رواية جارية في ثياب ملكية الفصل السادس والعشرين 26 بقلم نرمين نحمد الله
******
الفصل السادس والعشرون::
+
عاد عمار من صلاة التراويح ليجد جوري في انتظاره بصالة الشقة الصغيرة
وقد ارتدت ثوباً أبيضاً قصيراً بنقوش حمراء وعقصت شعرها علي شكل ذيلي حصان علي جانبي رأسها لتكمل الصورة باشتباك كفيها خلف ظهرها فبدت كطفلة صغيرة هانئة...
ابتسم رغماً عنه وهو يقترب منها بخطواتٍ بطيئة وعيناه تحتضنانها بقوة عاطفته ليقتنص ابتسامتها العذبة بشفتيه في قبلة خفيفة قبل أن يمسك كتفيها ليهمس بشرود:
_وكأن الأيام لم تمر...وكأنني أراكِ الآن كما كنتِ منذ سنوات ...طفلتي التي كانت تعدو بشعرها المشعث وسنّها المكسور علي السطح ...
ضحكت ضحكة عالية خفق لها قلبه المتيم بها ثم خبطته في كتفه لتقول بعتابٍ لا يخلو من مرح:
_هل هذه فكرتك عن الغزل؟!! ألا تذكر لي سوي شعري المشعث وأسناني المكسورة.
ضحك بدوره ضحكته الخشنة الطويلة وهو يضمها إليه بقوة متخللاً شعرها بأنامله ليصلها همسه الغارق بعاطفته:
_لم ولن أنسي أيّاً من تفاصيلك يا جوريتي...أنتِ امرأتي الوحيدة...التي كبرت أمام عينيّ طفلةً...حتي صارت امرأة تخطف القلب بفتنتها...والتي أتمني لو يطول بي العمر حتي يختلط شيب شعري بشيب شعرها.
رفعت عينيها إليه بتأثر وهي تحتضن نظراته العاشقة بنهم...
قبل أن تسأله :
_طوال هذه السنوات يا عمار...لم ترَ امرأة غيري؟!!
أغمض عينيه للحظات...قبل أن يفتحهما ببطء لتنهمر منهما سيول عاطفةٍ أغرقتها وهو يرد :
_وهل هناك امرأة غيرك؟!
ابتسمت وهي تطوقه بذراعيها بكل قوتها لتهديه قبلةً عميقة علي وجنته قبل أن تهمس بدلال:
_حبيبي يا عماري!
ثم زمت شفتيها بحركة طفولية قبل أن تهمس بعتاب:
_كنتَ تتعمد دوماً إثارة رعبي في صغرنا ...حتي أنني كنت أراك في كوابيسي وحشاً عملاقاً...كنت أخاف حتي مجرد المرور جوارك.
عاد يضحك بانطلاق وهو يتذكر ما تحكي عنه...
قبل أن يربت علي رأسها هامساً :
_وكنتِ تختبئين مني في غرفتك المفضلة المنعزلة في منزل العائلة...لكنني كنت أراقبكِ من بعيد...أتمني لو أجئ إليكِ فأحتضنكِ بقوة حتي تضحكي من جديد...لكنني لم أقوَ علي فعلها يوماً!
تأوهت بقوة وهي تسند رأسها علي صدره هامسةً بهيام:
_وفعلتها يا عمّاري!!عرفتَ كيف تزرع لي جنةً بين ذراعيك أنسي فيها خوفي كله...بل رسمتَ علي شفتيّ ضحكة جديدة لم أعرفها قبلك...ضحكةً ملونة بالأمان الذي لم أتذوقه حقاً إلا معك!!
اعتصرها بين ذراعيه أكثر وشفتاه تداعبان ملامح وجهها بنعومة هائمة...
فرفعت عينيها إليه بحذر وهي تهمس بترقب:
_أريد أن أسألك عن شئٍ لكنني أخشي غضبك.
طبع علي وجنتها قبلةً عميقة قبل أن يهمس بحرارة:
_ألم تقولي لي يوماً...أنكِ تجدين أمانكِ علي صدري وأنني لن أؤذيكِ يوماً مادمتِ بين ذراعيّ؟!!
التمعت عيناها بعاطفتها وهي تومئ برأسها...
فانسابت فيوض الحنان غزيرةً بعينيه قبل أن تختلط بهمسه الدافئ:
_قولي يا جوريتي...ولا تخشيْ شيئاً!
أسبلت جفنيها بخجل وهي تلتصق به أكثر وكأنها تستجدي منه الأمان قبل أن تسأله بصوتٍ خفيض جداً يكاد لا يُسمَع:
_هل سنذهب لعقد قران حمزة بعد غد؟!
تجمدت ملامح وجهه فجأة قبل أن يشيح به للحظات...
ليمنحها بعدها الإجابة التي كانت تتوقعها:
_لا! وأنتِ تعرفين السبب!!واحمدي الله أنني لم أقتل ذاك الرجل بعدما عرفته!
عضت علي شفتيها بتوتر وهي تتفهم أسبابه...
عمار لا يريد أن يحتك بعائلة مارية تحفظاً من وجود زياد....
وهذا حقه بعدما عرف الحقيقة...
لكن الأمور لن تظل هكذا للأبد...
كما أنه بتصرفه هذا سيثير المزيد من التساؤلات والشكوك...
لهذا ربتت علي صدره برفق لتهمس بتردد:
_اسمعني فقط وبعدها افعل ما تريد!
كانت دقات قلبه تتواثب بقوة تحت كفها المربت علي صدره فاضحةً غضبه....
لكنه كتم انفعاله ليسمعها :
_لا يمكننا أن نقاطع حمزة وعروسه للأبد...كما أن غيابنا سيثير الأقاويل ويوسع الفجوة بيننا وبين العائلة...لهذا أري أن نذهب فقط ونبارك للعروسين ثم ننصرف بسرعة...لن نبقي هناك سوي لدقائق معدودات...لكنها ستكفينا الكثير من التوابع .
مط شفتيه في استياء وهو يرفع رأسه للسقف مفكراً...
حمزة سيضيق كثيراً بغيابه عن عقد القران...
كما أن غيابه عن مناسبة كهذه ستزيد حجم الشقاق بينه وبين جده...
جوري علي حق في هذا لكن...
ماذا يفعل في غيرته التي تدفعه الآن لإبقائها حبيسة هذه الشقة للأبد...
فلا تغادرها أبداً؟!!!
وكأنما قرأت هي أفكاره فقد أسندت رأسها علي صدره لتهمس بحب:
_صدقني يا عماري...ليس أحبّ عليّ من البقاء معكِ وحدنا ...لكن ظهورنا معاً في مناسبة كهذه قد يفيدنا...عندما يرانا جدي سعيدين أمامه قد يسامحنا...لا أريد أن يراك الجميع وحشاً اختطفني قسراً من عائلتي...بل أريدهم أن يروا فرحتي معك مرسومة علي ملامحي كي يدركوا أيّ رجلٍ عظيمٍ أنت.
صمت طويلاً وهو يقلب حديثها في رأسه فصمتت صابرة...
حتي زفر زفرة قصيرة ثم قال ببعض الخشونة:
_دعيني أفكر.
ابتسمت بسعادة وهي تتطاول علي أطراف أصابعها لتلامس شفتيه بنعومة وقلبها يخفق بفرحة عارمة...
لتهمس بعدها أمام عينيه بتقدير:
_عندما يقول عمار لجوريته أنه سيفكر ...فهذا يعني أنه يوافقها لكنه يكابر!!
ابتسم رغماً عنه وهو يتأمل فرحة ملامحها التي تكاد تنطق ...قبل أن يقول لها برفق:
_أعجبني رأيك.
ضحكت عيناها قبل شفتيها وهي تقول بامتنان:
_لم أكن أتصور أن تعتبر أنت لرأيي قيمة...شكراً لاحترامك قبل حبك يا عمار.
اتسعت ابتسامته وهو يربت علي رأسها برفق...
فيما كانت هي غارقة في شعورها الجارف به...
عمار لم يمنحها عشقاً أسطورياً فحسب...
بل منحها ما هو أعظم من هذا...
شعورها الجديد بأنها ملكة...
حرة....منطلقة....بلا قيود....
والآن وهو يسمع منها ليعلن صراحةً أن رأيها أعجبه جعلها تشعر بأن ما بينهما صار يحمل شعوراً آخر...
شعوراً يزيد الحب قوة ومتانة وعمقاً...
شعوراً هو ...الاحترام!!!
والذي طالما ظنت أنها لن تصادفه يوماً مع شخص بفظاظة عمار وخشونته...
واليوم تجده يمنحه لها بالفعل لا بالقول...
فما الذي يمكن أن ترجوه أكثر من رجلٍ منحها عشقه وحنانه واحتواءه ...
والآن يتوج كل هذا باحترامه...؟!!!
========
هذا الشهر كان حافلاً!!
غمغمت بها آسيا بشرود وهما يتناولان إفطار آخر أيام رمضان في ذاك الفندق الذي اختاره جسار ليقيما فيه منذ أيام قليلة..
فابتسم جسار قائلاً بارتياح:
_الحمد لله رب العالمين...ما من دعوة دعوتها فيه إلا استجابها الله عز وجل...بدايةً من شفائك من مرضك...ومروراً بمشكلة عائلتينا...وأخيراً باستقرار الأمور بيننا.
التفتت إليه من شرودها لتسأله ببعض التردد:
_أنت سعيدٌ حقاً يا جسار؟!!
نظر إليها طويلاً ثم تناول كفها بين راحتيه ليسألها مباشرةً:
_ما الذي يقلقكِ يا حبيبتي؟!
أطرقت برأسها للحظات تبحث عن كلمات مناسبة تترجم شعورها الآن..
رغم إحساسها بصدق مشاعره نحوها لكن الاختبار الحقيقي لم يحن بعد...
جسار لم يذهب بها إلي المزرعة وكأنه تعمد هذا...
لقد اختار إقامتهما هنا في هذا الفندق في عطلتها فلماذا فعلها؟!!
ألازال يخشي عودتها معه للمزرعة بعدما صارت زوجته حقاً وليس فقط علي الورق؟!!
ألا زال عالقاً في شعوره بالذنب نحو سمية التي لم يمضِ علي وفاتها الكثير من الوقت؟!!
أم أنها فقط تبالغ في هذا الشعور؟!!
ضغط كفها أكثر فرفعت إليه عينيها الحائرتين والمناقضتين لقولها بمرح مصطنع:
_اشتقت للمزرعة...هل سنعود الليلة؟!!
أومأ برأسه إيجاباً قبل أن يقول بتردد ممتزج بما يشبه الاعتذار:
_نعم...لكننا سنقيم في غرفتك الخارجية التي كنتِ تقيمين فيها قبل زواجنا .
انعقد حاجباها بتساؤل فأشاح بوجهه دون رد...
لتتسع عيناها في إدراك وهي تفهم أسبابه....
غرفة سمية لن تدخلها امرأة غيرها!!!
حتي لو كانت الظروف قد أجبرته علي هذا الوضع في أيام مرض آسيا الشديد...
لكن فراش سمية لن تشاركه فيه أخري!!!
وبرغم ما أثاره فيها هذا من إعجابٍ بوفائه للغالية الراحلة...
لكن قبضة باردة كانت تعتصر قلبها وهي تري نفسها في عينيه من جديد بمرآة الذنب !!!
حتي وعقلها يدرك الحقيقة الكاملة لكن هذا الشعور قاسٍ حقاً علي أي امرأة...
مهما ادعت من تعقلٍ وتفهم !!!
تبقي هناك في الحلق غصةً وهي تشعر أن قلب رجلها لازال فيه مكانٌ لأخري...
مكانٌ لن يكون إلا لها فقط!!!
لكنها تمالكت هذا الشعور الرماديّ الخانق وهي تتظاهر بالتماسك لتقول له برفق:
_كما تحب ...هذه أمور بسيطة!!
كاذبة!!
كانت تعلم أنها كاذبة...!!!
وهو أيضاً كان يعلم أنها كذلك ...!!!
نظرة عينيها الكسيرة أخبرته بهذا رغم محاولتها للتجاهل...
لهذا ضمها إليه برفق مقبلاً جبينها قبل أن يقول بهدوء خالطه بعض الأسي:
_لقد اتفقت مع العمال علي تشييد دور جديد لبيتنا هناك...ليكون لي ولكِ ...وحتي ينتهي يمكننا الإقامة في الغرفة الخارجية هناك.
أومأت برأسها في تفهم وهي تتحاشي لقاء عينيه ...
فناداها باسمها همساً لترفع وجهها نحوه من جديد فيهمس أمام عينيها بحرارة:
_سامحيني...هذا أمرٌ خارجٌ عن إرادتي...
اغتصبت ابتسامة متفهمة علي شفتيها وهي تقوم من جواره لتتحاشي استمرار الحديث عن الأمر...
فتهتف ببعض المرح:
_دعنا إذن نحضر حقائبنا فقد اشتقت لياسين...أنا أحضرتُ له معي الكثير من الألعاب والمفرقعات للعيد...أريده أن يفرح هذا العام بالذات كما لم يفعل من قبل..
ثم أردفت بإشفاقٍ لا تدعيه:
_إنه أول عيدٍ يمر عليه دون سمية ويجب أن نحتوي شعوره بفقدها.
قام بدوره ليقف أمامها متفحصاً ملامحها بإعجاب قبل أن يهمس بحب:
_ملاكٌ أنتِ يا آسيا!
ابتسمت ابتسامةً حقيقية هذه المرة ونظراته العاشقة الحارة تطفئ نيران هواجسها ...
خاصةً عندما اقترب منها أكثر ليضمها إليه بقوة هامساً بنبرة دافئة:
_أحبك يا آسيا...وأحب القدر الذي جمعني بكِ مصادفةً...وأحب أيامي التي تلونت بكِ ...أحب أنفاسي عندما تمتزج بعطر أنفاسك...وأحب نفسي عندما أراني في عينيكِ صورة عشقٍ حقيقية لن يطمس ملامحها زمن ولن تغيرها ظروف!!!
==============
تجمعت عائلة النجدي في إحدي القاعات الفخمة بمدينتهم والتي تم فيها عقد قران حمزة ومارية....
حمزة الذي كان الآن في أسعد حالاته وهو يجلس جوار مارية علي منصة العروسين....
عندما رفع كفها لشفتيه ليقبله بعمق قبل أن يميل عليها ليهمس جوار أذنها بحب:
_ماريتي صارت ملكي للأبد...هل تعلمين كم مرةٍ حلمتُ بهذا اليوم منذ التقيتكِ أول مرة؟!!
رفعت عينيها إليه بنظراتٍ دافئة قبل أن تهمس بدورها بمرح:
_يوم ظننتك مجرماً مخبولاً تشعل البخور في الجماجم وتأكل التماثيل!!!
ضحك ضحكة عاليةً تراقص لها قلبها طرباً ...
قبل أن يميل علي أذنها هامساً بحرارة:
_ربما لم أكن مجرماً ...لكنني صرتُ مخبولاً بحبك بحق...أنتِ منحتِني الحب الذي ظللتُ أبحث عنه طوال عمري.
مدت كفها الآخر لتحتضن به كفيهما معاً بقوة ...وهي تهمس أمام عينيه بصدق:
_أما أنت فلم تمنحني حباً...أنت منحتني حياة!!
تألقت عيناه بوهج عاطفته وهي تردف بسعادة ظللت وجهيهما معاً:
_أنت منحتني الهويّة والوطن...وضعتني علي أول طريق كانت كل خطواته نوراً علي نور...جعلتني أعشق اسمي الذي طالما كنت أخجل منه...وأجد نفسي التي طالما تاهت مني وسط دروب الحيرة...لم أعد جاريةً مقيدةً بصراع سيّدين تنتظر أن يفوز أحدهما بها...بل ملكةً حقيقية تعرف طريقها الذي اختارته بإرادتها وستسيره معك حتي آخر خطوة.
اتسعت ابتسامته وهو يرمقها بنظراته التي مزجت حبه باحترامه...
قبل أن يقبل كفها من جديد هامساً:
_فخورٌ بكِ يا ماريتي...فخورٌ بملكتي الجديدة!
ضحكت ضحكة صافية عندما اقترب منهما دكتور آدم ليحتضن مارية بقوة مباركاً لها...
قبل أن يضم حمزة إليه هو الآخر بقوة ليهمس في أذنه بصوت متهدج:
_شكراً لأنك لم تخيب ظني فيك.
ابتسم حمزة وهو يقول باحترام :
_بل أنا الذي أشكرك علي هديتك دكتور آدم.
ربت آدم علي كتفه وهو ينقل بصره بينه وبين مارية بعينين دامعتين من الفرح...
قبل أن يقول له بحنان:
_مارية ليست هدية يا حمزة...مارية أمانة...أثق جيداً أنك لن تضيعها.
أومأ حمزة برأسه فيما يشبه الوعد....
فتركهما دكتور آدم ليعاودا الجلوس من جديد...
عندما قال لها حمزة بنبرة تقدير:
_أنا أحترم والدكِ حقاً...لقد تعلمت منه الكثير...لن أذكر لندن يوماً إلا وسأذكره معها..
ابتسمت بسعادة وهي تقول ببساطة :
_أما أنا فلن أنسي لندن أبداً...أتمني بحق لو نعود سوياً إلي هناك.
أطرق حمزة برأسه دون رد...
فقد كان هذا الأمر يشغله منذ فترة...
دكتور آدم يريده أن يعود معه للعمل والاستقرار مع مارية هناك...
وهو يراها فرصةً جيدة...
لكنه لازال محمّلاً بأعباء عائلته خاصةً بعد تدهور صحة جدّه الذي يحتاجه الآن أكثر من أي وقت...
كما أن ابتعاد حذيفة وعمار عن حضن العائلة جعل الأمر أكثر صعوبة...
وهو لن يستطيع ترك كل هذا خلفه سعياً وراء مصلحته هو...
لهذا رفع رأسه إليها بعد لحظات ليقول بما يشبه الاعتذار:
_ظروف العائلة لازالت غير مستقرة...لن أستطيع تركهم الآن حتي يطمئن قلبي علي الجميع...وبعدها يمكننا التفكير سوياً في قرار السفر هذا.
أومأت برأسها في تفهم وهي تربت علي كفه...
قبل أن تقول بإعجاب طفوليّ بدا في عينيها المنبهرتين كعادتها عندما تتحمس:
_قاسم النجدي هذا أسطورة...هل رأيتَ كيف كان ينظر إليّ الليلة؟!!! هذا الرجل القوي المسيطر الذي طالما حكيتَ لي عنه ابتسم لي بعينين حملتا حنان الدنيا كله..
قاطعها حمزة بقهقهة عالية جذبت إليهما أنظار بعض الحضور...
فزمت شفتيها بحركتها الشهيرة وهي تقول بعتاب طفوليّ:
_هل تسخر مني؟!!! أقسم لك أنني شعرت الليلة وكأنه أبي الثاني...نظراته لي اختلفت تماماً عن نظراته القاسية المتفحصة عندما زارنا في منزل عمي أول مرة.
هز حمزة رأسه موافقاً وهو يقول برفق:
_الحمد لله أنكِ شعرتِ بهذا وحدك...قاسم النجدي لا يري في هذه الدنيا سوي أحفاده...برغم قسوة طباعه الظاهرة ...صدقيني هو لا يعنيه سوي سعادتنا.
تنحنحت في حرج ثم نظرت إلي عينيه لتقول بتردد:
_هناك أمرٌ أريد أن أصارحك به...لأنني لا أريد أن أخفي عنك شيئاً.
أومأ لها برأسه في إشارة مطمئنة...فأردفت ببعض التوجس:
_آندي هاتفني اليوم ليبارك لنا زواجنا.
تجمدت ملامحه للحظات قبل أن ينعقد حاجباه بغضب هاتفاً:
_ألا زلتِ علي اتصالٍ به؟!!
ارتبكت ملامحها وهي تقول بتوتر:
_أخفض صوتك يا حمزة...الناس ينظرون إلينا.
زفر بقوة وهو يطرق برأسه...بينما أردفت هي موضحة:
_آندي لم يقطع اتصاله بي منذ غادرت لندن...لن أنكر فضله عليّ فيما وصلت إليه...هو ساعدني كثيراً في محنتي قبل مغادرتي لندن...ورغم عدم اقتناعه لكنه احترم قراراتي الأخيرة...أنا مدينةٌ له بالكثير...
اشتعلت ملامحه بثورته وهو يرفع عينيه إليها هاتفاً بحدة:
_ولو طلبت منك أن تقطعي علاقتك به تماماً؟!!
أطرقت برأسها دون رد...فأردف بنفس الحدة:
_أنا لا أعرف كيف تفكرين؟!!! كيف تحافظين علي علاقتك برجلٍ كان يريد الزواج منك قبلي؟!! وإياكِ أن تقولي أنه صديقك...أنتِ تعرفين رأيي في هذا الأمر.
رفعت إليه عينيه عاتبتين وهي تقول بهدوء لم يخفِ لومها:
_هل ستكون هذه طريقتكِ دوماً في التعامل معي؟!
انعقد لسانه أمام الدموع التي ترقرقت في عينيها الآن والتي ناقضت قوة عبارتها:
_أنت حتي لم تسمعني للنهاية...!!!
ضغط كفها في راحته ليقول بضيق:
_حسناً...أنا أسمعك.
أخذت نفساً عميقاً ثم قالت بصلابة:
_كنت سأفعلها حتي لو لم تطلبها يا حمزة...ليس لأنني أفعل ما يشين لكن لأنني أقدر غيرتك.
تنهد بحرارة ثم تمالك ضيقه لينظر لعينيها قائلاً:
_اعذريني يا ماريتي...لكنني لا أتجاوز في أمور كهذه...أنا أدرك جيداً طبيعة نشأتك وأن هذه الأمور...
قاطعته قائلةً بنفس النبرة الواثقة التي حملت بعضاً من عتابها:
_طبيعة نشأتي هي التي جعلت مني مارية الحالية بكل مميزاتها وعيوبها...أخشي أن تفهم أنني بحبي لك سأطمس شخصيتي...لا يا حمزة...فارقٌ كبير بين أن تجبرني أنت علي فعل شئ وبين أن أفعله أنا طواعيةً لأجلك...رغم أن النتيجة واحدة.
عقد حاجبيه بضيق وهو يشعر أنها حقاً غاضبة هذه المرة كما لم يرَها من قبل...
رغم أنها تحاول الحفاظ علي ثباتها وصلابتها أمامه...
هو لم يقصد الإساءة إليها لكن يبدو أن هذه النقطة بالذات ستبقي شديدة الحساسية بينهما...
مارية رغم شخصيتها الطفولية البريئة لكنها شديدة الاعتداد بنفسها ورأيها...
ولن تقبل مجرد الشعور بأن أحداً ما يسحبها خلفه...
والواقع أنه هو أيضاً لا يريد لها هذا...
لو كانت هذه نيته معها من البداية لما رفض حبها يوم أعلنته له صريحاً في لندن...
هو يعشقها هكذا كما هي...
بعقلها الذي يحترمه قبل قلبها الذي يذوب فيه غراماً...
لكن الأمر هذه المرة يختلف...فالغيرة عنده خطٌ أحمر لا يقبل تجاوزه!!!
كانت هذه أفكاره التي عجز عن إيصالها لها مع انشغالهم أخيراً بوفود المهنئين ...
فاضطر لتأجيل الحديث معها إلي حين....!!!
+
وعلي باب القاعة كانت ساري في طريقها للخروج لشأنٍ ما ...
عندما كادت تصطدم ببلال الذي ابتسم بحنان وهو يقف مكانه ليسألها بتهذيبٍ لم يخفِ عاطفته:
_كيف حالكِ يا ساري؟!
ابتسمت بتحفظ وهي تهز رأسها في ردٍ مقتضب...
فاتسعت ابتسامته وهو يقول بلهجةٍ خاصة:
_العقبي لنا!!
رفعت عينيها إليه بدهشة لتصطدم بنظرات حذيفة المشتعلة الذي كان واقفاً خلف بلال ومن الواضح أنه استمع لجملته الأخيرة...
فقد كانت ملامحه عاصفةً علي أقل تقدير...
ارتبكت مكانها وهي عاجزةٌ عن الرد عندما هتف حذيفة ببرود :
_هل يمكنني المرور؟!
التفت بلال نحوه ثم تنحي عن باب الخروج قليلاً قبل أن يمد يده له مصافحاً...
فصافحه حذيفة بدوره ليقول له بنفس اللهجة الباردة:
_هل يجوز أن يدور حديثٌ كهذا بينكما علي باب القاعة؟!!
احمرّ وجهها خجلاً وقد تجمدت مكانها مصدومة بينما قال بلال ببعض التحفز:
_أنا لم أقصد شيئاً...أنا فقط...
قاطعه حذيفة وهو يردف بنفس البرود :
_أنا أعرف أنك كنت تريد التقدم لخطبتها...إذا أردتني أن أكلم جدي بشأنكما فلا أمانع...لكن لا تقف معها هكذا تتبادلان الحديث عن الأمر علي الأبواب!
شهقت ساري بعنف وهي تضع كفها علي شفتيها...
لكنها تسمرت مكانها عاجزةً عن الرد وقد صدمتها ردة فعل حذيفة الباردة لأبعد حد...
بينما بدا بلال أكثر تماسكاً وهو يشعر بنبرة حذيفة العدائية رغم برودها...
فردّ عليه بحزم :
_أشكرك لاهتمامك....لكنني أعلم أن علاقتك بجدّك ليست علي ما يرام هذه الأيام...سأعرض أنا الأمر بنفسي.
انعقد حاجبا حذيفة بشدة وهو يضم قبضتيه جواره بغضب...
قبل أن يغادرهما بخطواتٍ مندفعة نحو الشرفة الخارجية للقاعة....
تلاحقه نظرات ساري المرتاعة والتي التفتت بعدها لبلال وكأنها ستهمّ بقول شئٍ ما...
قبل أن يغلب خجلها غضبها فتندفع هي الأخري للداخل تاركةً بلال مكانه يهز رأسه بيأس...
وقد أدرك أنها لا تزال متشبثةً بأهداب هذه العلاقة الواهية...!!!
وفي الشرفة وقف حذيفة يتطلع للسماء بغضب لو أطلّ علي الدنيا لأحرقها...
لقد افتقدها حقاً حد الموت...
رؤيتها الليلة لم تروِ ظمأه كما كان يظن...بل أشعلته أكثر...
خاصةً بعدما سمعه من بلال الهاشمي الذي أعلن عن نواياه الصريحة...
وقاسم النجدي لن يرفض عرضاً كهذا ويبدو أن تلك الحمقاء ستعاند قلبها وربما تقبل!!!!
زفر بقوة عند فكرته الأخيرة...
عندما شعر بالنادل خلفه يمد له صينية المشروبات ...
ولم يكد يلتفت نحوه ليتناول منه كوب العصير حتي وجدها خلفه هي الأخري ترمقه بنظراتٍ حارة لم يخطئ تأويلها...
شرب رشفةً من العصير وعيناه تعتقلان عينيها بنظراتٍ امتزج فيها العتاب بالشوق ...
لتجيبه هي الأخري بطوفان نظراتها العاشقة دون صوت....
حتي أعطاها ظهرها أخيراً ليعاود التطلع للسماء وهو يشعر أنه يبذل مجهوداً خرافياً كي لا يضمها الآن بين ذراعيه ويغمرها بقبلاته حتي يصهر عنادها كاملاً في لهيب أشواقه....
بينما اقتربت هي منه أكثر وقد خلت الشرفة إلا منهما...
لتهمس باشتياق مسّ قلبه قبل أذنيه:
_كيف حالك يا حذيفة؟!
لم يلتفت إليها عمداً وهو يقول ببرودٍ لم يخدعها:
_بخير...يا ابنة عمي!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تكاد ترجوه أن ينظر إليها...
فقد اشتاقت ملامحه حقاً...
ملامحه فقط؟!!!
لقد اشتاقت همساته الحارة بعاطفته التي طالما ألهبت أذنيها...
واشتاقت ابتسامته التي كانت تزرع النور بين جنبات روحها...
واشتاقت حتي إلي ذرات الهواء التي تحمل رسائل الهوي بين عينيهما...
اشتاقت انعقادة حاجبيه الغاضبة...وتراقصهما المشاكس...
اشتاقت صراخه الحاد...ومزاحه الماكر...
اشتاقت همسه باسمها...وبكلمة "حبيبتي" التي لم تتمنّ يوماً سماعها إلا منه هو!!!!
اشتاقت...واشتاقت...واشتاقت...
فوق الشوق وأكثر ...لو يدري!!!
لهذا لم تشعر بنفسها وهي تهمس باسمه في كلمة يتيمة حملت له مشاعرها كاملة دون نقصان:
_حذيفة!
أغمض عينيه بقوة وهو يكاد يهشم كوب العصير بيده من فرط ضغطه عليه...
قبل أن يلتفت نحوها من جديد بنظرة لائمة ...
فعادت تهمس بصوت مرتعش:
_غيرتَ عطرك!
ابتسم ابتسامةً جانبية قبل أن يهمس بسخرية مريرة:
_كل شئٍ فيّ تغير...فلماذا أبقي عليه هو؟!!
دمعت عيناها وهي تشعر بضعفها أمامه يزداد...
فاقتربت منه خطوة لتهمس وعيناها معلقتان بعينيه:
_لقد تفاجأتُ مثلك بكلام بلال...أنا لست...
قطع عبارتها بعنف وهو يهتف بحدة مفاجئة:
_لم يعد لي شأنٌ بحياتك الخاصة....أنتِ الآن ابنة عمي فحسب!!
ترقرق الدمع في عينيها وقد عجزت عن الرد للحظات...
قبل أن تهمس برجاء مسّ قلبه:
_حسناً...علي الأقل ...لا تحدثني بهذا البرود القاسي...عاملني كما تقول كابنة عمك!
زفر بقوة وكأنه يحاول التنفيس عن بركان صدره حتي لا ينفجر....
ثم أطرق برأسه للحظات وعيناه تبحثان خلسةً عن دبلته التي لازالت في يدها...
حتي وجدها...!!!!
فكتم ابتسامته بصعوبة ونفسه تراوده بتحطيم رأس هذه المكابرة التي تعذب نفسها وتعذبه معها....
قبل أن يرفع عينيه إليها ببريق عابث اشتاقته حقاً وهو يقترب منها خطوة أخري...
ثم صمت للحظات كي يثير أعصابها أكثر...
ليهمس بعدها بنبرة حارة يعرف تأثيرها عليها:
_حسناً يا ابنة عمي!
أطرقت برأسها وهي تحتضن جسدها بذراعيها وكأنها تستمد من نفسها بعض القوة التي خذلتها وهو يميل برأسها عليها قليلاً ليهمس جوار أذنها بنفس النبرة الحارقة:
_افتقدتكِ جداً...يا ابنة عمي!
ارتجف جسدها كله وهي تبتعد عنه تلقائياً لتتلفت حولها بارتباك...
ثم عادت تنظر إليه بحيرةٍ مصبوغة بعشقها القديم ....قرأتها عيناه بسهولة...
عيناه اللتان كانتا تدوران الآن علي ملامحها ببطء متفحص وكأنهما تلامسانها...
حتي توقفتا عند شفتيها طويلاً فاحمرت وجنتاها بخجل وهي تشعر وكأنه يلامس شفتيها حقاً...
فسحبت عينيها من عينيه بصعوبة وهي تعود ببصرها للأرض من جديد...
حتي مدّ لها يده بكوب العصير فعادت ترفع إليها عينيها بتساؤل...
ليومئ لها برأسه في إشارة موحية...
مدت أناملها ببطء لتتناوله منه فلامس إصبعها المزدان بدبلته بخفة ...
لتزداد ارتجافتها وهي ترفع كوب العصير لشفتيها لتتناول منه رشفةً صغيرة...
وهي تحاول التشاغل عنه بالنظر حولها...
متجاهلةً دقات قلبها التي كانت تتواثب الآن بجنون...
خاصةً عندما مد ّ أنامله من جديد ليأخذ منها كوب العصير ثانيةً وسط نظراتها المتسائلة...
والتي امتلأت بصدمتها وهو يعاود الهمس جوار أذنها بحرارة حملت بعض المكر هذه المرة:
_يقولون في الأمثال الشعبية أن من يشرب بعد الآخر يجري خلفه....صحيح؟!!
رفعت إليه عينيها باستنكارٍ وهي تنتبه لما يقصده فقد شرب منه قبلها...
وشربت هي بعده...
المغرور الماكر حذيفة !!!!!!!
زفرت بقوة وهي تشيح عنه بوجهها في سخط...
لكنه تحرك ليقف أمامها وهو يرفع الكوب أمام عينيها ليديره متلمساً موضع شفتيها فيشرب منه ببطء وعيناه تحملان لعينيها رسالةً خاصة...
وصلت قلبها دافئة حارة...
قبل أن يهمس لها بحروف تقطر عشقاً:
_راضيةٌ أنتِ هكذا؟!
دمعت عيناها وقلبها يكاد يقفز من صدرها إليه...
لتهمس بعدها بصوت مختنق بعبراتها:
_لازلتَ تهتم برضايَ؟!
ابتسم ابتسامةً شاحبة وهو يشيح بوجهه عنها هامساً بنبرةٍ مزقتها:
_لقد فقدتُ أغلي ما امتلكتُه يوماً لأجل رضاكِ...
ثم عاد يلتقط نظراتها المغرمة بنظراتٍ أشد غراماً وهو يردف بصوت متهدج:
_فقدتكِ أنتِ!
لم تستطع منع دموعها في هذه اللحظة فأحاطت وجهها بكفيها وجسدها كله ينتفض ببكائها...
أشاح بوجهه في غضب وجسده كله يستحلفه أن يضمها إليه...
لكنه كان عاجزاً عن فعل شئٍ الآن فألقي الكوب من يده بعنف ليتهشم علي الأرض....
قبل أن يهتف وهو يكز علي أسنانه:
_قسماً بالله يا ساري...لو لم تكفي عن البكاء الآن فسأسكتك بطريقتي وليكن ما يكون!!!!
كانت تعلم عن جنونه وقدرته علي تنفيذ تهديده....
وكم تتمني الآن حقاً لو يفعلها!!!!!
لكن عقلها عاد ينهرها عن هذا التفكير ليعيد إحكام الوثاق حول قلبها أكثر....
فرفعت كفيها عن وجهها لتمسحه بهما بسرعة...
قبل أن تعطيه ظهرها لتندفع نحو الداخل بخطواتٍ سريعة هاربة من طوفان مشاعرها الذي كان يكتسحها الآن بلا رحمة...
+
وهناك في زاوية القاعة كانت صفية تتبادل مع رياض نظراتٍ آسفة علي ضياع مارية من زياد...
زياد الذي كان واقفاً في مكانٍ بعيد وقد بدا متحفزاً في وقفته متابعاً لباب الدخول بترقب...
كان قلبه يخفق بصدره بقوة لا يكاد يصدق ما يؤكده الجميع أن جويرية اختارت عمار بكامل إرادتها...
وأنها الآن تعيش سعيدة معه....
لن يتأكد إلا عندما يراها بنفسه....
حتي لو لم يكلمها...سيكتفي بنظرة واحدة لوجهها تفضح له الحقيقة...
ولم يبخل عليه القدر بهذه النظرة!!!!
فقد رآها أخيراً تدخل من باب القاعة مع هذا الذي يزعمون أنه زوجها الأحق بها منه...
ترنح قلبه بضلوعه كالذبيح وهو يراها تدخل معه متأبطةً ذراعه وتسير بفخر ممتزج بدلالها الفطري...
لكن هذا لم يكن شيئاً أمام تلك الفرحة التي كان يراها بوضوح الشمس علي وجهها...
والتي ربما لو كانوا أقسموا له بأغلظ الأيمان عليها....لما صدقهم...
لكنه الآن يفعل!!!
جوري حقاً سعيدة...
لا تدعي ولا تتظاهر...
هذه هي فرحة عينيها الصادقة التي يعرفها ...
رغم أنه لم يرَها إلا قليلاً...!!!
لينتقل ببصره بعدها إلي عمار الذي بدا سعيداً بدوره رغم بعض القلق الذي بدا علي وجهه والذي يتفهم هو أسبابه...
كما قرر أن يعفيه منه الآن...
وهو يتوجه للخروج من باب القاعة برأس منكّس وقد أدرك الآن فقط أن حكايته مع جوري انتهت...
انتهت للأبد...!!!
======================
استأذن حمزة من دكتور آدم ليصطحب مارية للعشاء بعد انتهاء حفل عقد القران ...
لكنها حافظت علي صمتها طوال الطريق حتي استقرا مكانهما في المطعم فجلست ليجلس هو جوارها محتضناً كفها براحته قبل أن ينظر إلي جانب وجهها المطرق هامساً:
_لازلتِ غاضبة؟!!
اكتفت بالمزيد من الصمت حتي جاء النادل بقائمة الطعام...
فانتظر حتي انصرف الرجل ليعاود سؤالها وكأنه يسترضيها:
_ألن تختاري لنا طعامنا؟!
رمقته بنظرة عاتبة لتسأله بنبرة ذات مغزي:
_وهل ستمنحني حق الاختيار؟!
ابتسم وهو يضغط كفها في راحته أكثر ليهمس لها بحزم:
_طالما فعلتُها يا ماريتي...وأنتِ تعلمين هذا.
تنهدت وهي تشيح بوجهها فأدار وجهها نحوه ليهمس أمام عينيها بحب زلزل أركانها:
_هل ستخاصمني حبيبتي هذه الليلةبالذات؟!!
ابتسمت بشحوب رغماً عنها وهي تهز رأسها نفياً ....
فابتسم بخبث وهو يميل علي أذنها هامساً بحرارة أذابتها خجلاً:
_بل افعلي حتي أجتهد في مصالحتك!!
عضت علي شفتيها وهي تطرق برأسها لتتناول قائمة الطعام هاربةً من نظراته الحارة...
لتشير بإصبعها نحو أحد الأصناف هامسة بارتباك:
_سآخذ هذا.
اتسعت ابتسامته وهو يقول مشاكساً:
_قرأتِها وحدك؟!! ظننتكِ ستكونين بحاجتي!!!
رفعت أحد حاجبيها وهي تقول بتحدٍّ وقد عادت إليها طبيعتها الطفولية:
_أنا الآن أقرأ العربية وأكتبها أفضل منك!!!
ضحك بانطلاق لتشاركه ضحكاته بعدها ببساطة ...
ثم دعا النادل ليطلب لهما الطعام الذي اختارته...
ظلا يتبادلان المزاح المشاكس حتي انتهيا من طعامهما ليغادرا نحو منزل عمها في سيارته...
ولم يكد يستقر مكانه حتي نظر إليها قائلاً بجدية:
_لا أريد أن يشكل هذا الأمر عائقاً بيننا بعد الآن...لا تأخذي الأمور بحساسية...أنا أحترم عقلكِ وأثق بكِ...لكن غيرتي عليكِ شئٌ آخر!!
أومأت برأسها في شبه رضا لتهمس برقة:
_حسناً يا حمزة!!
تألقت عيناه ببريق خاص وهو يسمع اسمه من شفتيها بلكنتها -المهلكة- ثم أشاح عنها بوجهه ليبقي صامتاً طوال الطريق...
حتي وصل بها إلي منزل عمها ولم يكد يستقل معها المصعد ويبدأ بالصعود حتي فوجئت به يضغط زر إيقافه...
التفتت نحوه بدهشة وهي تهم بسؤاله عندما احتضن وجهها بكفيه ليهمس بحرارة:
_قولي أحبك يا حمزة!
توردت وجنتاها وهي تهمس بارتباك :
_كن عاقلاً يا حمزة...نحن في المصعد!!
اقترب بوجهه أكثر ليهمس بحرارة أشد:
_هل تعلمين كم عانيتُ منذ رأيتكِ كي أحافظ علي تعقلي هذا؟!! الآن جنوني بكِ هو عين العقل!!
ومع آخر حروف عبارته كانت شفتاه تنسابان بنعومة علي وجهها لتستقرا أخيراً علي شفتيها...
في لقاءٍ طويل عاصف طالما تمناه ...
حتي رفع عينيه أخيراً إليها ليهمس بصوت متهدج:
_كنت أعلم!!
فتحت عينيها ببطء لترمقه بنظرة متسائلة وسط طوفان مشاعرها الجارفة الآن...
فتلمس شفتيها بأنامله هامساً بنبرة هائمة:
_كنت أعلم أن مذاق شفتيكِ سيكون الأروع بعد كل هذا الصبر!!
ارتجف جسدها كله بعمق عاطفتها وهي تهمس بتأثر:
_حمزة!
لم تكد تنتهي من آخر حروفها حتي مال علي شفتيها من جديد في لقاء قصير هذه المرة...
ليهمس بعدها بمشاكسة:
_قوليها ثانيةً ولن تعودي لمنزل عمك هذه الليلة!!!
ضحكت بدلال وهي تدفعه برفق لتضغط زر المصعد من جديد...
ثم همست أمام عينيه المتوهجتين بعشقه:
_لم أكن أعلم وأنا أعشق تعقلك...أنني سأعشق جنونك أكثر!!!!
============
هذه ليست نهاية المطاف يا غاليتي!
همس بها ياسين وهو عائدٌ بها في سيارته من آخر زيارة لطبيب شهير...
إنه عاشر طبيب يزورانه منذ عرفا عن حقيقة وضعها...
وللأسف كلهم أجمعوا علي نفس الشئ...
لا علاج لها هنا...لكن ربما لو سافرت فهناك بعض المراكز المتخصصة في علاج هذا الأمر...
ومع هذا يبقي الأمل ضئيلاً...!!!!
أطرقت برأسها دون رد ...
فأردف بثقة:
_صدقيني...لن يضيع الله حلم قلبكِ الطيب أبداً...مجرد اختبار سنتجاوزه معاً!!!
تمتمت بخفوت وهي لا تكاد تقوي علي رفع رأسها:
_ونعم بالله!!
ربت علي رأسها برفق ثم هتف ببعض المرح ليهون الأمر عليها:
_إنه حظي أنا...لأشبع دلالاً من سلطانتي قبل أن تنشغل عني بأي شئٍ آخر.
ابتسمت ببعض الامتنان وهي تنظر إليه هامسةً بصوت شاحب:
_هل ستغار من ابنك يا ياسين؟!!
رفع كفها إليه يقبله وهو يهمس بتردد:
_هل ستصدقينني؟!
أومأت برأسها إيجاباً فأردف بحب صادق:
_عندما أسمعكِ تتحدثين إلي أي أحد ...أسعي للفت انتباهك بأي طريقة...حتي ولو بسؤال وهمي...أغار علي نظرات عينيك التي تحتضنني لو ظفر بها سواي...أغار من كلماتكِ التي تتأرجح بين القوة والرقة لو داعبت أذن غيري...بل إنني أغار علي أنفاسك...لو كان الأمر بيدي لاحتفظت بها للأبد علي صدري فقط!!!
دمعت عيناها بتأثر ثم همست بشرود:
_هل تذكر يوم سألتني في منزل الساحل إن كنتُ عرفت الحب قبلك؟!!!
كانا قد وصلا لمنزل العائلة الكبير....
فأوقف السيارة ليلتفت نحوها هامساً أمام عينيها حبيبتيه:
_لا أنسي حرفاً دار بيننا يا غاليتي...رقية الهاشمي ادخرت الحب لمن سيختاره الله لها زوجاً حتي تجرب معه حلاوة هذا الإحساس دون قيود...ألم يكن هذا كلامك؟!!
ابتسمت وهي تراه يحفظ عبارتها كما قالتها ...ثم همست بانفعال:
_وأعطاني الله أكثر مما تمنيت...حبك كالبئر الذي كلما أخذت منه يزداد عمقاً...لهذا أعدك وعد رقية الهاشمي الذي لا تخلفه أبداً...أنني لن أغضب منك يوماً مهما فعلت...حتي لو اخترت أن تكمل طريقك مع أخري فلن...
قاطع همسها الحار بأنامله ثم اقترب منها بوجهه ليهمس أمام عينيها بحزم:
_أنتِ وعدتني من قبل ألا تتركيني مادمتُ أحتاجك...وأنا سأبقي طوال عمري بحاجتكِ يا رقية...لن تشاركني أخري فيكِ لآخر نفسٍ في عمري!
اقتربت منه لتخفي دموعها في كتفه فضمها إليه بقوة هامساً:
_استعيني بإيمانك بالله يا غاليتي...لن يخذلنا الله أبداً!!
استسلمت لدفء ذراعيه للحظات...
قبل أن ترفع عينيها إليه هامسةً :
_شكراً يا حبيبي.
مسح دموعها بأناملها هامساً بتقدير:
_أنا الذي أشكركِ لأنكِ استأمنتني علي قلب رقية الهاشمي...وأعدكِ أن أحفظ أمانتك.
تنهدت بحرارة وهي تبتعد لتغادر السيارة ففعل المثل ليتوجها نحو المنزل...
لكن الخادمة استقبلتهما عند المدخل لتخبر ياسين أن جده يريده في غرفته...
نظرت إليه رقية بقلق فربت علي كفها بحنان قبل أن يقول مبتسماً:
_اصعدي أنتِ لشقتنا...وسألحق بكِ بعد قليل.
رمقته بنظرة طويلة عاجزة ثم أومأت برأسها موافقة فانتظر حتي غابت عن ناظريه ثم تنهد بحرارة لتختفي ابتسامته وهو يكاد يقسم علي ما ينتوي جده الحديث معه بشأنه...
لاريب أن والدته أخبرته بشأن رقية...
من سوء حظه أنها كانت معها عندما ذهبت للطبيبة أول مرة...
لولا هذا لكان أخفي الأمر عن الجميع حتي لا يجرحها أحد بكلمة...
لكن ماذا عساه يقول؟!!!
قدر الله وما شاء فعل!!
صعد الدرج بخطواتٍ متثاقلة نحو شقة جده حتي وقف أمامه في غرفته ليبتدره قاسم بسؤاله:
_ماذا قال الطبيب ؟!
تمالك ياسين بأسه ليقول بهدوء محاولاً اختيار كلماته دون أن يكذب:
_هناك فرصة في السفر.
عقد قاسم حاجبيه للحظات ثم قال بضيق:
_سفر؟!!! هل ستجري خلفها في بلاد الله مضيعاً مالك وعمرك؟!!
ضم ياسين قبضتيه يكتم غضبه ليقول بعدها بملامح باردة:
_نعم يا جدي...أنا راضٍ بقضاء ربي.
لوح قاسم بكفه وهو يقول بصرامة:
_الله قال في كتابه"انكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع"...أنا لن أطالبك بتطليقها...لكن ضع في ذهنك أنك ستتزوج من أخري لتأتي لي بحفيد النجدي الذي أنتظره منك....بعد خيبتي في شقيقيك!!!
ظهر الرفض علي وجه ياسين...فأردف قاسم ببعض الرفق:
_أنا لا أقول لك افعلها الآن...لكنني سأبدأ في البحث لك عن عروس تليق بالعائلة لن تقل مكانةً عن ابنة عاصم الهاشمي.
صمت ياسين قليلاً ثم قال بحزم:
_لا يا جدي...لن أطلق رقية ولن أتزوج أخري...لا الآن ولا بعد مائة عام...زوجتي تكفيني.
خبط قاسم علي الأرض بعصاه وهو يهتف بثورة عارمة:
_هل ستفعل مثل أخويك؟!!! هل ستعصاني أنت الآخر؟!!! تظنونني هرمت وضعفت قوتي؟!! لم يعد لكلمتي معني في بيتي؟!!!
أطرق ياسين برأسه قليلاً ثم قال برفق:
_العفو يا جدي..كلمتك ستبقي فوق رأسي...لكن حياتي مع زوجتي تخصني وحدي.
اشتعلت ملامح النجدي الكبير بغضبه وهو يصرخ فيه بحدة:
_اذن الحق بأخويك واخرج من منزلي كما خرجتَ عن أمري!!
تنهد ياسين بأسي واحمر وجهه انفعالاً لكنه خرج من غرفة جده إلي شقته مباشرة...
حيث كانت رقية تنتظره بلهفة لتسأله بترقب:
_ماذا كان يريد؟!!
أمسك كتفيها بقوة وهو ينظر لعينيها قائلاً بحزم:
_جدي أقصاني عن بيت العائلة مثل شقيقيّ...هل تحبين أن نستأجر لنا شقةً وحدنا أم نقيم في فيللا والدك؟!!
اتسعت عيناها بصدمة وهي تسأله :
_ولماذا فعل هذا؟!!!
أشاح ياسين بوجهه فغمغمت بأسي:
_بسببي؟!!
شدد قبضتيه علي كتفيها وهو يقول بحزم أقوي:
_لا تحمّلي نفسكِ فوق طاقتها...جدي يجب أن يفهم أننا لم نعد صغاراً...وأن كل واحدٍ من أحفاده الذكور أو الإناث مسئولٌ عن اختياراته...أنا لستُ نادماً علي أي حال.
انفرجت شفتاها وهي تهمّ بالاعتراض إشفاقاً علي والدته التي لا تنقصها هذه المصيبة أيضاً...
+
لكنه وضع أنامله علي شفتيها ليقهر اعتراضها بقوله الحاسم:
_هيا نعد حقائبنا!!
=====================
+
ركبت "الأوتوبيس" المتجه بهم للاسكندرية في رحلة تقوم بها الجامعة ...
جلست جوار النافذة تراقب الطريق بشرود وذهنها يستعيد تلقائياً تلك المرة السابقة التي كادت فيها تقوم برحلة مشابهة مع صديقاتها لولا أن هاتفها حذيفة من هاتف فريدة آمراً إياها بالعودة آنذاك...
ابتسمت بسخرية مريرة وهي تفكر...
الآن صارت حرة بلا قيود...
لم يعد لأحد سلطانٌ عليها...
حتي قاسم النجدي الذي طالما كان يخشاه الجميع الآن صار أكثر تهاوناً بعد ما حلّ بالعائلة مؤخراً ...
فهو -وإن لم يعلنها صراحةً-يحمّل نفسه مسئولية انفراط حبات العقد من يده...
تنهدت بحرارة وأصابعها تتحسس دبلتها التي لم تخلعها برفق...
ليجرفها تيار الحنين إلي حبيب عمرها الذي لم تعرف غيره...
عادت برأسها للوراء تسترجع أجمل ذكرياتها معه...
اعترافه -العفوي-لها بحبه علي سطح المنزل الذي طالما شهد لعبهما صغاراً ليشاء القدر أن يشهد أحرّ لحظات عشقهما كباراً....
قبلاته المجنونة مثله والتي كانت تحمل لها مشاعره كاملةً دون نقصان...
بعنفها وقوتها عند غضبه...
ورقة انسيابيتها عند اعتذاره...
حضنه الذي طالما ظنته غربة...حتي كان لها وطناً...
وطناً هاجرت منه بإرادتها لتبحث لنفسها عن هويّة جديدة...
وإلي الآن...لم تجد!!!
ثوبه الوردي الذي أحيا جديب أنوثتها بقطرات عشقه المعطاءة والذي انتهي به الحال مجرد قطع ممزقة تماماً مثل حبهما!!!
أغمضت عينيها بقوة تخفي دموعها الحارقة وهي تعترف لنفسها بالحقيقة التي طالما حاولت تناسيها لكنها لم تستطع.....
حذيفة ليس مجرد حبٍ أول أو عشقٍ قديم...
حذيفة هو همس أنفاسها التي لا تغادر صدرها إلا وتتغني به!!!
_هل أضايقكِ لو جلست؟!!
قطع هتافه المهذب أفكارها فانتفضت لتهمس بارتباك :
_لا يا بلال أبداً...تفضل!
جلس علي الكرسي الخالي جوارها ليسألها بحنانٍ لا يغادره وقاره المعهود:
_كيف حالكِ يا ساري؟!! تغيرتِ كثيراً عن طبيعتكِ المنطلقة...صرتِ كثيرة الشرود هذه الأيام.
ابتسمت بمرارة وهي تردّ دون أن تنظر إليه:
_الزمن يغير تضاريس الجبال...ألا يغيرنا نحن البشر؟!!
أومأ برأسه موافقاً ثم قال محاولاً تجاذب أطراف الحديث معها:
_أحوال البلد كلها تغيرت...الأوضاع تزداد سوءاً!
ويبدو أن محاولته لجذب انتباهها قد نجحت فقد التفتت إليه أخيراً لتسأله باهتمام:
_هل وصلت التحريات لشئٍ بخصوص مقتل والدك...؟!!!
هز رأسه نفياً وهو يغمض عينيه بألم استفز حنانها الفطريّ...
فأردفت بقلق:
_ألا يزال هناك خطرٌ علي حياتك أنت؟!!
فتح عينيه مبتسماً لاهتمامها ثم غمغم بشرود:
_لا...لا أظن...التهديدات كانت تصل أبي لتخويفه...والآن رحل عاصم الهاشمي نفسه...فلم يعد هناك داعٍ لها.
هزت رأسها في تفهم هامسة:
_رحمه الله..
ثم قالت ببعض التردد:
_هل تنتوي العمل بالسياسة بعد تخرجك؟!
أطرق برأسه للحظات ثم قال بفتور:
_لستُ أدري بعد...الحزب السياسي الذي كان ينتمي إليه أبي يريد الاستفادة من شعبيته في شخصي...لكنني لم أحسم بعدُ قراري بهذا الشأن.
ثم رفع رأسه إليها ليسألها فجأة:
_أنتِ...ما رأيك؟!!
هزت كتفيها بارتباك وهي تغمغم بحيرة:
_لا أدري...هذا أمرٌ راجعٌ إليك...إنها حياتكُ!
ازدادت نظراتها نحوها عمقاً وهو يسألها بمواربة:
_ألا يُحتمَل أن تكون حياتكِ أنتِ أيضاً؟!!
ألجمتها المفاجأة للحظات فعجزت عن الرد وهي تشعر ببعض الذنب...
الذنب نحو بلال الذي تدرك بحدسها الأنثوي أن قلبه معلقٌ بها خاصةً وقد صرح فعليا برغبته في خطبتها...
والذنب نحو حذيفة الذي -برغم انفصالها عنه- لازالت تعتبر نفسها ملكيةً خاصةً له...
فلا يجوز لها التباسط مع بلال في الحديث هكذا...
وأخيراً الذنب نحو نفسها هي...
هي التي تظلمها بتعلقها بحبال حبٍ واهية سيأتي يومٌ ما ...وتنقطع!!
ورغماً عنها وجدت أناملها -دون وعي- تتلمس دبلته في إصبعها وكأنها تستمد منها بعض الدعم...
بينما ابتسم هو بمرارة وهو يلاحظ حركتها ودبلتها التي لم تخلعها بعد...في إشارةٍ واضحة لما يعنيه هذا...
عندما غمغمت هي وقد استعادت بعض تماسكها:
_لا تليق بك الزهور الذابلة يا بلال...ابحث عن زهرةٍ أخري لازالت تحمل أريجها كاملاً!!
هز رأسه وهو يقول بحسم:
_أنتِ لستِ زهرةً ذابلة...بل نجمٌ يدور في فلكٍ خاطئ...صوّبي مساركِ وسينصلح كل شئ!
نظرت إليه بترقب وعقلها يتشرّب كلماته بنهم...
وكأنها تحتاج حقاً لمن يُسمعها هذا الكلام...
لمن يُرجّح لها أحد كفتيّ الميزان المنتصب في المنتصف بين قلبها وعقلها...
عندما أردف هو بنفس الحسم:
_إن بعض العشق لمن لا يستحقه إثم...فلا تكوني آثمة!
أطرقت برأسها دون رد وجزءٌ منها يرجوها الانتفاض للدفاع عن حذيفة...
من قال أنه لا يستحق العشق؟!!!
هو فقط...ضلّ الطريق!!!
لكنه عاد لصوابه ومن يدري...ربما يثبت!!!
بينما كان جزءٌ آخر يعارضها باستماتة...
"ربما" ليست كلمة حسم للمواقف...
"ربما" كلمةٌ هزيلة يتذرع بها الضعفاء ليمنحوا أنفسهم بعض الأمل...
وهي امرأةٌ ملت ضعفها وتحتاج الآن لحسم...
حسمٍ أبعد ما يكون عن "ربما" بتكهناتها واحتمالاتها وهشاشتها...
أبعد ما يكون عن "حذيفة" وازدواجيته وتذبذبه!!!!
قطعت أفكارها عندما توقف بهم "الأوتوبيس" في نفس اللحظة للمفارقة...
ليواجهها بلال بابتسامة واثقة وبنبرة ذات مغزي:
_يبدو أننا قد وصلنا!
=============================
+
عاد من عمله الجديد لشقة راجية الصغيرة التي يقيم فيها الآن مع جوري وحذيفة بعدما أقصاهم قاسم النجدي عن بيت العائلة عقاباً لهم علي عصيانهم لأوامره...
أغلق الباب خلفه دون صوتٍ تقريباً ليبحث عنها عندما لمحها واقفةً أمام الموقد تقلب الطعام بانهماك...
استند بكتفه علي الباب يراقبها باستمتاع وهي غافلةٌ عنه...
كتم ضحكته بصعوبة وهو يراها تحاول إضافة القليل من "الفلفل الأسمر" في الطعام لتستفز رائحته النفاذة أنفها شديد الحساسية فتعطس لعدة مراتٍ متتالية فتفلت من يدها العلبة ليسقط الكثير منه في الإناء دون قصد!!!
قبل أن تشهق هي بارتياع وهي تنظر للإناء بخيبة تلتها دموعها التي سالت علي خديها غزيرة وهي تخبط علي ساقيها بحسرة...
ساعتها لم يتمالك نفسه وهو يتقدم نحوها ليحتضن ظهرها هامساً بخشونة:
_لماذا تبكين؟!
شهقت للمفاجأة وهي تلتفت نحوه برأسها قبل أن تهمس وسط دموعها :
_لقد فسد الطعام الذي تعبتُ فيه طوال اليوم لأجلك!
كانت تعلم نهم عمار الشديد للطعام لكنها كانت قليلة -بل منعدمة -الخبرة في هذا الشأن لو أرادت الإنصاف...
والدتها كانت تتولي هذا الشأن مع الخادمة وقد كانت كل مهمتها مع الطعام هي تناوله...
ومع تنظيف المنزل أن تخرج منه حتي تنتهي هذه العملية!!!!
والآن تجد نفسها مسئولةً -بإرادتها-عن هذه الأشياء التي لم تعتدها بعيداً عن رفاهية منزل النجدي الكبير.
لكنها مع هذا كانت أكثر من راضية فقط...لوجودها جواره...
كل لحظة مع رجلٍ حقيقي كعمار تساوي عمراً بأكمله...
عمار الذي أبقي علي احتضانه لها بساعد واحد ليمد كفه الأخر متناولاً ملعقةً من الطعام...
ليلوكها في فمه للحظات ...
قبل أن يرمقها بنظراتٍ غامضة!!!
فاستدارت نحوه لتهمس بترقب:
_هل هو سيئٌ لهذه الدرجة؟!!!
التمعت عيناه ببريق حقيقيّ وهو يتنهد بحرارة....
ثم احتضن وجهها براحتيه هامساً :
_حارقٌ للغاية...لكنه شديد اللذة..مثل جوريتي!
ابتسمت بين دموعها التي مسحها بأنامله هامساً:
_كفاني أنكِ من صنعتِه لأجلي...لم أتصور في أشد أحلامي جموحاً أن تجيد جوريتي المدللة طبخ الطعام .
عضت علي شفتيها بخجل هامسة:
_إذا كان عمار مضرب الأمثال في الخشونة أجاد الغزل لأجلي...ألا أتعلم أنا الطبخ لأجله؟!!!
ضحك ضحكة قصيرة وهو يداعب أنفها بسبابته هاتفاً بمكر:
_لا تقولي أنكِ أعددتها وحدك...أنتِ تربية يدي وأعرف أنك فاشلة...من ساعدك؟!! اعترفي!!
خبطته في كتفه بمرح وهي تقول بعتابٍ :
_خيراً تفعل شراً تجد...هل هذا جزائي؟!!
شد أذنها برفق وهو يهمس أمام عينيها بحزم مرح:
_اعترفي يا ذات الأيدي الناعمة...من ساعدك؟!!
تأوهت بضعف وسط ضحكاتها العالية قبل أن تهتف باستسلام:
_مساعدة بسيطة...أمي كانت معي علي الهاتف!
ضحك بدوره وهو يقول مشاكساً:
_لو علمت العمة فريدة التي يتحاكي الجميع عن مهارتها في الطهي عن مستوي هذا الطعام لأوسعتكِ ضرباً!!
زمت شفتيها في غضب طفولي وهي تهتف بضيق:
_ألم تقل لتوّك أنه لذيذ مثلي؟!!
خبط جبهتها برأسه ليهتف بخشونة مرحة:
_وقلت أيضاً أنه حارقٌ جداً!!!
مسدت جبهتهابأناملها وهي تسأله بخيبة:
_هل سنرميه؟!!
أزاحها من أمامه وهو يهتف باندفاع:
_ما هذا الذي سنرميه؟!سآكله كله...وليتدبر حذيفة أمره عندما يعود!!!
ضحكت بسعادة حقيقية وهي تراه يساعدها في غرف الطعام في الأطباق قبل أن يحملها معها للمائدة الصغيرة في منتصف صالة المنزل...
ثم جلس جوارها وهو يقول بنبرة جادة:
_لو وجدتِه أنتِ حارقاً فلا تؤذي معدتك...سأطلب من حذيفة أن يحضر طعاماً جاهزاً لكما أنتما الاثنين!
نظرت إليه بحنان قائلة:
_لو كان لا يعجبك فلا تضغط علي نفسك لأجلي!!!
تألقت عيناه بعاطفته رغم جفاف عبارته:
_كفاكِ ثرثرة...ودعيني آكل!!!
ضحكت بحب وهي تملأ عينيها من ملامحه الحبيبة...
قبل أن تسند ذقنها علي راحتها هامسةً بهيام:
_كل تفاصيلك ساحرة... نظرتكِ التي تميتني رعباً لو غضبت والتي تتحول لشلال جارف من حنان وحب...كلماتك التي تقطر جفافاً وغلظة والتي تغدو قصائد عشق بين ذراعيّ...عاشقٌ أنت يا عماري...عاشقٌ عشت أبحث عنه بين سطور رواياتي حتي وجدته رجلاً حقيقياً يتجسد كالشمس في حياتي فتمحو كل ظلمة الليل وبرده!!!
وضع ملعقته جانباً لينظر إليها بعمق للحظات وهو يشعر ببعض الذنب...
هو يعرف أنه يمكنه إراحتها من عمل المنزل لو استأجر خادمة...
لكنه لا يريد هذا...
ليس لضيق الحال كما يزعم لها...
بل لأنه يريد حقاً أن يعرف قدر حدود تحملها لمعيشتها الجديدة معه...
جوري شديدة الرقة والرفاهية والدلال...
الوردية بين شقيقتيها وأكثرهنّ أنوثة...
فآسيا رغم فتنتها الشديدة لكنه يراها باردة رتيبة الإيقاع...
وساري رغم نضوجها المبكر ورجاحة عقلها فهو يراها كالجميع "مسترجلة"...
لكن جوري بعينيه هي "الأيقونة" الفعلية للأنوثة...
هي الحارة المشتعلة الصاخبة بدلالٍ يزيدها سحراً علي سحر...
وفتنةً علي فتنة!!!
والآن يري مدللته الوردية ترهق يديها "الناعمتين المنعمتين" بالعمل لأجله...
وتترك رغد العيش في منزل النجدي الكبير لتشاركه معيشته البسيطة هنا لتبدأ معه من جديد...
وتثبت له بالفعل لا بالكلمات أنها حقاً تريده...
قطعت هي أفكاره المتأملة فيها عندما همست بقلق:
_ما الأمر يا عمار؟!! هل أفقدتك شهيتك بحديثي؟!!
توهجت عيناه بلهيبٍ خاص ثم قام من علي كرسيه ليجذبها من ساعديها لصدره بقوة هامساً بين شفتيها:
_علي العكس...لقد أثرتِها أكثر!!
وقد كان هذا آخر ما وعاه عقلها قبل أن تنجرف معه في طوفان عاطفته كالعادة...
=================================
انفلتت من صديقاتها بعدما استعارت هاتف إحداهن لتسير وحدها علي شاطئ البحر...
تأملت منظر الغروب بافتتان وهي تشعر أن الشمس الآن تذوب في السماء رويداً رويداً...
تماماً مثل حبها له...
وإن كانت الشمس ستعود غداً لشروقها بإذن ربها...
فهل سيعود لحبهما من جديدٍ ...شروق؟!!!
دمعت عيناها وهي تشعر بغربة روحها تزداد هنا...
المكان رغم سحره موحشٌ كئيب...
أم أن الوحشة والكآبة تنبع من داخلها هي؟!!!
هي التي تود الآن لو تطيع قلبها فتترك هذا المكان الخلاب وتعود لأقرب مكانٍ في الأرض إلي قلبها...
سطح منزل العائلة!!!
حيث تجلس علي أرجوحتها القديمة هناك تحتضن دميته وتنتظره...
حتي وهي تعلم أنه لن يعود!!!!
لعنت ضعفها سراً وهي تحاول استعادة حديث بلال في ذهنها لعلها تتشبث ببقايا من عقلٍ يدحض عنها عواطف قلبها الثائرة...
لكن كل الكلمات في عقلها ذابت ...تماماً كما ذاب قرص الشمس الآن في السماء كاملاً...
فلم يتبقَ لها سوي نحيب دقاتها المشتاقة والمختنقة بلوعتها له...
لا تدري لماذا تشعر الآن بالذات بهذا الاشتياق الكاسح له كما لم تفعل من قبل...؟!!!!
ربما لشعورها بغربة المكان وهي التي لا تعتاد الأماكن الغريبة بسهولة...
وربما لأنها تمنت طويلاً...
طويلاً جداً ...أن تسير معه في مكانٍ كهذا متشابكي الأيدي ورأسها علي كتفه...
وربما لأن الغزو الذي يتحالف فيه بلال الهاشمي- بكل مميزاته التي لا ينكرها أحد- مع عقلها الرافض لحذيفة يكاد يهزم قلبها الضعيف في هذه المعركة...
وهي -للعجب-لا تريده أن ينهزم...!!!
لقد منحها حذيفة حرية الاختيار...
أعتق جاريته ليطلقها بعيداً عن أسوار قصره التي طالما قيدتها...
لكنها الآن تشعر أنها ...ربما تفضل لو كانت...!!!!
قطعت فكرتها وهي تهز رأسها بعنف عاجزةً عن إكمال فكرتها...
العاقل لا يسير بظهره للوراء...
وهي لم توصف يوماً بالحماقة...
لكن ماذا عساها تفعل في حريق روحها الذي يلتهم خلاياها ببطء وهي بعيدةٌ عنه...؟!!!
أهلاً إذن بالحماقة مادامت في سبيل هواه!!!!
عند فكرتها الأخيرة وجدت نفسها ترفع هاتف صديقتها لتتصل برقمه الذي تحفظه...
لا...لن تتحدث إليه...
إنها فقط ستكتفي بسماع صوته...
صوته الذي افتقدته طوال هذه الأيام ولم تعد قادرةً علي التحمل أكثر...
كان عقلها يعارضها بشدة ...لكنها زعمت لنفسها أنها تفعلها فقط للاطمئنان أنه بخير...
هو أولاً وأخيراً ابن عمها!!!
وهي أدري بنبرات صوته التي تحفظها كاملةً والتي كانت تستشف منها دوماً حالته...
لهذا ستكتفي بسماع صوته للحظات ثم تغلق الاتصال...
مجرد مسكّنٍ بسيط لضميرها الذي يؤلمها لأنها كانت سبباً في نبذه من العائلة...
وحرمانه من كل شئ...
ولوأنه استطاع تجاوز هذا في فترة يسيرة وحمزة طالما يمدحه أمامها بزعمه أنه "عفريت حقيقي"!!!
وأنه عندما منح تركيزه كاملاً للعمل استطاع تحقيق النجاح في وقت قصير...
هي كانت تعلم أن عناد حذيفة الشديد سيدفعه للتفوق في العمل كي يثبت للجميع قدراته...
والمركز الذي فتحه لعلوم الحاسبات بدأ اسمه يلمع خاصةً في مدينة صغيرة كمدينتهم...
لا يتجاوز فيها عدد هذه المراكز أصابع اليد الواحدة...
فخورةٌ هي به...
معذبةٌ لأجله...!!!
لكنها لا تستطيع مجرد الحلم بالعودة إليه...
كبرياؤها يقف أمام كبريائه...وكلاهما صلبٌ كالحجر!!!
وفي النهاية كل هذا لن يمنعها مما تفكر به الآن وتشتهيه كل جوارحها بحق...
إنه مجرد اتصال برئ!!!
ستسمع صوته وتغلق الاتصال بعدها ببساطة لتعود وتحتبس خلف أسوار كبريائها وتماسكها المزعوم!!!
هذا ما كانت تحاول به إقناع نفسها وليس أسهل علي المرء من خداع نفسه....
غافلةً أو -متغافلةً- عن نبضات قلبها التي كانت تتسارع بجنون مع كل رقمٍ تضغط عليه أناملها...
وكم ودت في هذه اللحظة لو يكون رقم هاتفه مكوناً من آلاف الأرقام...
لتستمتع بهذه الدغدغة اللطيفة لخلايا جسدها كله التي تتراقص الآن بانتشاء عابث ...
وكأنها عادت طفلةً كما كانت منذ سنوات أمامه!!!
آه يا حذيفة!!!
ما حيلتي فيك؟!!!
وأنت الذي تملك مفاتيح طفولتي وأنوثتي وشيخوختي...
طفولتي التي عشتُ براءتها ركضاً في فضاء عينيك...
وأنوثتي التي تفتحت براعمها بين ذراعيك...
وشيخوختي التي تنذرني بالموت في غيابك!!!!
ما حيلتي فيك؟!!!
وأنت ضفائر شعري القصيرة التي شدتها أناملك ونحن بعد نلهو صغاراً...
وأنت خصلاته الثائرة التي انسدلت علي كتفك في نوبات عشقنا كباراً...
وأنت بياض شيبه الذي أراه الآن بعين خيالي يبكيك!!!
تنهدت بحرارة وأناملها تضغط الرقم الأخير لتنتظر صوته الحبيب بترقب والذي أتاها جاداً حازماً:
_السلام عليكم...من؟!!
أغمضت عينيها بتأثر ودموعها تنافس دقات قلبها جنوناً وهي تكاد تذوب اشتياقاً إليه...
انفرجت شفتاها وهي تهمّ بالتحدث إليه ضاربةً بكل شئٍ عرض الحائط...
لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة مكتفيةً بالصمت...
وبشعورها بأنه فقط ....معها الآن!!!
حتي لو كان يبعد عنها مكاناً لكنها علي الأقل ...تسمع صوت أنفاسه!!!
استمر صمتها للحظات فعاد هو يزأر بنبرة أكثر حدة:
_من الذي يتحدث؟!!
تشبثت أناملها بالهاتف بقوة وهي تعلم أنه سيغلق الاتصال في أي وقت...
لكنه ظل صابراً للحظات...وكأنما شعر أنها هي...
ثم تنهد بحرارة أحرقتها قبل أن يغلق الاتصال !!!!
ظلت متشبثة بالهاتف علي أذنها للحظات وهي تشعر أنها لم تخمد نيران اشتياقها له....
بل أشعلتها أكثر!!!!
وفي مكانه ظل هو يتأمل الهاتف بشرود...
قلبه يخبره أنها هي!!!!
ربما من فرط ما يتمني هذا...
لكنه عاد يقول لنفسه أنها ربما كانت معاكسة تليفونية عادية..!!!
كانت أفكاره تتنازع مع ذكرياته الآن بشأنها لكنه كان يحاربها بعنف...
ساري لازالت تتخبط في حيرتها بين عقلها الذي يؤيد خاطباً متميزاً كبلال...
وقلبها الذي يعلم علم اليقين أنه لم ولن يكون إلا له....
وبينهما تحترق هي بنيران لوعتها....وتحرقه هو معها!!!!
زفر بقوة وتفكيره فيها يكاد يصيبه بالجنون....
+
لكنه حاول أن يتشاغل عن هذا بعمله الذي يحتل الآن كل اهتمامه...
فلم يستطع...!!!
خبط علي مكتبه بقوة وهو يزفر من جديد زفرة مشتعلة...
ثم تناول هاتفه ليتصل بفريدة التي ابتدرته بسؤالها الحنون:
_كيف حالك يا ابني؟!!
ازدرد ريقه بتوتر وهو يقول برفق:
_بخير يا عمتي...كيف حالكم جميعاً..لقد أردتُ فقط الاطمئنان عليكنّ .
تنهدت فريدة بعمق وقلبها يخبرها عن السبب الحقيقي لاتصاله...
ثم قالت بحنان:
_كلنا بخير يا ابني...لا ينقصني سوي عودة جويرية لحضني...لكنني أطمئن عليها يومياً بالهاتف...وآسيا تسلمت عملها الجديد وسعيدة جداً به...
صمت للحظة ثم سألها ببرود مصطنع:
_وساري؟!
ابتسمت فريدة ابتسامةً لم يرَها ...لكنها بدت في صوتها وهي تقول:
_ساري في الاسكندرية ...رحلة أعدتها الجامعة.
انعقد حاجباه بغضب وقد تأكد هاجسه الآن أنها من كانت تهاتفه منذ قليل...
قبل أن يهتف بحدة لم يقصدها:
_وكيف تسمحين لها بالسفر وحدها يا عمتي؟!!
ارتبكت فريدة لحدته ثم غمغمت باضطراب:
_أنت تعلم عن حالتها النفسية المضطربة منذ افترقتما...ثم إنها ليست وحدها...بلال الهاشمي معها.
لم تكد تتم عبارتها حتي انتبهت لفداحة ما قالته ...
لقد أرادت فقط أن تطمئنه لوجود شخص كبلال محل ثقةٍ معها ...
ولم تتذكر ساعتها عرض بلال القديم للزواج منها...
لكنها الآن أدركت وهتاف حذيفة الغاضب يكاد يصمّ أذنيها:
_هكذا إذن؟!!! بلال هذا الذي يرغب في الزواج منها...وأنتم تسهلون له الأمور.
ازداد ارتباكها وهي تغمغم بما يشبه الاعتذار:
_لا يا ابني...ليس الأمر كما تظن...إنه فقط...
قطعت عبارتها وهي لا تجد ما تكملها به...
فأخذ نفساً عميقاً تمالك به غضبته قبل أن تعود لصوته برودته المصطنعة :
_لا بأس يا عمتي...إنه حقها علي أي حال...مباركٌ لكم مقدماً.
قالها ثم أغلق الاتصال بسرعة وكأنه يخشي أن يفلت منه زمام غضبه...
قبل أن يلقي هاتفه بعنف جواره!!!
لكن علامَ الغضب؟!!!
ألم يمنحها هو فرصة الاختيار؟!!!
ألم يتنازل عنها بإرادته ضد الجميع؟!!!
حتي ولو كان فعل هذا من أجلها...فليحتمل نتيجة قراره!!!
وليتقبل خسارته برأس مرفوعٍ كما اعتاد...
وبهذه الفكرة الأخيرة تناول هاتفه مجدداً ليتصل برقمها هي...
هي التي انتفضت بدهشة وهي تري هاتفها -وليس هاتف صديقتها- يرن باسمه...
ترددت للحظات وهي تشعر بشعور اللص الذي ضبط متلبساً بجريمته...
قبل أن تحاول التظاهر بالثبات وهي تفتح الاتصال قائلة:
_السلام عليكم...كيف حالك يا حذيفة؟!!!
وصلها صوته المشبع ببروده -المصطنع- قائلاً:
_بخير يا ابنة عمي...لقد كنت أهاتف عمتي فريدة بالمصادفة وأخبرتني أنكِ في الاسكندرية فاتصلت لأطمئن علي وصولك.
خفق قلبها بجنون وهو يخبرها بشعوره الصادق به أن بروده هذا يخفي بركان اشتياقٍ بصدره...
بركاناً لا يقل قوةً عن براكينها هي ...بل ربما يزيد!!!
لكنها تمسكت بقناع كبريائها لترد له بروده ببرود مشابه:
_شكراً يا حذيفة...طالما كنت تفهم في "الأصول"!!
وكأنما أرادت أن ترد له بضاعته...!!!
فإن كان يزعم أنه يهاتفها من أجل الاطمئنان عليها بدافع صلة القرابة فحسب...
فهي ستتظاهر أنها تصدقه!!!
لكنه صمت للحظة قبل أن يردف بنفس البرود -المصطنع-:
_ولو أنني لست قلقاً عليكِ...عمتي أخبرتني أن بلال الهاشمي معك وسيعتني بكِ.
طعنتها عبارته الباردة في الأعماق وهي تشعر بغصة في حلقها منعتها عن الرد للحظات...
لقد تغير حذيفة حقاً...
حذيفة الذي فقد عقله في الماضي يوم عرف فقط بعرض بلال الهاشمي للزواج منها وكاد يغتصبها قهراً فقط ليضمن ملكيته الأبدية لها...
الآن يعلنها بمنتهي البرود أنه مطمئنٌ لوجودها مع بلال الذي "سيعتني بها" ....
بل إنه عرض علي بلال بنفسه ليلة عقد قران حمزة أن يفاتح قاسم النجدي بشأن زواجهما وكأنه لا يهتم...
قلبها المذبوح بخيبته يخبرها أن حذيفة -حتماً-لا يعنيها...
هو فقط يحاول الحفاظ علي كبريائه أمامها...
نعم...نعم...
هو فقط يعاقبها بهذه الطريقة الباردة !!!!
لكن عقلها كان يدفعها لتصديق أن حذيفة لم يحبها كما تتصور...
لقد قالها لها صراحةً يوماً عندما رآها مع بلال...
قال لها أن تستغل الفرصة التي تليق بها...
والآن يتصل بها ليؤكد لها فكرته...
بل ربما يتمني حقاً لو تتم خطبتها لبلال الهاشمي ربما كان هذا أدعي لأن يرضي عنه قاسم النجدي مؤخراً ويعيده لحضن العائلة...!!!
اغرورقت عيناها بالدموع عند هذه الفكرة الأخيرة ليأتيه صوتها مختنقاً بعبراتها :
_لا أحتاج لأحدٍ كي يعتني بي...طالما اعتنيتُ بنفسي وحدي!!
كز علي أسنانه بغضب مكتوم وهو يميز صوتها الباكي فانفجر فيها هاتفاً بانفعال وقد انهارت قشرة بروده الزائفة:
_لماذا تبكين الآن؟!!
قالها وجسده كله يرتجف غضباً واشتياقاً...
وذكري بكائها بين ذراعيه تلهب كيانه...
دموعها التي يذكر الآن مذاقها بنكهة بشرتها النقية التي تحمل طهر كل نساء الأرض...!!!!
ذاك الطهر الذي أزال عنه دنس معاصيه ...
وكأنه سرق قبساً بسيطاً من نارها كان كافياً ليضئ له ظلمات روحه كلها !!!
دموعها التي طالما روت له بصدقها حكاياها الكثيرة عن عشقها الذي لم ولن يكون إلا له...
لهذا عشق هذه الدموع...وعشقها أكثر عندما كان ينجح في ترويضها بين شفتيه لتتحول لابتسامة تنافس الشمس في نورها....
دموع ساري النجدي مميزةٌ مثلها...
صادقةٌ ...حارة...سخية...عاشقة.....
ولا تخضع إلا له!!!
بينما هزها هي انفعاله حقاً وقلبها يذكرها بلقائهما الأخير ليلة عقد قران حمزة...
نظراته الحارة التي حملت لها اشتياقه كاملاً رغم برودة ردوده الجافة....
حذيفة لازال يعشقها...لكنه يكابر مثلها...
وآن الأوان أن تحسم أمرها بهذا الشأن الذي طال كثيراً....
وأن تمنح نفسها فرصة الاقتراب منه من جديد...لعلّ عقلها يرضي ويتصالح مع قلبها بشأنه...
لهذا تمالكت نفسها بقوة لتتجاهل سؤاله قائلةً بعد صمت طويل:
_كنت أريد منك خدمة.
تنهد بحرارة أحرقتها ناقضت برودة ردّه التالي:
_تفضلي يا ابنة عمي!
ابتلعت غصة دموعها لتقول بصلابتها المعهودة:
_أنا أحتاج لدورة تأهيل لشهادة (.......) ...هل يقدم مركزك هذه الدورات؟!!
ابتسم بسخرية عابثة لم تظهر علي نبراته التي حافظت علي برودها وهو يرد عليها:
_بالتأكيد...نتشرف بزيارتك في أي وقت.
ثم أردف بنفس النبرة الرسمية الباردة:
_والآن أعتذر منكِ...لديّ عملٌ هام!
قالها وأغلق الاتصال بسرعة خائفاً من أن تجرفه فورة غضبه لإيذائها...
أما هي ف-للعجب- ابتسمت بفتور وهي تضم هاتفها إلي صدرها...!!!!
حسناً...
لقد اختلقت طريقاً جديداً إليه...سارت أولي خطواته....
ستقترب منه من جديد...
بإرادتها هي هذه المرة...
دون قيود ولا إجبار..
لتري إن كانت حقاً ستعشق حذيفة "الجديد" وتسلمه مفاتيح مدينتها كاملةً عن طيب نفس...
أم تغلق هذه الصفحة للأبد ولا تأثم بعشقٍ لا يستحق كما كان يقول بلال....!!!!
*******
انتهى الفصل
+