رواية جارية في ثياب ملكية الفصل السابع والعشرين 27 بقلم نرمين نحمد الله
الفصل الاخير وغدا موعدنا مع الخاتمة باذن الله
★★★★
الفصل السابع والعشرون:
+
جلست رقية في غرفة عاصم الهاشمي كعادتها بعدما تركا منزل العائلة ليقيما هنا بناءً علي رغبتها...
أسندت رأسها علي ظهر الأريكة الجانبية هناك ورأسها يكاد ينفلق من فرط التفكير...
ياسين لم يخيب ظنها فيه...
لقد تحدي جده وترك كل شئٍ خلفه فقط من أجلها هي...
حبه -المتين-لها أثبت قوته في هذا الموقف ليثبت لها أن مشاعره -الهشة-نحو آسيا لم تكن حباً حقيقياً..
لكن...ماذا بعد؟!!
شعورها -المستحدث-هذا بالعجز يخنق روحها ببطء...
هي التي اعتادت أن تكون ملكةً قوية مسيطرة مسئولةً عن الجميع ...
الآن تري نفسها قد تجردت من كل مقوماتها خاصةً بعد رحيل عاصم الهاشمي...
وظروف عجزها الجديدة...
لتري نفسها الآن مجرد امرأة عادية ضعيفة منقوصة تحتاج لسند...
والواقع أن ياسين لم يبخل عليها به كما وعدها...
طرقاتٌ خافتة علي باب غرفتها قطعت أفكارها تلاها دخول الخادمة التي أخبرتها أن هناك امرأة تنتظرها بالأسفل...
امرأة تدعي "آسيا"!!!
شعرت رقية بالتوتر يغزو روحها القلقة أكثر وهي تضع في ذهنها عشرات الأسباب لهذه الزيارة الغير متوقعة...
قبل أن تتمالك قوتها لتبدل ملابسها وتعدل زينتها بحرص...
ثم تتوجه بعدها لهذا اللقاء الذي تخشاه...
وفي مكانها كانت آسيا تشعر ببعض الحرج من نظرات إكرام المستاءة نحوها...
إكرام التي لم تنسَ لها صنيعتها ليلة زفاف ابنتها الوحيدة...والتي كادت تفسد الزفاف لولا أن الله سلم...
لكن رقية تقدمت نحوهما بثبات لتصافح آسيا بودٍ ظاهر...
فاعتذرت منهما إكرام بلباقة لتغادرهما بعدها وهي ترمق رقية بنظراتٍ مشفقة مشبعة بحزنها...
جلست رقية جوار آسيا تبحث عن بداية مناسبة للحديث...
لكن آسيا ابتدرتها بقولها :
_أعرف أنك تتساءلين عن سبب هذه الزيارة المفاجئة...لكنني حقاً قد تأخرت فيما جئتُ لأجله.
رمقتها رقية بنظرة متسائلة...فأردفت آسيا بقوتها -المستحدثة-:
_طالما كنتُ أقول أن تجاهل بعض الأمور هو الحل الأفضل...لكن في هذه الحالة...المواجهة أنفع.
أطرقت رقية برأسها وهي تتوقع كلمات آسيا القادمة:
_لقد جئت لأعتذر عما حدث ليلة زفافك...صدقيني لم أكن في وعيي وقتها...إحساسي بالنقص والدونية أمام قسوة جدي وتسلطه أفقدني عقلي...ولولا أنكِ رقية الهاشمي التي يتحاكي الجميع عن عقلها وكمالها لكان هذا الزواج قد فسد بسببي.
أغمضت رقية عينيها للحظات بألم ...
رغم كل ما كان بينها وبين ياسين من لحظات غرام مشتعلة...
لازالت هذه الذكري تجلدها بسياط غيرتها القاسية...
هذا الجرح الذي يملؤها وهي تتذكره يحتضن امرأة أخري بسواها بهذه الحميمية وبهذا الحب!!!
لكنها تمالكت نفسها بعد لحظات لترفع إليها عينيها قائلة بثبات:
_هل جئتِ لأجل هذا فقط؟!!
ابتسمت آسيا بحنانٍ صادق أذاب هواجس رقية تماماً وهي ترد برفق:
_بل جئت لأصفي كل ما بيننا...لا أريد أن تعكر شوائب الماضي علاقتنا...خاصةً وأنا حقاً أريد اكتساب صداقتك.
أشاحت رقية بوجهها وهي عاجزةٌ عن الرد ...
ليت الأمر بهذه البساطة...!!!
ربما لو كانت في ظروف أخري غير ظروفها الحالية لكانت وجدت دعماً من قوتها المعهودة...
لكنها الآن منهكة....مستنزفة...
والأهم....خائفة!!!
خائفة أن تفقد أغلي ما احتوته حياتها لأجل شئٍ لا يد لها فيه...
وخائفة من عذاب ضميرها لو حرمت ياسين حقه الطبيعي في ولدٍ يستحقه...!!!
خائفةٌ منه أن يظلمها لو سمح لأخري بمشاركتها فيه...
وخائفة من نفسها أن تظلمه لو منعته حقه...!!!
ووسط كل هذا تشعر بنفسها في دوامةٍ من شعور بالنقص لم تتعوده...
شعور يمتص قوتها رويداً رويداً فيسلبها القدرة علي التفكير...
وكأنما قرأت آسيا أفكارها بفطنتها ...
لتقول لها بحنان :
_نعم يا رقية...كم أغبطكِ علي قوتك الحقيقية هذه ...لهذا أتمني لو لا تخسرينها تحت أي ظرف...بعض المنح تأتينا من السماء في صورة مِحَن...لقد وعيت هذا الدرس حقاً عندما أوشكتُ علي الموت يوماً في المزرعة...وبعدما أفقتُ من غيبوبتي وقتها انتبهت أن قوتي يجب أن تنبع من داخلي أنا...قبل أن يمنحها لي أحد...محنتي كانت سبباً في قوتي بعد ضعفي...فلا تجعلي محنتك تفعل بك العكس !!
نظرت إليها رقية بطوفانٍ من مشاعرها الصاخبة الآن...
آسيا علي حق...
بعض المحن تهدينا قوةً بعد ضعف...وبعضها ينزع عنا أردية صلابتنا ليدعنا وسط رياح الخوف عرايا!!!
والفيصل دوماً هنا...هو سلامة أرواحنا قبل الجسد...
الروح التي تستند علي أعمدة قوية من الإيمان والحب تنجح دوماً في المقاومة...
وهذا ما لا تفتقده رقية الآن...
كما لم تفتقده آسيا يوم قررت المواجهة والصمود!!!
آسيا التي تابعت حديثها الحار بصدقه أمام نظرات رقية التي كانت تتشربه حرفاً حرفاً:
_لقد منحكِ القدر فرصةً قلما يمنحها لغيرك...ورأيتِ بقلبك قبل عينيك كيف تحدي بكِ زوجك الجميع لأول مرة في حياته...لو كان أحدهم أخبرني يوماً أن ياسين الذي تربي علي الخوف من قاسم النجدي سيقف أمامه هكذا بمنتهي القوة لاتهمته بالجنون...لكن ها هو ذا يفعلها لأجلك...
أومأت رقية برأسها ثم سألتها ببعض الرفق:
_لماذا تقولين هذا الآن؟!
ربتت آسيا علي كفها وهي تجيبها بصدق:
_لأنني لا أريدكِ أن تجمعي في قلبك خوفه من الماضي والمستقبل معاً...ياسين لم يعد في قلبه سوي رقية ...انزعي من رأسك أي فكرةٍ أخري كي تستطيعي إكمال طريقكما الطويل معاً.
تنهدت رقية بحرارة رغماً عنها وهي تشعر أن آسيا قد قرأت ما برأسها حقاً...
يكفيها خوفها من المستقبل ولا ينقصها أن تزيده بهواجسها عن الماضي كذلك.
بينما أردفت آسيا باستطراد أظهر اهتمامها الحقيقي:
_لقد كنا نتناقش أنا ومارية بشأنك بالأمس...الحقيقة أننا استشرنا العديد من الأطباء هنا بخصوص حالتك ونصحونا بالسفر...مارية أجرت اتصالاتها بالأمس بأشهر المراكز في لندن للاستفسار عن الأمر والنتيجة مشجعة لكن تنقصنا صورة من تحاليلك وأشعاتك الكاملة...قبل أن نحصل علي رد قاطع .
انتعش بعض الأمل في قلب رقية وقد تأثرت حقاً بهذا الاهتمام...
فصمتت للحظات قبل أن تومئ برأسها هامسةً :
_شكراً.
ابتسمت آسيا وهي تقوم من جوارها لتقول بمودة :
_صدقيني يا رقية ...منزلتكِ عندي الآن كساري وجوري تماماً...استشيري ياسين في الأمر ولو وافق يمكننا البدء في مراسلتهم لتحديد موعد السفر....مارية ستفيدنا كثيراً في هذا الأمر...وقد عرضت أن تسافر بنفسها معكِ .
وقفت رقية بدورها وهي تبتسم ابتسامة حقيقية هذه المرة...
مع إحساسها الصادق أنها ليست وحدها في محنتها وأن هناك من يسعي لمساعدتها بحق حتي دون أن تعلم...
لهذا استجابت بحرارة ليد آسيا التي امتدت لها بمصافحة رقيقة...
لتقول بعدها بصوت متهدج:
_شكراً يا آسيا...واشكري مارية أيضاً...سعيدةٌ حقاً باهتمامكما هذا.
ضحكت آسيا ضحكة صافية وقد شعرت بنجاح مهمتها التي أتت من أجلها...
لقد كانت هذه آخر خطوة لتغلق هذه الصفحة القديمة في حياتها مع ياسين...
دون أن تشعر بالحرج بعدها في أي لقاء لها مع رقية....
والحمد لله أنها انتهت علي خير...!!
لكنها لم تكد تنتهي من فكرتها حتي سمعت صوت ياسين خلفها يهتف بدهشة:
_آسيا!!!ماذا حدث؟!
التفتت نحوه آسيا ليتقدم نحوها مردفاً بقلق:
_أمي بخير؟!!الجميع بخير؟!!
أومأت آسيا برأسها إيجاباً وهي تلتفت نحو رقية لتجيبه ببساطة:
_العائلة كلها بخير لا تقلق ...أنا فقط جئت للاطمئنان علي رقية.
عقد ياسين حاجبيه بدهشة وهو ينظر لرقية بتساؤل متفحص...
فابتسمت له رقية ابتسامة مطمئنة وهي تؤكد علي حديثها:
_لا تكن جزوعاً هكذا يا ياسين...آسيا جاءت لنا ببشارة خير سأخبرك بها عندما تعود.
ازداد انعقاد حاجبيه ولازال يشعر بالتوجس من هذه الزيارة المفاجئة...
وهو يسألها بحذر:
_أعود من أين؟!!
هنا كانت صدمته قد وصلت ذروتها و رقية تجيبه ببساطة:
_لا يصحّ أن تغادر وحدها في هذا الوقت من الليل...قم بتوصيلها من فضلك.
كانت تعلم أنها تثير دهشتهما معاً بطلبها المتباسط هذا...
لكنها كانت تريد أن تثبت لنفسها قبل أن تثبت لهما أنها لم تعد تبالي بهذا الماضي الممزق...
والذي تكفيه رياح الزمن كي تبعثر ما تساقط من بقاياه...
إن كانت آسيا قد بدأت الخطوة الأولي وهي ستأخذ الثانية...!!!
وأمامها كان ياسين يشعر ببعض الحرج بعدما تراجعت صدمته..
لكنه لم يجد بداً من الاستجابة لطلبها وقد بدا له منطقياً ...
فهز رأسه وهو يقول بهدوئه الحاني:
_حسناً يا آسيا...تفضلي.
حاولت آسيا الاعتراض بقوة وهي تستشعر الكثير من الحرج بدورها...
لكن الأمر انتهي بها جواره في سيارته عائداً بها لمنزل العائلة...
ظل الصمت ثالثهما للحظات قبل أن يبتدرها هو بسؤاله القلق:
_لماذا زرتِ رقية اليوم؟!
أطرقت برأسها وهي تجيبه بهدوء:
_من الأفضل أن تخبرك هي بنفسها.
تنهد بحرارة وأصابعه تتشنج رغماً عنه علي مقود السيارة وهو يشعر بغرابة الموقف...
هذه آسيا؟؟!!!
آسيا التي كان يراها يوماً الدنيا بما فيها...ومن فيها...!!!
فكيف الآن تجلس جواره فلا يكاد حتي يشعر بوجودها....؟!!!
بل إنه يتمني لو يسابق الزمن حتي ينتهي من هذا -الواجب الثقيل- كما يراه الآن...
ليعود لرقية فيطمئن علي ما كان بينهما!!
لكنه مع هذا لم يمنع نفسه من سؤالها باهتمام :
_سعيدةٌ مع زوجك؟!!
ابتسمت رغماً عنها ونفس أفكاره تجتاحها هي الأخري بنفس الدهشة...
لتجيبه بعدها باقتضاب:
_جداً..!!
رمقها بنظرة جانبية قبل أن يقول بتردد:
_ألازلتِ ناقمةً عليّ؟!
صمتت للحظات...ثم رفعت رأسها لتنظر للطريق أمامها قائلة بشرود:
_لا أبداً...علي العكس...أحياناً يمنحنا القدر صورةً رمادية حتي يمكننا بعدها التفريق بين الأبيض والأسود!!
أومأ برأسه موافقاً وهو يدرك حقاً ما تعنيه....
ما بينهما كان أشبه بغيمة رمادية بخلت بأمطارها عندما استجداها جديب روحيهما المقفر...
ولولا عطيّة القدر لكليهما لماتا عطشاً!!!
الآن يدرك كلاهما أن ما بينهما لم يكن يوماً حباً...
بل "وهم" حب...حذف الزمن من كلمته "الواو" ليبقي فقط همه...!!!
أو استبدل "الميم " ب "النون" ليدهشهما وهنه !!!
ظلا علي صمتهما المشتعل بأفكاره حتي وصلا إلي منزل العائلة الكبير...
فالتفتت نحوه لتقول ببساطة :
_شكراً يا ياسين.
قالتها وهي تهمّ بمغادرة السيارة عندما استوقفها بندائه...
لتعاود الالتفات إليه من جديد...
فقال دون أن ينظر إليها:
_أنا الآن أعلم أن جسار القاصم رجلٌ حقيقي سيحافظ عليكِ كما ينبغي...لكنكِ تعلمين أنني لن أتأخر عن مساعدتكِ إذا احتجتِني في أي وقت...حتي بعدما نبذني جدي عن العائلة.
ابتسمت بتفهم وهي تدرك شعوره الآن والذي هو توأم شعورها...
حتي لو فقدا ما كان بينهما من "أوهام" الحب وضلالاته...
تبقي هناك معزّة حقيقية لن تغيرها الأيام...!!
لهذا غادرت السيارة بسرعة لتغلق بابها خلفها في حركة موحية...
قبل أن تقول له بحزم:
_شكراً لاهتمامك...سلامٌ يا ابن عمي!!
====================
خرجت آسيا من غرفتها بمنزل النجدي الكبير علي صوت بكاء راجية التي كانت تهتف بين دموعها لفريدة:
_نار يا فريدة...نار في قلبي...لم أعتد فراق أولادي هكذا...في البداية حذيفة تلاه عمار...ثم ياسين...إلا ياسين يا فريدة!!! إنه أحنّ أبنائي عليّ...لا أصدق أنه فرط فيّ أنا ولم يكترث برجائي كرامةً لتلك التي تزوجها!
مطت آسيا شفتيها باستياء وهي تشعر أن هذا الحديث كله لا يعجبها...
بينما ربتت فريدة علي كتف راجية لتقول بحنانها كالعادة:
_اصبري يا حبيبتي...صدقيني أنا أشعر بكِ...لكن الله كريم...قلبي يخبرني أن قاسم النجدي لن يظل علي قسوته معهم...قلبه سيلين مع الأيام.
هزت راجية رأسها بأسف...فتقدمت منهما آسيا لتقول بتهذيب :
_عفواً يا عمتي...أنا أري أن أبناء عمي كلهم فعلوا الصواب...لا يحق لأحد أن يقرر مصير الآخرين ولو بدافع الحب...الله سبحانه وتعالي يقول "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً" ...كلنا سيُسأَل وحده عن اختياره ...
رمقتها فريدة بنظرة زاجرة مراعاةً لشعور راجية لكن آسيا أردفت بقوة:
_لو كنت مكانكِ يا عمتي لافتخرت بأبنائي...حذيفة ذي الكبرياء الذي رفض أن يتزوج امرأة رغماً عنها...وعمار الذي دافع عن زوجته وحبيبته التي يحبها ويحبه...وياسين الذي رفض التخلي عن زوجته في محنتها وتصرف معها كرجل حقيقي...كلهم يستحقون الفخر يا عمتي ..كلهم!!
هزت راجية رأسها بعدم اقتناع ...
بينما أشارت فريدة لآسيا بكفها اشارة مقتضبة أن تنصرف الآن...
فتنهدت آسيا بيأس قبل أن تغادر الشقة كلها إلي شقة جدها بالأسفل...
أخذت نفساً عميقاً تستمد به بعض القوة...
قبل أن تطرق الباب برفق تنتظر إذنه بالدخول...
وما إن دخلت حتي اصطدمت بنظرته التي ملأتها المرارة والحسرة والعجز....
قبل أن يداري كل هذا خلف قناع قسوته الظاهرة وهو يسألها بخشونة لم تغادر أسلوبه معها منذ عادت لمنزل العائلة:
_ماذا تريدين؟!
تقدمت لتجلس جواره علي طرف الفراش ثم مالت علي كفه تقبله باحترام...
قبل أن تسأله بحنان :
_كيف حال صحتك يا جدي؟!
أشاح بوجهه عنها وهو يهتف بحدة:
_وكيف تنتظرين أن تكون صحتي وقد ابتلاني الله بأحفاد مثلكم؟!
كتمت ابتسامتها بمشقة ثم تنحنحت بحرج لتقول له بتردد:
_لقد رأيت أبي وعمي كمال رحمه الله في رؤيا بالأمس.
التفت إليها بحدة وقد ظهر الاهتمام علي ملامحه ليسألها بلهفة لم تخطئها أذناها:
_ماذا رأيتِ؟!
ابتسمت وهي تحاول تذكر تفاصيل رؤياها لتقول بعدها بشرود:
_كانا سعيدين للغاية...وجهاهما كانا كقمرين مكتملين...أبي احتضنني بقوة وقبل رأسي...ثم قال لي أوصي جدك بشجيراتي...
دمعت عينا قاسم في هذه اللحظة فشعرت آسيا بالتأثر وهي تهمس بقلق:
_ماذا بك يا جدي؟!
تحشرج صوته وهو يقول لها:
_أكملي.
ازدردت ريقها ببطء ثم أكملت :
_وعمي كمال ناولني مسبحةً كانت في يده وطلب مني أن أعطيها لك...زمردية اللون...وحبيباتها ليست مستديرة... بل...
قاطعها قاسم بصوت متهدج:
_مستطيلة !!
اتسعت عيناها بدهشة وهي تهمس مصدومة:
_نعم...كيف عرفت يا جدي؟!
هز رأسه وهو يسبح الله جهراً عدة مرات...
قبل أن يقول بصوت مهزوز:
_افتحي هذا الدرج يا ابنتي.
قالها وهو يشير لها نحو أحد الأدراج بأنامل مهتزة فتوجهت نحوه لتفتحه قبل أن تشهق بقوة...
وهي تجد نفس المسبحة المميزة التي رأتها في حلمها...
والتي هي واثقة أنها لم ترَها بعينيها من قبل في الواقع!!!
تناولت المسبحة تقلبها بين أناملها بحيرة قبل أن تعود لتجلس جواره هامسةً بذهول:
_لا أصدق...إنها هي يا جدي!!
أطرق برأسه للحظات...وقد عجز عن كتمان انفعاله...
فاحترمت صمته الذي تعلم أنه يخفي الكثير...
قبل أن يقول هو بعد دقائق بصوت مختنق:
_عمك كمال والد ياسين كان أكثر أبنائي صلاحاً...وعندما رزقه الله بأول أبنائه ياسين عاهد الله أن يجعل لنفسه ورداً من التسبيح علي هذه المسبحة تضرعاً إلي الله أن يحفظ ذريته من بعده...وبعدها جاء عمار ثم حذيفة...ومع كل منهما كان ورده في أذكاره يزداد ...حتي حانت لحظة وفاته غدراً أمام عيني...لن أنسي أبداً نظرة عينيه وهو يناولني مسبحته هذه...وكأنه يحملني أمانة أولاده من بعده...
دمعت عينا آسيا في تأثر وهي تهمس بخفوت:
_رحمه الله.
هز قاسم رأسه وهو يقول بشرود:
_أما والدكِ فقد حسبها بطريقة أخري...كلما كانت فريدة تضع أنثي فتعيرها النساء بحرمانها من مولود ذكر ...كان هو يزرع شجيرةً علي الطريق...ويقول هي صدقةٌ جارية لي ولبناتي...فلا ينقطع عملي وفي نفس الوقت تحفظهن من غدر الأيام...
تنهدت آسيا بحرارة وهي تشعر بقشعريرة في جسدها...ثم همست بخفوت:
_سبحان الله...عسي الله ألا يضيع معروفهم يا جدي.
قالتها وهي تتذكر ما حدث لها عندما غادرت بيت العائلة...
وستر الله الذي غشيها بعدها فلم يمسسها سوء بل علي العكس منحتها السماء أغلي هدية...
جسار !
وليست هي فقط...
جويرية التي عصمها الله من فضيحة الهرب..
وساري التي نجت من واقعة الاغتصاب..
حقاً...لقد منحتهن السماء جزيل عطاياها ببركة صلاح والدهن!!
بينما ظل قاسم يتمتم بكلمات غير مفهومة ثم عاد يهز رأسه وهو يقول بشرود:
_هذه الرؤيا تعني اقتراب أجلي...والدكِ وعمكِ يوصيانني بكم جميعاً...قبل أن ألتقي بهم لأخبرهم أنني حفظت الأمانة.
شعرت آسيا بغصة في حلقها عندما ذكر هذا الأمر فهتفت بجزع:
_أبقاك الله لنا يا جدي...لا تقل هذا!
لكن قاسم بدا وكأنه لا يراها ولا يسمعها...
هو فقط أسند رأسه علي ظهر الفراش بعد أن تناول منها المسبحة ليقول لها بشرود:
_اخرجي واتركيني الآن.
ورغم أنها كانت تشعر بالقلق عليه امتثلت لأمره صاغرة وهي تدرك بحدسها أنه يحتاج الآن للبقاء وحده...
فخرجت وأغلقت الباب خلفها برفق...
قبل أن تسيل دموعها علي خديها بتأثر وهي تشعر أن قاسم النجدي سيتخذ قراراتٍ كثيرة قريباً تخص العائلة كلها!!
+
======
_هذا الاحتفال بمناسبة أول راتب لي من العمل!!!!
هتفت بها آسيا بمرح وهي تجلس مع شقيقتيها في أحد المطاعم التي دعتهم إليها...
فضحكت جويرية ضحكة عالية قبل أن تغمزها قائلة بمكر:
_اتقي الله يا "دكتورة"...هذا الراتب لن يكفي حتي نصف ثمن هذا الطعام!
ضحكت آسيا بدورها وهي تخبطها في كتفها قبل أن تقول بفخر:
_هي أثمن نقود تملكتها في حياتي.
ابتسمت ساري وهي تنظر لفرحة آسيا الجديدة علي ملامحها لتقول بتفهم:
_أنا أقدر شعورك يا آسيا...إحساسكِ بعودتك للحياة وحق الحلم من جديد...طعم النجاح بنكهة الحب لا يقدر بثمن!!
هزت آسيا رأسها موافقة...
وهي تشعر بروحها الآن تحلق فوق السماء...
سعيدةٌ هي بحق وهي تشعر أنها تسير في طريقها الجديد مدعومة بسند من الحب الذي يزيد ثقتها في نفسها أكثر وفي إقبالها علي الحياة...
هذا هو الحب الذي خُلق ليلون ملامحنا بذهبية القوة وفضية العطاء وبرونزية الاحتواء...
بعيداً جداً عن تلك المشاعر الزائفة بصدئها والتي لا تحمل أياً من هذا!!!!
بينما التفتت جويرية نحو ساري لتقول لها بنبرة عاتبة:
_وأنتِ يا ساري؟!! ألم يحن الوقت بعد لترحمي هذا المسكين حذيفة؟!!قلبي يتمزق عليه كلما رأيته.
أغمضت ساري عينيها للحظات عاجزةً عن الرد...
فهتفت آسيا بمرح مصطنع لتتجاوز الموقف:
_مسكين؟!!! حذيفة مسكين؟!!! لا أصدق هذا أبداً...دعيه يتعذب قليلاً لعله يكفر بعضاً من ذنوبه!!!
ضحكت جويرية بدورها وهي تهز رأسها في شبه رضا...
فيما فتحت ساري عينيها لتقول بصوت متهدج:
_كيف هو يا جوري؟!! كلميني عنه...أخبريني كيف يقضي يومه..هل عاد لنزواته وانفلاته؟!!هل يجدّ حقاً في عمله؟!!!
ثم أردفت بنبرة أكثر ارتعاشاً:
+
هل يتألم بحقٍ مثلي؟!!!
تبادلت جويرية مع آسيا نظراتٍ آسفة وهما يستشعران معاناتها...قبل أن تقول الأولي بنبرة عطوف:
_هو لا يقضي الكثير من الوقت معنا في المنزل وكأنه يتعمد أن يمنحنا بعض الخصوصية...لكن ما أنا واثقةٌ منه أنه تغير حقاً...ليس فقط في سلوكه الذي صار أقرب للاستقامة...لكن أيضاً في ملامحه التي صارت مصبوغةً بوجعها وكأنه فقد أغلي من يملك.
عضت ساري علي شفتيها لتكتم دموعها ....
فأردفت جوري بغيظ واضح:
_لا أعرف لماذا تعذبان نفسيكما هكذا؟!!! الرجل يحبك وأنتِ كذلك...فما الداعي لكل هذا الألم؟!!
تنهدت ساري بحرارة دون رد...
فهزت آسيا رأسها لتقول بتفهم:
_ساري لازالت تتعثر برداء كبريائها في طريق حبها الوعر...وحذيفة كذلك...كلاهما ينتظر الخطوة الأولي من الآخر.
لوحت جوري بكفها في عدم اقتناع هاتفة باستهزاء مرح:
_كلام فارغ!!!!
ثم أسندت ذقنها علي راحتها لتهمس بهيام:
_وهل هناك أجمل من لقاء حبيبين بعد افتراق؟!!!
ضحكت آسيا بانطلاق وهي تضرب أحد كفيها بالآخر...
بينما اكتفت ساري بابتسامة واسعة وآسيا تهتف باستنكار مرح:
_ماذا حدث لكما في غيابي؟!!! جوري تتغزل في عمار الذي كانوا يخيفون به الصغار؟!!!
زمجرت جويرية بغضب مصطنع وهي تضم قبضتها في وجه آسيا هاتفةً:
_ماذا قلتِ؟!! أعيديها ثانية وسأشوه لكِ وجهكِ الجميل هذا حتي تعودين لجساركِ هذا بأسنانٍ مهشمة!!!
تعالت ضحكات آسيا وساري التي غلبها مرح الحوار هي الأخري...
خاصةً وقد غطت آسيا علي شفتيها بأحد كفيها قبل أن ترفع الآخر في وجه جويرية كإشارة استسلام...
فأعادت جوري كفها جوارها هاتفةً بنبرة تهديد:
_هكذا يكون الأدب!!!
ساعتها ضحكت ساري بخفة وهي تهز رأسها قائلةً بتهكم:
_وها هو ذا تأثير السيد عمار عليكِ...جوري الرقيقة الحالمة صارت تتعامل بالتهديد واللكمات...لا أستبعد أن تستبدلي المكتبة بتجارة السلاح!!!
تعالت ضحكاتهن جميعاً بعدها للحظات...
حتي هدأت نوبة المرح هذه لتلتفت جويرية إلي ساري قائلة بجدية هذه المرة:
_اسمعي نصيحتي يا صغيرتي...ليس أسوأ من أن يضيع الانسان حبه أو عمره...وأنتِ الآن تضيعينهما معاً!!!
أطرقت ساري برأسها دون رد...
فأردفت جويرية بنبرة أرق:
_طالما رآكِ حذيفة جاريةً منحوها له دون جهد...والآن تحررتِ أنتِ من قيد الجواري...فأريهِ عشق الحُرّة كيف يكون!!!
=============
عادت جويرية إلي شقتهما الصغيرة بعد تناولها الغداء مع شقيقتيها لتجده ينتظرها علي أريكة الصالة...
فابتسمت بحب وهي تندفع نحوه لتجلس علي ساقيه وتطوقه بذراعيها لتهمس بين قبلاتها التي نثرتها علي وجهه:
_افتقدتك يا عماري...افتقدتك جداً جداً.
ضحك ضحكة طويلة وهو يضمها إليه أكثر قبل أن يبتعد بوجهه لينظر لعينيها قائلاً بحنان:
_وأنا أيضاً افتقدتك هذه الساعة...لكن لا يهم...أنتِ تبدين سعيدة!
أراحت رأسها علي صدره وهي تهمس بشرود حالم:
_جداً يا عماري...لم أحظَ بهذا الشعور منذ فترة طويلة...أشعر أن قلبي صار متخماً بالحب...عودة آسيا لحضن العائلة واستقرارنا بعد انتهاء قصة الثأر هذه ورجوع حمزة الذي كان فاتحة الخير للجميع...
ثم رفعت إليه عينيها لتردف بهيام:
_وأنت وحبك الذي منحني أمان العمر كله...كل هذا كثيرٌ عليّ!!
احتضن وجهها بين راحتيه يقربه لوجهه أكثر قبل أن يهمس بحرارة:
_لا شئ كثيرٌ عليكِ أنتِ...أنتِ الجورية التي خلقت للحب وخلق الحب لها....أنتِ امرأةٌ قضيت نصف عمري أعشقها ونصفه الآخر أخشي أن أفقدها...هل تعلمين؟! أحياناً أستيقظ من نومي جواركِ لأتأمل ملامحكِ بتفحص مجنون وكأنني لا أصدق بعدُ أنك حقاً بين ذراعيّ... أنتِ الحلم الذي أرهقني حتي تحقق...فلما تحقق كان أروع من الخيال!!
ابتسمت بسعادة خالصة وهي تمرغ وجهها في صدره...
فامتدت أنامله تزيح عنها حجاب رأسها برفق...
لتقع عيناه علي ندبة رقبتها التي تركها السكّين ذاك اليوم الذي اعترفت له فيه بكل الحقيقة...
فضمها إليه أكثر وهو يلثم مكانها بشفتيه بعمق قبل أن يهمس بصوت مرتعش:
_سأبقي طوال عمري أعشق ندبتكِ هذه...ليتها لا تزول من مكانها أبداً..رغم أنني ليلتها كدت أموت قلقاً وخوفاً عليكِ من أن تؤذي نفسك...لكنني لن أنسي اعترافك ذاك أبداً...
تأوهت بضعف وهي تدفن وجهها في طيات قميصه أكثر ليصله همسها ذو الدلال الذي لا تجيده معه سواها:
_هل كان يجب أن يسيل دمي أمامك حتي تصدق؟!
مد أنامله الخشنة يتلمس موضع ندبتها برقة بالغة وهو يرد عليها بهمسه الحار المفعم بصدقه:
_فداكِ دمي وروحي يا جوريتي!!
تطلعت إلي عينيه اللتين كانتا تبرقان الآن كنجمتين في ليل بلا قمر...
وهي تشعر بحبه كرداءٍ منحه لها القدر بعد طول عُريٍ وبرد...
هل هذا هو ما يفعله بنا الحب عندما نعطيه فيرتد إلينا أضعافاً مضاعفة...؟!!!!
فيحيي بنا الأحلام التي ظننّاها قد ماتت...
وينبت لنا جناحين من نور نحلق بهما في سماءٍ لا تعرف نهاية....
ويزين ملامحنا بأطياف ملونة تعوضنا عما ضاع قبله من أيام باهتة؟!!!!
+
ظل الحديث يدور بين عينيهما طويلاً حتي رفعها من خصرها ليقف ويجذبها من يدها نحو غرفتهما...
حتي توقف بها أمام خزانة ملابسهما ليفتحها لها قبل أن يستخرج منها ثوباً ملفوفاً بورق شفاف لامع..
فشهقت بانبهار وهي تتناوله منه لتستخرجه هاتفةً بعد لحظات من الدهشة:
_يا إلهي...إنه نفس ثوب زفافنا الذي...
قطعت عبارتها وهي تغمض عينيها بقوة متحاشيةً الحديث عن تلك الذكري البغيضة...
لكنه استشعر ألمها فغمغم برفق حمل بعض أسفه:
_لقد طلبتُ منهم أن يصنعوا واحداً مثله خصيصاً لنا...
فتحت عينيها وهي تبتسم بشحوب محاولةً تدارك تلك الغصة في حلقها لتهمس بعد فترة:
_ولماذا لم تشترِ واحداً آخر؟!
أطرق برأسه صامتاً للحظات ...قبل أن يهمس :
_أولاً...لأنني كنتُ مهووساً بجمالكِ فيه...لم أتصوركِ إلا به.
ضمت الثوب لصدرها بقوة وهي تتطاول علي أطراف أصابعها لتقبل وجنته هامسةً:
_وثانياً؟!
نظر إليها طويلاً بفيض عاطفته الذي كان محملاً الآن بالكثير من الندم للحظات طويلة...
قبل أن يهمس :
_كنت أريد أن أمحو من ذهنكِ هذه الذكري تماماً!!!
ابتسمت في تأثر وهي تضع الثوب جانباً...لتتعلق بذراعيها في عنقه هامسةً بدلال:
_قل لي سامحيني ...وسأسامحك!
رفع أحد حاجبيه باستهجان وهو يضمها إليه بعنف حتي تأوهت بقوة وهو يقول لها بخشونة:
_ألا تريدين أن أقبل يدك أيضاً؟!!!
ضحكت ضحكة طويلة قبل أن تغمز له بعينها هامسةً بغنج:
_لو طلبتها جوريتك فستفعلها لأجلها ...لكنني لن أفعلها.
خبطها بجبهته في جبهتها ببعض القوة فتأوهت من جديد لتهتف بعدها بمرح:
_حسناً...أنا التي سأعتذر وسأقبل يديك أيضاً!!!
اختلط صوت ضحكاتهما معاً للحظات...
قبل أن يسألها هو بجدية هذه المرة وسط نظراته التي رفعتها لأعالي سماوات العشق:
_حقاً سامحتِني؟!!
أومأت برأسها إيجاباً ببطء قبل أن تهمس بحرارة:
_أنت مزقت ثوباً لكنك أصلحتَ عُمراً...اغتصبت جسداً لكنك أحييتَ روحاً...فكيف لا أسامحك؟!!
=========================
+
_حذيفة؟!! لا أصدق نفسي!!!!ماذا تفعل هنا؟!!
هتفت بها تلك الفتاة بدهشة ممتزجة بميوعتها وهي تدخل للمركز الذي يديره الآن...
فالتفت نحوها ببعض الحرج وأنظار بعض الحضور تتوجه نحوه...
لكنه ظل جالساً علي مكتبه يرمقها ببرود يجيده حتي اقتربت منه بدلال اصطبغت به خطواتها قبل كلماتها:
_هل نسيتني بهذه السرعة؟!!
أطرق برأسه للحظة ثم عاد ينظر إليها نظرة زاجرة ناقضت برود صوته بعدها:
_عفواً...هل التقينا من قبل؟!
ضحكت الفتاة ضحكة طويلة ثم غمزته قائلةً بخبث:
_مادمت نسيت فسأتركك حتي تتذكر وحدك.
مط شفتيه باستياء واضح وهو يشعر بالاشمئزاز...
إنه يذكر هذه الفتاة بالذات جيداً ...فقد قضي أكثر من شهرين يحاول إيقاعها في حبائله حتي نجح...
لكنه زهدها كالعادة بعدها ليبحث عن صيدٍ جديد...
وقد كان هذا بالطبع قبل بداية تعلق قلبه بساحرته العنيدة التي طمست بعشقها آثار كل النساء قبلها...
استغفر الله بصمت عندما تذكر هذا وهو يجدد عهده علي توبته...
ثم قال لها بنبرة جافة :
_باشمهندس(......)في الغرفة الجانبية سيساعدكِ فيما جئتِ لأجله.
رمقته الفتاة بنظرة غيظ واضحة من نفوره قبل أن تغادره بخطواتٍ سريعة نحو الغرفة التي أشار إليها...
فزفر بقوة وهو يتشاغل بشاشة حاسوبه التي أدارها نحوه بحيث لا يراها سواه...
ثم تلاعبت أنامله بالأزرار حتي ظهرت له صورتها التي يخفيها في إحدي ملفاته الخاصة...
ابتسم ابتسامة حانية وملامحها الملائكية رغم بساطتها تبدو له وكأنها تغسل روحه من دنس ماضيه كاملاً...!!!
أغمض عينيه للحظات يسترجع آخر مرة رآها في حفل عقد قران حمزة...
وحبه الذي كان يلون حدقتيها رغم محاولتها الواهية للتظاهر بالبرود...
واحمرار وجنتيها الذي فضح له تأثيره الذي لازال قوياً عليها كما يثق تماماً...
يقولون أن الرجل يزهد في المرأة عندما يوقن من عشقها له...
فما باله هو كلما ازداد يقيناً من غرامها الصادق به...كلما تعلق بها أكثر...وخاف من فقدانها أكثر...؟!!!
ربما ..لأنه إلي الآن يدرك أنه -مع سواد خطايا ماضيه-لا يستحقها...!!!
وربما لأنه يعلم أنه لن يصادف أبداً امرأة مثلها...
امرأة شطره سيف حبها نصفين ثم أعاد وصلهما ليبعثه من جديد...!!
امرأة جرحته بأشد ما تكون القسوة...وداوته بأرقّ ما يكون الحنان...!!
امرأة قاتل نفسه لأجلها...لكنه عجز عن قتالها هي...فانهزم أمام عقلها الذي ألقاه طريداً خارج أسوار مدينتها وحده في العراء...!!
امرأة يقسم أنها لن تكون إلا له مع أنه يعلم أنها تقسم لنفسها كل يوم ألا تكون !!
هي التي عشقته كما لا يمكن أن تتقن امرأة سواها...
وجرحته كما لا يمكن أن تفعل امرأة سواها...
وأخفت دواءه في طيات ثوبها متحديةً أن يجد لنفسه شفاءً إلا بين ذراعيها!!!
+
_حذيفة!
فتح عينيه ببطء عندما سمع همسها المبحوح باسمه ليجدها فجأة أمامه...
وكأنما قفزت من أفكاره !!!
ظل ينظر إليها للحظات وكأنه يتأكد أنها حقيقية قبل أن يتمالك نفسه ليغلق شاشة حاسوبه بسرعة...
ثم يقول لها بنبرة متحفظة جاهد نفسه كثيراً كي يستحضرها:
_أهلاً يا ابنة عمي...تفضلي بالجلوس.
تلفتت حولها لصالة المركز التي كانت خاليةً الآن إلا منهما لتقول له ببعض الارتباك:
_لماذا أري المكان خالياً؟! هل انتهي وقت العمل؟!!
سحب عينيه من علي ملامحها بصعوبة ليفتح أحد الأدراج متظاهراً بالانشغال وهو يقول ببساطة مصطنعة:
_المكان مزدحم لكن الغرف مغلقة .
أومأت برأسها في تفهم ثم التفتت إليه لتسأله بنبرة ذات مغزي:
_هل أسألك أنت علي طلبي...أم أسأل "الباشمهندس" في الغرفة الجانبية؟!!
رمقها بنظرة طويلة متفحصة قبل أن يبتسم ابتسامة جانبية وهو يدرك أنها قد شهدت موقفه مع تلك الفتاة منذ دقائق...
ثم اقترب بجذعه ليستند علي المكتب مقتنصاً نظراتها بهيمنة لا يجيدها معه سواه...
فابتسمت رغماً عنها وهي تطرق برأسها لتصلها همساته الخفيضة مشتعلةً بمشاعره رغم برودها الظاهر:
_لا طبعاً...أنتِ ابنة عمي...يجب أن تكون لكِ معاملةً خاصة.
لكنها تصنعت الجدية علي ملامح وجهها الذي رفعته نحوه لتسأله بلهجة عملية:
_دورة(......)...أحتاجها في تخصصي...أريد أن أعرف كم يوماً ستستغرقه حتي أنسق مواعيدي.
أخفي ابتسامته بمهارة وقلبه يكاد يتواثب فرحاً...
ساري جاءته بقدميها بعدما منحها حريتها تتذرع بشئ وهمي...!!!
وهذا يعني أن عقلها الذي طالما كان عدوه الحقيقي قد بدأ يرضخ لرغبة قلبها...
ومن يدري...ربما يتصالحان معاً في نهاية الطريق فتريح نفسها وتريحه من هذا الصراع الذي أرهقهما معاً!!!
لهذا قام من مكانه ليتوجه نحوها قائلاً بجدية تامة متحاشياً النظر إليها:
_تعالي معي إلي المهندس المسئول.
ظلت جالسةً مكانها تنظر إليه بتردد..
قبل أن تستخرج من حقيبتها زجاجة عطر ملفوفةٍ بورق وردي لامع وعليها بطاقة صغيرة مكتوبٌ عليها:
_إلي الوردية في رقتها...البيضاء في نقائها...السوداء في غضبها...والزرقاء في سحرها...إلي الشفافة التي عبرت حياتي كالطيف فامتلكتني... وغادرتها كالروح فقتلتني.
تجمدت ملامحه تماماً وهو يقرأ الكلمات المكتوبة علي البطاقة ...
قبل أن يقول ببرود تام:
_لطيف...مباركٌ لكِ العطر وصاحبه!
انعقد حاجباها تماماً كلسانها وهي تقوم من مكانها ببطء قبل أن تجد القدرة لتسأله بصوت متقطع من فرط دهشتها:
_هل تعني أنك.... أنت لست مرسلها ؟!!!.ظننت...أقصد...اليوم عيد ميلادي...
قطعت عبارتها بارتباك وعيناها تدوران في المكان بشرود حائر!!
لقد وجدت هذه الهدية ملصقةً علي مقدمة سيارتها عندما نزلت من البيت في الصباح الباكر...
وكل ما دار في ذهنها وقتها أن حذيفة هو من أرسلها لها بمناسبة عيد ميلادها ...
خاصةً وقد وعدها من قبل أن يهديها عطراً يليق بها لا تغيره أبداً!!!
شعرت بالخيبة تملؤها وقتها مع هذا البرود الذي احتله كاملاً وهو يرد عليها:
_ومنذ متي كنت أرسل لكِ هدية في عيد ميلادك؟!! لا أذكر أنني فعلتها من قبل!!!
أومأت برأسها وهي تشعر ببعض الإهانة من كلماته مع بروده رغم يقينها من أنه يتصنعه...
فأطرقت برأسها للحظات تتمالك بعض قوتها...
قبل أن تتوجه نحو سلة للمهملات هناك وهي تهمّ بإلقاء هديتها...
عندما لحق بها ليمسك معصمها فيمنعها قائلاً بنفس البرود:
_لماذا؟!
رفعت رأسها للسقف متحاشية النظر إليه لتقول له بحزم:
_لو كانت منك فأنا جئت لأردها...ولو كانت من غيرك فلا حاجة لي بها...
ظل ينظر لعينيها طويلاً وإبهامه يداعب معصمها في كفه بحركته الأثيرة لديها...
لتبث لها عيناه فيضاً من غرامه المضفّر بعتابه....
وبينما كانت كل ذرة في كيانها تذوب فيه عشقاً واشتياقاً...
كانت كلماته جامدة وهو يعاود حديثه:
_خسارة!!العطر يبدو ثميناً...
ثم ضغط علي حروفه بلهجة ذات مغزي :
_ويليق بكِ كما تستحقين!!
ازدردت ريقها ببطء وهي تدرك عما يتحدث...
لو لم يكن حذيفة مرسلها فهو بالتأكيد بلال....
لهذا زفرت بضيق قبل أن تخفض بصرها عنه هامسةً باقتضاب:
_أخبرتك ألا حاجة لي فيه!
ابتسم ساعتها ابتسامة حقيقية مكللةً ببعض الخبث وعيناه تدوران في المكان ليتأكد من خلوه...
قبل أن يحتضن كفها بالزجاجة في يدها بين راحتيه ليرفعهما معاً إلي شفتيه في قبلة عميقة ارتجف لها جسدها كله...
قبل أن يهمس بنبرة دافئة:
_كل عام وأنتِ...."بخير"!!
تضرجت وجنتاها بحمرة خجلها وهي تكاد تقسم أنها سمعت بقلبها- دون أذنيها- كلمة "حبيبتي" التي استبدلها ب"بخير" ....
نعم ...قرأتها بعينيه حتي ولو بخل بها لسانه...!!
فأطرقت برأسها خجلاً ليميل عليها هامساً جوار أذنها:
_يا ابنة عمي!
رفعت رأسها إليه أخيراً بعد لحظات وهي تنتبه لنفسها...فابتعدت عنه وهي تسحب كفها منه بعنف ...
قبل أن تتلفت حولها هاتفةً بحدة :
_ومادمت أنت من أرسلها...فلماذا تنكر؟!!
تراقص حاجباه بمكر وهو يهز كتفيه قائلاً:
_أنا لم أقل أنني من أرسلها.
كزت علي أسنانها بغيظ وهي تكاد تقسم أنها له...
الماكر يتلاعب بها!!!
والمصيبة...أنها مستمتعة بهذه اللعبة رغم غيظها!!!!
لهذا تحركت لتضع الهدية علي مكتبه بعنف هاتفة بحنق :
_تصرف فيها بمعرفتك...لا أريدها.
لكنه كتم ضحكته التي ود لو يفلتها الآن...ليعود لصوته بروده وهو يقول بجدية مصطنعة:
_حسناً...كما تريدين...هيا بنا لأعرفكِ علي المهندس الذي سيكون مسئولاً عنكِ.
===================
+
جلس حذيفة علي مكتبه في المركز يتطلع لساعته بقلق...
سمع صوت الرعد بالخارج فزفر بقوة وهو يكاد يجزم أنها لن تأتي في موعدها اليوم مع هذا الطقس السئ!!
لقد اعتذر غالبية العاملين معه...
والمركز الآن خالٍ إلا منه...
لكنه مع هذا أصرّ علي البقاء حتي موعدها ...لعلها هي الأخري تأتي!!!
فهي لم تخلف موعد محاضراتها هنا منذ أول مرة...
وقد بدا وكأنها تتخذها مجرد ذريعة لتلتقيه وتتحدث معه....
لهذا أدرك بشعوره أن شيئاً ما بها قد تغير وأن صراعها الداخلي بشأنه ربما أوشك علي الاندثار...!
قام من مكانه ليتوجه إلي ذاك الركن هناك حيث تناول الغلاية الكهربائية ليحضر له مشروباً دافئاً...
ضغط زر التشغيل ثم وقف أمام النافذة الزجاجية لينفث زفير فمه في الزجاج أمامه...
ثم ابتسم بحنين بالغ وهو يمد سبابته ليكتب اسمها علي البخار المتكاثف أمامه...
مستعيداً إحدي ذكرياتهما صغاراً عندما كان يفعل هذا معها وهي بعد طفلة ليثير انبهارها الطفولي به...
اتسعت ابتسامته وهو يستعيد بعض ذكرياته الأخري معها وقلبه يكاد ينفطر اشتياقاً...
ليس هناك أجمل من عشق يتأرجح بين طفولة المرء وشبابه...
فيجمع براءة وسحر الأولي ...وقوة وعنفوان الثاني!!!
ليزيد وثاق القلب بحبالٍ لا مرئية لكنها أصلب ما تكون...
وأدوم ما تكون!!!
ظل شارداً في الفراغ أمامه للحظات
حتي سمع صوتها خلفه:
_كنت تكتبها "سوسو"...وليس"ساري"!!!
التفت نحوها بحدة متبيناً ابتلال ملابسها بفعل المطر مع احمرار أنفها ووجنتيها الشديد....
قبل أن يبتسم وهو يشيح بوجهه متجاهلاً عبارتها ليقول ببرود مصطنع:
_ظننتكِ لن تأتي في مثل هذا الطقس!
ضمت ياقتي معطفها تلتمس بعض الدفء وهي تقول ببرود مماثل رغم ارتعاش صوتها برداً:
_ولماذا بقيت أنت؟!! المركز خالٍ علي ما يبدو!
هز كتفيه بلا معني وهو يتجاوزها ليصب لنفسه كوباً من القهوة قبل أن يسألها :
_تشاركينني القهوة؟!
أومأت برأسها إيجاباً فصب لها كوباً معه ...
ناوله لها برفق قبل أن يعود للجلوس علي مكتبه لتجلس هي أمامه متلفتةً حولها وهي تقول:
_لم يتبقّ لي سوي محاضرة واحدة هنا قبل أن أنتهي من دورتي...
أومأ برأسه متظاهراً بالبرود وهو يتحاشي النظر إليها كعادته مؤخراً معها....
مع هذه الوخزة التي شعرها في قلبه ...
فقد كانت هذه المحاضرات ذريعتها للقائه هنا...
ولا يدري كيف سيمكنه رؤيتها بعد ذلك...
فالحمقاء العنيدة لازالت تكابر...
وهو لن يزيدها بعنادها إلا عناداً!!!!
لكنها عادت تنظر إليه لتقول بتردد:
_كنت أتمني لو أنتهي من هذه المحاضرة اليوم قبل سفري .
عقد حاجبيه وهو يرفع رأسه إليها قائلاً بحدة:
_أي سفر؟!
أطرقت برأسها وهي تجيبه بهدوء:
_ياسين ورقية سيسافران إلي لندن للعلاج برفقة حمزة ومارية...وجدي أذن لي بالسفر معهم.
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يعاود سؤالها بنفس النبرة الحادة:
_ولماذا تفعلين؟!
ظلت مطرقةً برأسها دون رد للحظات...
قبل أن ترفع إليه وجهها لتنظر لعينيه المشتعلتين قائلةً بأسي:
_أريد الابتعاد عن كل شئ هنا حتي تصفو أفكاري...أحتاج لاتخاذ قرارات كثيرة دون ضغوط.
ضاقت عيناه بتفحص وهو يقول من بين أسنانه:
_عمار أخبرني أن بلال الهاشمي طلبك من جدي من جديد...هل هذه هي القرارات التي تريدين اتخاذها؟!!
زفرت بقوة ثم أشاحت بوجهها عنه لتقول بحزم:
_لقد أبلغتُ جدي برفضي لبلال.
ارتخت ملامحه بعض الشئ وإن حافظ صوته علي جفافه وهو يسألها باستهجان:
_لماذا؟!هو الآخر لا يليق بكِ ولا تأتمنينه علي نفسك؟!
أصابتها عبارته بسهم ندمٍ غادر فقامت من مكانها لتتناول حقيبتها قائلةً دون أن تنظر إليه:
_مادمتَ تتحدث بهذه الطريقة فالأفضل أن أنصرف!!
قالتها وهي تعطيه ظهرها بالفعل فقام واقفاً ليهتف بصرامة:
_اجلسي!
ظلت واقفةً تعطيه ظهرها للحظات عندما أردف هو خلفها بنفس النبرة الصارمة:
_اجلسي لنكمل حديثنا أولاً!!
أطاعته في استسلام غريبٍ علي طبيعتها المعهودة ...فقرّب منها كوب قهوتها قائلاً بنبرة أكثر رفقاً:
_اشربيها قبل أن تبرد.
احتضنت الكوب بين كفيها تلتمس منه بعض الدفء وهي تتحاشي النظر إليه فعاد يسألها بإصرار وعيناه تطوقان ملامحها بتفحص:
_لماذا رفضتِ عرضه؟!
تنهدت بحرارة ثم قالت ببعض العتاب:
_لا تتذاكي عليّ يا حذيفة...أنت تعلم أنني لن أتزوج رجلاً وقلبي معلّقٌ بآخر!!
ابتسم ابتسامة شاحبة وهو يعود بظهره للوراء قائلاً بسخرية مريرة:
_نعم...ذاك الآخر الذي لن تتزوجيه لأن عقلك لا يرتضيه!!!
تناولت رشفةً من كوبها وهي تنظر للفراغ أمامها قائلةً بشرود:
_لا داعي لهذا الكلام الآن...أنا سأترك كل هذا خلفي...لعلني أتمكن من التفكير دون ضغوط.
كز علي أسنانه بغضب وهو يكاد يمنع نفسه بصعوبة من تحطيم رأسها...
رأسها الذي هو سبب كل معاناتها ومعاناته معها...!!!
لو كان الأمر بيده لجذبها من كفها الآن لأقرب مأذون قسراً وهو يعلم أن جزءاً بداخلها يتمني هذا مثله وربما أكثر...!!!
لكنه عاهد نفسه منذ زمن أن يتركها هي تأخذ طريقها نحوه خطوة خطوة...
لهذا سيصبر معها للنهاية فهو يعلم أنها مهما ابتعدت لن يكون لها مستقرٌ إلا بين ذراعيه!!!!
وبهذه الفكرة الأخيرة كظم غيظه وهو يقول لها ببرود لم يخفِ غضبه المشتعل:
_كما تشائين...حظاً سعيداً يا ابنة عمي.
رمقته بنظرة عميقة طويلة وكأنها تودعه...
قبل أن تقوم من مكانها لتقول باقتضاب وقد ساءتها ردة فعله الباردة:
_سأعود غداً لتلقي آخر محاضراتي هنا!!
تظاهر بالتشاغل بشاشة حاسوبه إمعاناً في إثارة غيظها وهو يقول ببساطة مصطنعة:
_أنا مسافرٌ غداً...لكن لا بأس ...لا حاجة لكِ بوجودي...العاملين هنا سيقومون معك بالواجب.
ابتلعت غصة حلقها وهي تضع كوبها علي المكتب أمامه لتهمس بعاطفة لم تستطع مداراتها:
_أراك علي خير!
رمقها بنظرة مشتعلة بغضبه المكتوم ثم نظر نحو النافذة للحظات...
قبل أن يقول دون أن ينظر إليها:
_لقد طلعت الشمس وتوقف سقوط المطر...يمكنكِ الانصراف الآن!!
==================
كانت تركب جواره السيارة عائدين إلي المزرعة ورأسها مستريحٌ علي كتفه تنظر للطريق بشرود...
فقبّل رأسها بحنان هامساً:
_فيمَ شرودكِ يا حبيبتي؟!!
رفعت إليه عينيها بابتسامة عاشقة قبل أن تهمس بهدوء:
_في كل مرة أعود معك إلي المزرعة أحمل هم العم كساب ...كم أتمني لو ينتهي حلمه بتحقيقه كما كان يحلم...لكنني أعرف أن أمي لن توافق...هذا بالطبع بعيداً عن تسلط جدي !!
هز رأسه وهو يقول بتعقل:
_بعض الأحلام خُلقت لتبقي أحلاماً...مجرد خيال عاقر لن يتمخض يوماً عن حقيقة!!
تنهدت بحرارة وهي تهز رأسها نفياً لتهتف باعتراض:
_لا...لا أتفق معك...المرء لابد أن يطارد حلمه مادام في صدره نفسٌ يتردد...إنه عمرٌ واحد...حياةٌ واحدة...فلماذا نضيعها؟!!
ربت علي رأسها برفق وهو يرمقها بنظرة جانبية ليقول بعدها بحنان لا يخلو من إعجاب:
_صغيرتي الثائرة لازالت مشبعةً بحماسها...لكن الواقع كثيراً ما يقيد أحلامنا !!
هزت رأسها بعدم اقتناع ثم قالت لتغير الموضوع:
_كيف حال ياسين؟!! عندما حدثني آخر مرة علي الهاتف كان صوته باكياً...هل هو ضائقٌ بوحدته دوني؟!
هز رأسه نفياً وهو يقول ببساطة:
_لا ...لقد بدأ يعتاد الأمر...خاصةً أنه لم يعد الآن وحده...نغم ابنة عمة سمية أتت للإقامة معنا في المزرعة بصورة دائمة بعد وفاة والدتها.
اتسعت عيناها بصدمة وهي ترفع رأسها عن كتفه بذهول...
ذهول تحول إلي غضب شديد وهي تهتف بحدة لم تتعمدها:
_كيف هذا يا جسار؟!! ودون علمي؟!
أوقف السيارة علي جانب الطريق ثم التفت نحوها قائلاً بغضب مكتوم:
_أخفضي صوتكِ يا آسيا...منذ متي تحتدين عليّ بحديثك هكذا؟!!
أشاحت بوجهها في ضيق دون رد...
فأردف موضحاً:
_نغم فقدت وظيفتها قبل وفاة والدتها...وبعد وفاتها لم يعد لها أحد...وأنا لن أتخلي عنها أبداً...إنها لم تكن قريبة سمية فحسب...بل كانت صديقتها أيضاً.
التفتت نحوه بحدة وهي تحاول التحكم في نبرات صوتها لتسأله بتوتر:
_وأين ستقيم؟!
صمت للحظات ثم قال بضيق:
_لم أجد لها مكاناً سوي الغرفة الخارجية .
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي تسأله بعصبية ساخرة:
_ونحن أين سنقيم؟!!! مادامت غرفة سمية لن تكون إلا لسمية..وغرفتي الخارجية أخذتها قريبة سمية؟!!
كانت تضغط علي كلمة "سمية"في كل مرة بتهكم غارق بمرارة شعورها...
فانعقد حاجباه بغضب وهو يهتف بها :
_طريقتك في الحديث عن الأمر لا تعجبني...
لوحت بكفها وقد أثارها غضبه أكثر لتهتف بدورها:
_وطريقتك في إدارة حياتنا لا تعجبني كذلك...إلي متي سأظل أنا هامشاً في الظل ينتظر ما بقي منك كي يلتقطه؟!!
زفر زفرة مشتعلة وهو يشيح بوجهه عنها...
فدمعت عيناها وهي تشعر بالإهانة وهو ما جعلها تقول له بحزم:
_لازلنا في بداية الطريق يا جسار...عد بي إلي المدينة لمنزل عائلتي حتي تجد لي مكاناً في بيتك!
خبط بقبضته علي المقود وهو يقول بغضب:
_افهمي حقيقة الوضع أولاً قبل أن تثوري هكذا...الطابق الجديد الذي أبنيه لنا أوشك علي الانتهاء...ساعتها لن تكون هناك مشكلة في إقامة نغم معنا...سنحتمل هذا الوضع فقط مؤقتاً لبضعة أيام!!
هزت رأسها وهي تهتف بانفعال:
_هذه ليست المشكلة الوحيدة في بقائها في المزرعة؟!! كيف تريدني أن أقبل وجود امرأة أخري معك في نفس المكان وفي غيابي أنا؟!!!
كز علي أسنانه بقوة وقد تجمدت ملامحه للحظات ...
قبل أن يقول ببطء ضاغطاً علي حروفه:
_كما قبلتُ أنا إقامتك مع حبيب طفولتك في نفس البيت وفي غيابي أيضاً!!!
اتسعت عيناها بصدمة وقد ألجمتها كلماته فلم تجد رداً...
بينما أشاح هو بوجهه وهو يعيد تشغيل السيارة لينطلق بها من جديد ...
وقد عجز كلاهما عن إكمال هذا الحوار...
حتي وصلا إلي المزرعة ليستقبلهما العم كساب وياسين الصغير بترحاب كبير أضاع بعضاً من شحنات التوتر بينهما...
والتي عادت مضاعفةً عندما قدمت نغم بدورها للترحيب بآسيا!!
آسيا التي لم تتقبل وجود نغم هنا...
ليس فقط من باب غيرتها علي جسار...
ولكن من ذكري سمية التي تشعر أنها لازالت تسيطر علي جسار بجنون...
لهذا صافحت نغم ببرودٍ لم تحاول إخفاءه...
قبل أن يحيط جسار كتفيها بذراعه ليدخل بها إلي غرفة ياسين الصغير فيغلق بابها خلفه ثم نظر إليها هامساً بعتاب:
_إذا كنتِ تضيقين بوجود امرأة أخري هنا في غيابك...فلا تغادرينا!!
أطرقت برأسها دون رد ...فرفع ذقنها إليه مردفاً بنفس النبرة العاتبة:
_إذا كنتُ أنا أحتمل هذا الوضع لأجلك...لأجل أن تحققي حلمك...ألا تحتملين أنتِ لأجلي؟!
امتلأت عيناها بالدموع لكنها لم تسمح لها بالانهمار وهي تضغط علي شفتيها بقوة...
عندما أكمل هو حديثه بنفس النبرة العاتبة:
_هل عرفتِني رجلاً يتخلي عن أحدٍ يحتاجه؟!!فما بالكِ لو كانت قريبة سمية؟!!!
وضعت كفها علي صدرها وهي تهمس بألم:
_وأنا ؟!! ألا تهتم بمشاعري وسط وفائك العظيم هذا؟!! هل يجب أن أموت مثلها كي تشعر بما أعانيه؟!!
لم تكد تكمل عبارتها حتي جذبها بقوة ليعتصرها بين ذراعيه هاتفاً بحدة:
_اسكتي...إياكِ أن تنطقيها ثانية!!!
ارتجف جسدها بدموعها التي هطلت أخيراً كسيلٍ سخي فابتعد بوجهه ليمسح دموعها بأنامله قائلاً بضيق:
_الأمر لا يستحق كل هذا يا آسيا...لماذا تضخمين الأمور هكذا؟!!
أغمضت عينيها بألم فعاد يضمها من جديد محاولاً احتواء ارتجافتها ليربت علي ظهرها بعدها هامساً برفق:
_حسناً...اهدئي الآن...واستريحي من عناء الطريق ...وبعدها نتفاهم علي مهل!!
==============
استيقظت من نومها بعد وقتٍ ما لتجد نفسها وحدها في غرفة ياسين الصغير...
تلفتت حولها بتفحص ثم قامت لتبدل ملابسها وتغادر نحو الخارج...
لم تحاول البحث عن جسار فقد كانت تريد أولاً خلوةً مع أفكارها ...
قادتها قدماها نحو الاسطبل لكنها عدلت مسارها قبل أن تصل عندما رأت نور الغرفة الخارجية التي كانت لها -قبل نغم- مضاءً...
توجهت نحوها بحذر عندما وجدت النافذة نصف مفتوحة وعلي الفراش كان ياسين الصغير جوار نغم التي كانت تحتضنه بحنان قائلةً:
_نم يا صغيري ...لقد وعدتني أن تنام بعد الحكاية!!
تذمر الصغير وهو يهتف بغضب طفولي:
_حكايتك قصيرة...آسيا حكاياتها أطول...لماذا لم تتركيني أنام معها؟!
ضحكت نغم ضحكة رائقة ثم قالت بتعاطف:
_آسيا متعَبة من السفر...
تأفف الصغير وهتافه الساخط يعلو أكثر:
_لماذا تتركونني جميعاً؟!! في البداية أمي ثم آسيا وأنتِ أيضاً تقولين أنكِ سترحلين.
ضمته نغم بحنان وهي تقول بحزن غزا ملامحها:
_لا تغضب حبيبي...آسيا لم تتركك..هي ترحل مضطرة للعمل لكنها تعود إليك عندما تستطيع.
رفع الصغير رأسه إليها قائلاً:
_وأنتِ؟!!لماذا تتركينني؟!!ألم تقولي لي يوماً أن العيش وحدكِ أمرٌ مؤلم؟!
انقبض قلب آسيا عندما سمعت هذا وهي تتبين -لتوها- مدي معاناة نغم الحقيقية...
فتراجعت لتختفي بجسدها أكثر عندما ربتت نغم علي وجنة الصغير بحنان ثم قالت بشرود:
_والعيش هنا أكثر ألماً!!!
اكتفت آسيا بما سمعته منها فكتفت ساعديها مبتعدةً بخطواتٍ متثاقلة نحو الاسطبل...
حيث حصانها المفضل جسار هناك...
مسدت علي ظهره برفق قبل أن تحتضن رقبته بذراعيها هامسة:
_افتقدتك يا جسار.
قالتها وهي تغمض عينيها مسندةً رأسها علي رقبته للحظات...
تحاول التفكير ببعض الحيادية...
هي تثق بجسار كثقتها بنفسها تماماً...
ونغم حقاً ليس لها أحد ...
وهي تعرف أن شهامة جسار ستمنعه التخلي عنها مهما حدث!!!
لكنها رغماً عنها لازالت تشعر بعدم الاستقرار...
ظروف عملها ودراستها التي تستدعي غيابها عنه...
مع كل تلك الظروف المعقدة والمتشابكة التي قابلتهما منذ ارتباطهما والتي تشعرها بالتذبذب...
ورغماً عنها وجدت نفسها تشعر ببعض الذنب نحو جسار...
هو تحمل هذا الوضع لأجلها فقط...
ولأجل أن يفي بوعده معها لتحقق نجاحها الذي ترجوه...
فهل من الإنصاف أن تمنعه عن مساعدة فتاة في ورطة إكراماً لذكري الغالية الراحلة؟!!!
قطعت أفكارها عندما شعرت بكفيه علي خصرها من الخلف وهمساته الدافئة تداعب أذنها:
_"جسار"يغار من "جسار"..علي حضن حبيبة "جسار"!!
فكت ذراعيها من علي الحصان لتلتفت نحوه بابتسامة عاشقة فأدارها نحوه لينظر لعينيها هامساً بحنان:
_نمتِ جيداً؟!!
أومأت برأسها إيجاباً...ثم خفضت بصرها عنه لتهمس بتردد مشوب بالخجل:
_أنا آسفة علي انفعالي...أنا فقط كنت...
قاطعها بسبابته علي شفتيها قبل أن يسحبها من كفها ليعود بها إلي غرفة الصغير ...
وما إن أغلق بابها خلفه حتي استخرج من جيبه علبة صغيرة فتحها أمام عينيها المترقبتين ليتناول منها دبلة ذهبية وضعها في إصبعها ثم همس لها بعدها بما يشبه الاعتذار:
_لقد نسيت أمرها طوال هذه الفترة.
منحته أجمل ابتساماتها قبل أن تهمس بحب:
_ما بيننا لا يحتاج لهذا...اسمك منقوش علي قلبي قبل خاتمك.
تنهد بحرارة وهو يستخرج الدبلة الأخري من العلبة...
لينظر إليها نظرة طويلة لم تفهمها وإن شعرت أنها تخفي الكثير من عميق شعور غامضٍ يكتسحه...
خاصةً عندما رفع لها كفه هامساً بحزم:
_اخلعي دبلة سمية وضعي دبلتك مكانها!
اتسعت عيناها بصدمة وهي تنظر إليه بذهول لا تكاد تصدق ما سمعته...!!!
جسار يطلب منها أن تنزع دبلة سمية بنفسها؟!!!
رمشت بعينيها للحظات تحاول استيعاب دهشتها...
قبل أن تنقل بصرها بين دبلة سمية في إصبعه والأخري في يده للحظات...
لتزدرد ريقها بعدها ببطء وهي ترفع إليه عينيها من جديد هامسةً:
_لماذا؟!
أغمض عينيه يخفي عنها حديثهما قبل أن يهمس بعاطفة صادقة:
_إذا كان هذا سيرضيكِ وينزع من رأسكِ هواجسه!!
ظلت تنظر إليه مبهوتة للحظات...
ففتح عينيه ليرمقها بنظراتٍ عاشقة لم يخطئها قلبها وهو يومئ لها برأسه مشجعاً...
فرفعت كفه لتتلمس دبلة سمية بتردد...
قبل أن تبدأ في نزعها من إصبعه ببطء...
لكنها توقفت عند اللحظة الأخيرة ...
لتعيدها مكانها بحسم قبل أن تلبسه الدبلة الجديدة فوقها!!!!
فابتسم بحنان غارقٍ في عاطفته وكأنه كان يتوقع فعلتها ...
عندما رفعت هي إليه عينيها لتهمس بصوت متهدج:
_سمية جزء من جسار الذي عشقته بكل ذرة في كياني...فكيف أنزع بيدي جزءاً منك؟!
ساعتها لم يشعر بنفسه وهو يجذبها إليه بقوة ليلصقها بصدره قبل أن يغمر وجهها كله بقبلاته الحارة ثم همس بعدها أمام عينيها الدامعتين:
_أحبك يا آسيا...وكم أتمني لو تشعري بحبي حقاً كما أراه بقلبي!!
هزت رأسها بتأثر ليقترب بوجهه أكثر هامساً بين شفتيها :
_إياكِ أن تشكّي به أبداً...أبداً...أبداً...
ظل يرددها بين قبلاته الحارة التي أذابتها عشقاً وقلبها يترنح ثملاً بين ضلوعها بنشوة العشق التي غلفت روحها الآن ...
حتي رفعت عينيها إليه بعد نوبة غرامٍ طويلة...
بنظراتٍ ما عادت تحمل خوفاً ولا شكاً...
بل يقيناً صارخاً بحب ليس كمثله حب...!!!
حب خُلق ليبني لا ليهدم...
ليُسعد لا ليشقي...
ليكمل طريقاً ...لا ليقطعه!!!
لهذا لم يكن غريباً أن توجهت -بنفسها- صبيحة اليوم التالي لغرفة نغم....
حتي أقنعتها -بإخلاص- أن تبقي هناك معهم!!!
+
========
+
انتهى الفصل وموعدنا غدا مع الخاتمة باذن الله 😍
+