رواية عزف السواقي الفصل الثالث 3 بقلم عائشة حسين
الفصل الثالث
+
♡رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا♡
*************
زعقوا جميعًا خوفًا عليه، يريدونه أن يخلى الساحة للنجدة ولا يُعرّض نفسه للخطر ، لكنه أصرّ بعناد لا يرغب سوى في إنقاذ تلك المسكينة التي ضحّت بنفسها لأجل الصغيرة وكم هو ممتن لها ولفعلتها وجمال قلبها، أنقذته اليوم من لوم صديقه ومن قلبه الذي كان سيجلده بالذنب والندم «مش طالع غير بيها» قالها بغضب امتزج بإصراره لم يملكوا أمامه سوى الرضوخ ومعاونته قدر المستطاع داعين الله له.
اقتحم النيران وحملها بين ذراعيه،غير عابيء، قديمًا لعقت النيران جلده ففقد اليوم إحساسه بلسعاتها، دخل جلال خلفه بدثار ثقيل يوسع له الطريق ويساعده في تخطى النيران، تخطى بها الخطر محمولة منتهكة بفعل النيران ملابسها متآكلة وخصلاتها مكشوفة،وذراعيها متعريان زعق قبل أن تلتهم أعين الناس جسدها وتنهش بفضول ما كُشف «عايز غطا يسترها»
اندفعت المشرفة ترمي على جسدها دثارًا، فقال بغضب «غطي شعرها مش عايز حاجة تبان منها لما تطلع عايزها مستورة فعنين الناس ميشفوش منها حاجة »
أراد منحها سترًا من نظرات الشفقة كما سترًا من النظرات المتفحصة، أحبّ أن يخبيء منها ما لن تفضّل كشفه لأحد فيما بعد، وأن يرحم ضعفها فما خبئته فلا يكشف بمصابها.
نظر لملامحها نظرة طويلة مليئة بالكثير وبعدها منح جسدها للآخرين قادوها لعربة الإسعاف فما عاد جسده يقوى على المواصلة وقد تخونه ذراعه في أي لحظة وتخذله مما قد يعرضها للسوء ولنفسه بالهزيمة والحرج،أوصى المشرفة بها «خليكي معاها »
بعدها جلس مستندًا بظهره على الجدار يلهث بإنفعال حاد ونظراته تتابع جسدها حتى اختفت وابتلعتها الحشود الواقفة، ضم كفه بقوة بعدما أحس بدبيب الألم يسري في عروقه، تنهيداته انفلتت فصارت أقوى، جلس جلال أمامه قائلًا «لازم تروح المستشفى يا رؤوف»
أغمض عينيه لبرهة قبل أن يفتحهما وملامحه تضج بالألم الذي يسيطر عليه، قال وهو ينهض متعكزًا على الجدار يستمد منه الثبات ليقف «أنا كويس»
سأله وهو يخطو بعرج خفيف «حمزة وبته فين؟»
أجابه جلال وهو ينهض ويتبعه «راح بيها المستشفى»
أطلق رؤوف زفرة قوية وقال بعدها «روح وراهم وأنا هروّح البيت شوية وأحصلك»
حاول جلال منعه وإيقافه لكنه لم يفلح، أصرّ على المغادرة غير مهتم بشيء، فانسحب جلال مغادرًا للمشفى.
جلس رؤوف في حديقة الدار الخلفية على ركبتيه منحنيًا بجزعه للأمام في ألم وتوهة وضياع ذكر الله كثيرًا وحمده وهو على حاله حتى استرد جزءًا من قوته وبعضًا من مشاعره المفقودة، لملم مشاعره التائهة بقبضة قلبه ونهض بعدما ثبّت قطعة القماش على كفه جيدًا وغادر تجاه الدار مرة أخرى، لن يغادر حتى يطمئن على أطفاله
وجدهم جالسين في الحديقة الأمامية يبكون بشقاء فتت صمود روحه وأنهك عزيمته، مزقت أيادي الفزع فرحتهم وألقتها،خمشت أظافر التعاسة أرواحهم وتفرقوا من سربهم ضائعين ينظرون حولهم بتوهة وخيبة يرثون أمانهم الضائع. جلس على ركبتيه أمامهم يكابد الألم ومشقته، ابتسم ثم دعاهم لحضنه كما اعتاد، يفرد ذراعيه منتظرًا أن يجودوا عليه بالدفء، هم دثاره الثمين الذي يحفظه لبرد الوحدة وأيقونة الحياة خاصته، ونبيذ الشجاعة الذي يجعله يفعل أي شيء لأجلهم، لم يخيبوا ظنه نهضوا بعدما عالجت ابتسامته وجعهم وربتت فوق أفئدتهم المضطربة، بنى لهم مساكن شيدها بأحجار المودة الخالصة، زينها بلطفه وضحكته فركضوا ناحيته يبارزون الألم بالأمل والخوف باليقين يثبتون نظراتهم على وجهه وكأنه أخر سفن النجاة المبحرة في بحر الحياة المظلم، عانقوه غير متخلين يستمدون منه الأمل ويستمد منهم الحياة، ابتعد يرمى سؤاله ككسرات الخبز الطازجة فوق وجوههم أكثر من مره ليصل إليهم جميعًا كما جاعت بطونهم يومًا جاعت قلوبهم فتلقفوا سؤاله بشهية «أنتوا بخير، كويسين حد فيكم اتأذى؟»
انطلقت الإجابات تطوقه بالطمأنينة وتقوي من عزيمته وتمده بالصبر الوفير، يلتهمون جائعين ويضحكون راضين، ابتعد يربت على هذا ويلملم خصلات أخر ويبتسم لتلك.. يمنحهم الود أطنانًا ويملأ خزائن أرواحهم به ليطمئنوا و يهنأوا،هو الذي لن يجوعوا عشر سنين في كنفه ورعايته فليظل الحب في سنابله يمسح على قلوبهم ويشبع بطونهم فينقلبوا مسرورين.
يحتاجون إليه ويحتاج هو إليهم أكثر هم مجاديف قلبه لشاطئ الأمان.
***************
عاد للشقة تمدد فوق الأريكة ملتقطًا أنفاسه، وصله إشعارًا فرفع هاتفه يجوب الميديا يلهي نفسه، لكنه انتفض فجأة من استرخائه يقرأ ما نشره طاهر
قبل أن ينتهي كان يهاتفه، حين أجاب طاهر وقف ودار في الشقة زاعقًا بغضب نفرت له عروقه«ايه الي ناشره على صفحتك ده»
أجاب طاهر بهدوء واسترخاء «ايه؟»
صرخ رؤوف بعصبية وهو يضغط على فروته «اتعدل يا طاهر بدل ما أجيلك؟»
استمر برود طاهر سيفًا يناوش به أخيه «ايه عجبك المقال؟»
زعق رؤوف وهو يجلس من جديد «مش ميت مرة نبهت عليك متكتبش في السياسة»
هتف طاهر ببرود أغاظ الأخر «أنا حر اكتب في الي أحبه هتمنعني؟»
صرخ رؤوف وهو ينتفض من جلسته «لاه مش حر وأيوة أمنعك»
أجاب طاهر بهدوء «لا يا أخوي متجدرش تمنعني»
ضرب رؤوف بكفه فوق الطاولة فانتفض يونس الذي دخل الشقة اللحظة «أجدر يا طاهر ولو تحب تشوف معنديش مانع»
أغمض يونس عينيه ملتقطًا نفس عميق باستياء من شجار رؤوف وطاهر الذي لا ينتهي وعناد طاهر وتحديه رؤوف.
دخل واضعًا حقيبة كتفه فوق الطاولة وجلس منتظرًا نتائج المحادثة ومخلفات شجارهما التي يلملمها هو في النهاية.
أجابه طاهر بغباء وتحدي «اعملها يا رؤوف وتبجا جطعت الي بينا خالص ونهيته»
حين وصلته الجملة وصفعت مسامعه، زمجر ودار حول نفسه زاعقًا يصيح بيونس المترقب«شايف أخوك وعمايله؟ لحد متى هفضل أعلّم فيكم وأجول دِه صح ودِه غلط»
هدأه يونس برزانه مُشفقًا عليه «سيبه يا رؤوف يجرّب ويتعلم، يغلط ويصلّح»
استنكر رؤوف قوله واستخف برأيه «اسيبه يرمي نفسه في التهلكة..؟ أسيبه يتحبس ويتمرمط؟»
أجاب يونس بحدة غلبته وتأفف ضائق «أيوة سيبه أنت مش مجبر تتحملنا كل دِه؟ احنا كِبرنا خلاص كل واحد يتحمل نتيجة أفعاله»
أشار له رؤوف بكفه في غضب لا يروقه الحديث فأنهاه «بس بس»
زاغت نظراته وتشوشت رؤيته، ضرب الألم رأسه فجأة وامتد لذراعه مما جعله يتألم ويتوجع، انحنى يضم كفه يحاول السيطرة على ألمها والذي يعده خيانه منها..
رمى جسده بقوة فوق الأريكة مزمجرًا بعصبية، مما جعل يونس ينتفض من مكانه ويجاوره مستفسرًا «مالك يا أخوي فيك حاجة؟»
رفع رؤوف له نظراته المصابة بالحزن معاتبًا، قبل أن تتبدل نظراته للغضب وينهض منتفضًا ممسكًا بذراعه يسيطر بقوة على ألمه، دخل الحجرة وأغلق خلفه تاركًا يونس يتخبط في الحيرة والقلق.
بعد قليل ذهب يونس ليطمئن عليه فوجده ممددًا في الفِراش بتعب، يئن ألما مما دفعه لأن يسأله بهلع احتوته نظراته المُعانقة له «رؤوف مالك»
ضغط رؤوف فوق رأسه بقوة وألمه يشتد «دماغي»
تحرك يتعكز برؤية مشوشة وجسد واهن، يقع فيسارع يونس بإسناده قائلًا «تعالى نروح لدكتور»
نفض رؤوف ذراعه رافضًا يضرب رأسه في الخزانه متأوهًا حتى سقط أرضًا، انتفض يونس مناديًا باسمه في جزع «رؤوف»
ساعده يونس حتى وصل للفِراش ومدده ثم انحنى يستمع لغمغماته «البرشام يا يونس»
بعدها غاب عن الوعي، تحرك يونس يبحث عن علاجه وحبوبه التي يتناولها عند الطوارىء حتى يئس من إيجادها فرفع هاتفه يسأل طاهر وهو يدور في الحجرة «طاهر تعرف اسم البرشام بتاع رؤوف»
أجاب طاهر «ليه حصل إيه....؟»
قال يونس ونظراته تسقط فوق جسد رؤوف المحيط رأسه بكفيه متألمًا بضعف «الصداع بتاعه وأنا مش عارف العلاج فين ولا حتى فاكر اسمه»
انتفض طاهر من أمام المشتل حيث كان ينتظر غزل «ماشي طيب أنا جاي»
أنهى الاتصال وصعد أول حافلة قلقًا على أخيه يلوم نفسه على عناده ضائقًا من نفسه وأفعاله.
وصل طاهر ودخل يتأمل أخيه آسفًا، يحاول إيقاظه ليأخذ منه اسم الدواء لكن لا فائدة وقف وعي رؤوف في منطقة رمادية لا يستطيعون الوصول إليه فيها
دار طاهر حول نفسه مشتت مرتبك «مش عارف يا يونس خلينا نكلّم آيات»
لم يقتنع يونس بطلبه فآيات لن تفيدهم «ياعم آيات إيه؟ هي دي عايشة معانا؟»
زفر يونس بحنق تجاهله طاهر ورفع هاتفه مقررًا الاتصال بها، أجابته فورًا «ازيك يا طاهر»
تجاهل سؤالها وركنه جانبًا وسارع بالاستفسار«آيات تعرفي اسم الدوا بتاع رؤوف؟»
سألته «دوا إيه؟»
نفخ يونس بغيظ وهو يضرب بكفه فوق فخذه لائمًا «يا عم جولتلك دي في الطراوة»
أسكته طاهر وتابع السؤال بصبر «يا آيات البرشام الي بياخده لما بتجيله نوبة الصداع»
بدت كأنها مصدومة مأخوذة بما عرفته، خافت الإنكار وعجزت عن الإفصاح فارتبكت حائرة تُجيب بتلعثم «مش عارفة يا طاهر خده معاه»
شعر طاهر بكذبها فتماسك يقيد غضبه ويلجمه بالتعقل والهدوء، قال بسرعة «ماشي يا آيات سلام»
أنهى الاتصال وظل حائرًا شارد الذهن لا ينظر لسواه بحسرة وألم «مش في دكتورة جنبك؟»
اقترحها طاهر كطوق نجاة لكن يونس أجابه بإمتعاض وصفحة وجهه مرآة تعكس استياءه «يا عم ولا تعرف حاجة، وبعدين دي تغذية»
قال طاهر «خلينا نجيبها ونشوف يا إما نوديه مستشفى»
اندفع طاهر للخارج طرق باب شقتها وانتظر بلهفة خروجها بينما بقيّ يونس بالداخل جوار أخيه.
أول ما فتحت هتف طاهر «لو سمحتي يا دكتورة أخويا رؤوف تعبان ممكن تيجي تشوفيه؟»
رمقته بنظرة مرتابة قبل أن تلملمه في نظرة سريعة متوجسة «أنا مالي أنا»
ركلت أمله بقدم فظاظتها وهي تبتعد خطوة للداخل، لكنه استوقفها متوسلًا بأدب «معلش ممكن تبصي عليه»
توترت حين وجدت يونس يقف منتظرًا قبولها أمام شقته، نقّلت نظراتها بينهما قائلة «شوفلك دكتور»
صاح يونس بغيظ وحنق من غلظتها «جولتلك متنفعش وسيبك منها»
نفخت فيروز بغضب وكلماته الحادة تلكم مسامعها «أهو قالك البشمهندس يلا سيبك مني»
كادت تغلق الباب لكنها وقفت تستمع لحديثهما «طيب ننزله ونروح بيه المستشفى»
أعادت فتح الباب ووقفت قائلة «صح البشمهندس بيفكر حلو»
جز يونس على أسنانه قائلًا «ادخلي واجفلي مش نجصاكي»
فتحت الباب على مصرعيه ووقفت متحدية له، فاستدار طاهر يرجوها بأمل «لو سمحتي ممكن لو تعرفي دكتور كويس تكلميه»
طافت نظراتها فوقهما بصمت وتفكير جعل يونس يهتف بضجر «دي لو فيها خير كانت نفعت عيانينها»
زمجرت فيروز بغضب من كلماته القبيحة، لتدبدب بعدها بأقدامها قائلة «الأستاذ رؤوف محترم وساعدني وعلشان خاطر حضرتك وذوقك هكلم حد يجي يشوفه»
استبشر طاهر وابتسم شاكرًا «متشكر يا دكتورة بس بسرعة لو سمحتي»
رمقت فيروز يونس بنظرة متعالية محتقرة قبل أن تسحب هاتفها وتنقر فوقه في استعداد تام لمساعدتهما.
بعد مرور مدة ودّع طاهر الطبيب ونقده ما يستحقه شاكرًا ثم شكر فيروز على مساعدتهما، أما يونس فانعزل مترفعًا عن شكرها يرمقها من وقتٍ لأخر بنظرة متهكمة مستخفًا بفعلتها.
جلس طاهر بالقرب من فِراش أخيه يتأمله داعيًا الله له بالسلامة والنجاة، دقق في الحروق المتفرقة على ذراعيه وكفه ثم سأل يونس «ايه الحروج الي فرؤوف دي يا يونس؟»
أجاب يونس بحزن سكن نظراته على الممدد لا حول له ولا قوة «مش عارف رجع بيها من بره»
أصاب القلق رأس طاهر كالصداع المزمن وامتلأ صدره بالخوف مجهول المصدر «رجعة النوبة ليها علاقة بموضوع الحروج ؟»
هز يونس رأسه يشاركه الحيرة ويملأ كأس قلبه من القلق «مش عارف، جايز... رؤوف مبيتعبش جوي كِده غير لو اتعرض لضغط نفسي وعصبي شديد»
لام طاهر نفسه بندم «تفتكر مقالي السبب؟»
ربت يونس فوق كتفه مهونًا عليه يخرج به من تلك الدائرة المحاطة بنيران الشك المؤذي للنفس «لاه ما أنتوا طول الوجت خناج ومشاكل يعني مش جديد، متهيألي الإجابة في الحروج دي»
زفر طاهر بحزن وصمت يتأمل أخيه، قطع رنين الهاتف وصلة أفكاره، فرفعه قارئًا اسم المتصل بصوتٍ عال «دي آيات»
لوّح يونس بملل وخرج مستاءً منها، أما طاهر فأجابها مترفقًا بها «أيوة يا آيات»
سألته بحرج شديد، لنسيانها السؤال عن زوجها «طاهر هو رؤوف كويس؟»
أجابها طاهر بابتسامة واسعة بدت كمعذوفة أمل مبهجة مع كلمته التي خرجت محمولة على كفوف الثقة بالله والثقة بمقدرة أخيه على تخطي الصعاب ومجابهة كل عسير «رؤوف زي الفل وبخير متجلجيش»
بنيرة مهزوزة متوترة أجابته «طيب الحمد لله، هو جنبك؟»
قال وهو يعانق ملامح أخيه الذي بدأ ينازع في أحلامه «نايم لما يصحى هخليه يكلمك»
شكرته بأدب على رفقه بها وتفهمه «شكرًا يا طاهر مع السلامة»
أنهى طاهر الاتصال وتنهد هامسًا بحزن يطوّق مشاعره ويخنقها مسيطرًا على قلبه وعقله «حصل إيه يا رؤوف؟»
*********
في اليوم التالي «بمنزل حمزة»
نظر حمزة لصناديق الهدايا قاطبًا بدهشة، يسأل زوجته «مين الي جاب دِه كله يا سكن؟»
مطت شفتيها تتأمل مثله بدهشة قبل أن تخبره بعجزها عن معرفة هوية المُرسل «معرفش يا حمزة شوف أنت»
حكّ حمزة فروته، بينما قفزت الصغيرة متلهفة لفتح الصناديق «عايزة أشوف»
هدأها حمزة الذي جلس يفتش في رسائل هاتفه ربما أرسل صاحب الهدايا«استني يا ورد لما نشوف»
جلس الصغير ملتزمًا الصمت بوقار كما جدته، يلتصق بها متابعًا حتى يأذن له والده وتسمح له والدته بأخذ نصيبه من تلك الهدايا، اقتربت الصغيرة تتفحصهم بدقة لا يعنيها ردع والدها ولا كلمات والدتها، وجدت ظرف أبيض ملصق على أحد الصناديق فصاحت بأعين متسعة «بابا في ورقة هنا...»
نهض حمزة حيث أشارت، سحب المظروف وفضّه ليجد كارتًا مكتوب عليه بخط منمق «سامحيني يا أميرة الحلوين وأقبلي هديتي البسيطة»
وضعت الصغيرة كفيها على فمها متسعة الأعين بصدمة تردد بمعرفة وفطنة «عمو رؤوف»
صمت حمزة مُفكرًا فتابعت الصغيرة مؤكدة بصرخات عالية وقفزات مستمتعة «هو عمو رؤوف»
بعد قليل وصلت حمزة رسالته «سامحني يا أبو عبد الحكيم ألف سلامة عليكم ربنا يحفظلك الأولاد ويباركلك فيهم»
ابتسم حمزة مؤكدًا «دِه رؤوف صح»
شاركته سكن الابتسامة مُعجبة بصنيع الأخر وذوقه «ذوق رؤوف وجدع والله »
شهقت متفاجئة بضربة حمزة لمؤخرة رأسها، وحين التفتت تستفسر هتف بغيظ «ما تحترمي نفسك شوية»
قطعت ورد حديثهما تستأذنه «حمزاوي أفتح الهدايا؟»
هز حمزة رأسه وانحنى يلثم خديها سامحًا لها «أيوة يا بابا مبروكين عليكم»
استدار يشجع عبد الحكيم «يلا يا بطل مع أختك خدوا حاجتكم وعلى أوضتكم»
انسحب الصغيران لحجرتهما بينما جلس حمزة يأمر زوجته باستياء متوعدًا لها بنظراته «اعمليلي جهوة يلا»
انسحبت متأففة معترضة على معاملته لها، قالت ورد باهتمام «عايزين نزور البنيه الي في المستشفى يا حمزة»
تنهد حمزة بحزن وشفقة قائلًا «من عنيا نتغدى ونروح يا حبيبتي»
*******************
«في قنا»
طرق عدنان الباب مناديًا بمرح كعادته «بت يا سماسم»
ابتسمت الجالسة فوق الفِراش بحنو وأجابته بلهفة وهي تترك ما بيدها وتنحّيه جانبًا «تعالى يا حبيبي اتفضل»
دخل عدنان الحجرة قائلًا وهو ينظر لرقدتها فوق الفِراش بإمتعاض «مالك يا واكله أبوكي جافلة على روحك ومنزلتيش تتغدي معانا»
ابتسمت سماسم بحنو وهي تعدّل من وضع نظارتها الطبية فوق وجهها وقالت وهي تربت على موضع جوارها «تعالى أُجعد جاري يا حبيبي»
جلس عدنان جوارها كما طلبت فقالت «مفيش يا حبيبي معدتي كانت وجعاني»
عاتبها بحنو «جولتلك سافري مع العيال وشوفي موال معدتك دِه؟»
أجابت متنهدة بحزن عتيق «بسيطة، اهو شوية كِده وشوية كِده»
ثم سألته بإهتمام «العيال مكلموكاش؟ برن عليهم محدش بيرد علي»
ربت على كتفها يطمئنها بحنو محتويًا قلقها « بيسعوا ويرمحوا في الدنيا دلوك يردوا»
دعت بتضرع «ربنا يحفظهم يارب» ثم صارحته بحزن «لما بيغيبوا البيت بيضلم والمرة دي كلهم غابوا ومش عوايدهم»
ابتسم عدنان قائلًا «بكره كل واحد ينشغل بحياته وعياله ويتلهوا عننا اتعودي»
ابتسمت داعية بحنان «ربنا يطمنا عليهم دايمًا»
انتبهت له مشاكسته «بعدين سايب نجاة وجاي ليه من متى يا ناظر؟»
أشاح قائلًا «متعارك معاها»
ضحكت سماسم وقالت معاتبة بمزاح «جولت برضك متدورش عليّ غير لو وليفة جلبك سيباك ومشغولة عنك»
مازحها عدنان برفق ومرحه المُبهج «مروحتش بعيد جيت لوليفة الروح»
ضحكت ببشاشة داعية له من قلبها قبل أن تسأله «ومتعارك معها ليه؟ »
أجابها بإمتعاض كاذب «مش بتجولّي كلام حلو ولا شِعر »
ضحكت سماسم من قلبها فقال عدنان «بذمتك ماله لما تجولّي هو يعني عشان عيالي طولي أدفن نفسي بالحيا»
قبل أن تتحدث قطع حديثهما رنين الهاتف بإسم يونس، فأجابت فورًا في بهجة ولهفة تعانق أحرفها «ازيك يا حبيبي»
أجاب يونس بمحبة وفيرة «ازيك يا أما وحشاني»
جاءها صوت طاهر الضاحك يتبع صوت يونس «ازيك يا أما»
***************
♡بعد مرور أسبوع وفي قنا بالمدرسة ♡
تمر الفتيات من جوارها ويتغامزن، يهمسن بهيام ويغبطنها بحرقة «يا بختها مرت رؤوف الحفناوي»
تنهدت أخرى بهيام «لو منها مطلعش من البيت ولا أشتغل »
مال فمها بابتسامة ساخرة وهي تضع أخر دفتر فوق رزمة عالية متنهدة بحزن، بينما قرصت الفتاة صديقتها ووبختها بحرج «اتأدبي يا حزينة لتسمعك»
لوّحت الفتاة بلا مبالاة وهي تطالع معلمتها بحسرة «فجرية مش حاسة بالنعمة، مش عارفة اتجوزها على إيه؟»
لكزتها صديقتها معاتبة، قبل أن تركض مع الفتيات لترى من صرخن بإسمه في وله «رؤوف يا بنات في ساحة الجبل»
ووقفت في شرفة الطابق تتابع بنظراتها الذي يعتلي فرسه ويطير به في الصحراء الواسعة البعيدة عن المدرسة فارد الذراعين بسيطرة، يستقبل الهواء برئتين مكدثتين بالهم..تابعته لاعنة الغبار الذي حجبه عنها.. نهضت آيات مثلهمن تتابعه بنظراتها في ضيق شديد لو أنها لا تعرفه جيدًا لقالت أنه يتعمد لفت انتباه الفتيات.. لكنها تعرفه جيدًا لا يأبه بأحد ولا يرى سوى هدفه هو أكبر من ذلك ، لا يحب سوى أخوته وأهله ولا يعشق سوى الشعر والسيرة الهلالية... لا تغرية ضحكة ولا يثيره جسد، هائم في ملكوته الخاص.. تنهدت متحسرة على حالها معه تسأل داخلها بسخرية «هل تعرف رؤوف حقًا وتفهمه؟»
ابتسمت بتشفي على الفتيات وقلوبهن التي تتدلى من نظراتهن، فليعشقنه ويهمن به ما الضرر..؟!
تذكرت الوجه الذي عاد به و الهم الذي جاء يغشى ملامحه ويطفىء أنوار روحه، خروجه الآن للصحراء وفي هذا الوقت إعلان واضح أنه ليس بخير ولم يجد سوى الصحراء الواسعة لتحتوي حزنه، تنهدت بحيرة هي عنوان علاقتهما،ثم شردت في ليلة رجوعه نظراته كانت مليئة بالشغف والتوسل الذي لم تعرفه، يرجوها بشيء لغته مبهمة لم تستطع فك شفراتها وحين عجزت عن فهمه كعادتها،عاملها بحنو ورقة بالغة ومراعاة تشعرها دائمًا بالندم والبؤس .
رؤوف الحفناوي طاقة النور وخنجرها المسموم الذي لوّحت به يومًا في غرور فأصاب قلبًا بريئًا؛ لتتجرع بعدها الحرمان في كؤس الندم.
من في البلدة بأكملها لا يحبة ولا يهابه، والهيبة خاصته تأتي من حُلمه بهم ورأفته عليهم ورقته بشيوخهم وعطفه على صغارهم.
عادت لواقعها ململمة دفاتر طالباتها مغادرة للعمل نافضة المشاعر السلبية والأفكار الخبيثة.
**************
مساءً بحجرته
تذكر قبل أن تغمض عيناه تلك المصابة التي التهمتها النيران بجشع ، ولاكتها بين ضروسها بمتعة وتفاخر مرّ، تذكر دموعها المتجمدة على خدها والبؤس الذي غرقت فيه ملامحها واستسلامها كأنها النهاية، لكم تشابهت حكايته مع تلك المسكينة لكن الحياة كانت أرحم به منها وجد من ينقذه قبل أن تمسه النار بسوء،لكنها أبت أن تتركه ويهرب من جوفها سليمًا وضعت بصمتها الخاصة لتذكّره فلا ينسى وتنبهه فلا يغفل.... ترى ما حالها تلك المسكينة؟ وكيف ستمرّ أزمتها لم يملك الوقت الكافي لزيارتها بنفسه والاطمئنان عليها، شيء خفي منعه من فعل ذلك وانشغاله سهّل عليه وتعبه اضطره لأن يهجر القاهر وبرودتها وجفاء قاطنيها لدفء عائلته وهروبًا من الذكريات التي تتابعت فأنهكته.. وكّل الأمر لحمزة مطمئنًا أنه سيفعل وسيؤدي ما عليه، تذكر كلمات الصغيرة ورسالة جدتها له فتنهد واعتدل على ظهره مُفكرًا، مال ينظر لآيات متمنيًا أن يجدها مستيقظة، الليلة يحتاج لثرثرة منها تطغي فوق أفكاره، لضحكة ناعمة تربت فوق خافقه وحنانًا وفير ينسيه ألم الذكريات
أن يهجر الماضي مهاجرًا لقلبها وأحضانها..
وجدها نائمة فأبى أن يوقظها في مثل هذا الوقت ويقلق نومها، دثرها جيدًا واستدار، بعد قليل انتفضت آيات صارخة مما جعله ينتفض مثلها ويجلس محتويًا لها بين ذراعيه يهدؤها
«اهدي يا آيات دِه كابوس»
استعاذت من الشيطان وألاعيبه، نهض رؤوف وغادر للمطبخ يحضر لها كوبًا من الماء، عاد به وناوله لها قائلًا «خدي يا آيات»
ارتشفت القليل منه وأغمضت عينيها جاورها رؤوف وضمها مُربتًا فوق رأسها بحنان يتلو على مسامعها آيات من الذكر الحكيم مما جعلها تنفجر في بكاء مرّ جعل رؤوف يتوقف ويسألها بصبر «إيه يا آيات حصل إيه؟»
تماسكت قليلًا وأجابته بصوت متقطع «مفيش حاجة»
ظل يربت ويقرأ حتى عادت هدأت تمامًا، رفعت وجهه شاكرة له «شكرًا يا رؤوف»
ابتسم ابتسامته الهادئة وهو يمسح على خصلاتها بحنو، رفعت وجهها وقبلته تعبيرًا على شكرها وامتنانًا لصنيعه معها
أفسح لها في قلبه وعقله مكانًا يتقبل عطاياها ويمنحها الكثير، يطفو فوق أوجاعه ومخاوفه.
*****
«بمنزل تماضر»
قال قاسم وهو يسير خلف والده الذي يجوب الحقل منتقيًا الخضار يقطف الجيد منه واضعًا له في دلو ٍ«هنتعشى ايه النهاردة يا أبوي؟»
سار حامد مُفكرًا يشاركه الاختيار «أنتِ إيه رأيك يا قاسم؟»
أجاب قاسم الذي تصنّع التفكير لدقائق «عايز سمك»
استدار حامد يهز رأسه مستحسنًا الاقتراح لحاجةٍ في نفسه «حلو، بس إيه رأيك نروح نصطاد ونجرّب حظنا»
قفز قاسم متهللًا يشجعه على اقتراحه متحمسًا لخوض التجربة الممتعة «ماشي موافج»
حاوط حامد كتفي الصغير بذراع وبالأخر كان يمسك الدلو، وسار به ناحية المنزل مقترحًا «روح جيب أصحابك يصطادوا معانا»
ابتعد قاسم عن ذراع والده وركض متحمسًا بشدة «ماشي يا أبوي هروح أندهلهم وأنت جهّز كل حاجة»
عاد حامد للمنزل مبتسمًا وضع الخضار جانبًا وجلس يدندن أبيات للشافعي وهو يتأمل السماء يبحث عن الراحة والود فيها ومنها...
من مثلكم لرسول الله ينتسبْ
ليت الملوك لها من جَدِّكُم نسب
+
أصلٌ هو الجوهر المكنون مالعبتْ
به الأكفُّ .. ولا حاقت به الرِّيَبْ
+
خير النبيين لم يُذكر على شفةٍ
إلا وصلّت عليه العجم والعربْ
+
قطعت أفكاره تماضر التي نادته «حامد»
نهض ملهوفًا يلبي النداء ببشاشة ورضا «أيوة يا خالة»
أشارت له بمحبة «أجعد جاري يا حامد»
جلس متربعًا فناولته طبقًا مملوءًا بالفول السوداني قائلة «جشره يا حامد»
تناوله مبتسمًا بطاعة مُرحبًا بطلبها «حاضر يا خالة من عينيا»
ابتسمت قائلة بإمتنان حقيقي «تسلم عينيك يا حامد ومينطفيش نورها ولا ينطفي نور جلبك يا ولدي ويدلك ما يذلك »
تنهد بتأثر وهو يفتح كفيها واضعًا حبات الفول السوداني المُقشرة بكفها «تسلمي يا خالة» سألته بقلق وهي تضم حاجبيها مترقبة «فيك إيه يا نور العين»
حاربت الابتسامة حزنه وطفت فوقه راوغها «مفيش بس مشتاق لزيارة حبيب حبيبي»
فكّت عقدة حاجبيها وابتهجت موجّهة له «روح وسلملي عليه يا نور العين»
رفع حاجبه مؤكدًا قوله بدعم من نبرة قوية صادقة «جولتلك مش هروح غير وأنتِ معاي يا تماضر»
قالت منزعجة تشاكسه «متربسش مخك يا واد»
حَلف صادقًا يمنحها امتنانه فى عطفه ومواقِفَه «لاه تروحي معاي»
حين مدّ كفه ليضع حبات الفول داخلها أمسكت به وقبضت على كفه قائلة «يوم ما تجيني بجلبك ماشي جار منك هروح معاك»
ابتسامة مهتزة رسمها وهو يقول مراوغًا مشاكسًا بمرح «هي الجلوب بتطلع من الصدور يا تماضر؟»
ضحكت قائلة «بيجي الي يسرجها مننا غصب عننا يا ولدي ومنجدرش نرده ولا نرد جلوبنا»
أجابها بزهد وهو يسحب كفه ويواصل تقشير الفول «استكفيت من الدنيا»
ضحكت قائلة «يبجا هتجيك الدنيا رَمْح يا نور العين»
قطع تواصل حديثهما ظهور قاسم الصاخب ومن خلفه الأطفال الصغار متحمسين للصيد والنزهة بصحبة حامد، نهض حامد في استعداد لتنطلق دعوات تماضر محيطة له بأسوار حماية وهالة من نور «يطعمك ما يحرمك ويسعدك ما يتعبك يا ولدي»
ابتسم حامد ممتنًا لدعواتها التي تحفظه وتحيطه بالعناية الربانية وانسحب للخارج بصحبة الأطفال متجهين ناحية النيل.
جلس الصغار بعدما قام باختيار الأماكن المناسبة التي توفّر لهم الحماية ثم جلس جوار قاسم يُنشد بصوتٍ عذب جميل والصغار جواره يهتزون طربًا ويرددون معه باستمتاع..
بعد قليل لمح رأفة واقفة تراقبهم فناداها بلطفٍ وحنو «تعالي يا رأفة»
جاءته راكضة تلبي بهمّة بعدما تركت قفتها جانبًا «أيوة يا عم حامد»
منحها عصا الصيد خاصته قائلًا يتصنع الملل «تعالي اصطادي مكاني أنا معايا مكالمة»
ابتهجت وأنارت الابتسامة وجهها، قالت وهي تنقّل نظراتها بين قفتها الممتلئة بالخضار والعصا «أنا..؟»
صبر عليها يتأمل نزاع روحها بشفقة وحنو«أيوة»
طقطقت أناملها قائلة بتردد مُزج في نظراتها اللامعة بالحسرة «بس أنا لسه هبيع»
شجعها وهو ينهض من جلسته يخليها لجلوسها «يا بت شوية بس»
قالت والتردد يغطى لهفتها بغباره «ماشي يا عم بس متتأخرش عشان لو مبعتش أبوي هيموتني»
ابتسم بإشفاق قبل أن ينهض ويبتعد عنهم مُراقبًا من بعيد.. كان ينتظرها ويعرف خطّ سيرها اليومي وجلس منتظرًا لها حتى جاءت
أمسك بكيس بلاستيكي أسود وربطه جيدًا ثم وضعه في أخر وهو يتابعهم بنظراته في حماية، انتهى فابتعد وسار خلف ظهورهم مستغلًا انشغالهم بالصيد وحماسهم، في منطقة بعيدة عن نظراتهم وقف فوق حجر كبير يسمي الله قبل أن ينزل للمياه بهدوء حتى لا يلفت نظراتهم ويجذب فضولهم تجاه تلك المنطقه، سبح قليلًا وبعدها غاص كاتمًا أنفاسه بعدما حدد موضع صنارة رأفة، أمسك بها وسحبها ثم علّق فيها الكيس البلاستيكي وعاد من حيث أتى تاركًا المياه.
بعد قليل صاحت رأفة «يا عم حامد الصنارة غمزت»
همهم الصغار فرحين مندهشين ومترقبين لرؤية نصيب رأفة من السمك.
ساعدها قاسم في سحبها مسميًا الله مترقبًا بلمعة حماس والصغار يحيطونه بنظرات تتعلق بعصا رأفة، ظلوا مشدوهين حتى ظهر الكيس وانتزعه قاسم بخيبة تشاركها جميعهم، ألقاه قاسم فأخذته رأفة وفتحته، حين طالعت ما به شهقت متفاجئة لا تصدق، التفّ الصغار حولها بفضول وتساؤل «فيه إيه؟ كنز؟»
ضحك قاسم وروى فضولهم بإجابته «فيه جزمة»
هز الصغار رؤوسهم غير مقتنعين حتى أخرجتها رأفة بنفس النظرة المبهورة وتأملتها بإعجاب وفم فاغر.. ضحك الصغار قائلين «اصطدتي جزمة يا رأفة؟»
ظلت تتأملها حتى جاء حامد بعدما أبدل ملابسه يسأل بفضول كاذب «في ايه اصطدتوا حاجة؟»
أجابه الصغار في نفسٍ واحد يستهزئون ويسخرون «رأفة اصطادت جزمة»
نظرت إليه رأفة ببلاهة قبل أن تمنحها له ببراءة «خد يا عم حامد»
ابتسم حامد وجلس أمامها يطوّق كتفيها بكفيه قائلًا «أنا هعمل بيها إيه؟»
أجابته «صنارتك طلّعتها»
حاورها بلطف زائد وصبر وفير وحنان لا ينتهي«صُح صنارتي طلعتها بس فدورك أنتِ يعني رزجك أنتِ يا بابا»
سألته ببلاهة لا تصدق هبة السماء وتستكثرها على نفسها «بس الصنارة مش بتاعتي»
مازحها حامد وهو يتأمل فرحتها المخبأة خلف أستار التعفف «مالي بيها لا هينفع ألبسها ولا حتى قاسم»
شجعها قاسم بلين «خديها يا رأفة دي حلوة جوي، هو كِده الي يطلّع حاجة من النيل ياخدها دِه رزقة زي السمك»
ترددت قليلًا تقلّب الأمور في عقلها بحكمتها البريئة فانطلق الصغار مشجعين له «خديها يا رأفة»
أخفضت نظراتها لحذائها المتهالك الذي يصرخ في وجهها أن ترحمه وتُلقي به، ابتسمت وهي تفكر متخيلة شكل قدميها بالحذاء الجديد، رفعت نظراتها لحامد تتوسله أن يمنحها الإجابة التي تريدها «أخده يا عم يعني بتاعي؟»
أجابها حامد بابتسامة واسعة تؤكد قوله «أيوة بتاعك يا بابا، اجري يلا روحي وريه لأمك»
ضحك الصغار حين علّق حامد بمرح «الناس تلاجي سمك وأنتِ تلاجي جزمة»
ضحكت أخيرًا تلك المترددة وانتفضت تستوعب عطايا القدر، تركت حامد وركضت تحتضنه والصغار خلفها يخبرون القرية بقصة الصغيرة التي اصطادت أمنيتها.
وقف حامد يتابعها بفرحة ، وكيف أنستها المفاجأة والفرحة خضارها.
فرك فروة قاسم متسائلًا «وأنت صنارتك عايزها تصيد إيه »
أجابه الصغير ببراءة ومازال شاردًا مع أصدقائه «مش عارف»
عاد حامد واصطاد بعض الأسماك التي أخذها وغادر لإعداد العشاء أمام المنزل، قام قاسم بتقطيع الخضراوات كما قام حامد بشواء السمك وطبخ الأرز.. انتظر مجيء عبود لكنه تأخر فقرروا تناول العشاء وترك جزءًا له حتى يأتى.
قبل الفجر نهض حامد من نومه توضأ وذكر الله كثيرًا ثم نهض ليصلي وبعدما فرغ من الصلاة، ارتدى جلبابه ولفّ رأسه بالشال ووقف على عتبات المنزل ينظر للسماء مبتهلًا «حبيبي يارب» وبعدها انطلق حيث وجهته التي يقصد
**********
طرق حامد الباب ووقف يتطلع حوله باهتمام، يراقب الطريق ويتأمل مدخل الشارع وهو يفرك كفيه مدفئًا جسده
سأل الرجل من خلف الباب الخشبي القديم «مين؟»
أجابه حامد مبتسمًا بخبث ونبرة تهكمية تفيض سخرية «مغلوب على أمري وجيلك تنجدني يا مولانا»
بعدما أنهى قوله وجد الباب يُفتح ويُرحب بدخوله،هواعتاد زائري منتصف الليل فهذا هو موعدهم، ولج حامد للداخل ينظر حول ممشطًا المكان يأخذ له صورة تقديرية ويمسحه بفطنه، جلس الرجل ذو اللحية الطويلة فوق أريكة مسنّة بظهر محنى وقوائم متآكلة تشتكى الزمن وتجبّره، أمامه طاولة دائرية فوقها مبخرة لا يذهب ريحها ولا يتوقف دخانها..
جلس حامد أمامه خانعًا يدّعي الوهن، طلب منه الرجل بثقة بعدما توجّس منه خيفة «اكشف وشك»
عاجله حامد بما سيلهث خلفه وينشغل عن معرفة هويته، رمى لكلب مثله عظمة تغريه، أخرج من جيبه رزمة أموال وووضعها أمامه متوسلًا بإنكسار كاذب «جيتلك من أخر الدنيا لما سمعت عن بركاتك، وليك الي تطلبه لو عملتلي الي هجولك عليه»
اعتدل الرجل يسأل بثقة وغرور لاهيًا، سعيدًا بصيده الثمين وغنيمته «وإيه طلبك؟»
طوّع حامد نبرته لغرضه، كسر حدتها وهذّب شظاياها «تعملي عمل لواحد مؤذي»
ابتسم الرجل وقال بغطرسة وهو يحك ذقنه «بسيطة دي المؤذي نأذيه»
لمعت عينا حامد بالانتصار، الذي خبأه سريعًا وتابع «عايزك تعمل أقصى ما عندك يا مولانا ومش هبخل، الي تطلبه هديهولك وبزيادة»
هز الرجل رأسه وقال متفاخرًا بصنيعه «اطمن طلبك مجاب»
ثم نهض وتحرّك ناحية ستارة قديمة رفعها وعبر للداخل، همس حامد «حبيبي يارب» ثم تابع يتأمل الحجرة والقرف يملأ نفسه... عاد الرجل ممسكًا بقطعة قماش ملفوفة وزجاجة مياه منحهما لحامد الذي تلقفهم كالغيث وجلس شاكرًا، بينما جلس الرجل مسترخيًا بغطرسة يملي عليه «تحطّ الحجاب دِه فعتبة بيته وبعدها ترش عليها من الميّه دي»
ابتسم حامد ابتسامة لم تظهر وقال «واه بسيطة كِده»
تناول الرجل رزمة الأموال وشرع في عدها بنظرات جائعة وملامح مبتهجة.
استغل حامد انشغاله ونهض متجهًا لعتبة المنزل جلس يحفر تحتها ووضع الحجاب
انتفض الرجل واندفع ناحيته يسأل «بتعمل إيه يا حزين جصدي عتبة المؤذي مش عتبتي»
لم يستمع إليه حامد وواصل ما يفعل، دفن الحجاب وسكب المياه فوقه ثم فرد جسده قائلًا «بس كِده»
انحنى الرجل يحفر، فمنعه حامد وأمسك بكتفيه ثم رفعه مدّعيًا الغباء «رجعت فكلامك ليه»
تأفف الرجل وقال موبخًا «العمل للمؤذي يا ابو مخ تخين، فتّح مخك معاي»
أجاب حامد ببساطة شديدة وهدوء «ما أنت المؤذي أنا عملهولك أنت»
فغر الرجل فمه وارتد يتأمله مصعوًا من قوله قبل أن يسترد إدراكه الذي سلبته المفاجأة ويقفز ناحية حامد يريد تعرية وجهه «أنت مين؟»
ابتعد حامد خطوة وأجابه بثقة ونظرة لامعة تعزز قوله «جابض لأرواح»
دار حامد في الحجرة يبحث عن شيء والرجل يتابعه مدهوشًا، قال حامد وهو يتنهد برضا حينما وقعت نظراته فوق حبل غليظ «واه يا حزين هما العفاريت بتوعك مجلولكاش إني جاي»
حاول الرجل القفز ومهاجمة حامد لكن حامد دفعه بعيدًا قائلًا بسخرية «بتجولي أنا يا حزين والله ما حزين وبمخ تخين غيرك»
نظر الرجل لجسد حامد الضخم وطوله بحسرة وخيبة، قبل أن يرمي نظراته للباب يهيئ مجال للهرب ويستعد له، سأله الرجل بإرتباك «عايز مني إيه؟ ومين باعتك؟»
ابتسم حامد ونظر لسقف الحجرة قائلًا «القدر هو الي بعتني ليك عارفة؟ بس جولي كيف الجن بتوعك مجلولكش إنك هتموت؟»
شهق الرجل متفاجئًا مضطرب الأنفاس، جسده يهتز برعب حقيقي حاول الفرار فكان له حامد بالمرصاد وقف خلف الباب قائلًا «جايلك من أخر الدنيا وصارف ومكلّف ودافع 100جنيه للتوكتوك وجبل ما نبدأ على بركة الله عايز 200جنية تمن الروحه والجاية والله ما أدفع من جيبي»
قالها حامد واندفع يفتش بجيوبه مؤكدًا قوله مُقرنًا له بالفعل، نعته الرجل في لحظة تهور «أنت مجنون ولا مين باعتك؟»
سحب حامد محفظة نقود الرجل وفتحها أمام نظراته سحب مائتي جنيه ووضعها فوق رزمة أمواله وخبأهما في جيبه ثم رمى له المحفظة مترفعًا «خد فلوسك خدت حجي وخلاص»
ولول الرجل لاعنًا « يا ليلة مطينة أنت جايلي من أي داهية؟»
اقترب حامد وربت فوق خده هازئًا منه «دِه يعلمك متفتحش الباب بالليل لأغراب يا مولانا»
قهقه حامد باستمتاع قبل أن يمسك بالحبل الغليظ ويقترب منه ناويًا على تقييده، زعق الرجل مستنجدًا «يا ناس الحجوني»
واصل حامد ما يفعل قائلًا بسخرية من نجدته «زعّق عليهم ياجوا يشوفوا خيبة عفاريتك»
توسله الرجل بلا قدرة ولا شجاعة مرتعبًا من بنية حامد الجسدية مقابل بنيته الضئيلة ويأسًا من أن يأتي أحد وينقذه في هذا الوقت وهذا المكان المتطرف، فلطالما حاوط نفسه بقصص كاذبة عن كراماته والجن المُسخر لأجله، أحاط نفسه بسورٍ من وهم ليتجنبه الناس وتهابه قطاع الطرق لكنه اليوم أُخذ غدرًا.
«معاي فلوس كتير هديهالك وأمشي»
قيّد حامد جسده جيدًا ثم وقف أمامه يتأمله قائلًا «لاااه»
أخرج حامد من جيبه ماكينة حلاقة واقترب يزيل عنه ذقنه الطويلة متأففًا «طولت دقنك جوي»
نعته الرجل بغيظ وحنق من قلة حيلته «أنت مجنون»
انتهى حامد مما فعل ثم رمى الماكينة نافضًا كفيه باستياء وقرف «مش عايزها حلال عليك»
سأله حامد وهو يجلس قليلًا أمامه «نيجي للمهم بس الأول اسمك إيه؟»
أجاب الرجل ربما ينجو من هذا المأزق «حسن»
قال حامد بتهكم «شوف يا أبو علي هما بيسألوا نفسك فايه جبل ما تموت؟ بس أنا... هسألك سؤال تاني مهم جوي»
توقف الرجل عن المنازعة وانتبه فاتكأ حامد واسترخى فوق الأريكة قائلًا بمتعة «اسألني إيه هو السؤال؟»
ظل الرجل على صمته وفزعه الذي يشلّ لسانه والترقب سم بطيء ينتشر في جسده
تغاضى حامد وتابع بسخرية «هعتبر إنك سألت إيه هو وهجولّك
«تحب تموت كيف؟ مجتول ولا محروق ولا مشنوق »
ضحك حامد ضحكة عالية وقال متفاخرًا بنفسه
«شوفت جابض أرواح بيخيّر حد اهو أنا بخيّرك »
#انتهى

