اخر الروايات

رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثامن والعشرين 28 والاخير بقلم نرمين نحمد الله

رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثامن والعشرين 28 والاخير بقلم نرمين نحمد الله


★★★

الخاتمة:


+



جلس كساب في غرفته يحتضن قلادتها "العزيزة" بين راحتيه مستعيداً ذكرياته معها...

والتي تبدو قصيرة بعد كل هذا العمر لكنها ثريةٌ حقاً بكل ما منحته له من مشاعر لم تكن يوماً لامرأة سواها...

غريبٌ هذا الحب الذي يتملك أرواحنا فيفقدنا الإحساس بمذاق العمر...

لتهون أمام نشوته الأيام والساعات ...

وترخص جواره غوالي الليالي...!!


1



طرقاتٌ خافتة علي باب غرفته قاطعت أفكاره...

لتدخل بعدها آسيا بابتسامة واسعة وهي تنتبه لما يفعله فتقول بحنانٍ ممزوج بإشفاقها:

_كيف حالك يا عمي؟!

ابتسم وهو يقول بشرود:

_كيف حالها هي؟!

تضاءلت ابتسامتها وهي تشعر بمدي أساه لعجزه عن تحقيق أمنيته ...فصمتت قليلاً ثم قالت ببعض الأمل:

_ألا يمكن أن تفاتح جدي في الأمر من جديد؟!

كانت تعلم أن قاسم النجدي ليس هو العائق الوحيد بينهما ففريدة نفسها لن توافق علي الأمر...

العادات والتقاليد والأعراف والسن ...كلها تقف أمام هذا الحب...

لكنها تعجبت عندما التفت نحوها من شروده ليهمس بابتسامة يائسة:

_أنا كنت أعلم أن طلبي سيُرفض ...تماماً كما أعلم علم اليقين أنها أبداً لن توافق...لكنني فقط فعلتها حتي لا ألوم نفسي فيما بعد...على أنني لم أبذل آخر ما أستطيع كي أفوز بها.

دمعت عيناها في تأثر وهي تشعر بمدي معاناته...

ورغم عدم اقتناعها بكل هذا فهي تري أن الحب كالموت...كلاهما لا نختار موعده ومكانه...

ولا يعترف بعمر أو زمن...

لكنها بدأت تستسلم لرأي جسار ...

بعض الأحلام خُلقت فقط لتبقي كذلك...

مجرد خيال عاقر لن يتمخض عن حقيقة!!

لهذا صمتت طويلاً احتراماً لمشاعره...حتي قال هو ليغير الموضوع:

_ألازلتِ تضيقين بوجود نغم هنا؟!!

انعقد حاجباها بدهشة وهي تسأله:

_من أخبرك بهذا؟!!جسار؟!

اتسعت ابتسامته وهو يقول لها مشاكساً:

_لا أحتاج لمن يخبرني...يكفيني منظركِ المتجهم عندما عندما عدتِ لتجديها هنا...لقد أوشكتِ علي نفث النيران من فمك ك"تنّين " ثائر!!!!

تعالي صوت ضحكتها المرحة للحظات قبل أن تهمس بعتاب مرح:

_أنا تنين يا عمي؟!!

ضحك بدوره وهو يربت علي كتفها قائلاً:

_نعم...حورية البحر الحسناء التي قلبت كيان ابن أخي تعرف كيف تتحول ل"تنين" غاضب متي تريد!!

تنهدت بحرارة ثم قالت بشرود:

_لا بأس يا عمي...أنا ذهبت لها بنفسي وطلبت منها البقاء هنا !!

ارتفع حاجباه بدهشة للحظة ثم ارتسمت ابتسامة إعجاب علي شفتيه وهو يقول بفخر:

_ابنة فريدة !!

تعالي صوت ضحكاتها من جديد ليشاركها ضحكها هو الآخر...

قبل أن ينظر في عينيها قائلاً بجدية هذه المرة:

_أنا أعرف ما يدور برأسك ويحرم قلبكِ راحته...لكن بعض الجروح لا دواء لها إلا الزمن...فامنحيه فرصته!

===================

وقفت رقية وحدها أمام حوض الزهور التي أسمتها باسمه في أول لقاء لهما وهي تراقب الأفق بشرود...

لقد تحدد موعد السفر ...

وبرغم لهفتها وترقبها لهذه الرحلة التي قد تنتهي بتحقيق حلمها الذي صار أغلي ما لديها الآن....

لكنها تشعر بانقباض قلبها خوفاً من أن تعود خائبة!!!

تنهدت بحرارة وهي تتحسس بطنها بكفها تتخيل طفلاً لها منه...

بجبينه الوضاء وعينيه اللتين احتكرتا بحار حنان العالم كاملةً وحصرية...

وملامحه التي ما عادت ترى سواها على كل الوجوه!!!

لترتسم ابتسامةً حالمة علي شفتيها وهي ترى طفلهما بعين خيالها يجري هنا وسط الحديقة بخطواته المتعثرة ...

أو يصفق بكفيه مع ضحكة خلابة بسنيّتيه الأماميتين الوحيدتين في فمه...

أو يحبو علي أربعٍ وهو يرمقها بنظراته المشاكسة...

أو حتى يبكي وهو يتعلق بها لترضعه....

وكم يبدو الحلم رائعاً شهياً...لكنه يبقي مجرد حلم...!!!!

وضع يده علي كتفها فالتفتت إليه من شرودها لتبتسم قائلة:

_أهلاً ياسين...متى عدت؟!

ابتسم بحنانه الرائق وهو يمسح دموعها العالقة بين رموشها بأنامله هامساً :

_بيني وبين قلبك عهدٌ ألا تسيل دموعك إلا علي صدري.

اتسعت ابتسامتها الشاحبة وهي تلقي رأسها علي صدره هامسة بالحقيقة التي تخفيها عن الجميع إلا عنه هو...:

_خائفة يا ياسين!

ضمها إليه بقوة وهو يكاد يخفي رأسها بين ضلوعه ليرد بكل ما أوتي من قوة وحنان:

_الخوف لا يليق بمليكتي رقية...قولي أنكِ فقط تنتظرين الأفضل.

مرغت وجهها في صدره وهي تتأوه بقوة قبل أن ترفع عينيها إليه هامسة :

_كلما اقترب موعد السفر أشعر أنني علي وشك السقوط في هاوية الأمل من جديد...نعم...الأمل أقسى من اليأس أحياناً لأنه يدفعنا لطريق طويل من الانتظار...

ربت علي رأسها برفق ثم همس بتعقل:

_أحسني الظن في الله يا غاليتي فهو سبحانه عند ظن عبده به...حدسي يخبرني أننا لن نحصد سوى الخير في النهاية.

صمتت للحظات ثم رفعت عينيها إليه لتهمس بتأثر:

_شكراً يا ياسين...لقد كنت نعم السند لي بعد أبي.

ابتسم وهو يقبل جبينها بعمق ثم ابتعد عنها قليلاً ليقتطف إحدي تلك الزهور المميزة...

ثم وضعها في راحتها مطبقاً أناملها عليها كما يفعل كل مرة منذ علم سر تسميتها لها...

فابتسمت بعاطفة جارفة وهي تضم الزهرة أكثر في راحتها هامسة بحرارة:

_رقية تحتضن "قلب ياسين".

هز رأسه نفياً وهو يلامس شفتيها بأنامله مصححاً:

_بل "قلب ياسين "دوماً بيد رقية!!

لم يكد يتم عبارته حتي رن هاتفه في جيبه فقبلها بخفة ثم تناوله ليرد علي الاتصال قبل أن يغلقه بعد دقيقة واحدة وقد تغضنت ملامح وجهه بقلق...

فاشتعلت ملامحها بقلق مماثل وهي تسأله بترقب:

_ما الأمر يا ياسين؟!

زفر بقوة ثم عاود ضم رأسها لصدره وهو يرد بدهشة مشوبة بتوجسه:

_إنه حمزة!!جدي يريدنا جميعاً عنده الآن!!

=======

التفت العائلة كاملة حول فراش قاسم النجدي الذي كان مستنداً علي ظهره الآن ينتحل القوة التي بدأ الشيب والمرض ينالان منها...

وهو يرمق الجميع بنظراته المتفحصة العميقة قبل أن يقول بصوته المسيطر رغم ضعفه:

_هل ظلمت أياً منكم؟!!

تبادل الجميع نظراتٍ مكتظة بالتردد والدهشة...

ليظلل الصمت المكان للحظات...

قبل أن تهتف آسيا بشجاعة :

_نعم يا جدي...ظلمتنا جميعاً!

شهقت فريدة بعنف وهي ترمقها بنظرات حانقة فهي -بالكاد- حصلت علي رضا النجدي الكبير بعد فعلتها الأخيرة...

لكن آسيا أردفت بنفس النبرة الواثقة:

_أنت منحتنا حبك واهتمامك بل وعمرك أيضاً...لكنك سلبتنا أعمارنا في المقابل...نعم يا جدي...لو سُرقت من المرء حريته فماذا بقي له من عمره؟!!

صمت الجميع صاغرين أمام منطقية ما تقول...

بينما ضاقت عيناه هو وهو يقول بنبرة غريبة:

_ألا تلاحظين أنكم سرتم في نفس الطريق الذي اخترته لكم من البداية ؟!!جويرية عادت برغبتها لعمار الذي زعمت أنها تزوجته غصباً....وساري هي التي اختارت حذيفة من البداية رغم وجود ابن الهاشمي كبديل أفضل...وياسين خالف أوامري تشبثاً بامرأته التي تزعمون أنني أجبرته علي الزواج منها ...كلكم انتهيتم إلي ما أردته أنا من البداية...فعلامَ تلومنني؟!

تنهدت آسيا بحرارة ثم قامت من مكانها لتجلس علي طرف فراشه قائلة بهدوء:

_الفارق في حرية الاختيار يا جدي...إحساس كل منا أنه ليس مجرد أداة في يد غيره...ربما تكون علي حق في أنك اخترت لنا الأصوب والأفضل من البداية...لكن القيد يبقي قيداً حتي لو كان من ذهب!!

أطرق قاسم برأسه للحظات...

عندما تقدم حمزة ليجلس علي طرف فراشه الآخر قائلاً بحزمه الحنون:

_أنت وتد هذه العائلة يا جدي...ولا أحد فينا يشك ولو مثقال ذرة أنك لا تريد الخير لنا...لكن آسيا علي حق ...لو كنتَ منحتنا أنت حرية اتخاذ القرار تحت كنف رعايتك ...لما كنا سنصل لهذه المرحلة من الشتات والفرقة.

أغمض قاسم عينيه وهو يرفع رأسه لأعلي قائلاً بشرود:

_لو جربتم شعور فقدان الابن لأدركتم لماذا كنت أفعل هذا...أنتم جميعاً أمانتي التي عشت عمري فقط لأؤديها علي أكمل وجه.

عاد الجميع يتبادلون النظرات المتباينة...

ما بين الامتنان والإشفاق والحيرة...

حتي قالت راجية بنبرة متوسلة:

_أستحلفك بالله يا عمي...ردّ إليّ أولادي...عسي ألا ينفرط عقد العائلة وأنت علي ظهر الأرض!!

ظل قاسم مغمضاً عينيه للحظات أخري طويلة...

قبل أن يفتحهما ليلتقط من تحت وسادته تلك المسبحة التي رأتها آسيا في رؤياها والتي كانت لعمها والد ياسين...

فتطلعت إليه عيون الجميع بترقب...

عندما ناولها لحمزة قائلاً بحزم:

_هذه مسبحة عمك...أنت تعرف قصتها...أنا حفظت أمانتها طيلة هذه السنوات...واليوم أمنحها لك لتكون الأمانة لك من بعدي...فهل ستقوى عليها؟!

صمت الجميع مع تألق الدموع في العيون كلها...

وقد بدا الأمر وكأنه -حقاً - وصية وداع...

النجدي الكبير أدرك الآن بحق أن غايته النبيلة لا تبرر لعنف الوسيلة...

وأن حمزة برفقه الحازم هو القطب المضاد لشريعته هو القاسية...

حمزة الذي ازدرد الآن ريقه ببطء وهو يدرك بشعوره الخاص بجده معني ما يفعله الآن...

ومقدار ثقله علي عاتقهما معاً...

لكنه سيكون علي قدر المسئولية ...

لهذا تناول المسبحة من جده ليقبل يده بعدها باحترام قبل أن يقول بحب صادق:

_أطال الله لنا عمرك يا جدي...أعدك أننا دوماً سنكون يداً واحدة مهما حدث...

ابتسم قاسم النجدي ابتسامة ارتياح لم يعرفها منذ زمن بعيد ....

لتختلط عاطفته لأول مرة بهذا الوضوح مع تجاعيد وجهه الذي ارتخى بسكينة وهو يدور بعينيه في وجوه الجميع...

حتي تقدم كل من ياسين وعمار وحذيفة ليضع كل منهم كفه -تباعاً- علي كف الآخر فوق يد حمزة الممسكة بكف جده لتنتهي الصورة ببنيان مرصوص من كفوف متماسكة تعاهدت علي حفظ كيان العائلة...

مهما طال الزمن ومهما اشتدت الكروب...

فما بُني علي باطل فهو باطل...

وما بُني علي قناعة...فهو إلي قيام الساعة....!!

========

تململت في نومها عندما شعرت بلمسة شفتيه الرفيقة علي وجنتها لتشعر به بعدها يغادر فراشهما ببطء ...

فتحت عينيها بصعوبة لتراه وهو يخرج من الغرفة ببطء حذر كي لا يوقظها...

فتنهدت بحرارة وهي تدرك مبتغاه...

منذ انتقلا إلي طابقهما الجديد الذي بناه خصيصاً لهما وهو يخصص جزءاً من وقته ليلاً لغرفة سمية...

وعندما تسللت في إحدي الليالي خلفه لترى ما الذي يفعله هناك...صُدمت بما طالعته عيناها...

فقد كان...يصلي!!!

ليلتها ظلت تراقبه حتى انتهى ليرفع يديه بدعاء صامت...

وعندما سألته عن ذلك أخبرها أنه عاهد نفسه علي أن يخصص ركعتين من صلاة الليل للدعاء لسمية في غرفتها...

ورغم أنها كان من المفترض أن تشعر بالغيرة وقتها لكنها لم تملك مع كل ذاك الإخلاص الذي كان يتحدث به إلا أن تزداد فخراً وعشقاً لهذا الرجل الذي لن يتكرر...

رجلٌ يتضافر عنده الحب مع الرجولة والوفاء ليصنعوا معاً أروع مزيج...!!

قامت من نومتها لتنفض عنها غطاءها ثم توجهت إلي حمام غرفتهما الصغير لتغسل وجهها وقد أدركت أنها لن تنام من جديد بسهولة طالما قلقت في نومها...

خرجت بعدها من غرفتهما لتهبط الدرج نحو الطابق السفلي ثم اتخذت طريقها لتطمئن علي ياسين الصغير في غرفته بعدما ألقت نظرة عميقة علي غرفة سمية التي كانت مضاءة كما توقعت...

رفعت الغطاء علي الصغير الذي كان قد رفسه بقدميه عنه كالعادة...

ثم قبلت جبينه بعمق قبل أن تجلس علي طرف الفراش جواره تطالع السقف بشرود...

لقد حققت حلمها كما تمنت بمساعدة جسار الذي لم يبخل عليها بدعمه...

وها هي ذي تثبت خطواتها في طريقها الذي اختارته للعمل والدراسة...

وعلي عكس ما كانت تشعر به من نفور نحو وجود نغم هنا لكنها حقاً كانت خير عونٍ للجميع في غيابها...

وكأن القدر اختار هذا التوقيت بالذات لوفاة والدتها كي تكون جوار ياسين الصغير في تلك الأيام التي تتغيب فيها آسيا بسبب ظروف عملها...

أفاقت من شرودها عندما لمحته يدخل مبتسماً إلي الغرفة ليلقي نظرة مطمئنة علي الصغير...

قبل أن يتناول كفها ليجذبها نحوه برفق كي لا يوقظه ...

ثم سار بها إلي صالة البيت حيث استقر جوارها جوارها علي الأريكة ليهمس بحنان:

_لماذا استيقظتِ الآن؟!

ابتسمت وهي تربت علي وجنته هامسةً بدورها:

_لقد أقلقتني أنت بقبلتك وأنت تعرف أنني عندما أقلق لا أعاود نومي بسهولة...فادفع ثمن خطئك.

ضحك ضحكة قصيرة ثم ضمها إليه بقوة وهو يهمس بخبث:

_وأي ثمنٍ يساوي أرق أميرتي؟!

أراحت رأسها علي كتفه للحظات ثم رفعت عينيها إليه لتهمس بدلال :

_نحن لم نلعب"الشطرنج" منذ وقت طويل...اشتقت لأن أغلبك.

داعب وجنتها بأنامله وهو يلتقط نظراتها التي طالما فتنت روحه لترتسم ابتسامة حملت كل عشقه علي شفتيه اللتين انسابتا علي وجنتها بنعومة للحظات...

ثم همس بعينين لامعتين:

_ولو غلبتكِ أنا؟!!

ضحكت وهي تميل رأسها لتهمس بلهجة متحدية:

_لا يا سيد جسار...صغيرتك "الجديدة" ما عاد يغلبها أحد!

تعالت ضحكاته صافية منطلقة هذه المرة قبل أن يغمر وجهها بقبلاته المشبعة بحنانه الخالص...

ثم همس أمام عينيها بصدق:

_نعم...هذه هي الصورة التي أتمنى أن أراكِ عليها دوماً..ملكة حقيقية تعرف قيمتها وقدرها.

تأملته بنظرات ممتنة للحظات...

قبل أن ترفع كفه إلي شفتيها لترد بكل ما أوتيت من عاطفة:

_ملكةٌ لم تكن لترتفع علي عرش أحلامها دونك...بعض الحب كحبال مهترئة تخذلنا وقتما نتعلق بها...وبعض الحب كجسور قوية تمنحنا الثقة للعبور بأمان...

======

جلس حذيفة علي الأرجوحة القديمة هناك علي السطح وهو يراقب السماء التي تزينت ببدرها الكامل وحوله رعاياه من نجومه الملتمعة بسحرها في هذا الوقت من الليل...

مد قدميه أمامه في استرخاء مشبكاً أنامله علي صدره وهو يستعيد ذكرياته معها هنا...

ببراءة طفولتهما تارة...

وعنفوان عشقهما تارة أخري...

ليخفق قلبه بصدره بجنون وهو يلعن غباءه الذي جعله يفرط فيها...

لكنه -وللحق-ليس نادماً!!

لقد كانت هذه فرصة القدر الذهبية لكليهما حتى يتأكد من مشاعره...

وبرغم ارتياحه الشديد لعودته لمنزل العائلة لأسباب كثيرة ليس القرب منها أولها ولا آخرها...

لكنه كان بحاجة حقاً للابتعاد عن سلطان آل النجدي حتى يجد نفسه الحقيقية...

وحتى يذوق حلاوة الاجتهاد لأجل ما ينفع بعدما أضاع جُلّ عمره في اللهاث خلف شهوات نفسه فحسب!!

والآن هو يشعر بالرضا عما وصل إليه... ليس فقط في عمله...

بل في علاقته بها...

رغم أنها لاتزال متشبثة بجدران صمتها وعنادها لكنه يعرف -وربما يأمل- أن تعترف قريباً بحاجتها هي الأخرى له دون قيود!!

زفر بقوة وهو لايزال مغمضاً عينيه عندما تذكر أن موعد سفرها سيكون غداً ...

العنيدة ستهرب من قلبها ككل مرة!!!

قطعت أفكاره عندما سمع صوت خطواتها المترددة ففتح عينيه ليراها تتقدم نحوه محتضنةً دميتها كالعادة وقد بدت متفاجئةً بوجوده هنا الآن!!

وقفت مكانها للحظات تنظر إليه نظرة غريبة مزجت كل مشاعرها المختلطة نحوه...

ندمٌ وعتابٌ ورجاءٌ وأسفٌ وحيرةٌ وألمٌ ودعوة للابتعاد تتلوها ألف دعوة بالاقتراب!!

ولم يكن قلبه العاشق ليفوت دعواتها هذه رغماً عن كبريائه...

لهذا بادلها نظرتها بنظرةٍ أكثر عمقاً وهو يتسلح بصمته للحظات ...

قبل أن يقول بهدوء مشوب بعتابه:

_هل تريدين الجلوس معي هنا أم تفضلين أن أغادر لتكوني علي راحتك؟!!

أطرقت برأسها للحظة ثم حسمت أمرها لتكمل خطواتها نحوه حتي جلست علي طرف الأرجوحة الآخر محافظةً علي مسافةٍ مناسبة بينهما لتهمس بعد فترة صمت طويلة دون أن تنظر إليه:

_أنا سعيدةٌ بعودتك إلينا !

ابتسم بخبث وهو يلاحظ نبرتها المتحفظة التي يعلم أنها تداري بها طوفاناً من مشاعر طالما أغرقهما معاً...

ليعتدل في جلسته مسنداً ذراعه بطوله علي ظهر الأرجوحة ثم همس وعيناه تحتضنان عينيها بعاطفة :

_وأنا أسعد بعودتي...إليكم!

دمعت عيناها بتأثر وهي تحاول السيطرة علي دقات قلبها التي شارفت علي الجنون الآن...

لتهرب بصعوبة من سجن عينيه وهي تتلفت حولها هامسةً بصوت مرتعش:

_لماذا جئتَ إلي هنا ؟!

اتسعت ابتسامته وهو يسحب منها دميتها برفق ليتلمس وجه الدمية بأنامله ببطء حانٍ...

قبل أن يهمس وهو يتشاغل عنها بدميتها:

_أنا أعشق هذا المكان...هدوءه ودفأه...سكينته وحميميته ...أجمل ذكريات طفولتي...و...

قطع عبارته عامداً ثم صمت قليلاً...

فهمست تستحثه علي إكمال عبارته:

_وماذا؟!

رفع عينيه إليها بنظراته التي اشتعلت بوميض عشقه وهو يردف بحرارة:

_وأول مرة اعترفتُ أنا بحبي دون وعي...وأول مرة سمعت كلمة "حبيبي" ممن كنت أعشقها.

شعرت بروحها تنسحب منها وعيناها تطاردان حمائم الشوق السارحة بفضاء عينيه ...

ثم ازدردت ريقها الجاف بتوتر والخوف يزرع بذوره في عينيها الدامعتين لتهمس بعتاب:

_كنت؟!

أشاح بوجهه دون رد...فعادت تلح بسؤالها بوجل:

_كنتَ ...يا حذيفة؟!!!

ظل مشيحاً بوجهه للحظات ثم عاد يلتفت إليها هاتفاً بحدة:

_ماذا تريدين الآن ؟!

لم يكد يتم عبارته حتي انقطع التيار الكهربائي فجأة ليسود الظلام حولهما نوعاً إلا من ضوء القمر ونجومه ...

شهقت ببعض الخوف وهي تهمس بارتباك:

_لابد أن أعود لشقتنا الآن.

قالتها وهي تقوم من جواره فقام بدوره قائلاً بخشونة:

_لن تستطيعي نزول الدرج في هذا الظلام...اجلسي..أظنني أستطيع الحفاظ عليكِ أم أنكِ لازلتِ لا تأتمينني علي نفسك؟!

ضغطت علي شفتيها بتوتر ثم عادت لتجلس في إجابة واضحة علي سؤاله...

هي لم تعد تخافه بل علي العكس هي الآن تثق أن أمانها لن يكون إلا معه...

أما هو فقد جلس جوارها ليسألها بلهجة جافة تداري اشتعال حواسه بشعوره الجارف بها:

_هل ستسافرين غداً حقاً؟!

تنهدت بحرارة ثم غمغمت بتردد:

_نعم...وكنت أريد أن أطلب منك توصيلي للمطار .

ابتسم بسخرية وهو يتبين ملامحها بصعوبة في الضوء الخافت ليسألها بتهكم:

_ولماذا أنا؟!حمزة وياسين سيكونان معك.

انخفض صوتها أكثر وهي تهمس بصوت أكثر انخفاضاً:

_ظننتك أنت من ستسعي لهذا دون طلب مني.

أخفت الظلمة احتقان وجهه الشديد وهو يرد عليها بغيظ لم يستطع كظمه:

_لا يا ابنة عمي...لم أعد ذاك الأحمق الذي يطاردكِ دون كلل...افعلي ما يرضي عقلك الكبير الذي لا يخطئ أبداً!!

صمتٌ ثقيل مشحونٌ بمشاعر مختلفة ظللهما بعد عبارته الساخطة...

حتي قطعته هي بقولها:

_معك حق...سأفعل ما يرضي عقلي.

ثم غمغمت برجاء خفي:

_لا أريد أن أسافر وأنت ناقم علي!

قذف دميتها ليضعها بينهما هاتفاً بحدة:

_لن أريح ضميرك يا ساري...نعم أنا ناقمٌ عليكِ وسأبقي كذلك حتي تعودي إليّ بقدميكِ دون ضغوط...فتحملي ذنب قلبك وقلبي...مادام عنادك هو سيد قرارك.

عاد التيار الكهربائي في هذه اللحظة ليغشي النور المفاجئ عينيهما للحظات...

قبل أن يقوم من جوارها ليردف بحزم:

_تصبحين علي خير.

قالها وهو يغادرها بخطوات مندفعة فتبعته بسرعة وهي تناديه عدة مرات...

لكنه لم يلتفت إليها وهو يشعر أنها تمادت حقاً في عنادها اللعين...

فتسارعت خطواتها أكثر حتي وقفت أمامه لتهتف بانفعال:

_حذيفة قف واسمعني...هل تظن الأمر حقاً بهذه السهولة؟!!!أن أحبك كل هذه السنوات دون أمل ودون اقتناع بقيمة هذا الحب ؟!!!...أحبك وأعرف أنني سأكون لك في النهاية ومع هذا لم أكن راضية بهذا القدروفي نفس الوقت أتمناه؟!!!هل تعلم عن عدد الليالي التي قضيتها أحلم بك وأنت في أحضان امرأة أخري غيري؟!!عن صلاة الفجر التي كنت أخصك فيها بدعائي لأسمع صوت خطواتك بعدها علي السلم عائداً من إحدي سهراتك الماجنة؟!!!عن كرامتي التي كنت تهدرها كل مرة تنظر فيها إليّ عيناك ولا تراني؟!!عن إحساسي الدائم معك بعدم الأمان؟!!عن شعوري تلك الليلة التي كدت أفقد فيها شرفي كتصفية حساب لمجونك القديم؟!!

كان وجهه يزداد احتقاناً مع كل كلمة منها حتي وصلت لعبارتها الأخيرة فكور قبضته بقوة أمام وجهه وهو يهتف بانفعال:

_ولم تسألي نفسكِ عن شعوري أنا وقتها وأنا أراني سبباً في أن يصيبك مكروه ؟!!عن رغبتي الصادقة في التوبة لأستحق فتاة مثلك لا تبرح تكرر أنني لا أليق بها؟!!عن ذبحك لقلبي يوم واجهتِ أنتِ جدي بأنك لا تأتمنينني علي نفسك؟!عن جرحك لرجولتي في كل مرة تصرخين فيها أنني الوغد الذي تكرهين نفسكِ لأنها معلقةٌ به؟!!

أغمضت عينيها بألم ممتزج ببعض الندم...

كم تود الآن لو تخبره أنها حسمت صراعها بشأنه...

أنها حقاً تحبه الآن بكل جوارحها...

لكن كبرياءها اللعين لازال يمنعها!!

بينما أردف هو بصوت أهدأ هذه المرة:

_كلانا جرح صاحبه لكنني علي الأقل اعترفت بذنبي تجاهك بينما أنت...

قطع عبارته دون أن يكملها مكتفياً بتأمل ملامحها بأسف مشوب بعاطفته...

ففتحت عينيها ببطء لتلتقط نظراته الفياضة بمشاعره...

لتهمس بعدها بتردد:

_حذيفة...أنا...

دمعت عيناها بقهر حقيقي وهي تشعر بالعجز عن قولها...

أنا أحبك...؟!!!

أنا آسفة...؟!!!!

أنا أريد العودة إليك...؟!!!!

كلها كلماتٌ سهلة بسيطة لكن ما حيلتها في لسانها الذي يعاندها ككبريائها الآن؟!!!

ولما طال صمتها العاجز أمامه وشعر هو باليأس من أن تكمل جملتها...

استعاد قناع بروده لتقسو نظراته المشتعلة وهو يدفعها من طريقه ليكمل هو لها جملتها- التي قطعتها -بلهجة ثلجية:

_أنتِ ...حرة!!

===============

وفي اليوم التالي كانت راكبة جواره في سيارته بعدما فوجئت به يطرق باب غرفتها ليخبرها أنه من سيقوم بتوصيلها إلي المطار...

ورغم أن هذا صدمها بعدما كان من حوارهما بالأمس لكنها لم تستطع كتم تأثرها الفرح بمبادرته هذه...

والتي جعلتها تزداد سعادة بالمفاجأة التي أعدتها هي له...

ابتسمت ببعض الخجل وهي تختلس نظرة لجانب وجهه المتجمد جوارها وهو ينظر للطريق أمامه بتركيز...

ثم تنحنحت لتغمغم برجاء ممتزج ببعض الأسف:

_هل ستبقي صامتاً هكذا طوال الطريق؟!

اختلس نظرة جانبية إليها ثم ابتسم ليجيبها متهكماً:

_ألازالت كلماتي تجدي معك ؟!!

وخزت عبارته قلبها وهي تود لو تصرخ الآن بمشاعرها نحوه...

لكنها اكتفت بضم حقيبة يدها إلي صدرها وهي تهمس بصوت خفيض:

_حسناً...مادمت لا تريد الكلام...فأسمعني أغنيةً علي ذوقك!

زفر زفرة مشتعلة وهو يلتفت نحوها ثم قال بنبرة عاتبة:

_لازلتِ تحبين سماع القيصر أم تغير ذوقك مع ما تغير؟!

ابتسمت وهي تشيح بوجهها قائلةً لتغيظه:

_الكلمات التي تمس روحنا لا يغيرها زمن ولا ظروف!

مط شفتيه باستياء ثم تلاعبت أنامله بمشغل الأغاني في السيارة...

لتنبعث النغمات المميزة لتلك الغنوة...


1





                

قالت لكل الاصدقاء

هذا الذي ما حركته أميرة بين النساء

سيستدير كخاتم في إصبعي

ويشب نارا لو رأى شخصا معي

سترونه بيدي أضعف من ضعيف

سترونه ما بين أقدامي كأوراق الخريف


+



يا مستبدة

أنتِ التي أسميتها تاج النساء

إقسي على قلبي ومزقيه لو أساء


+



الويل لي الويل لي يا مستبدة

الويل لي من خنجر طعن الموده

الويل لي كم نمت مخدوعا على تلك المخده

الويل لي من فجر يوم ليتني ما عشت بعده

الويل لي الويل لي يا مستبدة


+



إني أعاني إني أموت إني حطام

حاشاكي عمري أن أفكر بإنتقام

إني لكي قلب وحب وإحترام


+



صبرا يا عمري لن تري دمعا يسيل

سترين معنى الصبر في جسدي النحيل

فتفرجي هذا المساء رقصي الجميل!!


+



كانت ابتسامتها تتسع تدريجياً مع كلمات الغنوة حتي انتهت بضحكة قصيرة عندما انتهي اللحن المميز بالصفير المعتاد...

فابتسم رغماً عنه وهو يعيد الالتفات نحوها قائلاً بعينين ملتمعتين رغم عتابهما:

_أعجبتك؟!

اقتربت بوجهها منه أكثر لترفع أحد حاجبيها هامسةً بثقة بدت له مثيرة حقاً:

_جداً...جداً!

ارتفع حاجباه بدهشة للحظة ثم أشاح بوجهه قائلاً بتسلية:

_تبدين سعيدة بتلك الرحلة...أتمني أن تكون علي مستوي تطلعاتك.

أطرقت برأسها للحظات دون رد...

قبل أن تعود لصمتها الغامض طوال الطريق بعدها ...

حتي وصل بها إلي حيث سيلتقيان بحمزة وياسين اللذين كانا علي وشك اللحاق بهما مع مارية ورقية وبلال...

وعندما توقفت السيارة فتحت هي حقيبتها لتستخرج منها مظروفاً مغلقاً ناولته له وهي تقول بعاطفتها الممتزجة بأسفها:

_لا تقرأها قبل أن أرحل!

نظر إليها نظرة طويلة غامضة لم تفهمها...

ثم تناول منها المظروف ليضعه في جيبه قائلاً بلا مبالاة:

_حسناً...كما تريدين!

ثم أشاح بوجهه قائلاً ببرود:

_لقد وصل الجميع هناك...الحقي بهم...رحلة سعيدة!

التفتت برأسها خارج السيارة حيث وقفت سيارتهم...

ثم عادت تنظر إليه وقلبها يتوسلها ألا تتركه ...

لتجد نفسها تقول بعد تردد:

_لو طلبت مني ألا أسافر فلن أفعل.

لم ينظر إليها للحظات وقد بدا في غاية البرود...

قبل أن يقول ببطء ضاغطاً علي حروفه:

_لن أطلب منكِ شيئاً بعد!!! أنتِ الآن....حرة!

ثم التفت إليها أخيراً ليلتقط نظراتها الحائرة بوهج عينيه الآسر وهو يكرر بحسم:

_حرة!!

تنهدت بحرارة وهي تومئ برأسها موافقة قبل أن تفتح الباب جوارها بتثاقل لتترجل من السيارة...

ثم عادت تنظر إليه قائلة بابتسامة عاشقة:

_أراك علي خير!

تألقت عيناه بعاطفته هو الآخر للحظات...

قبل أن يشيح بوجهه قائلاً:

_اعتني بنفسك يا ابنة عمي!!

دمعت عيناها بحيرة وهي تنقل بصرها بينه وبين السيارة هناك...

حيث كان الجميع ينتظرونها ليدخلوا المطار سوياً...

حتي حسمت أمرها لتتوجه نحوهم بخطوات ثابتة وهي تتجاهل نداءات قلبها كالعادة...!!!

أما هو فقد تابعها بنظرات متحسرة لدقائق حتي غابت عن ناظريه...

ثم استخرج مظروفها من جيبه ليفتحه فيفاجأ بشئ معدني يصطدم بأنامله...

ابتسم بجذل وهو يتبين ماهيته...

لقد كانت...دبلة جديدة له!!

قلبها بين أصابعه للحظات ثم فتح الورقة المطوية التي كانت بداخل المظروف:

_لقد أطلقت سراح جاريتك ونسيت أن قلبها سيبقي دوماً أسيرك...فإما رددتَ إليّ قلبي وإما رددتني أنا إليك...لو كان قلبك لايزال علي عهده معي فاجعلني أرَ دبلتي في إصبعك عندما أعود...قد قلتَ لي يوماً افعلي ما يرتضيه عقلك...والآن أقولها بملء روحي...أنت من يرتضيه عقلي وقلبي .

اتسعت ابتسامته العاشقة وهو يعيد قراءة كلماتها مرة تلو الأخري...

وقلبه يكاد يصرخ فرحاً...!!!

لقد قالتها ساري أخيراً...

صحيحٌ أنها -كعادتها- هربت من مواجهته بمشاعرها لكنه سيعرف كيف يقتنص اعترافها من شفتيها بقوة سلاح عشقه...!

الآن ما عاد يمنعه عنها شئ...

فليطلق مارد جنونه إذن كيفما شاء!!

وبهذا الخاطر الأخير أعاد دبلتها إلي المظروف مع وريقتها ثم وضعه في جيبه بخفة...

قبل أن يتناول هاتفه ليجري أغرب اتصال تصور أن يجريه يوماً !!!


+




        


          


                

وبعدها بما يقارب الساعة كانت هي تتخذ مكانها في الطائرة وهي تشعر بقلبها يتواثب بين ضلوعها بقوة اشتياقه...

وكل أفكارها تتمرد علي ابتعادها الأحمق هذا...

لماذا سافرت طالما اعترفت له في خطابها بأنها لازالت تريده؟!!

لماذا هربت من مشاعرها كما تفعل دوماً معه؟!!

لماذا تشبثت بأسوار كبريائها التي طالما وقفت بينها وبينه؟!!

لماذا تعاند نفسها وتعانده؟!!!

لماذا؟!!!

لماذا؟!!

قطع بلال -الذي كان يجلس الآن جوارها -أفكارها وهو يسألها بهدوء لا يخلو من حسرة:

_لازلتِ تأثمين بالدوران في فلك خاطئ؟!!

صمتت لحظة تستجمع قوتها ثم التفتت نحوه بابتسامة مشفقة لتجيبه برفق:

_النجم لا يتفلت أبداً من مداره ...وإثم الحب لا تلزمه توبة!!

أطرق برأسه في أسي وهو يزداد منها يأساً بعد يأس...عندما أردفت هي بحسم:

_اعذرني يا بلال...هو أمرٌ ليس بيدي!

أومأ برأسه في تفهم ثم اغتصب ابتسامة باهتة على شفتيه ليقول بفتور:

_أتمني لكِ السعادة التي تستحقينها!

أشاحت بوجهها وهي تستشعر الكثير من الحرج في موقف كهذا...

لتتشاغل عنه بالنظر من النافذة لوقت ما تنتظر إقلاع الطائرة بشئ من الترقب...

عندما سمعت صوته -الحبيب-يصدح جوارها :

_عفواً...هذا مكاني!

التفتت نحو الصوت بحدة عندما وجدته هو يقولها لبلال ببعض التحفز...

لكن بلال قام واقفاً ليتجاوزه إلي المقعد المجاور دون كلمة أخري تاركاً له مكانه!!!

انطلقت منها صيحة دهشة قصيرة وهي تنظر إليه بعدم تصديق قبل أن تهمس بدهشة:

_أنت ستسافر معنا؟!

مد أنامله بجرأة ليشبكها بأناملها وهو يميل علي أذنها هامساً بمكر:

_بل أنتِ التي ستسافرين معي!

توردت وجنتاها بخجل وهي تحاول سحب كفها منه لكنه تشبث به أكثر وهو يعاود همسه الحار في أذنها:

_بعد كلمات خطابك الأخير احمدي الله أني اكتفيت باحتضان كفك...لو استجبتُ لجنون قلبي الآن لكانت فضيحة!!

أشاحت بوجهها في خجل ودقات قلبها تحكي سطوراً من عشق واشتياق...

لكنه أدار وجهها نحوه بكفه الآخر  ليهمس أمام عينيها بنبرة دافئة:

_لم أكن لأدعكِ تسافرين وحدك...أنا الذي حجزت التذاكر عامداً ليكون مقعدي جوارك لكنني طلبت منهم ألا يخبروكِ بسفري معكم.

اتسعت عيناها بدهشة فرفع أناملها المشتبكة بأنامله إلي شفتيه يقبلها قبل أن يهمس وعيناه تغزوان عينيها ذاك الغزو الآسر:

_هلّا ألبستِني دبلتي بنفسك؟!

ابتسمت برقة وهي تسأله بترقب:

_القديمة أم الجديدة؟!

وضع يده في جيبه ليلتقط دبلتها الجديدة وهمسه الساحر يداعب أذنها:

_القديمة كانت لجارية منحوها لسيد لا ترتضيه...لكن الجديدة لملكتي التي رفعتني جوارها علي عرشها!

اتسعت ابتسامتها وهي تتناولها منه لتلبسها له بارتباك لذيذ...

وشعورها الجديد به يملؤها بالثقة في حبهما أكثر...

ثم رفعت عينيها إليه لتهمس بعشق جارف:

_يقولون أن الأشياء تفقد قيمتها بالتقادم...فمالي أري حبك يزداد مع الأيام غلوّاً؟!

نظر إليها طويلاً في افتتان ...

ثم رفع كفها إلي شفتيه من جديد في قبلة عميقة قبل أن يهمس بحزم:

_سفرنا لن يكون مجرد رحلة...بل تمهيداً ل"شهر عسل"!!!

شهقت بدهشة وهي تنظر إليه بذهول ...

فابتسم وهو يحدثها عن مكالمته "المجنونة" التي أجراها منذ قليل...

والتي كانت ل"قاسم النجدي" نفسه!!!

نعم...لقد استأذنه في أن يعقد قرانه علي ساري في لندن أثناء سفرهما بعد موافقتها....

ورغم أنه كان يتوقع رفضاً صارماً ومجادلات كثيرة من جده...

لكنه فوجئ به يوافق بعد صمت طويل بشرط أن يكون حمزة وكيلها في العقد وأن يتم الزفاف عقب رجوعهما مباشرة...!!!

بينما كانت هي تستمع إليه مصدومة لتهمس بعد فترة:

_جدي تغير كثيراً!!

اتسعت ابتسامته وهو يضغط كفها أكثر في راحته هامساً بمكر:

_من حسن حظك...وإلا كنت سأخطفك وليكن ما يكون!

ضحكت ضحكة صافية لم يعرفها قلبها منذ زمن بعيد ثم همست بنبرة متحدية:

_لم تعد تخاف قاسم النجدي !!

هز كتفيه وهو يقترب بوجهه منها أكثر ليهمس بشقاوته المعهودة:

شقة أمي موجودة وعملي موجود ....أم أن العروس ستتكبر عليّ؟!

تألقت عيناها بوهج عاطفتها دون رد فانعكس ضياء عشقها علي مقلتيه وهو يردف بيقين :

_لم يعد لديكِ خيارٌ يا مليكتي...أنتِ لي كما سأكون دوماً لكِ.

دمعت عيناها بفرحتها الطاغية وامتدت أناملها بتردد لتحتضن كفيهما معاً ...

قبل أن تهمس بحب:

_دوماً يا سيد العقل والقلب...دوماً !

=============================

*زفاف ساري وحذيفة:


+




        

          


                

تعلقت عيون الحاضرين بالعروسين اللذين ظللت وجهيهما السعادة الخالصة وهما يجلسان مكانهما علي منصة العرس...

صحيح أن البعض تبادل الهمزات واللمزات عن أسباب طلاقهما بعد عقد القران ثم تراجعهما...

لكن هذا لم يكن وحده الحادث الغريب في هذه العائلة التي شهدت الكثير من الأحداث الملتهبة في وقت قصير...

بداية من ليلة زفاف ياسين الكارثية...

ثم خبر انتحار آسيا...التي عادت للحياة بعد أشهر في ظروف غامضة لتتزوج رجلاً كان يبادل العائلة عداءها...

وفقدان شقيقتها للنطق صبيحة زفافها...

ثم استعادتها لعافيتها ...ثم طلاقٌ عقبه تراجعٌ سريع!!!!

لهذا كانت عائلة النجدي مثار حديث مجتمع مدينتهم الصغيرة التي لم تعتد هذه التغيرات السريعة!!


+



وفي مكانهما كان ياسين ورقية جالسين بهدوء بعدما انتهت رحلتهما في لندن على خير...

لقد قطعت رقية شوطاً كبيراً من طريق العلاج ولم يبقَ إلا النذر اليسير....

صحيح أنها كانت تطمح في أكثر من هذا...

بل إنها كانت تحلم أن تعود من سفرها وقد حملت أحشاؤها بذرة حبهما الأولى...

لكن القدر كانت له كلمة أخرى...ولعل في التأخير خير!!

نعم...لعل في التأخير خير!!

كانت هذه جملة ياسين التي كان ولا يزال يداعب بها أذنيها كلما رآها حزينة...

ورغم أنها تكاد تموت اشتياقاً لطفل...لكنها راضية على أي حال...

كفاها من هذه الدنيا ياسين وحبه...

ياسين الذي هزم شبح ضعفه لأجلها بل إنه ولد بحبها من جديد...

لهذا ابتسمت بحب وهي تحتضن ذراعه بذراعيها هامسة جوار أذنه:

_سلطانتك عاتبة عليك...لقد نسيت اليوم هديتها.

ابتسم بدوره وهو يضع يده في جيب سترته ليستخرج لوحاً كبيراً من "الشيكولاتة البيضاء" التي تعشقها ...

ثم لوح به في وجهها هامساً بمرح:

_تقصدين هذه؟!

ضحكت بسعادة وهي تتناوله منه لتهمس بدلال ممتزج بعاطفتها:

_ظننتك انشغلت بإعدادت العرس ونسيتني!

اقترب بوجهه منها حتي ما عاد يفصل بينهما سوى أنفاسهما وهو يهمس بحرارة:

_أبداً يا غاليتي...أبداً.

توردت وجنتاها بخجلها وهي تبتعد بوجهها لتتلفت حولها هامسة باعتراض:

_ياسين!!!الناس !!

لكنه عاد يقترب بوجهه أكثر ليهمس بصدقه الذي يلمس قلبها دوماً:

_ومالي وللناس؟!!!أنتِ كل الناس!!


+



وعلي مائدة مجاورة كان حمزة ومارية يجلسان مكانهما...

عندما التفت حمزة نحوها ليسألها باهتمام:

_ما رأيك في طقوس الزفاف هذه؟!!تعجبك؟!!

تألقت عيناها بانبهار طفولي كعادتها وهي تريه ظاهر كفيها المخضبين بالحناء لتقول بالانجليزية كعهدها عندما تنفعل:

_خيال يا حمزة...أتمني أن يكون زفافنا مثل هذا...سحر الشرق حقاً لا يقاوم!!

ضحك بسعادة هو الآخر وهو يتلقف كفيها ليحتضنهما بكفيه قائلاً بحب:

_السحر فيكِ أنتِ يا سيدة الشرق والغرب.

ضحكت بدلال وهي تهز كتفيها لتقترب من أذنه هامسة بمكر:

_من كان يقول أن دكتور حمزة النجدي الوقور يجيد هذا الغزل؟!

تنهد بحرارة وهو يلتقط سحر عينيها الفاتنتين ليهمس بحرارة:

_لم أعرفه إلا لكِ أنتِ...قلب حمزة النجدي لم يخفق إل لماريته.

ورغم الفرحة التي تزينت بها مقلتاها ارتفع أحد حاجبيها بمكر طفولي وهي تنظر في عمق عينيه هامسةً بتحدٍ:

_وعقل حمزة النجدي؟!

تعالى صوت ضحكته الطويلة هذه المرة وهو يضغط كفيها بين راحتيه أكثر ليهمس بعد لحظات بما يشبه الاعتذار:

_ألازلتِ ناقمةً عليّ لأجل ذاك الأمر؟!!قلبك أسود يا "عروس لندن الحسناء"!!!

قال جملته الأخيرة بالانجليزية فضحكت بمرح...

ثم ألقت رأسها علي كتفه وهي تهمس بشرود:

_عندما أستعيد الآن ذكرياتنا الأولي أشعر أنك كنت هدية القدر لي كي أرسو علي شاطئ الأمان بعد طول تخبطٍ في أمواج حيرة...بين "ماري عروس لندن" و "مارية عاشقة الشرق"!!

ابتسم بفخر وهو يطالع ملامحها بإعجاب حقيقي...

كم من الرجال عشق امرأة لجمالها...فزهدها بعد حين عندما اعتادت العين هذا الجمال...

لكنه عشق مارية حقاً بكل ما فيها...

بروحها الطفولية رغم رجاحة عقلها...

وقلبها البرئ رغم نضج أفكارها...

وعاطفتها التي لا تعرف سدوداً ولا قيود...

حرة...جموح...

كخطوط الشمس في كبد السماء...!!!

وعشقٌ كهذا لا يزهده المرء أبداً بل ينقش علي الصدر كرسم علي الحجر لا يبلي أبداً!!!


+




        

          


                

وعلى منصة العروسين كان حذيفة يميل علي أذن ساري هامساً بخبث :

_هل تعلمين ما الذي أنتوي فعله بكِ هذه الليلة؟!

اتسعت عيناها بصدمة وهي ترمقه بنظرة مترقبة...

فالتقط عينيها بنظراته المتوعدة وهو يهمس بين أسنانه:

_سأنتقم من كل ما فعلتِه بي طوال الأيام السابقة!!!

شهقت بخوف حقيقي وهي تبتعد عنه بوجهها هامسة بحدة:

_حذيفة...احترم نفسك...أنا متوترة بطبيعة الحال فلا تعصبني أكثر!!

تراقص حاجباه بمكر وهو يعاود الاقتراب من وجهها هامساً ليغيظها:

_أحترم نفسي؟!!!لا يا ابنة عمي...انسي كلمة "الاحترام" هذه الليلة تماماً...هل تعلمين كم مرة أجبرت فيها نفسي علي مناداتك ب"ابنة عمي" بدلاً من "حبيبتي"؟!!!

ابتسمت رغماً عنها وهي تشيح بوجهها المحمر خجلاً...

لكنه أدار وجهها إليه ليهمس بثقة:

_مائة وثلاثون مرة!!!

ضحكت بدهشة وهي تهز رأسها هامسة :

_هل كنت تعدها يا مجنون؟!

تنهد بحرارة وهو ينظر في عينيها ليهمس بجدية هذه المرة:

_كانت تلك أقسى فترة عشتها في عمري كله...ليس فقط لأن جدي نبذني بعيداً عن العائلة...لكن لأنني كنت أذبح نفسي بسكين بارد في كل مرة ألتقيكِ فيها ولا أستطيع أن أصرخ لكِ بحبي وأنا أعتصرك بين ذراعيّ...ورغم أنني كنت واثقاً أنكِ تعانين مثلي وأنني لا أحتاج كثير ضغطٍ لأستعيدكِ...لكنني كنت أريدكِ أن تعودي حرة بكامل إرادتك.

ابتسمت بحب وهي تتطلع لعينيه قبل أن تهمس بثقة:

_حرة يا حذيفة...وبكامل إرادتي.

وبعدها بقليل جمعتهما شقتهما في منزل العائلة وحدهما لأول ليلة...

بعد انصراف الجميع...

عندما نزع عنها "طرحة زفافها" برفق ليتبعها بحجابها ...

ثم تخلل شعرها بأنامله ليهمس بعينين مشتعلتين بعاطفته:

_لدي قسمٌ واعتراف!!

ابتسمت وهي تومئ برأسها ...فأردف وهو يقبل باطن كفها:

_أقسم لكِ بحق من أصلح بكِ حالي بعد عِوج...ألا أعود لضلالي القديم.

دمعت عيناها بتأثر فضمها إليه بقوة وهو يدفن وجهه في خصلات شعرها هامساً:

_أما اعترافي...فهو أنكِ الآن بعيني...أجمل النساء!!

ابتسمت وهي ترفع عينيها إليه هامسة بعتاب رقيق:

_"المسترجلة"؟!!

انسابت شفتاه علي وجهها بنعومة وهو يضمها أكثر للحظات..

قبل أن يهمس بعينين غائمتين بعاطفته:

_أفضل النساء من هي "امرأةٌ "معي...و"رجلٌ " مع غيري!!

خفق قلبها بجنون وهي تشعر بكلماته الساحرة تذيبها في وهج عاطفته...

لتمرغ وجهها في صدره قبل أن تهمس بعد آهة طويلة:

_لم يعد حضنك غربة يا حذيفة...بل صار "وطناً"!!

=========================

استيقظ من نومه ليجدها تدور أمام المرآة متفحصةً جسدها ببصرها فابتسم وهو يقوم من نومته ليتكئ علي ذراعه مواجهاً لها ليقول بخبث:

_معكِ حق...زاد وزنكِ قليلاً!!

شهقت بحدة وهي تلتفت نحوه لترمقه بنظرة مشتعلة وهي تهتف بغيظ:

_عد لنومك يا عمار ودعني لشأني...ألا يكفيني ما أنا فيه؟!!!

ضحك ضحكته الخشنة المميزة وهو يدرك سر غضبها المشتعل...

فمنذ علمت عن حملها وهي مصابة بهوس "السِمنة" ولا يكاد يمر عليها يوم دون أن تراقب وزنها علي الميزان بهلع مبالغ فيه....!!!

قام من فراشهما ليتوجه نحوها ثم احتضن ظهرها مواجهاً صورتهما أمام المرآة متحسساً بطنها بأنامله قبل أن يطبع علي وجنتها قبلة بعمق مشاعره مع همسه:

_ماذا يعنيكِ من المرآة وصورتها؟!!ألا يكفيكِ أنكِ بعيني أجمل النساء؟!!

تنهدت بحرارة وهي تطرق برأسها فضم ظهرها  إليه أكثر مردفاً بنبرة أكثر رقة:

_لا تتصوري سعادتي بهذا الطفل...مهما وصفت لك شعوري فلن تفهميه.

أمالت رأسها علي صدره وهي تطالع بدورها صورتهما في المرآة لتهمس بخفوت :

_حقاً؟!!ظننتك ستعيد تقريعي علي كذبتي القديمة عندما أخبرك.

أدار كتفيها نحوه في هذه اللحظة لينظر في عمق عينيها هذه المرة هامساً بقوة عشقه القديم:

_إذا كانت التوبة تجبّ ما قبلها...فحبكِ أولَى أن يفعل!!

دمعت عيناها بتأثر وهي تسمعه يردف بنفس النبرة الذائبة:

_لقد حققتِ أنتِ لي حلم سنواتٍ تقارب عمري كله...فكيف ألومكِ علي خطيئة لحظة؟!

ابتسمت بسعادة وهي تتشبث به لتستطيل علي أطراف أصابعها فتقبل جبينه بعمق...

قبل أن تعاود تحسس بطنها بكفيها  وهي تهمس بحيرة:

_ماذا سنسميه؟!

وضع كفه علي بطنها فوق كفيها للحظات...ثم قال بمكر:

_في بالي اسمٌ ما...لكن دعيني أرَ تفكيرك.

شردت ببصرها للحظات...ثم همست بتردد:

_قاسم!

اتسعت ابتسامته وهو يضمها إليه أكثر هامساً بهدوء مصبوغ بارتياحه:

_نعم يا جوريتي...أنا تمنيت حقاً أن يكون ابننا أول من يراه جدي من أبناء أحفاده حتى أسبقهم بالاسم...أنا أفهم جدي جيداً...ربما لأنني أكثر من يشبهه في طباعه كما يقولون...لهذا لم أحقد عليه يوماً...حتى عندما أمرني بتطليقك كنت أعرف أنه لا يفعلها إلا لصالحنا...وعندما قام بطردنا من هنا...كنت شبه واثق أنه لن يقوى علي خصام طويل...هذا هو قاسم النجدي الذي أعرفه...والذي أريد أن أسعده بأن أسمي ابني على اسمه.

رفعت إليه عينيها بدافق مشاعرها الحالية لتهمس بحب:

_كيف يمكنك أن تكون هكذا؟!!أن تكون بقوة الجبل ورقة الندي ؟!بصلابة الصخر وعذوبة المطر؟!!شكراً لقدرٍ جعلك لي...أبي وأخي وصديقي وزوجي...وحب العمر الذي أرجو أن يطول فقط لأمنحه لك.

=====

وبعدها بأشهر...

تعالت صرخات جويرية مدوية داخل تلك الغرفة بالمشفى...

فهتف عمار الذي كان واقفاً بالخارج مع بقية العائلة التي تجمعت في هذا الحدث الفريد:

_ لماذا لم يتركوني أدخل معها؟! ما الذي يفعلونه بها كي تصرخ هكذا؟!!

ابتسم قاسم طارقاً  بعصاه علي الأرض عدة مرات وهو يرى في عمار صورة نفسه منذ سنوات....

عندما كان ينتظر ابنه "حبيب "والد حمزة بنفس القلق ونفس الخوف...

لكنه تمالك مشاعره كالعادة ليقول بخشونة مصطنعة:

_اهدأ يا ولد...وكفّ عن جنونك هذا!!

زفر عمار بقوة وهو يخبط الجدار بقبضته دون رد...

فاقترب منه حمزة ليربت علي ظهره هامساً برفق حازم:

_تمالك نفسك يا أخي...ستكون بخير هي والصغير...

ازدرد عمار ريقه بصعوبة وهو يرفع رأسه للسماء في دعاء صامت لبضع دقائق طالت لدهور...

عندما ارتفع صوت بكاء المولود  ليهلل الجميع بمرح...!!!

فارتجف جسده بحق وباب الغرفة يُفتح لتخرج الممرضة حاملةً المولود...

لكن عمار ألقى عليه نظرة مشتتة ثم ابتدرها بسؤاله عن جويرية قبل أن يندفع للغرفة دون تردد...

فابتسم حمزة وهو يتناول الصغير منها برفق ليتوجه نحو جده فيقربه منه قائلاً بفرحة حانية:

_قاسم النجدي الصغير...عمار سبقنا بالاسم...وقد كنا جميعاً نطمع فيه!!

دمعت عينا قاسم وهو يزيح عصاه جانباً...ليتناول الصغير من حمزة فيضمه بين ذراعيه بحنان...

وكأنه امتلك الدنيا كلها الآن...

ثم مال علي أذنيه مؤذناً قبل أن يدعو له بالبركة...!

فاقتربت منه فريدة لتتناوله منه بدورها وهي حائرة بقلبها بين الصغير وبين ابنتها بالداخل...

لتغلبها عاطفتها نحو حفيدها أكثر وهي تتأمله بعينين دامعتين قبل أن تقول برضاها المعهود:

الحمد لله رب العالمين ...كم يشبهك يا عمي!!

أغمض قاسم عينيه بتأثر وهو يعاود التقاط عصاه ليستند برأسه المطرق عليها مخفياً انفعاله...

لقد منحه القدر كل ما تمني وأكثر...

وها هي أمانته قد أداها على أكمل وجه...

وها هو حصاد صبره قد أتاه بأجمل مما أراد...

لقد عاش عمره يقوي جبروته ليزرع الخوف في قلوب أحفاده...

ولم يدرِ أنه كان يسلك الطريق الخطأ...

وأن طريق الحب كان هو الأقصر والأقرب...

والحمد لله أنه قد أفاق قبل فوات الأوان!!!

وفي مكانه كان حمزة يراقب الجميع بعينين حانيتين...

هذه هي عائلته التي عاد إليها أخيراً بعد اغتراب وقد قرر ألا يتركهم أبداً...

نعم...لقد أخبر مارية بقراره الأخير بشأن السفر للندن..

هو سيبقي هنا...لأن عائلته ستبقي أمانته هو بعد جده...

العائلة هي الأمان والسند عندما تشتد أنواء الخطوب...

هي الركن الحصين الذي لا يخون من آوى إليه...

هي الجد قاسم بقوته ومسئوليته عن الجميع...

هي العمة فريدة بإيمانها ورضا قلبها...

هي العمة راجية بطيبتها الفطرية...

هي ياسين بحنانه الطاغي...

هي عمار بخشونته رغم رقة قلبه...

هي حذيفة بنزقه وخفة ظله...

هي آسيا برقتها التي تزينت أخيراً بقوتها...

هي جويرية بعذوبة روحها الطفولية...

هي ساري بعقلها وإحساسها بالمسئولية...

هي الدفء الذي يتغلغل في حنايا كل منهم ويربطهم جميعاً برباط سيحرص هو ألا ينقطع...

أبداً...أبداً...لن ينقطع!!

===============


2



_مرحباً بقاسم الصغير!!

هتفت بها آسيا بمرح وهي تتناول الرضيع من جويرية التي هتفت بجزع:

_ضعي كفكِ علي ظهره ليسنده ...نعم...هكذا!!

قالتها وهي تمسك كفها بنفسها لتضعه علي ظهر الرضيع الذي عاود بكاءه...

فهزته آسيا برفق وهي تقول بمشاكسة لتغيظها:

_كان يجب أن أتوقع هذا...ابن عمار وجوري سيكون كارثة متحركة!!!

خبطتها جويرية في كتفها وهي ترمقها بنظرة زاجرة لتقول بعدها بمرح مشاكس وهي تشير لبطن آسيا المنتفخ:

_لنرَ إذن ماذا سيكون عليه ابن القاصم....أراهن أنه سيكون سفاحاً أو مصاص دماء!!!

ضحكت آسيا بانطلاق بينما هتفت ساري التي دخلت -لتوها- بعتاب مصطنع:

_تضحكان وتمرحان بدوني؟!

هللت آسيا وجوري لتستقبلانها بعاصفة من الأحضان والقبلات...

قبل أن تهتف جوري بنزقها المعهود:

_لم أسمع عن "شهر عسل" يمتد لقرابة العام....زوجك هذا مجنون!!!

بينما ضحكت آسيا وهي تهدهد الصغير علي ذراعها قائلة :

_أنتما لم تكادا تكملا شهر إقامةٍ واحد هنا....يبدو أن حذيفة يحب السفر .

ابتسمت ساري بسعادة انطبعت علي ملامحها التي كانت الآن وضاءة بالحب الذي عانق أيامها مؤخراً بفرحة لم تتخيلها يوماً...

فحذيفة منذ زواجهما يتفنن في إسعادها بكل السبل...

وكأنه يعوضها عن كل ما شهده حبهما من تحديات...

حتي استقر أخيراً علي شطئان الأمان!!

بينما كانت فريدة تتأملهن بسعادة كلّلها الارتياح...

لقد منّ القدر أخيراً بالأمان علي بناتها اللائي تحررن جميعاً من قيود الجواري لتمضي كل منهن في طريقها -الملكي - الجديد مع الرجل الذي اختارته بكامل إرادتها...

حتي أحفاد النجدي الذكور كذلك تحرروا من قيود سيطرته العمياء عليهم وعبر كل منهم جدار الخوف الذي اشتد بنيانه في الصدور منذ الصغر...

لكنها لم تكن تري هذا فحسب...

بل كانت تري ما هو أبعد من ذلك...

قاسم النجدي نفسه تحرر من قيود تسلطه القديمة...

وأدرك بعد كل هذا العمر أن سلطان الحب أقوي من سلطان القسوة...

وأن أمانته التي كانت في عنقه نحو أبنائه -رحمهم الله- لم يكن ليقوي علي آدائها بسيف البطش...

بل برحيق الرحمة...!!!

أما عنها هي...

فقد صدقتها السماء بالحفظ لبناتها اللائي صرن بحقٍ ملكات...

علي رأس كل منهنّ تاجٌ من حب لا يخضع لسلطان العاطفة فحسب...

بل والعقل أيضاً...

حبٌ يسبقه احترام ويصاحبه تقديسٌ ويعقبه التصاق روح بروح...

حبٌ هو كالموت وكالميلاد...

لا يعرف زمناً...ولا يتكرر أبداً...

حبٌ ملكيٌ لا تعرفه الجواري وإن كُنّ في ثيابٍ ملكية!!!!


5



تمت

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close