رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم نرمين نحمد الله
*******
الفصل الثاني والعشرون:
+
_سآتي معك!!
هتفت بها آسيا بقوة أمام جسار الذي هتف بدوره:
_لا...لن أخاطر بظهوركِ الآن...دعيني أرَ نيتهم أولاً...
تشبثت بذراعه وهي تهتف بنفس النبرة القوية المستحدثة عليها:
_بل سأواجه مصيري معك...ألم تعدني أن تروض ضعفي حتي أنطلق كفرس جامحة...؟!!! لا تخف عليّ يا جسار...الكريستالة لم تعد هشة كالسابق...سأتقبل نتيجة قراري وليكن ما يكون...
+
عقد حاجبيه بقلق يمتزج بالتردد..
هو لا يريد أن تواجههم الآن...
يخاف عليها فورة غضبهم الأولي...
لكنها محقة...
هي تحتاج لهذه المواجهة...
تحتاج لأن تتخلص من ضعفها وخوفها....
تحتاج لاسترداد حقوقها وهويتها ...
بل ...وحياتها كلها!!!
+
لهذا أشاح بوجهه في ضيق ...
لكنها ربتت علي كتفه وهي تقول برقة لا تخلو من حزم:
_لا تتردد يا جسار...أحضر فقط قسيمة الزواج ودعنا نواجه الموقف معاً!!!
+
نظر إليها نظرة طويلة حملت لها كل مشاعره في هذه اللحظة...
فمنحته ابتسامة مطمئنة وهي تعيد التربيت علي كتفه...
ضمها إليه بقوة للحظات...
ثم تشبث بكفها حتي هبطا الدرج نحو صالة المنزل ...
حيث كان هناك عمه كساب مع حمزة وياسين ...
وجوارهم كان هناك ضابط شرطة يرمق العم كساب بنظرات متحفزة...
تحاشت آسيا النظر إلي ياسين وحمزة...
واكتفت بإطراقها الصامت تتمالك به بعض قوتها...
بينما تقدم جسار بقوة ممسكاً كفها ....
ومتجاهلاً حمزة وياسين بدوره حتي وصل إلي الضابط فقال بثبات:
_أنا جسار القاصم...ما الأمر يا سيدي؟!!
تبادل حمزة وياسين نظرات غاضبة عندما طالعهما مظهره المسيطر وهو يأتيهم ممسكاً بكف آسيا...
وكأنه يعلن ملكيته لها...
هنا لم يتمالك ياسين -الهادئ بطبعه -نفسه ليجد نفسه يندفع بحدة جاذباً آسيا من ذراعها ...
وهو يقول لجسار بعنف:
_دعها أيها الحقير...لو كان لك ثأرٌ فكن رجلاً وخذه من رجل مثلك...لكن لا تستقوِ علي امرأة!!!
+
شهقت آسيا رغماً عنها وجسدها يرتجف تلقائياً...
لم ترَ ياسين من قبل غاضباً هكذا...
فكزّ جسار علي أسنانه وهو يجذبها برفق ليخفيها خلف ظهره رامقاً ياسين بنظرة زاجرة...
وقد أنبأه رد فعله عمّن يكون حتي قبل أن يفصح عن هويته...
لا ريب أنه عاشق الطفولة الذي تخلي عنها كما حكت له يوماً...!!!!
+
أخذ نفساً عميقاً ثم عاود الالتفات نحو الضابط قائلاً ببرود مشتعل:
_لا أدري عن أي ثأر يتحدث هذا...آسيا النجدي زوجتي علي سنة الله ورسوله...
+
اتسعت عينا ياسين بصدمة بالغة وهو ينظر لآسيا بذهول...
لكنها أغمضت عينيها بقوة للحظة ثم تجاهلته تماماً وهي تتقدم خطوة لتقول للضابط بثبات:
_نعم يا سيدي...أنا زوجته ومعنا قسيمة الزواج...
+
عقد الضابط حاجبيه بتفحص وهو يدقق النظر في وثيقة الزواج الرسمية التي أعطاها له جسار...
ثم قال بعد لحظات:
_هكذا يكون الأمر عائلياً بحتاً ولا داعي لتدخل الشرطة....
+
ثم التفت نحو ياسين قائلاً باحترام:
_سأنتظركما مع القوة الأمنية بالخارج ريثما تنهون التفاهم الذي أتعشم أن يكون هادئاً....
+
أومأ ياسين برأسه بلا وعي وهو لايزال غارقاً في صدمته حتي غادرهم الضابط...
ثم التفت نحو آسيا يسألها بدهشة تمتزج باللوم:
_تزوجتِه يا آسيا؟!!! كيف ولماذا؟!!!
اشتعل صدر جسار بالغيرة التي لم يعد ينكرها وهو يقول بصرامة قاسية:
_لا شأن لك بها...فليكن كلامك معي أنا...
رمقه ياسين بنظرة مشتعلة وهو يهتف بحدة:
_ماذا فعلتَ لها كي تجبرها علي هذه الزيجة؟!!!
كاد جسار يرد عليه بحدة مشابهة لولا أن وقفت آسيا بينهما لتلتفت نحو جسار بنظرة استئذان صامتة...
تلقاها هو بضيق صامتاً للحظات ....
ثم أشاح بوجهه في شبه رضا...!!!!
فتمالكت نفسها لتلتفت نحو ياسين قائلة بقوة غريبة علي طبعها الذي كان يعرفه:
_جسار لم يجبرني علي شئ...أنا تزوجته بإرادتي...وأعتقد أنها فرصة مناسبة لتخطي العداوة بين العائلتين وإغلاق قصة الثأر هذه للأبد....أنا اخترتُ طريقي بنفسي وسأكمله للنهاية...
نظر إليها ياسين بذهول...
هذه ليست آسيا !!!!
آسيا التي كبرت معه منذ الصغر وكبر معها شعورٌ كان يظنه حباً...
والآن ....لم يعد!!!!
آسيا التي يعرفها لم تكن لتتحداه هكذا علانية وسط الجميع...
+
هذه هي ملامحها التي يحفظها عن ظهر قلب...
لكن هذا ليس كلامها...
ولا هذه طبيعتها...
هذه امرأة لم تعد كآسيا!!!!!!
+
بينما كان حمزة أكثر تماسكاً وتمالكاً لغضبه حيث تقدم من جسار ليقول بنبرة أكثر هدوءاً:
_أريد أن أفهم كيف تم هذا الزواج يا سيد جسار؟!!!ولماذا تعمدتما إخفاء الأمر وتلفيق تلك القصة عن انتحار آسيا؟!!!
رمقه جسار بنظرة طويلة متفحصة...
لقد علمته الحياة كيف يزن الرجال بموازينهم...
وهذا الرجل يبدو عاقلاً ومحل ثقة...
لهذا سأله بنبرته القوية المسيطرة:
_أخبرني من أنت أولاً؟!!
واجهه حمزة بنظرات لا تقل عنه قوة مع احتفاظه بنبرته الهادئة:
_أنا حمزة النجدي...أكبر أحفاد قاسم النجدي...وهذا يعني أن حسابك القديم كان معي أنا...ليس هذا فحسب...لكن حسابك الجديد كذلك...لأن آسيا كانت في حكم خطيبتي...لهذا أوكل إليّ جدي التصرف في الأمر كاملاً كما أرتئيه....
عقد جسار حاجبيه بتفحص يحاول استقراء ما يخفيه حمزة خلف كلماته...
وكذلك فعل حمزة الذي كان يشعر أن جسار القاصم لغز كبير...
وليس مجرد رجل منغلق التفكير علي قضية الثأر القديم...
لأنه لو كان الأمر كذلك لما تزوج آسيا رسمياً حتي لو كان قد أغواها...
بل إنه يبدو الآن بتشبثه بها وإخفائه لها خلف ظهره وكأنه يحميها منهم وليس العكس!!!
لهذا لم يتعجب عندما قال جسار أخيراً بنبرة قاطعة:
_لن أتحدث عن ماضٍ فات ولن يفيد في شئ...آسيا الآن زوجتي ولن تغادر هذه المزرعة أبداً...القانون الآن في صفي...لكن لو أردتم اللجوء للقوة فهي لا تنقصني.... لو كنت تعلم شيئاً عن جسار القاصم لفهمت أن الأمر منتهٍ تماماً...
ثم تشبث بكف آسيا أكثر ليردف بنبرة أكثر صرامة:
_خاصة أن آسيا توافقني علي قراري..
+
كز ياسين علي أسنانه وهو يشعر بالغضب...
لا...لم تكن غيرة علي محبوبة الصبا...
بل شعور بالعجز أمام هذا العملاق الذي يتحدث بكل قوة وسيطرة...
وكأن الأمور كلها بيده...
لكن الحقيقة أنها حقاً كذلك...!!!!!
كل الخيوط صارت ببين أصابع جسار القاصم...
الثأر القديم...والفضيحة الجديدة المغلفة بوثيقة زواج!!!
ويبدو أن آسيا-للعجب-تؤيده فيما يفعله...
أم تراها مجبورة؟!!!
جعله هذا الخاطر يتصدي لجسار هاتفاً بصرامة:
_أريد التحدث مع آسيا وحدها...
2
اعتصر جسار كف آسيا في يده رغماً عنه وهو يكز علي أسنانه ...
هذه هي المرة الأولي التي يتملكه فيها وحش الغيرة بهذه الصورة...
لو لم يتمالك نفسه بقوة الآن فستكون النتيجة كارثية...
لهذا خرج صوته مشتعلاً بنبراتٍ حادة وهو يقول ببطء ضاغطاً علي حروفه:
_ومن أنت كي أسمح لك بالحديث مع زوجتي وحدكما؟!!!
اشتعل غضب ياسين أكثر وهو يهتف بحدة غريبة علي طبعه الهادئ:
_من أنا؟!!!! أنت الذي تمنعني عنها وتسألني من أنا؟!!!
+
اندفع حمزة يقف بينهما وهو يربت علي كتف ياسين مهدئاً...
هل هذا هو ياسين الهادئ العاقل الذي اختار صحبته؟!!!
حمداً لله إذن أنه لم يصطحب حذيفة أو عمار...
كانت لتصير بحور دم هنا؟!!!!!
+
دمعت عينا آسيا رغماً عنها وهي تشعر بالضعف يتسلل إليها...
فالتصقت بجسار أكثر ترمقه بنظرة غريبة...
مزجت كل عاطفتها نحوه برجاء حار...
وقد كان لنظرتها هذه مفعول السحر...
وكأنها كانت برداً وسلاماً علي نيران غضبه كلها...
الآن فقط لا يمكنه إنكار شعوره نحوها...
هذه الغيرة التي كادت تكوي ضلوعه بقسوة...
والتي نسفتها هي بنظرتها هذه...
وهذا الإحساس القوي الذي يتملكه الآن برغبته في حملها بعيداً عن هنا...
ليعيدها لغرفته حيث لا أحد سواه يراها ...
ولا أحد غيره يملك سلطاناً عليها!!!
مع زخّاتٍ أخري من مشاعر تتخلل كل هذا...
تحضّه الآن لاحتضانها برفق...
للتربيت علي رأسها حتي يهدأ كل هذا الخوف الذي يسكن عينيها...
لتقبيل رأسها بكل فخر...
فخر أبٍ يري ابنته تتجاوز محنتها بكل قوة...
لترفع رأسه كما ينبغي...
لقد نجحت فرسه التي طالما أرّقه ضعفها أخيراً...
عبرت حواجز الخوف والتردد والضعف...
وآن الأوان أن تنطلق حرة جامحة بلا قيود...
نعم...الكريستالة صارت تعرف جيداً قيمتها ...
بعدما تغلبت علي عقدة هشاشتها العتيقة!!!!
+
لهذا ابتسم لها في حنان يمتزج بالفخر وهو يضغط كفها في راحته...
عندما التفت إليه حمزة ليقول بحزم رفيق:
_أنا الذي أريد التحدث مع آسيا وحدنا...أعتقد أن هذا من حقي...فأنت الذي اعتديتَ علي خطبتي لها ...وأريد أن أطمئن أنها ليست مجبورة علي البقاء هنا...
+
عقد جسار حاجبيه بغضب وهو يهم بالاعتراض...
لكن عمه ربت علي كتفه بإشارة موحية...
ثم قال لآسيا برفق:
_اذهبي مع ابن عمكِ لهذه الغرفة يا ابنتي...
+
تشبث جسار بكف آسيا يمنعها وهو يرمق عمه بنظرة مستنكرة...
لكن العم كساب أردف بلهجة قوية:
_الباب سيبقي مفتوحاً ونحن سنبقي هنا نراقبكما من بعيد...
عقد حمزة حاجبيه بضيق وهو يقول باستنكار:
_ما الذي تظنني سأفعله بها ؟!! هل نسيت أنها ابنة عمي؟!!!
هز كساب رأسه وهو يقول بشبه اعتذار:
_أنا أعرف أنك لن تؤذيها يا بني...لو كنتم تريدون ذلك لما حضرتم مع قوة الشرطة...لكنني أقول هذا لأجل جسار...هو شديد القلق علي زوجته ويحق له هذا...
نقل حمزة بصره بين جسار وآسيا بتفحص...
آسيا تبدو شديدة التعلق بجسار حقاً...
إنها تكاد تلتصق به وكأنها تحتمي به -هو -منهما!!!!
وهذا غريب...
فحتي لو كان هو -حمزة- بعيداً عن نفسها بحكم غربته الطويلة...
ياسين ليس كذلك!!!
ما فهمه أنها كانت تحب ياسين حد الجنون...
فكيف تبدل حالها هكذا فجأة ليكون ارتباطها بجسار هذا أقوي من حبها لياسين؟!!!!
+
لابد أن يفهم من آسيا نفسها كل شئ...
هي الوحيدة الآن التي سترجح أحد كفتيّ الميزان...
إما أن تنتهي العداوة بين العائلتين وتغلق دفاتر الثأر هذه للأبد...
وإما أن تكون ناراً تتأجج من جديد لتأكل في طريقها الأخضر واليابس...!!!!
+
لهذا تصدي لجسار بقوة تليق بحفيد قاسم النجدي...
ليقول له بلهجة محايدة:
_حسناً يا جسار...سأتحدث مع آسيا وحدنا...في المكان الذي تقترحه أنت....
===================================================================
رن الجرس في منزل رياض فقام ليفتح الباب بترقب...
شهق بدهشة لم تلبث أن تحولت لفرح شديد وهو يهتف بحرارة:
_زياد !!! حمداً لله علي سلامتك يا بني...!!!
احتضنه زياد بقوة ثم هتف بجزع :
_كيف حال أمي الآن؟!!! لقد حجزتُ علي أول طائرة عندما علمتُ بمرضها!!!
+
اتسعت عينا رياض في إدراك وقد فطن لحيلة صفية في إعادة زياد إلي هنا في هذا التوقيت بالذات...
لعله يدرك فرصته بالزواج من مارية...
بعد عرض حمزة النجدي لخطبتها...
والحقيقة أنه هو الآخر يتمني هذا لولا أن قلبه يخبره أن مارية قد حسمت قرارها بهذا الشأن...
وأن اعتراضها السابق علي طلب حمزة النجدي أمامه...
لم يكن سوي عتاب رقيق تبعه استسلام لعرضه...
كما أحس هو من رد فعلها بعد هذا!!!
قطع زياد أفكاره وهو يلقي حقيبته جانباً ليهتف بلهفة منادياً:
_أين أمي؟!!! أمي!!!
اندفعت صفية نحوه من المطبخ لتضمه بحرارة هاتفة بسعادة واضحة:
_حبيب قلبي يا زياد...لم تخيب ظني في قيمتي لديك!!!
ابتعد عنها قليلاً ليتفحص وجهها قائلاً بقلق:
_ماذا بكِ يا أمي؟!! لقد كدتُ أجنّ قلقاً!!!
+
رمقها رياض بنظرة عاتبة أطرقت هي علي إثرها برأسها إلي الأرض...
ثم توجه نحو زياد ليربت علي كتفه قائلاً بهدوء:
_لا تقلق يا بني...كلنا بخير...اذهب أنت واسترح في غرفتك...
+
عاد زياد يرمق صفية بقلق...
فضمته إليها من جديد لتقول بحنان:
_استمع لوالدك يا بني...اذهب واسترح...وعندما تستيقظ سيكون لنا حديث طويل!!!
====================================
وقفت رقية في شرفة غرفتها ممسكة بهاتفها في ترقب...
قلبها يكاد يتوقف قلقاً علي ياسين وهي لا تدري عواقب هذه الزيارة الرهيبة...
لقد هاتفها الضابط الذي اصطحبه -بتوصية من أحد أصدقاء والدها -منذ قليل...
وأخبرها بأمر زواج آسيا من جسار القاصم...
ولعل هذا ما هدّأ توترها نوعاً...
لكنها لا تزال قلقةً بشأن تبعات هذا الأمر...
كيف سيكون رد فعل قاسم النجدي عندما يعلم عن هذا؟!!!
وهل سيكون هذا الزواج نهاية للعداوة بين العائلتين؟!!!
أم أنه سيزيدها أكثر؟!!!
+
وكيف ستكون مشاعر ياسين عندما يري آسيا من جديد؟!!!
آسيا حبيبة طفولته وصباه...
والتي كبر حبها معه وتضافر مع سنوات عمره!!!
+
هل سيتحرك سطح حبهما الراكد عندما تعانق عيناه ملامحها ثانية...
أم أن حبه -المزعوم-لها سيصمد أمام هذا التحدي؟!!!!
وما هو شعوره الآن وهو معها؟!!!
هل تمزقه أنياب الغيرة وهو يراها قد تزوجت غيره؟!!!
أم أنه علي العكس يشعر بالارتياح لأنه تخلص من تأنيب ضميره بشأنها؟!!!!
هل يندم لأنه لم يكن قوياً بما يكفي ليتصدي لجده منذ البداية ويطالب بحقه في حبيبته؟!!!
أم أنه الآن أدرك أن ما بينهما لم يكن حباً حقيقياً كما كان يقول لها؟!!!
+
وضعت كفها علي جبينها وهي تشعر بقلقها يكاد يخنقها...
فتهاوت جالسةً علي كرسيها وهي تعاود النظر إلي هاتفها بترقب هامسة :
_لا تخيب ظني فيك يا ياسين...
5
===============
جلس حمزة علي أحد الكراسي جوار آسيا بينما وقف جسار قابضاً كفيه بغضب جامد يراقبهما من بعيد...
أومأت له آسيا برأسها في إشارة مطمئنة لكنه بقي علي حاله من التوتر والقلق...
وفي مكانها التفتت آسيا نحو حمزة تقول بتماسك:
_حمداً لله علي سلامتك يا حمزة...
رمقها حمزة بنظرة عاتبة وهو يقول بهدوء لائم:
_كنت أتمني أن أعود في ظروف أفضل من هذه...لا أن أرجع لأجد كارثة في انتظاري...
رفعت رأسها بكبرياء لتقول بقوة حقيقية لا تدعيها:
_الكارثة بدأها جدي منذ زمن ....عندما قرر مصيرنا نحن بنات سعد النجدي كما الجواري...أنا أعترف أنني أخطأتُ بالهرب...ولولا شهامة جسار ربما كنتُ نلتُ مصيراً أسوأ من الموت...لكن ما دفعني للهرب هو شعوري بأنني بلا قيمة...بلا ثمن...مجرد قطعة أثاث يتصرف بها قاسم النجدي كما شاء....
أومأ حمزة برأسه في تفهم...
ثم نظر إليها بتفحص ليسألها:
_لماذا تزوجتِ جسار؟!!!
+
تنهدت في حرارة ثم قالت بهدوء:
_أنا أثق بك يا حمزة...لهذا سأخبرك بالحقيقة كلها...لعلنا نصل لحلٍ في هذه الأزمة يضمن سلامة الجميع...
وأولهم جسار وابنه...لأن هذا أقصي ما يعنيني...
هز رأسه فيما يشبه الوعد...
فاندفعت تحكي له كل شئ عن جسار منذ التقاها أول مرة غريبة وحيدة في الطريق...
وكيف كانت شهامته ومروءته معها طوال تلك الفترة...
ثم حكت له باقتضاب تفاصيل التعدي الوقح لمصطفي عليها...
وكيف أنقذها جسار منه بإتمام هذا الزواج كي يحفظ لها كرامتها ويحميها....
ليس فقط من ألسنة الناس...
بل ومن عائلتها نفسها لو اقتضي الأمر!!!!
+
كان حمزة يستمع إليها مصدوماً...
عندما أردفت هي بحرارة:
_لو كانت آسيا النجدي تعني شيئاً لديكم فاعلم أن جسار هو الذي حفظها لكم...أنتم مدينون له بحياتي وشرفي وكرامتي وليس العكس...طوال أيامي السابقة هنا وهو يحافظ عليّ حتي من نفسه...ودون أي انتظار لمقابل...صدقني يا حمزة...جسار رجل نبيل حقاً...لقد ابتعد بنفسه هنا في هذه المزرعة حتي لا يريق المزيد من بحور الدم...اختار أن ينسلخ من جلده...من أهله وبلده...حتي لا تتلوث يداه بالدم...وحتي يقطع حبال العداوة بين عائلتينا...لم يكن ذنبه أن وضعني القدر في طريقه من جديد بهذه المصادفة الغريبة...لكنه مع هذا لم يقدم لي سوي كل خير...
+
صمت حمزة للحظات يستوعب كلامها السابق ببطء....
لو صدقت آسيا...
وهو يظنها كذلك!!!
فهذا يعني حقاً أن جسار هذا حالة خاصة من الرجولة الحقيقية...
هم المدينون له بصنيعه مع ابنتهم ...
وليس العكس!!!
+
وقد أكدت آسيا علي فكرته عندما أردفت بخفوت يمتزج بالخجل:
_سأخبرك سراً لكن لا تطلع أحداً عليه...أنا أبوح به لك أنت فقط كي تعرف أي رجلٍ عظيمٍ هو...زواجي به ليس حقيقياً...مجرد ورقة لحمايتي من أي أحد...وقد وعدني بإطلاق سراحي متي أحب...
اتسعت عيناه بدهشة للحظة....
..ثم التمعتا بإعجاب واضح...
وبعدها افترّ ثغره عن ابتسامة صغيرة وهو يقول لها باحترام واضح:
_يبدو أنه رجلٌ بحق!!!
ابتسمت آسيا بشرود وهي تهمس :
_وأكثر يا حمزة!!!
هز رأسه في تفهم...ثم قال لها بإعجاب:
_أنتِ أيضاً كريستالة العائلة كما كانت تدعوكِ عمتي فريدة...رغم غضبي الشديد من فعلتكِ الشائنة بالهروب...لكنكِ استطعتِ كسر القيود التي أحاطوكِ بها لتنتزعي حريتكِ من جديد...
اتسعت ابتسامتها وهي تقول بامتنان:
_لم أكن لأفعلها وحدي صدقني....لولاه هو ...هو الذي منحني كل الدعم والقوة لأصمد وأواجه...هو الذي روض ضعفي كما كان دوماً يخبرني ...عندما أشعرني أن اختياري مهما كان سيكون مدعوماً بقوته خلف ظهري...لهذا سأبقي طوال عمري مدينة له بهذا...
+
أطرق حمزة برأسه لحظات يفكر...
هكذا تغيرت الأمور تماماً...
جسار لم يعد عدواً للعائلة...
لكن تبقي المشكلة في إشهار هذا للجميع...
وتبرير عودة آسيا للحياة بعد كل هذا الوقت ...
والأهم...إقناع قاسم النجدي بكل هذا!!!
لكن....لا بأس!!!
سيتكفل هو بالأمر ...
المهم الآن أنه اطمأن علي آسيا...
وهدأ قلبه من ناحية الثأر القديم...
+
لهذا قام واقفاً ثم قال لآسيا برفق:
_لا تحملي هماً يا آسيا...أعدكِ أن أقف بجانبكِ حتي تتجاوزي كل هذا...
وقفت بدورها وهي ترمقه بامتنان ...
كم كانت تحترم حمزة من صغرها...
والآن تحترمه أكثر...
لقد وضعت له الأقدار دور البطولة الثانية في حياتها بعد جسار...
وظنها أنه لن يخذلها...
لهذا ابتسمت وهي تقول له بمودة حقيقية:
_أنا محظوظة حقاً لأن جدي أوكل الأمر إليك...أنت هدية القدر لهذه العائلة.
+
هز حمزة رأسه وهو يتوجه ببصره نحو جسار الذي كانت نظراته الآن مشتعلة علي أقل تقدير...
وهو يراقبهما من بعيد...
فأدرك بحدسه أن أسد آل القاصم يشعر الآن بالغيرة علي زوجته...
لهذا غادر الغرفة بخطوات ثابتة ليتوجه نحوه قائلاً بهدوء:
_حسناً يا جسار...آسيا أطلعتني علي حقيقة الوضع...وأعدك أن تتم تسوية الأمور في أقرب وقت...
نظر إليه جسار طويلاً في تفحص لا يخلو من توجس...
فمد له حمزة كفه مصافحاً في إشارة واضحة....
تلقاها جسار بفطنته فأومأ برأسه ثم صافحه بدوره....
+
كان ياسين يراقبهما بذهول...
لا يدري ماذا حدث كي تنقلب الأمور فجأة هكذا....
لكنه يثق بعقل حمزة وقدرته علي إدارة الأمور...
التفت نحو آسيا التي كانت واقفة هناك عند باب الغرفة تراقب الموقف بدورها...
لتلتقي عيناهما في نظرة طويلة حملت مشاعر كل منهما للآخر...
نظرته كانت تحمل اعتذاراً طويلاً علي خذلانٍ لم يتعمده لهذا الذي ظنه حباً ...
والآن بعد غزو رقية الهاشمي لحياته يدرك أنه حقاً لم يكن كذلك!!!!
نظرته كانت تمنحها الحنان الذي منحه لها طوال عمره...
وسيبقي كذلك ما دامت تحتاجه...
لكنه لن يغلفه -بعد-بوهم الحب!!!
نظرته كانت تتعهدها بتقديم كل ما يستطيع لها...
ليس لأنها حبيبته...
لكن...لأنها ابنة عمه الغالية التي ستبقي لها مكانتها في قلبه مهما حدث!!!
4
ولأن نظرته كانت صادقة ...
فقد وصلتها كل هذه المعاني مباشرة دون حاجة لتأكيد...
نظرات ياسين دوماً كالمرايا لديها...
تري فيها كل ما بداخله دون شك ودون حيرة!!!!
1
بينما كانت نظراتها هي نحوه مختلفة...
لم تكن عاتبة كما كان يظن...
بل كانت قوية واثقة متشحة بعاطفة لم يعد يراها عشقاً...
ولا هي كذلك!!!
بل كانت أقرب للمودة والاحترام لذكرياتٍ حفرت مكانها في ماضي القلب ...
لكن لم تعد ترتقي لأن تكون حاضراً أو غداً...
نظراتها كانت تخبره بوضوح أن آسيا -القديمة-تغيرت...
عادت أقوي وأكثر صلابة مما كانت...
ولعل هذا ما يطمئنه عليها...
وينسف جبال شعوره القديم بالذنب نحوها!!!
1
لهذا ابتسم لها أخيراً بشحوب...
ثم تقدم نحو جسار وحمزة الذي قال له بحزم رفيق:
_صافح جسار يا ياسين...لقد أغلقنا صفحة الثأر القديم للأبد...
تجاهل ياسين أمره وهو يقلب بصره بين جسار وآسيا بتفحص...
ليكتسي صوته بمزيج من الحيرة والعجز وهو يقول:
_وآسيا؟!!! ألن نعود بها؟!!!
تجاهله جسار تماماً هو الآخر متحاشياً النظر إليه وهو يقول لحمزة بخشونة مسيطرة:
_زوجتي لن تغادر المزرعة حتي أطمئن تماماً لحقيقة الوضع...ولن تخطو خطوة واحدة دوني!
+
كان يضغط علي حروف كلمة "زوجتي" وكأنه يستنكر أن يناديها ياسين باسمها المجرد....
فابتسم حمزة بإعجاب واضح وهو يستشعر رجولة حقيقية في هذا الرجل الذي طالما كانوا يخشونه...
ليربت بعدها علي كتفه برفق قائلاً بحزم:
_لا تقلق علي زوجتك ...لن تغادر المكان هنا حتي أمهد للأمر في عائلتي كي أضمن سلامتها أنا الآخر...لا تنسَ أن الناس يظنونها قد ماتت...لابد أن نفكر جيداً قبل أن نخطو أي خطوة...
أومأ جسار برأسه في تفهم ثم قال بنبرته القوية:
_تولّ أنت أمر عائلتك...وأنا سأتولي أمر عائلتي بخصوص الثأر...لو أعلننا زواجي بآسيا...فستكون هذه نهاية الصراع القديم...
هز حمزة رأسه موافقاً ثم عاد يلتفت لياسين قائلاً بحزم أكبر:
_لا داعي لتوجسك هذا...آسيا أطلعتني علي حقيقة الأمر...جسار رجلٌ أفخر بأن أزوجه ابنة عمي دون تردد...
+
نقل ياسين بصره بينهما بشك...
ثم مد يده ليصافح جسار بفتور...
وبعدها التفت لحمزة يسأله بقلق:
_ وماذا عن جدي؟!!!
أغمض حمزة عينيه للحظات...
ثم عاد يفتحهما قائلاً بيقين:
_لا تقلق من جدي...أنا كفيلٌ بقاسم النجدي!!!
+
===============================================================
أخذ حمزة نفساً عميقاً....
ثم طرق باب غرفة جده الذي انتفض من مكانه هاتفاً بلهفة غريبة علي وقاره المعتاد:
_هل كانت هي حقاً آسيا كما زعموا؟!!
تنحنح حمزة بحرج ثم جلس جواره علي طرف الفراش ليمسك كفه قائلاً برفق:
_نعم ...هي يا جدي!!
عقد قاسم حاجبيه بغضب هادر وهو يهتف بقسوة :
_هل أتيتَ بها؟!!!
ربت حمزة علي كفه وهو يقول بنفس الرفق المتعقل:
_لا يا جدي...اهدأ الآن وسأخبرك بكل شئ..
+
ضاقت عينا قاسم بتفحص وهو يسمع تفاصيل الأمر من حمزة....
حتي انتهي بقوله:
_آسيا أخبرتني أنه هو الذي حافظ عليها وليس العكس...هو لم يسئ إليها في شئ!!!
+
اشتعل وجه قاسم غضباً وهو يهتف بحدة:
_كل هذا ولم يسئ إليها؟!!!! ماذا كنت تنتظر منه أكثر؟!!! أخفي الفتاة لديه كل هذه الشهور وتزوجها دون علمنا كأي عاهرة في الطريق تزوج نفسها بلا أهل!!!!!!!
+
تنهد حمزة بحرارة وهو يقول بحزم:
_هو لم يختطفها من بيننا يا جدي....آسيا هي التي ذهبت إليه بقدميها....وهو لم يتعرف علي هويتها في البداية ....وحتي عندما تعرف عليها لم يأخذها بذنبنا....بل حافظ عليها حتي منا نحن...إنه علي استعداد لفعل أي شئ كي لا يصيبها هي أي أذي!!
أشاح قاسم بوجهه في عدم رضا...
فأردف حمزة بنفس الحزم الرفيق:
_ما الذي دفع آسيا للهرب يا جدي؟!!! شعورها بأنها مجرد جارية...جارية في ثياب ملكية تم بيعها لسيد لا ترتضيه...أنا أدرك دافعك لتزويجها مني كي أحفظ أمانة عمي رحمه الله....لكن آسيا لم تدرك ذلك...آسيا لم تفرط في نفسها عندما تزوجت جسار...بل كانت ستفعل حقاً لو كانت تزوجتني دون رضاها...وأي تفريطٍ في النفس أكبر من أن تساق إلي مصيرٍ لا ترتضيه...؟!!!!
+
التفت نحوه قاسم بحدة هاتفاً بحنق:
_هل تلومني أنا علي هروبها!!!
هز حمزة رأسه نفياً ليقول بحنانه المعهود:
_قاسم النجدي لا يُلام أبداً في حب أحفاده...أنا أكثر من يفهمك يا جدي...وأدرك أنك تحمل همّ صغيرنا قبل كبيرنا...لكن الأمور تحتاج الآن منك لبعض المرونة...حتي لا ينقطع الحبل من كثرة الشد...
صمت قاسم لدقائق طويلة يعقل كلامه...
كلمات حمزة ليست جديدة عليه...
بل ...لو أنصف لقال أن هذا هو نفس ما يدور بخلده منذ أيام...
أمانات سعد أوشكت أن تضيع من يده...
آسيا وجويرية...
وأخيراً ساري!!!!
ولأول مرة يجد نفسه عاجزاً عن التحكم في الأمور...
حتي أحفاده الذكور...
بدأوا التمرد علي حكمه...
فعلها حذيفة أولاً...
ومن يدري من سيكون التالي؟!!!
يبدو أنه قد آن الأوان ليرخي الحبل قليلاً كما يقول حمزة...
لعله ينقذ العربة قبل سقوطها بالجميع في الهاوية!!!
+
لهذا التفت أخيراً نحو حمزة يسأله بترقب:
_ما رأيك أنت في جسار هذا؟!!!
ابتسم حمزة وهو يقول بإعجاب صادق:
_رجل حقيقي يا جدي!!
أومأ قاسم برأسه في شبه رضا...
ثم سأله بتفحص:
_وكيف سنبرر للناس عودتها للحياة ؟!!!
اتسعت ابتسامة حمزة وقد شعر أن قاسم النجدي بدأ يتقبل الفكرة...
فقال برفق:
_هذا أمر بسيط...يمكن أن نقول أنها قد تعرضت لحادث مثلاً وفقدت ذاكرتها مؤقتاً....وأن جسار هو من أنقذها...
مط قاسم شفتيه في استياء...
قد يتقبل الفكرة علي مضض...
لكنه لا يزال غير راضٍ عنها...
لهذا عاد يسأله بتوجس:
_وثأره القديم معنا؟!!!
ربت حمزة علي كفه وهو يقول مطمئناً:
_الرجل هرب من بلده وأهله طوال هذه السنوات حتي لا يتورط في مسلسل الدم هذا...كما أنه الآن يرتبط بنا بصلة نسب...وهذا يعني أن باب الثأر هذا قد أغلق تماماً!!!
+
عاد قاسم بظهره للوراء ليتعلق بصره بصور أبنائه المعلقة علي الحائط...
الآن يشهد صراعاً بين عقليته القديمة التي نشأ وتربي وعاش عمره كله عليها...
وبين عاطفته وواجبه نحو أمانات أولاده...
لكنه حسم الصراع سريعاً عندما التفت نحو حمزة ليقول بحزم:
_أنا أوافق علي إنهاء العداوة بين العائلتين وإعلان زواجه من آسيا النجدي...لكن بشرط واحد...
ازدرد حمزة ريقه ببطء...
عندما أردف جده بنفس الحزم:
_أن يأتي جسار القاصم وعائلته إليّ أنا هنا يطلبون الصلح!!!
=========================================================================
خرج حمزة من غرفة جده ليطرق باب غرفة فريدة التي كانت تصلي كعادتها في هذا الوقت من ليل رمضان ...
تلجأ إلي الدعاء كعادتها هاربة من جراح قلبها التي لا تندمل...
انتظرها بصبر حتي سلمت من صلاتها ثم رفعت رأسها إليه بسرعة هاتفة بلهفة حارقة:
_هل عدت يا حمزة؟!!!!رأيتها؟!!!لماذا لم تعد بها؟!!!!
ابتسم حمزة وهو يقول لها بحنان:
_اطمئني يا عمتي...آسيا بخير...جدي سيحل الأمر كله عن قريب...
تهلل وجهها بالبشر وهي تقوم لتقف قبالته هاتفة بفرح:
_اجلس وأخبرني بكل شئ!!! لا تغفل عن أي تفصيلة صغيرة...
ثم تهدج صوتها وهي تكاد تبكي هامسة:
_دعني أراها بعينيك يا بنيّ...اشتقتها...اشتقتها جداً...
+
دمعت عيناه تأثراً وهو يجلسها برفق لتجلس جواره تتطلع إليه بشغف...
وكأنها حقاً تري صورة ابنتها في عينيه...
فمضي حمزة يخبرها بكل ما حدث مع آسيا وجسار...
منتهياً بحديثه مع جده...
وهي تستمع إليه مصدومة...لتهمس بعد لحظات بصدمة:
_آسيا تزوجت جسار القاصم.؟؟!!!!..وتعيش مع كساب القاصم في نفس البيت؟!!!!
+
هز حمزة رأسه وهو يقول بتعقل:
_أنا رأيت الرجلين يا عمتي...كلاهما كان يعاملها بمنتهي الود والاحترام...آسيا كانت سعيدة حقاً بإقامتها معهما...
لم يبدُ عليها أنها سمعته وهي تتمتم بشرود:
_بعد كل هذا العمر؟!!! تقيم مع قاتل أبيها في بيت واحد؟!!!!
تنهد حمزة في حرارة ثم قال بحزم:
_عائلة النجدي أخذت ثأر عمي سعد بعدها يا عمتي...وكان الدور علي جسار القاصم ليأخذ ثأره مني أنا...لكن الرجل أوقف عجلة الثأر هذه بهروبه مع عمه طوال هذه السنوات...وظني أن عمه لم يفعلها...لو كان هو قاتل عمي سعد كما تزعمون لما شجع ابن أخيه علي الهرب بل ورافقه طوال هذه السنوات بعيداً عن أهله وبلده...
+
كانت فريدة تستمع إليه بشبه تركيز وعقلها غائب في ذكرياته مع كساب القاصم...
هذا الرجل الذي لم تكلمه طوال عمرها كلمة واحدة...
لكنه كان أول من سكن قلبها بأمر الحب...
ورغم أنها سلمت لقدرها -كعادتها-بعدما تزوجت من سعد النجدي...
لكنها ظلت تحمل له بعض مشاعر من الود الممتزج بالاحترام كلما رأته في الطريق يغض بصره عنها بعد زواجها وكأنه يخبرها بلا كلمات أنه يدرك أنها لم تعد له...
حتي قُتل سعد النجدي...
وزعم الجميع أن كساب القاصم هو من فعلها...
لم تملك وقتها سوي أن تصدّق زعمهم...
لو لم يكن فعلها لأجل الثأر القديم...
فلأجل حبه لها !!!
حبه الذي لم يفصح لها عنه يوماً بلسانه...
لكنها كانت تراه فيضاً ثرياً في عينيه...
يغرقها بتيارات دافئة من حنان بلا حدود!!!
والذي كان نقمة عليها لأنه حرمها من زوجها...
وحرم بناته منه في ريعان شبابه!!!
لهذا كرهت كساب القاصم بكل قوتها...
كما أحبته من كل قلبها!!!
+
والآن يخبرونها أن ابنتها كانت لديه طوال هذه الشهور...
بأي دافعٍ تراه فعلها؟!!!!
حماية لها؟!!!
أم نكايةً بها؟!!!!
+
قطع حمزة أفكارها وهو يقول بإشفاق:
_اطمئني يا عمتي ولا تحملي هماً...سأبذل قصاري جهدي لتعود آسيا لحضنك في أقرب وقت!!!
+
=====================
استيقظت من نومها تتطلع للسقف في شرود...
تشعر وكأنها صارت بلا ذاكرة....
بلا هوية....
وكأنها نبتةٌ اقتلعت من جذورها لتلقي علي قارعة الطريق...
هكذا هي دونه...!!!!
هو الذي كان وطنها الفقير...
الذي عذبتها حروبه وجفاف أراضيه...
والذي ما عادت تشعر بأمنها فيه...
والذي تركته خلفها لتلجأ لأرض جديدة...
غريبة...مهاجرة...
لم تعد تملك سوي البكاء علي أطلال ماضيها...!!!!!
+
قامت من فراشها وهي تعد نفسها بيوم جديد...
وبداية جديدة...
لامرأة جديدة...
امرأة اختارت قرارها بنفسها وستتحمل نتائجه وحدها...
+
دخلت عليها فريدة لتجدها تؤدي صلاتها بخشوع....
فاطمأن قلبها نوعاً وهي تشعر أنها اليوم أفضل...
حتي إذا ما انتهت رفعتها إليها بحنان لتقول لها متفحصة وجهها الشاحب:
_تعلمين يا ساري؟!!!أنتِ بالذات لا أشعر بالقلق عليكِ كأختيكِ...أنتِ صاحبة القلب الكبير والعقل الأكبر...لن تخذليني أبداً..
ابتسمت ساري بشحوب وهي تود لو تخبرها أن حديث القلب قد مضي عهد الحديث عنه...
لم يعد لها الآن سوي حديث العقل...
لعله لا يخذلها هو الآخر...
أطرقت برأسها للحظة...عندما قالت فريدة بسعادة واضحة:
_آسيا ستعود!!!
+
شهقت ساري بفرحة وهي تتشبث بها بقوة هاتفة بلهفة:
_حقاً يا أمي؟!! هل ذهب حمزة إليها؟!!!هل عفا عنها جدي؟!!!
ابتسمت فريدة وهي تحكي لها أحداث الليلة السابقة...
فاتسعت عيناها بذهول وهي تهمس بصدمة:
_تزوجته؟!!تزوجت جسار القاصم؟!!!
+
تنهدت فريدة في حرارة وهي تهز رأسها قائلة بشرود:
_حمزة يقول أنه ليس أبداً كما نظن...الرجل حافظ علي ابنتنا طوال هذه الشهور...ويبدو أن آسيا سعيدة معه...
هزت ساري رأسها وهي تقول بتشكك:
_وجدي؟!!!هل سيرضي عن هذا؟!!!
صمتت فريدة للحظات تفكر...
ثم قالت بيقين:
_حمزة له سلطانٌ كبير علي قاسم النجدي...سيعرف كيف يقنعه...
+
شردت ساري ببصرها وهي تفكر...
لقد اختارت آسيا طريقها تماماً كما فعلت هي...
كلتاهما تحررت من قيد الجواري...
وصار لها الحق في أن تدافع عن اختيارها وتحارب من أجله...
آسيا تبدو سعيدة كما تقول أمها...
وكذلك هي ستكون !!!
ستنفض عنها كل هذا الحزن الذي يلتهم خلاياها ببطء...
وستكمل طريقها الذي بدأته...
خطوة خطوة...
====================================================
جلس زياد علي مكتبه يقلب كتابه بين يديه...
"الحب من أول نظرة"...
لعنته التي أصابت قلبه منذ رآها فلم تسمح له بفكاك!!!
ابتسم بشحوب وهو ينهل من بئر ذكرياته -القصيرة-معها...
كم كانت وردية في كل شئ...
أحلامها...
أفكارها...
براءتها...
خجلها...
كانت مثالاً لأميرة أحلام خرافية هبطت من عليائها لتلون حياته بطيفها الوردي...
ثم تتركه مسحوراً لا يكاد يري سواها!!!!
+
تنهد في حرارة وهو ينهر نفسه عما يفعله...
جوريته لم تعد له...
حتي حلمه بها صار حراماً...
اقتطفها وغدٌ خشن غليظ الطباع ليحبسها في عالمه قسراً!!!
+
ابتسم بسخرية مريرة وهو يتذكر ما حدثته بشأنه والدته منذ قليل...
السبب الذي جعلها تطلب منه العودة بسرعة...
زواجه بمارية!!!!
هز رأسه بأسف وهو يفكر ...
لن يستطيع الزواج من مارية....
ولا من سواها!!!!
شئٌ ما بصدره يخبره أن جوريته قد تعود يوماً إليه...
ربما هو مجرد أمل...
وربما هو استنتاج عقليّ بحت...!!!!!
رجلٌ مثل عمار هذا في خشونته لن يستوعب فراشة رقيقة كجوريته...
قلبه يخبره أن هذا الزواج لن يطول ...
وحينها سيكون دوره ليداوي جرواحها كلها...
ويدخلها لعالمه الذي يناسبها هي...
ولا يناسب سواها...
فلا تخرج منه أبداً!!!!
+
ورغم حنقه علي هذه الخدعة التي ابتكرتها والدته لتعيده إلي هنا الآن...
فقد شعر الآن فقط أنه يحمد لها هذا الصنيع...
لم يحب غربته هناك ولم يستسغها...
بل علي العكس...
لقد شعر أن روحه قد ردت إليه عندما عاد لبلده...وأهله...
ولحلمه القديم!!!
لهذا أعلن أنه لن يسافر الآن حتي يطمئن علي صحة والدته...
والواقع أنه اتخذها ذريعة ليعتذر عن البعثة كلها!!!
+
نعم...لن يسافر بل سيبقي هنا...
لعل حدسه يصدقه وتعود إليه أميرة أحلامه الوردية..!!!!
قام من علي مكتبه عندما وصلت أفكاره لهذه النقطة ليتناول ميدالية مفاتيحه ويغادر المنزل ذاهباً إلي نفس المكان الذي يقصده كل يوم منذ عودته ...
ومع أنه يجده مغلقاً في كل مرة...
لكنه لم -ولن-يكف عن المحاولة...!!!
أيُ مكانٍ هو؟!!!!!
نعم...بالضبط!!
مكتبة جويرية!!!!!!!!
========================================================================
أغلق حمزة باب غرفته ثم تناول هاتفه ليجد عشرات المكالمات الفائتة منها...
نعم....مارية...
كان قد أخبرها قبل ذهابه لجسار القاصم وأنبأها عن نيته....
وليته ما فعل!!!
فقد أشعل فتيل خوفها وقلقها بلا داعٍ...
وها هو الأمر مرّ بسلام وبأفضل مما كان يتوقع...
+
تلاعبت أنامله بأزرار الهاتف حتي سمع صوتها بنبرته المميزة تهتف بلهفة:
_حمزة؟!!! أنت بخير؟!!!
ابتسم قائلاً بعاطفته الحارة:
_نعم يا ماريتي ...بألف خير...لا تقلقي ...
ساد الصمت بينهما للحظات...
قبل أن يصله صوتها المتهدج:
_أريد أن أراك يا حمزة...الآن!!
تنهد في حرارة ثم تقدم نحو مكتبه ليفتح حاسوبه المحمول...
ثم قال لها برفق:
_حسناً يا ماريتي...لقد فتحت "الكاميرا"
لم تمرّ بضع ثوانٍ حتي كانت صورتها أمامه علي الشاشة تهتف بجزع:
_ماذا حدث؟!!! أخبرني عن كل التفاصيل...
ابتسم بحنانه المعهود وهو يقول بإشفاق:
_ليتني ما أخبرتكِ حتي لا تقلقي هكذا...
دمعت عيناها وهي تقول بصوت متقطع:
_الحمد لله أنك بخير...
ثم اشتعلت حدقتاها باندفاعها الطفولي وهي تهتف بنزق:
_هيا بسرعة...قل ماذا فعلت مع هذا الوغد؟!!!
ضحك ضحكة مجلجلة ثم رفع حاجبه بحركته المعهودة وهو يقول مشاكساً:
_قولي أنكِ وافقتِ علي خطبتنا أولاً!!!
+
ابتسمت بخجل ثم غلبها طبعها -الطفولي-فهزت رأسها نفياً لتقول بمرح:
_ليس بعد يا دكتور حمزة...أمامك طريق طويل من الترجي والندم...
عاد يضحك بمرح للحظات...
ثم تنهد بحرارة ليقول بعدها بعاطفة :
_لأجلكِ أسيره مهما طال ...حتي تتأكدي من شعوري نحوك...
قاومت خجلها باستماتة وهي تتشبث بقناعها المرح لتهتف باندفاع:
_دعك من حيلك القديمة وأخبرني بالتفصيل عما جري هناك....
زفر زفرة قصيرة...
ثم بدأ يحكي لها تفاصيل الأمر....
حتي انتهي ...فهتفت وهي تصفق بكفيها :
_إذن فقد انتهت قصة الثأر وتزوجت ابنة عمك من هذا الرجل؟!!!!
ضحك بمرح وهو يعيد رفع حاجبه ليسألها بمكر:
_أيهما كان يزعجكِ أكثر....قصة الثأر...أم زواجي بابنة عمي؟!!!
هزت كتفيها وهي تضحك دون أن تجيب....
فضحك بدوره وهو يهز رأسه قائلاً بشرود:
_عسي الله أن ينتهي الأمر علي خير...ولا تجدّ في الأمور أمور!!!!
+
قالها وهو يتذكر شرط جده -الحاسم-بحضور جسار وعائلته إليه في بيته يطلبون الصلح...
وهو ليس بهيّن أبداً...
لكنه يظنّ خيراً بجسار وقدرته علي إتمام الصلح...
لعلّ هذه الأزمة تنجلي...
ليس لها من دون الله كاشفة!!!
وبعدها يكون الطريق أمامه ممهداً لمفاتحة جده في أمر خطبته لمارية...
فهو ما عاد قادراً علي الصبر أكثر...
+
===========================================================
فتح باب شقته ليجدها تنتظره جالسة علي كرسيها...
اندفع نحوها بخطوات سريعة فتعلقت عيناها بعينيه تقرأ ما فيهما بشغف...
لكنها لم تقوَ علي الكلام...
قلبها كان يخفق بجنون...
وهي تحاول التظاهر بالهدوء قدر ما تستطيع...
أمسك كتفيها بقوة يرفعها إليه وهو يبتسم أمام عينيها هامساً بحرارة:
_افتقدتكِ يا غاليتي!
قالها ثم ضمها إليه بقوة وهو يتنشق عبير شعرها مردفاً بنفس النبرة الذائبة:
_أخيراً عدتُ إلي سلطانتي...كل دقيقة دونكِ تساوي ألف عام من اشتياق...
عاندت أناملها التي كانت تتوسلها أن تحتضنه بدورها...
وهي ترفع إليه رأسها هامسة بصلابة تخفي هشاشة روحها الآن:
_كيف سارت الأمور هناك؟!!
احتضن وجهها بكفيه وهو يسافر بحدقتيه دون كلل في بحار عينيها هامساً بحنانه الدافئ:
_انزعي قناعكِ يا سلطانتي...وصارحيني بما تودين السؤال عنه بالضبط...
أغمضت عينيها للحظة تتمالك قوتها...
فمال علي جفنيها المطبقين يقبلهما بعمق وهو يردف بعاطفة ملتهبة:
_لا ...لا تقولي شيئاً...دعيني أنا أقرأ ما تبوح به عيناكِ الصافيتان...
فتحت عينيها ببطء وهي تعاود التشبث بخيوط عشقه المزدانة بحنانه وهو يهمس :
_رأيتُها يا رقية...رأيتها بعيني لكن قلبي ما كان يري سواكِ....رأيتُها وأدركتُ بكل يقين أنني لم ولن أعشق امرأة مثلك...
ابتسمت بشحوب وهي تحيط وجنته براحتها هامسة بتردد:
_ألم تكن ضائقاً بقصة زواجها هذه؟!!!
أومأ برأسه إيجاباً وهو يهمس بحسم:
_بلي...كنتُ ضائقاً جداً...
ثم ضمها إليه أكثر وهو يلصق جبينه بجبينها هامساً:
_لكن ليس كما تظنين...الأمر كله لم يتعدَّ قلقي علي ابنة عمي ورفيقة طفولتي...لكنني بعدما اطمأننتُ لجسار هذا...لم يعد يشكل الأمر لي فارقاً...
تنهدت في حرارة وهي ترفع عينيها إليه لتهمس بعتاب وجل:
_يالخوفي من قلبك الذي ينسي حبه بهذه البساطة!!!
1
أطرق برأسه لحظات...
ثم عاد يرفع عينيه إليها هامساً بحزم:
_لم يكن حباً يا رقية...الآن فقط أدرك أنه لم يكن!!
أخفت وجهها في صدره ليردف هو بنفس الثقة:
_الحب الحقيقي لا ينتزعه منّا أحد...لأنه شفرة قلوبنا الخاصة...والتي لا تستجيب دقاتنا إلا لرموزها هي فقط...لو كان حباً لما حرمني منه خوف ولا طغيان....ولما حال بيني وبينه شئ...ولا حتي الموت...الحب والضعف نقيضان يا رقية...لا يجتمعان أبداً في قلب عاشق...
رفعت رأسها إليه ببطء...
وعيناها تلتقطان عاطفته الصادقة التي كانت تغزل خيوط النور بروحها دون مجال لشك أو زيف...
وابتسامتها تتسع تدريجياً علي شفتيها...
حتي تحولت لضحكة قصيرة تلألأ بها ثغرها وهي تهمس بدلال ملكيّ :
_وماذا يكون إذن في قلب العاشق؟!!!
ضحك ضحكة آسرة...
ثم داعب أنفها بأنفه ليهمس بمكر :
_تعاليْ لأخبرك!!
==================================================================
+
طرقت آسيا باب غرفته برفق فسمح لها بالدخول...
تقدمت نحوه ببطء تراقب التوتر الشديد علي ملامحه والذي عجز عن إخفائه...
حتي صارت أمامه تماماًّ فهمست بخفوت:
_هل أغضبتك في شئ؟!!!
ربت علي وجنتها برفق دون أن يجيب...
فأعادت همسها الوجل:
_منذ رحلا وأنت تتحاشي الحديث معي...هل أخطأتُ التصرف في شئ معهما؟!!!
تنهد في حرارة ثم أعطاها ظهره للحظات...
لا يدري ماذا يخبرها...
منذ أحس بأنه يكاد يفقدها وهو غارقٌ في حيرته...
مشاعره الجديدة نحوها تربكه...
هو لا يريدها معه...
لا يريدها أن تضيع عمرها هنا مع ظل رجلٍ يأبي خيانة حبه القديم...
وفي نفس الوقت هو لا يستطيع أن يتركها...
نعم...لا ينكر أنه تعلق بها حقاً...
لا يعنيه الآن ما معني شعوره...
بقدر ما يعنيه ألا تغيب عن عينيه لحظة واحدة ....!!!
1
قبض أنامله بقوة للحظات...قبل أن يسألها بصوت جاهد كي يظهر هدوءه:
_ياسين ابن عمك كان غاضباً للغاية...يبدو أن قصة زواجنا قد أزعجته....
أطرقت برأسها للحظة...
ثم سارت حتي وقفت قبالته لتنظر لعينيه قائلة بقوتها -المستحدثة-:
_لو كنتَ تعرف ياسين كما أعرفه لأدركتَ مدي صدمته اليوم بشأني...آسيا التي كان يعرفها ماتت حقاً منذ دخلت إلي هذه المزرعة...آسيا الآن لم تعد لديه سوي ابنة عمه فحسب....
اشتعلت عيناه وهو يسألها بنفس البرود الخادع:
_وهو ...ماذا يعني الآن لديكِ؟!!
أطرقت برأسها وهي تود الآن لو تصارحه بمشاعرها نحوه -والتي لا تدرك أنه يعرفها-...
لكنها لا تستطيع...
حتي وهي تعلم أنها تعشقه فوق العشق وأكثر...
خاصة بعد وقوفه معها اليوم...
لكن لازالت الحواجز بينهما قائمة....
وأعظمها...حبه الوفيّ لسمية!!!
والذي لا تريد أبداً أن تعكر صفوه بشوائب من إحساسه بالذنب....
خاصة وهي تشعر أن رحيلها عن هنا قد اقترب...
وأن دور كل منهما في حياة الآخر قد أوشك علي الانتهاء...
+
لهذا رفعت رأسها إليه لتهمس بابتسامة شاحبة:
_أنا لم أخجل من الاعتراف لكِ بأنني كنت يوماً أحبه...وبنفس القوة أخبرك اليوم أنه ما عاد عندي سوي ابن عمي فحسب...أنا تعلمت درسي جيداً...الحب الضعيف الذي لا يصمد في وجه الصعاب ليس حباً...بل هو مشاعر باهتة كجنين مشوه لن يُكتب له البقاء....الحب القوي -كحبك لسمية -والذي تحدي حتي الموت هو الحب الحقيقي الذي يستحق الخلود....
2
تنهد في حرارة وهو يشيح بوجهه...
فأردفت بنبرتها القوية:
_لا تخشَ علي "كريستالتك" فقد علمتها أنت كيف تحافظ علي قيمتها...فرَسك الجموح بدأت اليوم أول خطوة في طريق انطلاقها الطويل وستكمله لآخره...
عاد يلتفت إليها مبتسماً بإعجاب يمتزج بفخره...
فنظرت إليه نظرة طويلة....
ثم همست بشرود:
_حمزة سيتمكن من إقناع جدي بحل الأمر...أنا أثق بهذا...وحينها سيمكنني العودة إلي عائلتي واستعادة حياتي المفقودة...
+
سقط قلبه بين ضلوعه وهو يسمع هذا منها...
لا...لن يسمح لها أن تغادر المزرعة...
بل أن تغادر حياته...
ليس بعد الآن...
وهو يشعر بحبها له...
وبمشاعره الجديدة نحوها...
والتي تتملكه كل يوم أكثر!!!!
+
لكنها كانت غافلة عن كل هذا وهي تهمس له برجاء:
_لقد وعدتك أن أغادر هذا المكان كما دخلته...وسأفي بوعدي قريباً..سأعود لعائلتي وأتذرع بعملي ودراستي كي أبقي معهم طوال الأسبوع...وسآتي هنا يوم الجمعة فقط...كي لا يتشكك أحد في طبيعة علاقتنا....
زفر بقوة ثم هتف بضيق وهو عاجز عن الجدال:
_هذا أمر سابق لأوانه...لن ترحلي من هنا حتي أطمئن تماماً عليكِ....
هزت رأسها توافقه ثم عادت تهمس بتردد ممزوج بالخجل:
_لكن لي لديك رجاء واحد...
مد ذراعيه يمسك كتفيها وهو غارق في نظراتها الدافئة...
ثم أومأ برأسه منتظراً رجاءها...
فضغطت شفتيها بقوة تكتم انفعالها ثم همست بخفوت:
_حتي لو عدتُ لعائلتي ...سنحافظ علي صورة زواجنا الظاهرية ..طلاقنا ربما يعيد العداوة بين العائلتين...كما أنه سيحرمني من زيارتكم هنا ...وأنا لا أريد أن...
تهدج صوتها في عبارتها الأخيرة وهي تكتم بكاءها عاجزة عن إكمالها...
فضمها إليه بقوة وكأنه يتشبث بها للحظات طويلة....
قبل أن يهمس في أذنها بحرارة:
_لا تبكي بعد الآن أبداً...لقد اكتفيتِ من الحزن والدموع يا صغيرتي...من اليوم لن أري سوي ابتسامتك...ولن أسمع سوي صدي ضحكاتك ...أنتِ لا تستحقين أقل من هذا...
استسلمت لدفء صدره للحظات...
ثم ابتعدت بوجهها عنه لتمسح دموعها وتبتسم بضعف هامسة:
_حسناً...أعدك بهذا...
طافت عيناه علي ملامحها تطوقانها بحنان ...
ثم مد أنامله يتلمس وجنتها هامساً بفخر:
_اليوم شعرتُ بكِ كما تمنيتكِ دوماً...بمزيج القوة والرقة الغريب...تعرفين متي تكونين في خفة النسيم...ومتي تشتدين كهبوب الريح...
اتسعت ابتسامتها وهي تهمس بامتنان:
_لم أكن لأفعل لولا ثقتي أنك خلفي تدعمني ...صدقني لقد شعرت اليوم لأول مرة أنني لست يتيمة...لقد عوضتني عن حنان الأب وقوته ...
مال برأسه يقبل جبينها بعمق...
ثم همس أمام عينيها بصدق مس قلبها:
_سأكون لكِ دوماً كما تريدين...أباً وصديقاً وأخاً...لا يعنيني المسمّي ...سأكون جواركِ فحسب وهذا ما يهمني!!!!
=======================================
انتهى الفصل 💙
+