحرارة:
_اهدئي يابنتي...ولا تتعجلي الأحداث....لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.....
هتفت وسط دموعها:
_لم يعد هناك وقت يا عمي...أريد أن أطمئن عليه وعلي الصغير...أرجوك يا عمي أقنعه بالزواج ...أرجوك.
========================================================================
+
_صدقني...ستحبه جداً....إنه شاب رائع!
هتفت بها مارية في انبهار فرد آندي بضيق:
_ماري...أنت لم تكفي عن التحدث عن ذاك المصري منذ جلسنا.
أشاحت بوجهها هامسة في حزن:
_أنت لم تعد تهتم بي كالسابق آندي.
هتف بسخط:
_أنت تتحدثين عن هذا المصري وكأنه أسطورة....ما الذي يعجبك فيه إلي هذه الدرجة؟!
همست في هيام:
_مختلف...مختلف آندي...طباعه...غموضه...حتي ملامحه...
أمسك،كفها هامساً:
_أنتِ تقسين علي بحديثك هذا ماري...أنت تعلمين أنني...
قاطعته وهي تسحب كفها من كفه هامسة في عتاب:
_آندي...لقد انتهينا من هذا الأمر...أنت صديقي فحسب...وليس أكثر.
هتف بقوة:
_لكنني لازلت أحبك ماري.
ضحكت في سخرية هاتفة:
_نعم...تحبني وتحب كاتي وليزا ولورا والكثيرات غيرهن ....أليس كذلك؟!
+
قال بضيق:
_أنت تعلمين أنك لست مثلهن ...أنا أستمتع معهن فقط وأنت شديدة التعقيد كما تعلمين.
قالت بضيق:
_ليس تعقيداً آندي...لكنني أحترم تربية أبي...
ثم وقفت قائلة:
_دعنا نرحل من هنا.
أمسك كفها هاتفاً:
_لا تغضبي ماري.
نزعت كفها منه وهي تقول بضجر:
_مارية...لا تنادني ماري ثانية!!
+
عقد آندي حاجبيه وهو يراقبها بتفحص...
مارية شديدة التحفز هذه الليلة...
تبدو شديدة العصبية رغم أنها تسترخي تماماً عندما تتحدث عن ذاك المصري...
تري هل ستتكرر القصة الشهيرة...
هل ستحبه وتتزوجه؟!
لا...لن يسمح بهذا أبداً...
مارية هي حب عمره وصديقته منذ الصغر...
صحيح أنه اعتاد تمضية وقته والعبث مع الأخريات...
لكن هذا لأنها لم تمكنه مما أراد منها...
هي شديدة التحفظ فيما يتعلق بتلك الأمور...
لازالت تربية والدها المعقدة-بزعمه-تتحكم فيها...
لكنه يحبها هكذا...
ولن يسمح لذاك المصري أن يأخذها منه...
مارية آدم حبيبته ولن يضيعها...
مهما كان الثمن!!!
==========================================================================
وقف قاسم أمام الجدار الذي علقت عليه صور أولاده...
بعدما أعطي أوامره الصارمة للخادمة ألا يدخل عليه أحد...
تحسس صورة سعد ولده الأصغر ثم همس بألم:
_لم أضيع أمانتك يا ولدي...لم أضيعها...آسيا بالذات كانت المفضلة عندي...لهذا اخترت لها حمزة ...زينة شباب آل النجدي...سأجدها يا ولدي...سأردها لحضن العائلة...لن تضيع آسيا...لن تضيع...
+
قالها وهو يترنح قليلاً ليستند علي عصاه بسرعة...
جلس علي كرسيه مسنداً رأسه علي عصاه وهو يفكر...
أين يمكن أن تكون هذه الفتاة الطائشة...
هي لم تكن تملك ما يكفي من المال لتتغيب كثيراً...
وليس لها أقارب بعيداً عن عائلة النجدي سوي خالها الذي تهربت من الذهاب إليه...
ربما فكرت في الذهاب لإحدي صديقاتها....
+
هب من كرسيه وقام يفتح باب الغرفة ...
ليأمر الخادمة بأن تستدعي له فريدة...
وبعد قليل كانت فريدة واقفة بين يديه تسأله بلهفة:
_هل علمت عنها شيئاً يا عمي؟!
هتف بجمود يداري مشاعره كعادته:
_سنجدها...لن تبتعد كثيراً...لكنني كنت أريدك أن تخبريني عن صديقاتها المقربات ربما كانت عند إحداهن.
هزت رأسها نفياً وهي تهتف وسط دموعها:
_لقد هاتفتهن كلهن...لا أحد يعرف عنها شيئاً.
هتف بخشونة:
_ربما يكذبن...هل تعرفين عناوين سكنهن؟!
أومأت برأسها إيجاباً فقال بصرامة:
_اكتبيها لي وسأبعث من يمكنه التصرف.
هزت رأسها وهي تلتفت لتغادر ...
عندما تعلقت عيناها بصورة زوجها الراحل علي الجدار...
ازداد انهمار الدموع من عينيها وهي تفكر...
تري لو كنت الآن معنا يا سعد هل كانت آسيا ستضيع منا؟!
أم أنك كنت ستحتويها بحنانك وتحميها بقوتك...
وتدفع عنها الظلم الذي خنق روحها حتي لجأت للهرب ؟!!!
هل كنت ستخضع لسلطان أبيك مثلي؟!
أم كنت ستقاومه من أجل ابنتك؟!
هل ستلومني عندما تلقاني؟!
هل أنا الآن مذنبة في عينيك ؟!!
+
لاحظ قاسم تعلق عينيها بصورة سعد فتقدم منها ببطء وقد رق قلبه ليربت علي كتفها هامساً:
_سنجدها يابنتي...آسيا ليست فقط أمانة سعد...لكنها أمانة حمزة أيضاً...سنجدها...
انحنت علي كفه تقبله وهي تهتف في توسل:
_ردها لي يا عمي...ردها لي سالمة...وافعل بها ما تشاء بعدها!
ربت علي رأسها وهو يتنهد في عجز...
تلك الصغيرة الطائشة هزت أركان عائلة النجدي كلها بفعلتها المشينة...
لم تكفها فضيحة ليلة الزفاف حتي تتبعها بهروبها هذا...
أي عقاب تستحقه تلك الطائشة؟!!!
أي عقاب!!!!
==========================================================================
طرقت رقية باب غرفته برفق...
ففتحه ليواجهها هامساً بلهفة:
_أخيراً يا رقية...أخيراً خرجت من غرفتك ...
ثم قال بعتاب:
_لقد كدت أكسر الباب خوفاً عليك.
رفعت رأسها في كبريائها المعهود وهي تتجاهل عبارته قائلة في هدوء:
_والداي علي وشك الوصول...يجب أن تكون أمورنا أمامهما طبيعية...
اقترب منها خطوة وهو يقول برجاء:
_رقية...الظروف الآن لا تسمح لي بالتفكير في أي شئ...أنا أعرف أني ظلمتك من أول لحظة لكن...
قاطعته هاتفة في صرامة:
_رقية الهاشمي لا يظلمها أحد...ضعها حلقة في أذنك حتي لا تثقل علي نفسك كثيراً بالذنب.
+
هز رأسه في يأس وهو يراقب الدمع المتجمد في عينيها و الذي يناقض قوة عباراتها القاسية...
+
حديث عينيها يستفز حنانه ...
يجعله يتمني لو يضمها لصدره كطفلة خائفة ليمنحها الأمان ...
يجعله يكره نفسه علي كل هذا الألم الذي يسببه لها...
لكن...
يشهد الله أنه ليس بيده...
لقد وجد نفسه هكذا في منتصف الطريق بينها وبين آسيا الحبيبة...
فلا هو يستطيع التقدم نحو رقية...
ولا هو يستطيع العودة لآسيا...
+
عض علي شفتيه بقوة وهو يتذكر آسيا الغائبة ليسألها بتردد:
_هل أخبركِ والدك شيئاً عن آسيا؟! هل من جديد؟!
أطرقت برأسها وهي تهمس في أسف حقيقي:
_ليس بعد...لكن البحث مستمر...
اعتصرت قبضة باردة قلبه المتيم وهو يتنهد في حرارة...
كادت تنصرف عنه عندما أمسك مرفقها ليهمس:
_رقية...
نزعت مرفقها منه بعنف وهي تهتف في قوة:
_إياك أن تلمسني...رقية الهاشمي لا يمسها إلا زوجها وأنت لست زوجي...هل تفهم؟!
عقد حاجبيه بغضب وهو يهتف بحدة:
_لا تحدثيني بهذا الأسلوب...أنا زوجك...شئتِ أم أبيتِ!!!
+
كادت ترد عليه بحدة عندما رن جرس الباب...
فتركته بخطوات مندفعة لتدخل غرفتهما وتصفق الباب خلفها في عنف....
زفر بقوة وهو يشعر برأسه يكاد ينفجر من كل هذه الضغوط...
عاد جرس الباب يرن...
فأخذ نفساً عميقاً ثم توجه نحو الباب ليفتحه ...
طالعه وجه والدها المبتسم فتصنع ابتسامة واسعة ليقول:
_مرحباً يا عمي...مرحباً يا عمتي...تفضلا...
+
دخل عاصم الهاشمي ومعه إكرام والدتها التي كانت ترقب ياسين بغيظ شديد...
لن تنسي له أبداً ما فعله بابنتها الوحيدة ليلة زفافها...
ولولا حرصها علي مظهرهما الاجتماعي لما سمحت بإتمام الزفاف...
لكنها استجابت لنداء العقل ونصحت رقية بتجاهل الأمر وإتمام الزفاف ...
فبعيداً عن كون ياسين النجدي زوجاً مثالياً طالما تمنته لابنتها...
لكنها أيضاً لم تكن تريد تمكين الشامتين المتربصين من فرصة كهذه!!!
ورقية العاقلة لم تخيب ظنها...
لقد تمالكت غضبتها وتصنعت اللامبالاة حتي انقضي الأمر بأقل خسائر ممكنة...
لقد تمكن عاصم الهاشمي باتصالاته العديدة من منع انتشار هذه الفضيحة علي الصحف والانترنت...
لكن...
من سيمكنه إسكات ألسنة الناس؟!!!
وحده الزمن كفيل بذلك ...
+
قطعت أفكارها عندما خرجت رقية من غرفتهما بابتسامة مشرقة...
تأملها ياسين بدهشة تمتزج بالانبهار...
ملامحها الفاتنة المبتسمة تجعلها تبدو مختلفة عن تلك القوية ذات الكبرياء التي تواجهه بقسوة عباراتها...
لقد جعلتها الابتسامة الواسعة -والتي يوقن من أنها تتصنعها- تبدو وكأنها امرأة جديدة...
تجاهلت النظر إليه وهي تتقدم نحوهم فشعر بضيق خفي...
ثم ارتفع حاجبه في مكر وهو يتذكر اتفاقهما فتقدم منها ليتناول كفها ثم قبله هاتفاً:
_مرحباً حبيبتي.
+
ظهرت الصدمة في عينيها للحظة ثم نقلت بصرها إلي والديها المبتسمين بسعادة فاغتصبت ابتسامة باردة وهي تقول:
_دعني أصافح والديّ أولاً يا ياسين.
+
ظل متمسكاً بكفها لفترة وفي عينيه نظرة عنيدة...
فنزعت كفها منه وهي تتقدم نحو والدها تصافحه ...
احتضنها والدها بقوة...
فلم تشعر بنفسها إلا وهي تندفع بالبكاء...
انهارت كل صلابتها التي كانت تتمسك بها عندما عادت لحضن والدها القوي الحنون...
فلم تعد تري رقية العروس الخائبة ولا ياسين العريس الذي خذلها...
لم تعد تري سوي رقية الطفلة التي طالما كانت تفر من مخاوفها في حضن والدها الذي لم يخذلها يوماً...
+
عقد عاصم حاجبيه بقلق وهو يري انهيارها هذا فضمها إليه أكثر وهو ينظر لياسين في تساؤل...
ياسين الذي كان الآن في حال يرثي لها وهو يشعر بمشاعر مختلفة...
من ناحية هو يشعر بالإحراج من والديها فبالنسبة إليهما لابد أنه هو السبب الوحيد لبكاء ابنتهما بهذه الطريقة...
ومن ناحية أخري هو يشعر بالشفقة علي تلك التي تدعي القسوة والكبرياء وهي منهارة هكذا من داخلها...
رقية الهاشمي لغز كبير...
كم وجه تملك هذه المرأة التي يتبدل حالها بهذه السرعة...؟!!!!
+
قطعت إكرام أفكاره وهي تسحب رقية من حضن والدها لتضمها إليها هاتفة في جزع:
_ماذا بك يا رقية؟! أنا لم أركِ يوماً هكذا!!!!
قالتها وهي ترمق ياسين باتهام...
فأطرق برأسه وهو لا يدري ماذا يمكنه قوله...
+
مسحت رقية دموعها بعد لحظات لتعود لها قوتها فتقول بمرح مصطنع:
_لا تقلقي يا أمي...مدللتك رقية افتقدتكما فحسب.
+
تأملتها إكرام في تشكك...فشعرت رقية بالقلق...
انهيارها الغير محسوب هذا يكاد يدمر خطتها...
اتسعت ابتسامتها المصطنعة وهي تدعوهما للجلوس...
ثم مدت كفها لياسين لتقول بلطف:
_تعال يا ياسين اجلس جواري.
+
تقدم منها ياسين ليلتقط كفها ببساطة ويجلس جوارها....
نظر إليهما عاصم برضا وهو يقول:
_أسعدكما الله يا بني...أنا مطمئن علي رقية معك.
تشنجت أناملها في كفه فضغطها برفق وهو يقول بصدق:
_سأبذل كل ما أستطيع لإسعادها يا عمي.
+
رمقتهما إكرام بنظرة متشككة...
قلب الأم داخلها لا يصدق السعادة المدعاة علي وجه رقية...
رقية الهاشمي كما تعرفها لن تمرر ما حدث ليلة الزفاف بسهولة ...
إما أن ياسين منحها مبرراً مقنعاً لفعلته المشينة تلك الليلة...
وإما أنهما يتظاهران بالسعادة أمامهما فحسب...
لابد أن تعرف الحقيقة ...
نهضت من مكانها وهي تقول لرقية بحزم:
_تعالي معي يا رقية...أريد التحدث معك علي انفراد...
ضغط ياسين كفها برفق ثم تركه لتقوم من مكانها وهي تتجه مع والدتها لغرفتهما...
تابعهما عاصم ببصره حتي اختفيا...
ثم نظر لياسين بتمعن قبل أن يقول بتعقل:
_اسمعني يا ياسين...كل رجل تكون له علاقاته ونزواته قبل الزواج...لكن بعد الزواج تتغير الأمور...أنا تغاضيت عما حدث ليلة الزفاف لأنني أعرف طيب معدنك...
ثم أردف ببعض القسوة:
_لكن رقية هي أغلي ما أملكه في حياتي...لو جرحتها ولو بكلمة فلن أتغاضي عن هذا أبداً....
+
أطرق ياسين برأسه وهو يشعر بالاختناق...
من يخبره أن آسيا ليست علاقة سابقة ولا نزوة عابرة...؟!!!!
آسيا هي حبيبة عمره القصير التي لم يرَ امرأة غيرها...!!
لكن ...ما ذنبها رقية في هذا كله؟!!!
إن كان هو جبن عن الوقوف في وجه جده وجبروته!!!
+
رفع رأسه أخيراً بعد لحظات صمت طويلة ليقول بصدق:
_رقية فتاة رائعة...أعدك يا عمي أن أبذل كل جهدي لتكون سعيدة معي .
ابتسم عاصم في رضا ...
بينما تعلقت عينا ياسين بباب غرفتهما المغلق والذي اختفت خلفه مع والدتها....
تري هل ستصارحها رقية بحقيقة وضعهما...
أم ستتمكن من الحفاظ علي اتفاقهما...؟!!!
+
انتهى الفصل الثاني
+