اخر الروايات

رواية جمر الجليد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم شروق مصطفي

رواية جمر الجليد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم شروق مصطفي


25_26 جمر الجليد
"قولتيلي إنك مش هتسيبيني"
أمسكت مي بها بقوة وهي تحاول السيطرة على جسدها المرتعش بين ذراعيها، محاولًة تهدئتها بكل ما أوتيت من صبر وحنان. لكن سيلا كانت تتلوى كأنها تحاول الهروب من قبضتها، تصرخ بصوت مبحوح وتبكي بحرقة، وكأنها تسعى للحاق بأحبائها الذين فارقوها.

في هذه اللحظة، قطع صوت رفيقتها المشهد، كانت كلماتها مليئة بالرجاء والحزم وهي تحاول أن ترفع سيلا من على الأرض:
"كفاية يا سيلا! أرجوكي فوقي، يلا بينا! حرام عليكي اللي بتعمليه ده، انتي بتعذبيهم كده!"

لكن سيلا لم تكن تسمع، كان عقلها غارقًا في صدمته، وقلبها يرفض تصديق ما حدث. تمسكت بالمكان وكأنها تخشى أن يغادر من تبقى من أثرهم.

جذبتها مي بقوة محاولة أن ترفعها من الأرض، وهي تهتف بصوت ممتزج بالخوف والرجاء:
"يلا بينا يا سيلا، كفاية! حرام عليكي اللي بتعمليه ده بتعذبيهم كدة."

لكن كلمات مي كانت كالشرارة التي أشعلت نارًا مستعرة بداخل سيلا. دفعتها للخلف بعنف، وكأنها تدافع عن بقعة الألم التي تحيط بها، وصرخت بهستيريا، صوتها يمزق السكون المحيط:
"ابعدي عني! مش هسيبهم! ولا همشي! والعذاب اللي أنا فيه ده إيه؟! ليه يا رب؟ ليه سبونا كلهم مرة واحدة؟!"

مي، التي كادت تنهار من ضعفها أمام هذا المشهد، صاحت بانهيار، تفقد كل ذرة تحمل بداخلها:
"حرام عليكي! دي إرادة ربنا! فوقي بقى! أختك محتجاكي جنبها!"

لكن سيلا لم تكن تسمع. عقلها كان غارقًا في صدمة لا نهاية لها، وقلبها محطم لا يقوى على النبض سوى بالألم. بدأت تهلوس بكلمات غير مترابطة، تردد دون وعي:
"وأنا مين هيقف جنبي؟! مين؟!"

ثم توقفت للحظة، رفعت رأسها بعينين تغرقان في بحر الدموع، وقالت بصوت حاسم مليء بالرفض:
"لا! لا مش همشي غير وأنا معاهم! ياخذوني معاهم! أنا رايحة مكان ما يروحوا! مش هسيبهم أبدًا!"

جلست على الأرضية بينهم، وكأنها تريد أن تصبح جزءًا منهم، تمسكت بيدي كل منهم بقوة وكأنها تخشى أن يرحلوا مرة أخرى. أغمضت عينيها وهي تشهق بصوت عالٍ، تناجي ربها بصوت متهدج:
"يااااارب! خدني! سايبني لمين؟ مليش حد بعدهم! خدني وريحني من العذاب! أنا كده كده ميتة... لو ما متش دلوقتي، أكيد هموت منه! خدني دلوقتي وريحني يا رب!"

ظل جسدها ينتفض بعنف، شهقاتها تتردد في أرجاء المكان، ودموعها تنهمر بلا توقف. لم يكن في الأفق سوى ألمها المتصاعد وصدى دعواتها التي تحمل استسلامًا كاملًا أمام حجم الفقدان الذي دمر كيانها.

ظل واقفًا كتمثال جامد، عيناه مثبتتان على سيلا التي أفترشت الأرض بجانب أحبائها الراحلين، تناجي الموت وتطلب الخلاص بصوت ينزف ألمًا. مشهدها المكسور والضعيف، وهي تنام بين جثامينهم كأنها تبحث عن دفء رحل معهم، كان أشبه بسكين يخترق صدره. شعر بنغزة في قلبه، ألم لا يوصف، بينما تردد كلماتها ودعواتها للموت في أذنيه كطعنة متجددة.

نظرات الأهالي من حولهم كانت مثقلة بالآهات، كل منهم يحمل جرحًا خاصًا به، غارقًا في حزنه وصمته. أحدهم قلب كفيه في الهواء وقال بخفوت:
"ربنا يصبرك يا بنتي."

وآخر تمتم بحزن:
"لا حول ولا قوة إلا بالله... إنا لله وإنا إليه راجعون."

بينما امرأة جلست قرب جثمان زوجها وأخيها، تغرق في دموعها، تهز رأسها وتقول:
"الصبر من عندك يا رب... صبرنا على ابتلاءنا."

أما الأب الذي جلس قرب جثمان ابنته وزوجها، تاركين طفل لم يتعدّ الخمس سنوات، فقد بدا كتمثال صامت، يشهد موت روحه مع فقد ابنته الوحيدة.

وسط هذا الحزن الثقيل، اقترب بخطوات مترددة عندما رأى سيلا تدفع مي بعيدًا عنها وهي تصرخ بجنون:
"سيبيني! مش هقوم! مش همشي! سامعة؟! ابعدي عني! أنا رايحة معاهم! سيبيني بقى!"

حاولت مي مرة أخرى أن ترفعها عن الأرض، لكنها دفعتها بشدة وكادت تنام مجددًا بجانب أحبائها، وكأنها ترفض مغادرتهم. عندها تقدم بسرعة وأمسك ذراعيها، وقف أمامها بحزم، وصوته يمزج بين الصراخ والرجاء:
"هشش! خلاص! اهدي! مفيش داعي اللي بتعمليه ده! انتي بتعذبيهم بصراخك ودموعك! ادعيلهم، هما شهداء، فاهمة؟! دول في الجنة! جايين من بيت الله، فوقي بقى!"

ظل يهزها محاولًا أن يوقظها من غيبوبتها العاطفية، لكنها نظرت له بعينين غارقتين بالدموع وقالت بصوت متحشرج مليء بالانهيار:
"ملكش دعوة بيا! ابعد عني! أنا لازم أروح معاهم! هما محتاجيني، وأنا محتاجاهم! سيبني أروح لهم!"

بدأت تضربه بصدره بعنف، لكن يديها المرتعشتين لم تكن تحمل سوى اليأس، وهو لا يزال ممسكًا بذراعيها بإصرار. حاولت الإفلات منه وهي تصرخ:
"ابعد عني! لازم أروح معاهم!"

احتضنها فجأة بقوة، وكأنه يحاول أن يطوّق كل ألمها بين ذراعيه، وقال بصوت مملوء بالحنان:
"هش... ششش... خلاص! هوديكي عندهم... حاضر! بس اهدي، ممكن؟ عشان خاطري، اهدي وهعملك اللي انتي عاوزاه."

ظل يربت على رأسها برفق، يهمس لها كلمات طمأنينة في أذنها:
"اهدي... كلنا معاكي، محدش هيسيبك. أنا سندك، أمانك، وقوتك بعد النهارده. مش هسيبك أبدًا."

اقترب أكثر وهمس لها بصوت مرتعش:
"أنا مصدقت إني رجعت للحياة تاني، عاوزة تسيبيني انتي كمان؟ لا يمكن أسيبك تضيعي مني... فاهمة؟"

شعر بجسدها ينهار بين يديه، وكأنها استكانت أخيرًا. نظرت له بعينين نصف مغمضتين قبل أن تغرق في النوم، أنفاسها تهدأ تدريجيًا. حملها بين ذراعيه بحذر وكأنها قطعة زجاج هشة، ثم غادر المكان الذي غمره الحزن والآهات، حاملًا معها وعدًا بأن يبقى بجانبها دائمًا، مهما اشتد الألم.

وصل حينها الى سيارة وليد، حيث كان في انتظاره. أوقف السيارة ببطء، ثم أدار رأسه للخلف ليتأكد من حالة شقيقتها تبدو وكأنها فاقدة الوعي تمامًا، شاردة لا تبدي أي استجابة لما يحدث من حولها.

وجه نظره لوليد وسأله بقلق:
"هي ساكتة ليه؟"

تنهد وليد وقال بصوت خافت:
"لسه راجعين من المستشفى... هحكيلك كل حاجة، بس بعدين."

أشار عاصم لمي، التي كانت خلفه، وقال بحزم:
"مي، كلمي حد من أهلهم وبلغيهم اللي حصل. أنا ومعتز هنخلص باقي الإجراءات وهحصلكم."

ثم وجه كلامه لوليد:
"روح معاهم يا وليد، ما تسبهومش لحد ما نخلص احنا."

غادر عاصم ومعتز لإنهاء الإجراءات الضرورية، بينما بقي وليد مع الفتاتين.

مي نظرت إلى سيلا التي بدت وكأنها قد استسلمت للنوم هربًا من الواقع المؤلم. دموعها جفت على وجنتيها، وصوتها اختفى تمامًا. ثم التفتت إلى همسة، التي كانت تجلس في صمت مطبق، ملامحها جامدة وعينيها تحملان صدمة عميقة. قالت مي بخيبة أمل:
"أهلهم؟!"

لكنها لم تضف أي كلمة أخرى، وفضلت الصمت.
---





تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close