اخر الروايات

رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم نرمين نحمد الله

رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم نرمين نحمد الله


********

الفصل الثالث والعشرون:


+



كان جسار واقفاً أمام اسطبل الخيل يفكر بشرود...

لقد أخبره حمزة بشرط قاسم النجدي لإنهاء العداوة بين العائلتين...

ورغم أنه يتفهم رغبته في حفظ كرامة عائلة النجدي ...

لكن ما يطلبه ليس يسيراً...

ليس يسيراً علي الإطلاق!!!


+



شعر بها خلفه فالتفت نحوها ليبتسم بحنانه كعادته قائلاً:

_صباح الخير يا آسيا.

ابتسمت بدورها لتشرق ملامحها وهي ترد عليه برقة...

ثم ناولته قفازين يدويين من "الكروشيه" لتقول له بهدوء يخفي انفعالها:

_لقد وعدتُ ياسين أن أصنعهما له في العيد...لا أدري إن كنتُ سأكون هنا معكم أم لا...لو لم أكن هنا فأعطهما له نيابةً عني.

أشاح بوجهه لحظة في ضيق...

ثم عاد ينظر إليها قائلاً بعتاب :

_ألم نتفق أن هذا الحديث سابقٌ لأوانه؟!!

أومأت برأسها وهي تطرق برأسها إلي الأرض...

ماذا عساها تقول له ؟!!!

هي فقط تريد أن ترفع حِملها عنه...

تريده أن يطمئن أنها سترحل عن هنا كما وعدته...

تريده أن يتخلص من أشباح الذنب التي تدور علي ملامحه كلما رآها...!!!

نعم...هي تفهم مشاعره جيداً...

وبقدر ما تعتصر قلبها ألماً بقدر ما تزيد احترامها له...

لهذا ستبقي تحبه حتي ولو بلا أمل...

هذا رجلٌ يستحق عشقها حتي لو لم يكن لها!!!

أخذت نفساً عميقاً تتمالك به نفسها ثم عادت ترفع رأسها إليه متسائلة باهتمام:

_هل من جديد بشأن عائلتي؟! ألم يهاتفك حمزة حتي الآن؟!!

ربت علي كتفها برفق ثم أخبرها عن فحوي اتصال حمزة وشرط قاسم النجدي لقبول الصلح...

فغمغمت بارتباك:

_جدي طلب هذا؟!! لماذا يبدو الأمر وكأنه في موضع قوة؟!!!أنا بين يديك بالفعل وهو ليس له سلطانٌ عليك!!!

تنهد جسار قائلاً بشرود:

_لا تستهيني بقوة عائلتكِ يا صغيرتي...قاسم النجدي يدرك جيداً حجم قدراته ونحن تزوجنا دون علمه..لو أرادها حرباً بين عائلتينا فستكون حديث الساعة.

ارتجف جسدها رغماً عنها وهي تتمتم بخوف:

_إلي هذا الحد؟!!

عاد يربت علي كتفها وهو لازال علي شروده قائلاً:

_لهذا السبب هربتُ منذ سنوات ...لقد أدركتُ وقتها أنني واقعٌ بين شقيّ الرحي...عائلتك من ناحية...وعائلتي التي تطالبني بما لا أطيق من ناحية أخري.

عضت علي شفتيها وشعور الذنب ينتابها من جديد...

لتنظر إلي عينيه هامسة بندم:

_أنا آسفة يا جسار!

التفت إليها من شروده...

ليلتقط خيوط الذنب المتشابكة علي ملامحها فيقول بحنان آسر:

_لا تعتذري يا صغيرتي...أنتِ أعدتِ لي ماضيّ ...وما قيمة الانسان دون ماضيه؟!!!أنتِ رددتِ إليّ اسمي الذي افتقدته...ومن يدري؟!! ربما كنتِ سبباً في استعادتي لأهلي وبلدي ...فتكونين سرّ عودة جسار إلي الحياة .

ثم صمت لحظة ليردف بنبرة أكثر دفئاً:

_ستكونين بعثي بعد عدمي!!

اتسعت عيناها في ارتياع وهي تهتف بلهفة تمتزج بالخوف:

_هل تعني أنك ستنفذ لجدي شرطه؟!!! ستعود بقدميك إلي عائلتك بعد كل هذه السنوات؟!!لا...لا تفعلها يا جسار...سيكون هذا خطراً علي حياتك وحياة ياسين أيضاً...

ابتسم وهو يربت علي وجنتها ليقول بحزم حنون:


+




                

_هل ستعود "كريستالتي" للخوف من جديد؟!!!

دمعت عيناها وهي تهتف بانفعال:

_لست في حاجة لفعل هذا ...فلماذا تلجأ لهذه المخاطرة؟!!!!

نظر إلي عينيها طويلاً ثم أمسك كتفيها ليهمس بدفء:

_لأجلكِ أنتِ!

تجمدت بين ذراعيه وهي تري الصدق المشعّ في عينيه ببريق عاطفةٍ لم تجد لها مُسمّي...

حتي لو لم يكن شعوره نحوها حباً...

تكفيها هذه النظرة في عينيه...

نظرة تعدها بأمان الكون كله...

وتحتوي كل خوفها وحزنها بغلالة رقيقة من حنانه الآسر وقوته الرفيقة!!!

لهذا وجدت نفسها تهمس دون وعي:

_جسار...أنا...


+



قطعت عبارتها بصعوبة وهي تجاهد نفسها كي لا تنطقها...

لكنه قرأها في عينيها...

أكثر وضوحاً من شمس الظهيرة وأقوي من ضوء القمر وسط حلكة الليل...

وليته ما فعل!!!

شعوران متناقضان يشقان صدره الآن...

أحدهما يكاد يرجوها أن تكمل عبارتها...

أن تنطقها...

يشتاق لسماعها من بين شفتيها تداعب أذنيه بصوتها الرقيق كنسائم الفجر...

يريد التلذذ برؤية طيفها علي ملامحها الآسرة تواجهه بها دون خجل ودون خوف...


+



لكن شعوراً آخر يقطع عليه طريق سعادته بها...

يكاد يرجوها ألا تنطقها...

ألا تصدقها!!

بل...ألا تشعر بها من الأساس!!!

فهو لن يحتمل أن يكون سبب جرحها ...

لأنه موقنٌ أنه لن يكون لها!!!!


+



والعجيب أنها رأت كل هذا واضحاً في مرآة عينيه...

مشاعره الوليدة رغم تواريها المستتر خلف حجب كتمانه وصلتها صادقة...

لكنها كانت مغلفة -كعادتها-بطياتٍ من الأسف والذنب!!!

وهو ما تتفهمه تماماً رغم أنه يزيد تشققات أرضها الظمأي لحبه...

فهي تدرك بحق قيمة الحب العظيم الذي جمعه بسمية...

والذي لايزال قيداً عزيزاً علي نفسه!!!!


+



لهذا هربت بعينيها من عينيه وهي تستجمع قوتها -الملكية-الجديدة لتقول بنبرة أكثر تماسكاً:

_أنا ممتنةٌ لك كثيراً...أنا أعرف أنك تفعل كل هذا لأنني وصية سمية الأخيرة....


+



قالتها وهي تزيح ذراعيه من علي كتفيها برفق لتبتعد بضع خطوات معطية له ظهرها...

وهي تحاول السيطرة علي انفعالها في هذه اللحظة...

ولم يكن هو أفضل منها حالاً...

وهو -الآخر-يدرك مكنون نفسها الآن...

وما تحاول التظاهر به...


+



رفع رأسه للسماء للحظات يستجمع شتات نفسه...

ثم توجه إليها ليديرها نحوه قائلاً بقوته المعهودة:

_لا تقلقي...أنا سأتولي أمر عائلتي..

أومأت برأسها وهي تتحاشي النظر لعينيه ...

فابتسم في حنان وهو يسألها برفق:

_ما رأيكِ لو نخرج اليوم لشراء ملابس العيد لكِ ولياسين؟!!!

التفتت إليه في دهشة للحظة...

ثم ابتسمت رغماً عنها وهي تردد بارتباك لا يخلو من فرح:

_ملابس العيد؟!!! لي أنا؟!!

اتسعت ابتسامته ولم يملك أمام هذا الفيض من براءتها الممتزجة بالسعادة إلا أن يقبل جبينها هامساً بحنان:

_نعم يا صغيرتي...أريد أن نخرج اليوم في نزهة تتناسين فيها كل هذه الضغوط...أريدك أن تعودي اليوم طفلة مدللة لا تعرف سوي أن تطلب فتُجاب!!!

ضحكت ضحكة قصيرة ساحرة رقص لها قلبه طرباً...

وهو يشاهد فرحتها الصادقة في عينيها الرائقتين....

ليهز رأسه ثم يتنهد هامساً بابتسامة خلابة:

_آه يا آسيا!! هل تدركين قيمة ضحكتكِ النقية هذه؟!!!ليتها لا تغادر وجهكِ أبداً.....!!

=========================================================================

عادت آسيا من الخارج تتشبث بكنز مشترياتها الثمين...

وابتسامتها الحالمة ترسم الورد علي شفتيها...

كم كانت تحتاج لهذه النزهة الليلة مع جسار...

قلبها الظمآن للعاطفة كان يرتشف اهتمامه رشفة رشفة باستمتاع فائق...

لتتشربه خلاياها بنهمٍ ...

وتمتصه روحها باشتهاء!!!

كان الصغير قد استسلم للنوم في السيارة فحمله جسار حتي وضعه في فراشه بغرفته التي تشاركه هي فيها...

ثم التفت إليها هامساً بحنان:

_سعيدة؟!!!

ابتسمت ابتسامتها المهلكة-كما كان يراها-وهي تومئ برأسها إيجاباً...

فربت علي كتفها برفق ثم عاد يهمس جوار أذنها بمرح كي لا يوقظ الصغير:

_ما رأيك أن نلعب "الشطرنج" ؟!!! أشتاق لأن أغلبكِ كما كنتُ أفعل دوماً!!

وضعت كفها علي شفتيها تكتم ضحكتها التي أنارت حدقتيها....

ثم أومأت برأسها في حماس وهي تحتضن كيس مشترياتها...

فنظر إلي عينيها طويلاً...

ثم همس بنبرة دافئة:

_ارتدي الثوب الأزرق...أريد أن تكوني الليلة كأجمل مرة رأيتكِ فيها...

احمرت وجنتاها بخجل وهي تتحاشي النظر إلي عينيه ...

ثم أومأت برأسها ...

فقبل جبينها بعمق ثم همس بخفوت:

_سأنتظركِ بالخارج.

راقبت ظهره المنصرف حتي خرج وأغلق الباب خلفه ...

ثم تنهدت بحرارة وهي تفتح الكيس لتستخرج منه ثوبها الجديد...

وبعدها بدقائق...

كانت تتأمل صورتها في المرآة بمزيج من السعادة والخجل...

لكنّ غمامةً من الحزن الممزوج بيأسها قطعت عليها فيض شعورها الورديّ هذا...

فنفضتها عن روحها بسرعة وهي تهمس لنفسها بحزم:

_انسي كل شئ الليلة فقط...دعيها تكن ليلة خالصة من كل الهموم...


+




        


          


                

أخذت نفساً عميقاً استعادت به تماسكها...

ثم خرجت إليه في صالة المنزل حيث كان يرص قطع الشطرنج بشرود...

انتبه من شروده علي رائحة عطرها المميزة فالتفت إليها لتلتمع عيناه بشدة وهو يتأملها بافتتان...

كم يليق بها الأزرق الملكيّ الذي يبرز لون عينيها بفتنة طاغية...

مع شعرها الذهبي الذي أسدلته علي جانب واحد من رأسها وزينته برباطٍ من اللؤلؤ والورود الصغيرة....

ورغم أن الثوب لم يكن كاشفاً ولا ضيقاً...

لكنها كانت صورة مجسدة للسحر وهي تتقدم نحوه بمزيج من خجلها وقوتها -المستحدثة-لتقول وهي تتحاشي النظر لعينيه المفتونتين:

_أنتوي هزيمتك هذه المرة يا سيد جسار.

ابتسم وهو يطوقها بنظراته هامساً بنبرة دافئة:

_هزيمتي لأجلكِ نصرٌ...يا صغيرتي!!

ابتسمت بخجل وهي تحاول التركيز في رقعة الشطرنج أمامها وأناملها تتحسس القطع بشرود....

قبل أن تهمس بخفوت:

_تبدأ أنت أم أبدأ أنا؟!!!

غامت عيناه بعاطفته وهو يمد كفه ليتلمس أناملها برفق هامساً بنبرته الدافئة:

_أنتِ دوماً تبدئين.

رفعت إليه عينيها ببطء...لتلتقي عيناهما في حديث طويل...

قطعته هي بنظراتها الحائرة وهي تهمس بشرود:

_ودوماً أخسر!!

شبّك أنامله بأناملها وهو يحتضن وجنتها بكفه الآخر ليدير وجهها نحوه هامساً:

_أنا أشعر أنك ستكسبين هذه المرة.

ذابت نظراتها في سواد حدقتيه وهي تتمني لو يتجمد الكون كله الآن...

فلا شمس ولا سماء ولا هواء...

فقط هو ..

بحنان نظراته الذي يطوقها...

ودفء لمسته علي وجنتها...

والوعد الآسر الذي حملته همساته الآن:

_"كريستالتي" تستحق أن تملك الدنيا كلها بين كفيها.

ابتسمت لتشرق الشمس في ملامحها وهي تقول بشرود حالم:

_أنا لا أتمني سوي أن أنجح في عملي...أن أبني عالمي الذي اخترته بنفسي.

ثم تناولت "بيدقاً"خشبياً من علي رقعة الشطرنج تقلبه في يدها وهي تهمس بشجن:

_لا أريد أن أكون مجرد "بيدق" في لعبة...

ابتسم وهو يتناول قطعة "الملك" ليضعها في راحتها ويطبق أناملها عليها هامساً بثقة:

_بل ستكونين "الملك" الذي تتحرك لأجله كل البيادق!!

ضحكت ضحكة خلابة وهي ترمقه بنظرات امتنانها الغارقة بعاطفتها ...

قبل أن تنتزع نفسها انتزاعاً من كل هذا لتبدأ اللعب بثقة....

لم تدرِ كم مرّ عليهما من الوقت....

وكذلك هو...

لقد استغرقا وقتاً في اللعب هذه المرة أكثر بكثير من المرات التي سبقتها...

ومع هذا كانا يشعران أكثر بالاستمتاع...

حتي انتهيا...

لقد صدق حدس جسار وكسبت آسيا لأول مرة...

لعلها لا تكون الأخيرة!!

==========================================================================


+



وقف يراقبها خلسة من خلف الجدار في ساحة الجامعة...

لقد هاتف فريدة ليطمئن عليها هذا الصباح فأخبرته أنها قد خرجت لقضاء بعض المصالح المتعلقة بنشاطها الخيري في الجامعة...

ورغم ضيقه -الخفي-من شعوره بأنها تجاوزت أزمتها معه وستمضي في حياتها كما كانت تقول...

لكنه لا ينكر إحساسه بالإعجاب نحوها...

وهو يراها هكذا واقفة في صلابة تحدث رفقاءها بملامح جادة مسيطرة...

وهو أكثر من يعلم عن معاناتها الآن...

ظل واقفاً مكانه للحظات يملأ عينيه من ملامحها التي اشتاقها...

ثم ابتسم بسخرية مريرة...

حذيفة النجدي ساحر النساء الذي كان يتلاعب بهنّ كما الدمي...

أتي عليه اليوم الذي يرقب فيه حبيبته- التي طردته من حياتها- خلسةً من خلف جدار!!!

أطرق برأسه لحظات...

ثم ألقي عليها نظرةً أخيرة وهو يكاد ينصرف...

عندما لمح بلال الهاشمي يقترب منها مبتسماً...

بلال الهاشمي؟!!!

متي عاد هذا؟!!!

ولماذا الآن بالذات؟!!!

انعقد حاجباه بغضب وهو يهمّ بالتوجه نحوهما...

لكنه تيبس مكانه وعقله يبعث إليه بإشارات الهدوء...

ساري لم تعد جاريته المسمّاة باسمه ...

هو أعتقها بنفسه!!!

والآن دورها لتختار حياتها كيفما شاءت...

ومع من شاءت...

حتي لو كان خيارها في غير صالحه...

هو سينتظر أن تكتب هي نهاية قصتهما...

أو -من يدري- ربما بدايتها الجديدة!!!!


+




        

          


                

قبض أنامله بقوة يتمالك غضبه...

ثم أشاح بوجهه عن صورتها مع ذاك الرجل وهو يغادر مبني الجامعة بخطوات مندفعة...

استقلّ الحافلة العامة كما صار يفعل منذ طرده قاسم النجديّ من جنة أملاكه...

ليعود بعدها إلي منزله البسيط الذي يخص والدته...

والذي لولاه لنا كان له مأوي بعيداً عن سلطان جده!!

بدل ملابسه وهو يشعر بثقل هائل يجثم علي صدره ...

عندما سمع رنين الجرس...

قام ليفتح الباب بتثاقل ليجده حمزة ...

اتسعت عيناه بدهشة للحظات...

فلم يتوقع أن يأتي حمزة إليه...

حذيفة كان أصغر أحفاد النجدي وحمزة كان أكبرهم...

ومع ظروفه الخاصة التي اضطرته للسفر طوال هذه السنوات فقد كانت علاقته بحذيفة شديدة الهشاشة...

لهذا كان عجب حذيفة كبيراً من زيارته هذه...

لكنه ابتلع دهشته ليرحب به ويدعوه للدخول...

جلس حمزة جواره مربتاً علي ركبته وهو يسأله بود ظاهر:

_كيف حالك ؟!!

أومأ حذيفة برأسه في إجابة لسؤاله...ثم التفت إليه يسأله بحذر:

_هل أرسلك جدي؟!!

ابتسم حمزة وهو يقول بمرحه الحنون:

_كل هذه السنوات مع قاسم النجدي ولم تفهمه يا حذيفة؟!!!جدك وإن كان يحترق قلقاً عليك فلن يبادر بإعادتك إلي العائلة ...علي الأقل الآن.

عاد حذيفة يومئ برأسه موافقاً...

ثم سأله بسخرية مريرة:

_هل جئتَ تعاتبني علي ما فعلت؟!!

نظر إليه حمزة للحظات...

ثم قال باحترام حقيقي:

_بل جئتُ أقابل حذيفة...الذي تركته طفلاً علي أعتاب المراهقة وعدتُ لأجده صار رجلاً حقيقياً يعرف كيف يتخذ قراراً ويدافع عنه.

اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول بمرارة:

_ويخسر كل شئٍ في النهاية!!!!

هز حمزة رأسه نافياً وهو يقول بثقة:

_من تحدث عن النهاية الآن؟!!!..أنت لازلت في البداية يا أخي.

أطرق حذيفة برأسه فأردف حمزة بنفس النبرة الواثقة:

_لا تخبرني أنك لا تملك خطة للغد...وأن قرارك كان مجرد خطوة طائشة بلا تفكير.

تنهد حذيفة بحرارة ثم قال بعد لحظات:

_أنا لا أملك شهادة ولا خبرة في أي شئ...سوي مهارتي في مجال الحاسب الآلي...أحد أصدقائي يمتلك مركزاً لعلوم الحاسبات...أفكر أن أعمل معه.

صمت حمزة لحظاتٍ يعقل كلامه...

ثم قال له بحزم:

_لا...أنت ستعمل معي أنا...أنا أملك مالي الخاص بعيداً عن جدي...سنستأجر شقة صغيرة نفتتح فيها مركزاً كهذا ويمكنك الاستعانة بخبرة صديقك...أنا شريكٌ بمالي وأنت بالفكرة والمجهود...

التمعت عينا حذيفة بحماس وهو يجد حلاً سريعاً لمشكلته...

لكن حمزة لوح بسبابته في وجهه قائلاً بلهجة عملية:

_هل تعلم من أين جئتُ؟!!هل سمعت شيئاً عن "الحساب الانجليزيّ"؟!!

ابتسم حذيفة بإدراك فيما أردف حمزة بنفس اللهجة العملية:

_لا حسابات لقرابة أو معزة...هو مشروع أستثمر فيه مالي بهدف الربح...وليس لمساعدتك لو كنت تتصور هذا...ادرس الأمر بدقة...وامنحني تفاصيل مقنعة...حتي نبدأ في أقرب وقت...

اتسعت ابتسامة حذيفة وهو يرمقه بامتنان...

فقام حمزة من مكانه ليقول له بلهجة أكثر رفقاً:

_أنا أثق بك يا حذيفة...وأوقن من قدرتك علي البدء من جديد لتصنع نفسك كما ترجو أنت  لا كما يرجو قاسم النجدي.

قام حذيفة بدوره ليقف قبالته وهو يهز رأسه ...

فربت حمزة علي كتفه وهو يقول بثقة:

_أحياناً يوهمنا القدر بنهاية ...لندرك بعدها أنها كانت البداية...بل..أفضل بداية..!!!!

==============

_أنا أتفاءل بك!!

هتفت بها مارية بمرحها المميز أمام حمزة الذي كان يزورها في عملها الجديد بالمشفي مع زياد...

فابتسم حمزة بحنان لتردف هي بانطلاق مرح:

_منذ عدتَ إلي حياتي وكل الأبواب الموصدة تتفتح أمامي واحداً تلو الآخر...وها أنذا أجد عملاً مع زياد هنا...

مط شفتيه في استياء غاب عنها وهي تكمل حديثها المندفع:

_زياد يمكنه أن يجد لك عملاً معنا هنا...المشفي هنا ممتاز ....وستكون فرصة رائعة لنعود للعمل معاً من جديد...

زفر زفرة قصيرة وهو يشيح بوجهه...

فغمغمت بارتباك:

_ما الأمر يا حمزة؟!! ألا تريد العمل هنا؟!! تريد أن تكون لك عيادتك الخاصة؟!!!

نظر إليها طويلاً وعيناه تحملان عتاباً لا تفهمه...

فاقتربت منه خطوة وهي تهمس بعاطفتها التي تعرف دوماً طريقها لقلبه:

_حمزة...ماذا بك؟!!

ظلت عيناه علي غيومهما الداكنة...

فعضت علي شفتيها وهي تهمس كأنها طفلة مذنبة:

_حمزة...أنت غاضبٌ مني؟!!!

ابتسم رغماً عنه وهو يشيح بوجهه عنها للحظة...

ثم عاد يلتفت إليها وهو يهز رأسه قائلاً:

_هل تعلمين كم مرة قلتِ "حمزة" بلهجتكِ المهلكة هذه منذ بدأنا الحوار؟!!! كيف يمكن أن أغضب منكِ وأنتِ ترددينها هكذا فتذيب قلبي بعذوبتها...؟!!!

ابتسمت وهي تميل رأسها بدلال متحاشية النظر إليه...

لكنه أردف بضيق حقيقي:

_لكنني لا أستسيغ بقاءكِ هكذا في بيت واحد مع ابن عمك هذا...خاصة أنك تقولين أنه يريد الزواج منكِ...والآن تعملين معه أيضاً؟!!!

استعادت قوتها الأصيلة وهي ترفع كفها أمامها لتعد علي أصابعها قائلة بوضوح:

_أولاً...زياد لا يريد الزواج مني...عمي هو من يريد وزياد لا يوافقه...ثانياً...لا مكان لي هنا للإقامة فيه سوي بيت عمي إلا إذا كنت تفضل أن أقيم وحدي...ثالثاً...عملي معه هنا فرصة لا تعوض بالنسبة إليّ حتي لا أنسي ما تعلمته ولن أضيعها لأوهام في عقلك...

ثم صمتت لحظة لتردف بعتاب قوي:

_رابعاً...من المفترض أنك أنت بالذات تعرف أخلاقي وليست محل شكٍ هنا...

انعقد حاجباه بضيق وهو يقول بحزم:

_ليس شكاً يا مارية...

التقطت فيوض عاطفته الهادرة بعينيه الآن ...

والتي جرفتها في تيارها لتبتسم من جديد وهي تهمس بدلالٍ ساحر:

_إذن...تغار يا...حمزة؟!!!

ضغطت علي حروف اسمه متعمدةً بغنج ...

فعاد يبتسم وهو يحاول التشاغل عن فتنتها بالمرئيات حوله...

ليعود بعدها هامساً أمام عينيها بحنانه المشبع بعشقه:

_وعلي من أغار سوي علي ماريتي...؟!!!التي تأسرني براءتها...وتهلكني فتنتها...ويبهرني عقلها...

ضحكت ضحكة آسرة طويلة...

ثم هزت كتفيها وهي تلوح بسبابتها هاتفة بصرامة مصطنعة:

_الزم حدودك دكتور حمزة...وقوفك معي هكذا سيثير الأقاويل ويبعد الخاطبين!!!

ضحك بدوره وهو يشبك كفيه خلف ظهره قبل أن يقترب برأسه قليلاً وهو يقول بحزم حنون:

_أيّ خاطبين؟!!! أنتِ صرتِ لي منذ زمنٍ يا ماريتي...هل تنكرين؟!!!

عادت تهز كتفيها وهي تهرب من عينيه لتقول بدلال:

_لم أمنحك كلمتي بعد...!!!

اعتقل نظراتها جبرياً بقوة عاطفته وهو يهمس بسيطرة رجوليّة:

_لم تمنحيني كلمتك...إنما منحتِني قلبك!!!

ظلت أسيرة عاطفته الهوجاء بعينيه للحظات...

ثم أومأت برأسها في خجل وهي تقول لتغير الموضوع:

_ماذا فعلت بشأن ابنة عمك؟!!!

كاد يجيب سؤالها عندما سمع صوتاً خلفه :

_كيف حالك يا مارية؟!!

التفت بحدة نحو مصدر الصوت ...عندما هتفت مارية بمرح لا يخلو من ارتباك:

_أهلا زياد...دكتور حمزة ....كان ...زميلي في لندن وهو صديق لوالدي...

اتسعت عينا زياد في إدراك وهو ينتبه لهوية حمزة...

لاريب أنه الخاطب الذي جعل والدته تستدعيه من سفره بجزع...

وكم يحمد له هذا !!!!


+




        

          


                

لهذا ابتسم وهو يصافحه قائلاً بمودة:

_أنا زياد ...ابن عم مارية ...لو كانت لم تخبرك عني...

هز حمزة رأسه بتهذيب وقد أذابت مودة زياد تحفظه السابق نحوه...

ليقول بأدب:

_حمزة النجدي...

اتسعت عينا زياد للحظة وهو ينتبه للقب عائلته...

ثم سأله باهتمام:

_هل أنت من عائلة النجدي التي تقيم هنا في (........)؟!!!!

قالها وهو يذكر له عنوان منزل قاسم النجدي الذي ذهبت إليه مارية من قبل لزيارة جوري....

فأومأ حمزة برأسه إيجاباً...

عندما انتبهت مارية للاسم والعنوان فاتسعت عيناها بصدمة ...

وهي تتلقي الرجاء الخفيّ في عيني زياد...

والذي لم ينتبه إليه حمزة -لحسن الحظ-فسألت حمزة بتماسك أجادت ادعاءه:

_هل تعرف جويرية النجدي؟!!!


+



ابتسم حمزة وهو يرفع حاجبيه قائلاً بدهشة:

_جوري ابنة عمي...هل تعرفينها؟!!!

تجاهلت مارية النظر لزياد حتي لا تثير شكوك حمزة...

ثم قالت بابتسامة شاحبة:

_الدنيا ضيقة كما يقولون...أنا أعرفها منذ كانت تفتح المكتبة ....

أومأ حمزة برأسه...

فاختلست مارية نظرة لزياد الذي كان يتوسلها بعينيه أن تسأله عنها...

فعادت تسأل حمزة بحذر:

_هل استعادت قدرتها علي النطق....لقد زرتها مرة في بيتها...وكانت....

تلعثمت في عبارتها الأخيرة...

فابتسم حمزة وهو يهز رأسه بعدم تصديق مغمغماً:

_أنتِ زرتِ منزلنا أيضاً؟!!!

اغتصبت ابتسامة باردة وهي تومئ برأسها...

فتنهد حمزة قائلاً بشرود وهو يسترجع مشكلة جوري:

_نعم...استعادت قدرتها علي النطق بفضل الله...

اتسعت ابتسامة مارية وهي تري بعض الرضا الممتزج باللهفة علي ملامح زياد...

ثم عادت تسأل حمزة باهتمام:

_وهل هي سعيدة مع زوجها؟!!!

أطرق حمزة برأسه للحظات...

ثم رفعه إليها ليقول باقتضاب:

_طلقها!!

اتسعت عينا مارية بصدمة...

بينما ظهر بريق الأمل مشعاً في عيني زياد الذي جعلته كلمة حمزة "اليتيمة" يبدو وكأنه بُعث بعد عدم!!!!

لقد أعاد القدر له جوريته كما كان يتوقع...

زوجها -البغيض-لم يقدر علي احتوائها كما كان يظن...

لكن...ما الذي حلّ بها؟!!!

مارية تسأل حمزة إن كانت استعادت قدرتها علي النطق!!!

متي وكيف فقدتها؟!!!

ولماذا لم تخبره مارية عن هذا؟!!!

هي أخبرته أنها بخير وسعيدة مع زوجها...

ولهذا استجاب لنداء عقله وسافر ...

لو كان قد علم بمُصابها ما كان قد رحل أبداً!!!!


+



اتسعت عيناه بصدمة وهو يتساءل في نفسه...

ما الذي جعل جوري تفقد النطق؟!!!

أتراهم أجبروها علي هذه الزيجة؟!!!

نعم...هذا هو التفسير المنطقي الوحيد...

هم غصبوها قهراً علي هذه الزيجة فلم تحتمل ألمها وفقدت النطق...

والآن استعادته عندما طلقها ابن عمها هذا!!!!

وهذا يعني أنها ....

معقول؟!!!

لازالت ...تحبه ؟!!!


+



ابتسم تلقائياً وهو يصل لهذا الإدراك الأخير...

مع هذه الشعلة من الأمل التي اخترقت ظلمات روحه ...

تعده بغدٍ تعوض حلاوته مرارة الأمس...

وتعيد له ما سرقه الحزن من عمره دونها...

وتلون أحلامه التي بهتت بعدها بلونها الزاهي المثير ...

لون الجوري!!!!


+




        

          


                

======

_سأعود يا جوري!

هتف بها عمار علي الهاتف بحزم ثم أردف ببعض الرفق:

_ليس فقط لأنني افتقدتك....لكن لأكون جوار جدي في هذه الأزمة...بعد تطورات قصة آسيا الأخيرة....

همست جوري بعاطفتها الجياشة:

_ربما بعد حلّ مشكلة آسيا يكون الوقت مناسباً لتفاتحه بشأننا من جديد...أو ...فلنفعلها معاً...دعنا نذهب إليه سوياً حتي يتأكد من أنها رغبتي أنا الأخري...

زفر عمار زفرة قصيرة ثم قال بضيق:

_ومنذ متي يكترث جدي لرغباتك؟!!! ابتعدي عن هذا الأمر حتي لا تصيبك لعنات سخطه...أنا سأتحمل وحدي تبعات الأمر...

صمتت للحظات قبل أن تهمس برقتها الفطرية:

_هل تعرف كيف أشعر الآن؟!!!

كان دوره هو ليصمت الآن صمتاً يخفي طوفان عاطفته واشتياقه...

لتردف هي بنبرة ذائبة:

_أشعر أنني محميّةٌ بك...هل تدرك قيمة هذا الشعور لمن عاشت عمرها كله تفتقده؟!!!

تنهد في حرارة دون رد...

فأكملت بنفس النبرة:

_أرجوك يا عمار...بحق كل اللحظات الرائعة التي جمعتنا...لا تجعلني أفقد شعوري هذا ..كُن دوماً أماني وسندي...عِدني ألا أخافك من جديد...

ازدرد ريقه ببطء وهمسها يخترق روحه باكتساح...

كم يود الآن لو يكون معها فيخفيها بين ذراعيه يسقيها عاطفته مشبعة بأمانها الذي ترجوه ...

قطرة قطرة حتي ترتوي...

كم يود لو يستقر بها علي شاطئ الحقيقة بلا أسرار ولا خفايا ولا ظنون....

بدلاً من أمواج الشك والحيرة التي تتلقفهما معاً ...

كم يتمني لو يبدأ معها كتابة قصتهما الحقيقية بسطور واضحة ...

ويمزق كل صفح الماضي التي تلطخت كلماتها بدموع الحزن والندم!!!!


+



طال صمته الصاخب فهمست باسمه مترقبة...

ليسألها هو بمزيج من الحزن والألم:


+



_لازلتِ تخافينني يا جوري؟!!

أغمضت عينيها بقوة وهي تهمس بصدق:

_أنت اختزلت خوف العالم وأمانه في عينيك وحدك...لم أعد أخشي سواك ...ولا أجد أماني إلا عندك...فماذا عساني فاعلةٌ معك سوي أن أستجير بك ...منك...؟!!!

عاد يتنهد من جديد وهو يكاد يستحلفها أن تحكي له الحقيقة...

هذا فقط هو ما يطلبه...

يريد أن يعرف تفاصيل هذا الأمر الذي يقتله ببطء...

كيف يمكنه تجاوز الماضي ونسيان كونها كانت ستهرب مع رجلٍ غيره لا يعرفه...؟!!!

رجلٍ سمعه يدللها باسمها علي هاتفها ويستعجلها في الحضور لأنه ينتظرها...!!!

رجلٍ كانت ستمنحه طواعيةً ما أخذه هو منها اغتصاباً...

ودفع ثمنه بعدها غالياً؟!!!!!

كيف ينسي كل هذا؟!!!

بل...كيف يتناساه؟!!!!

لكنه مع هذا سيصبر حتي يعود...

سيعرف كيف ينتزع منها اعترافاتها كلها علي صدره...

سيذيبها عشقاً بين ذراعيه حتي يبوح قلبها بكل أسراره...

سيطوقها بغلالةٍ رائقةٍ من عشقه الدافئ تقيها برد خوفها الذي يخنقها...

ويخنقه معها!!!!

لهذا تسرب همسه المشتعل يحمل إليها كل مشاعره الثائرة:

_انتظري حتي أعود يا جوري...لدينا الكثير لنتحدث عنه...

ابتسمت وهي تهمس بدلال :

_عندما تراني تنسي لغة الكلام كله ولا تذكر سوي لغة عاطفتك...

ضحك ضحكة قصيرة ثم همس بلهجة مسيطرة:

_بأي لغة....وبكل لغة....سأصل للحقيقة معك يا جوريتي....

ارتجف جسدها رغماً عنها وهي تشعر بالخوف يتملكها من جديد...

خاصةً مع توجسها من رد فعله عندما يعلم عن كذبتها بخصوص حملها...

لهذا ضغطت علي شفتيها بقوة ثم همست بحرارة:

_لا أريدك أن تصدق سوي حقيقة واحدة...جوريتك لك وحدك يا عمار...وستبقي لك أبداً...

زفر زفرة قصيرة ثم همس بخفوت:

_تصبحين علي خير...


+




        

          


                

أغلقت معه الاتصال وهي تشعر بانقباض قلبها...

لن تصفو سماؤها معه من الغيوم حتي تصارحه بكل شئ...

هو لن يرضي بأقل من هذا...

لكنها لا تستطيع...

حتي لو تفهّم هو كذبتها بخصوص حملها وأنها فعلتها فقط لتستبقيه معها...

لن يتفهم موضوع زياد أبداً!!!!

سيبقي حجر عثرةٍ بينهما كما يبدو!!!!


+



قطعت أفكارها عندما سمعت صوت طرقاتٍ خافتة علي باب غرفتها...

فتحت الباب لتجد فريدة تخبرها أن حمزة ينتظرها بالخارج...


+



ارتدت حجابها بسرعة وخرجت إليه ...

فالتفت لفريدة هاتفاً بمرحه الحنون:

_كوب الشاي بالقرفة المميز من يديكِ يا عمتي...لم أنسَه بعد كل هذه السنوات من الغربة...

ابتسمت فريدة وهي تقول بحنانها المعهود:

_لازلتَ تذكر يا حمزة..؟!!! كانت أياماً جميلة يا ابني...

اتسعت ابتسامة حمزة وهو يقول بصوتٍ يكسوه الحنين:

_لم أنسَ شيئاً يا عمتي...خاصةً حنانك أنتِ...لقد كنتِ أمي بعد أمي...

هزت فريدة رأسها وهي تغمغم بخفوت:

_رحمها الله يا ابني....يعلم الله مكانتك عندي كيف هي...


+



قالتها وهي تربت علي كتفه بحنان قبل أن تذهب للمطبخ لتعد له مشروبه -المميز-

فالتفت نحو جويرية يسألها برفق:

_كيف حال جوريتنا؟!! إلامَ وصلتِ مع عمار؟!!!

ابتسمت جويرية في امتنان وهي تقول بخجل:

_سيحدث جدي عندما يعود...

أومأ حمزة برأسه في رضا...ثم سألها بحذر:

_أنتِ راضيةٌ بعمار يا جوري؟!!! لو عدتِ إليه هذه المرة فلن يكون لكِ فرصة أخري بالخلاص...فتأكدي من رغبتك قبل أن يفتح هو الموضوع مع جدي ثانية...

اتسعت ابتسامتها وهي تقول بيقين وصله صادقاً:

_لا تقلق يا حمزة...عمار هو أفضل من يناسبني...أنا أثق بهذا...الآن أثق به تماماً...


+



ابتسم حمزة بحنان وهو يري سعادتها وعاطفتها في عينيها...

ثم تذكر شيئاً فسألها باهتمام:

_هل تعرفين طبيبة تدعي مارية...؟!! شقراء هي ...وابن عمها طبيب يبدو أنه يعرف عائلتنا جيداً لأنه ذكر لي عنوان منزلنا...

ثم ذكر لها الموقف الذي حدث مع زياد ومارية اليوم بتفاصيله....

فاتسعت عينا جويرية بصدمة وهي تهمس بجزع:

_زياد عاد؟!!!

عقد حمزة حاجبيه بشك وهو يقول بارتياب:

_يبدو أنكِ تعرفينه جيداً...

ازدردت ريقها بتوتر وهي تحاول التظاهر بالتماسك لتقول كاذبة وبابتسامة مصطنعة:

_كان زبوناً مميزاً للمكتبة....طالما اشتري مني الكتب...ومارية كذلك...

أومأ حمزة برأسه وهو يشعر أنها تخفي أكثر مما باحت به...

بينما استجمعت هي كل قوتها لتسأله بثبات:

_من أين تعرفهما؟!!!

ابتسم وهو يلوح بسبابته قائلاً بمرح:

_هذا هو سريّ معك...لا تخبري به أحداً...

ثم صمت لحظة ليردف بعدها:

_سأتقدم لخطبة مارية عندما تتجاوز العائلة ظروفها الحالية....

شهقت مارية بجزع فانعقد حاجباه بشدة وشكّه يزداد...

لتتمتم هي بعدها بفتور:

_مبارك يا حمزة...مارية فتاة مميزة حقاً!!!

تأمل ملامحها بتفحص ثم قال بحذر:

_جوري...هل تخفين شيئاً؟!!!

هزت رأسها نفياً بسرعة وهي تتمتم بارتباك:

_لا لا أبداً...لماذا تظن هذا؟!!!


+




        

          


                

أطرق برأسه للحظات..

ثم عاد يرفعه إليها قائلاً بحزم لا يخلو من حنان:

_لن أضغط عليكِ للبوح بما لا تريدينه...لكن تذكرّي فقط أنني سأساعدكِ دوماً بكل ما أملك متي ترغبين...

هربت بعينيها من عينيه وهي تطرق برأسها مبهوتة...

عندما عادت فريدة بكوب الشاي لتدخل مع حمزة في حوار مرح طويل غابت عنه جوري تماماً مع فيض أفكارها المختنقة بخوفها...

لقد عاد زياد...

ومما سمعته من حمزة الآن تعرف أنه قد علم عن طلاقها....

فهل تراه يحاول الاتصال بها مرة أخري؟!!!

حتي لو لم يفعل...

لو تمت خطبة حمزة ومارية فستلتقي به حتماً...

ولو حاول التعرض لها فسيشك عمار في الأمر...

خاصةً لو تذكر أن زياد هو الطبيب الذي زارها يوماً!!!!!


+



دمعت عيناها بقهر وهي لا تدري كيف تتصرف الآن...

حدسها يخبرها أن زياد سيحاول معها من جديد ظناً منه أنها الآن حرّة....

فماذا عساها تفعل؟!!!!

يالله!!!!

يجب أن تتصرف بسرعة...

قبل أن يعود عمار ويلاحظ شيئاً...

ومضت الفكرة في رأسها فجأة فالتمعت عيناها بتصميم...

وهي تعتزم تنفيذها غداً...

نعم....لعلها تنقذ الأمر بسرعة...

لعلها تستطيع!!!!

====================================================================

_لقد فقدت ولدين من أبنائي بسبب ابنتيكِ يا فريدة...

هتفت بها راجية بنبرة عاتبة وهي تجلس مع فريدة في شقة الأخيرة...

فابتسمت فريدة بمرارة وهي تهمس بحزن:

_وأنا مُبتلاةٌ في ثلاثِ بناتٍ يا راجية...


+



هزت راجية رأسها وهي تغمغم وسط دموعها:

_قلبي يكاد ينفطر علي حذيفة وعمار....لا أصدق أنهم لن يعودا لمنزل العائلة بعد...سيفارقا حضني للأبد...

انتقلت فريدة لتجلس جوارها وهي تربت علي كتفها قائلة بصبر:

_قلبي يخبرني أن الغمّة ستنزاح قريباً...ما ضاقت إلا وفُرجت ...


1



كادت راجية ترد عليها عندما دخلت ساري عائدة من الخارج...

تجمدت مكانها عندما رأت العمة راجية تبكي جوار والدتها...

فهي تعلم أن الجميع يلومونها علي موقفها مع حذيفة...

خاصة راجية التي لن تسامحها لأنها كانت السبب في نبذه من العائلة...

لكنها مع هذا تقدمت نحوهما لتلقي السلام برفق...

ردت فريدة سلامها بفتور ...

بينما أشاحت راجية بوجهها دون أن ترد....

فأطرقت ساري بوجهها للحظة...

ثم عادت لغرفتها وهي تغلق الباب خلفها لتستند عليه بظهرها...

رفعت كفها أمام وجهها لتلتمع دبلته ببريقها أمام عينيها ...

لا...لم تخلعها...

ولن تفعل!!!

لو كانت امتلكت القوة لتنتزع دبلته من إصبعه هو...

فهي للأسف عاجزة عن أن تفعل المثل !!!!

حتي وهي توقن أنه لن يكون لها بعد ما حدث...


+



تنهدت في حرارة...

وهي تتقدم لتجلس علي مكتبها مستخرجة كشوف المحتاجين التابعة لجمعيتها...

قضت بعض الوقت تنسق مهامها وجداول زياراتها لهم حسب الحاجة....

وهي تحاول التشاغل بآلام الناس عن آلامها هي...

حتي انتهت مما تفعل فقامت لتبدل ملابسها...

تمددت علي فراشها تحاول النوم دون جدوي...

حتي خانتها عيناها بنظرة نحو خزانة ملابسها حيث أخفت دميته هناك بعدما قررت ألا تنام في حضنها كما اعتادت...

عضت علي شفتيها بقهر وهي تدير وجهها نحو الجانب الآخر بحدة...

يجب أن تتجاوز هذا الأمر...

يجب أن تتخلص من أعراض هذا الحب المريض الذي يسمم حياتها...

ستعتاد أن تنام دون دميته...

تماماً كما تحاول الاعتياد علي فراقه ...

ستحارب أشواقها إليه بكل قوتها...

ومن يدري...

ربما يأتي اليوم الذي تنتزع فيه دبلته من إصبعها دون ألم....


+




        

          


                

لقد منحها القدر فرصة للاختيار...

وهي اختارت...

وستدافع عن اختيارها للنهاية...

مهما كان الثمن!!!

=============================================================

كانت مارية جالسةً في غرفة الكشف الخاصة بها في عملها الجديد...

عندما سمعت طرقاتٍ خافتة علي الباب...

رفعت رأسها بترقب تنتظر الطارق...

أو بالأدق...الطارقة!!!

نعم...لقد كانت جويرية!!!


+



ارتفع حاجباها بدهشة للحظة ثم افترّ ثغرها عن ابتسامة رقيقة وهي تهتف بترحاب ظاهر:

_مرحباً يا جوري...ما هذه المفاجأة السارّة؟!!!

تقدمت جويرية منها بخطواتٍ مرتبكة وهي تغمغم بتوتر:

_مرحباً يا مارية...عفواً...لقد اضطررتُ لهذه الزيارة...لكنني لن أستطيع البقاء طويلاً حتي لا ينتبه أحد في المنزل لغيابي...

أشارت لها مارية بالجلوس وهي تتأمل ملامحها بتفحص...

وقد بدت لها هذه المرة مختلفة كثيراً عما رأتها في المرة السابقة...

ربما ازدادت ملامحها تورداً وجمالاً...

لكنها كذلك تبدو أكثر ثقةً وقوة!!

رغم أطياف الخوف التي تبدو ظلالها الرمادية علي وجهها...

خاصةً عندما أردفت جويرية بحسمٍ لا يخلو من توتر:

_أريدكِ أن تخبري زياد أن ينسي أمري تماماً....حتي لو التقاني مصادفةً في الأيام القادمة لو تمت خطبتكِ لحمزة...فلا أريده أن يتحدث إليّ ولو بكلمة...لا أريد المزيد من المشاكل...

ابتسمت مارية وهي تقول بحنان:

_ولماذا تكون علاقتكما باباً للمزيد من المشاكل؟!!! لماذا لا يكون زياد تعويض القدر عما عانيتِه أنتِ في زواجكِ السابق؟!!!

هزت جويرية رأسها وهي تهتف بانفعال:

_أنتِ لا تعلمين ظروفي...أخبريه بهذا فحسب...لا أريده أن يتعرض لي بأي صورة...

تنهدت مارية بيأس وهي تراقب انفعالها...

وشعورها بالشفقة نحوها يزداد...

هي تعرف كم أحبها زياد...

ولا يزال!!!

لقد بدا كالطفل في ليلة العيد عندما علم عن طلاقها...

بل إنه غضب من مارية واحتد عليها بحديثه عندما علم أنها أخفت عليه خبر فقدانها للنطق بعد زواجها...

ولولا سعادته بخبر طلاقها وخلاصها من زواجها -الكارثي-هذا لما سامحها بسهولة...

وهي تشعر أن حباً كحب زياد قادرٌ علي مداواة جرح جوري حتي لو أنكرت جوري نفسها هذا...


+



لهذا قالت مارية بعد صمت قصير :

_زياد لن يصدقني بعدما علم أنني أخفيتُ عليه خبر فقدانكِ للنطق وما حدث معكِ بعد زواجك...لهذا أقترح أن تحدثيه أنتِ بنفسك ...

ثم أردفت ببطء حذر:

_أنتِ وحدكِ من يمكنكِ إقناعه بأن يبتعد عن طريقكِ ويفقد الأمل...

كانت تقولها وهي تشعر ببعض الأمل لو تحدثت جوري مع زياد...

فربما قارب هذا بينهما...

عندما تشعر جوري بصدق عاطفته ورغبته الحقيقية في احتواء آلامها...


+



لكن جويرية شهقت بعنف وهي تهتف بتوتر:

_لا ...لا يمكنني الحديث معه....لن أفعلها أبداً...

ثم قامت واقفة وهي تردف بانفعال :

_أخبريه أنتِ يا مارية أرجوكِ....أنا لا....

أغمضت عينيها وهي تشعر بدوارٍ مفاجئ...

وتلاحقت أنفاسها كثيراً حتي ما عادت قادرة علي التنفس...

فقامت مارية لتتوجه نحوها وهي تهتف بجزع:

_ماذا بكِ يا جوري؟!!!

ترنحت جويرية وهي تتمسك بكتفيها تلقائياً...

قبل أن تشعر بالأرض تدور حولها بسرعة وهي تسقط مكانها...

وبعدها بدقائق...

أفاقت جويرية من إغماءتها القصيرة علي صوت مارية الحنون :

_حمداً لله علي سلامتك!!

تلفتت حولها بدهشة للوهلة الأولي...

لتجد نفسها لازالت في غرفة الكشف فغمغمت بصوت ضعيف:

_ماذا حدث؟!!!

ثم تأوهت بضعف ومارية تسحب سنّ الإبرة من ذراعها وهي تقول ببساطة:

_سآخذ منكِ عينة دم لإجراء بعض التحاليل...حتي نطمئن عليك...

هزت جويرية رأسها وهي تحاول ازدراد ريقها الجاف هامسة :

_لا داعي للقلق...هذه الحالة تنتابني غالباً عندما أتعرض لانفعال زائد...أنفاسي تتلاحق وتزداد سرعة ضربات قلبي حتي أفقد وعيي...

قالتها وهي تتذكر عندما أصابتها هذه الحالة بعد وفاة آسيا...

وليلة زفافها علي عمار...

وآخرها اليوم...

لكن ألا يُحتمل أن يكون لإغمائها اليوم سببٌ آخر؟!!!!


+




        

          


                

تألقت عيناها ببعض الأمل وهي تغمغم بلهفة:

_تحليل الحمل في الدم يكون دقيقاً حتي لو كان الحمل في أوله ....صحيح؟!!!

عقدت مارية حاجبيها وهي تتمتم باستنكار:

_حمل؟!!!! 

التفتت نحوها جويرية بانفعال وهي تقول :

_أريد اختبار حمل سريع...

عادت مارية برأسها للوراء وهي تتأملها مصدومة...

حمل؟!!!

لو كان هناك حملٌ فهذا سيزيد تعقيد الأمور...

ياإلهي...


+



حملها هذا قد يجعل عائلتها تعيدها قسراً لزوجها السابق...

فماذا ستكون ردة فعل زياد عندما يعلم عن هذا؟!!!

زفرت زفرة حارة...

ثم ربتت علي كف جويرية هامسة برفق:

_حسناً يا جوري...تعالي هنا غداً في نفس الميعاد...وسأخبركِ بالنتيجة....

===========

_ماذا تقول؟!!! تزوجت حفيدة قاسم النجدي؟!!!

هتف بها عمه غيث القاسم في استنكار وانطلقت همهمات غاضبة في مجلس العائلة الذي انعقد سريعاً فور عودة جسار وعمه إلي بلدتهما بعد كل هذا الغياب....

تأمل كساب وجوه الجميع بتفحص ...

رغم السخط المرتسم علي الوجوه لكنه يشعر بالارتياح..!!!

نعم...منذ علم أن غيث القاسم صار هو كبير العائلة وهو قد علم أن الأمور ستؤول للخير ...

فهو يعرف طبيعة غيث المادية جيداً...

والتي ستجعله يرحب بإنهاء العداوة بين عائلتي النجدي والقاصم في سبيل التفرغ لتجارته وأرضه بعيداً عن صراعات الدم...

لهذا كان يعرف أنه يحرز هدفاً أكيداً عندما قال بحزم:

_إغلاق صفحة الثأر هذه مصلحةٌ للعائلة وحفظٌ لأموالنا وأرواح أبنائنا .

ازدادت حدة الهمهمات المنفعلة بين مؤيدٍ ومعارض...

وجسار يقلب بصره بينهم بحذر...

حتي خبط عمه غيث بعصاه علي الأرض بقوة فانخرست الألسنة وساد الصمت فجأة....

خفق قلب جسار ترقباً وهو ينتظر كلمة عمه....

تلك الكلمة التي لا يتوقف عليها مستقبله هو وآسيا فحسب....

بل مستقبل ياسين الصغير أيضاً...

لقد انكشف المستور وعاد جسار وابنه لدائرة الضوء...

ولو عادت عجلة الثأر تدور فستحصد كل الرؤوس في طريقها ...

صغيرها وكبيرها...

لهذا تشنجت قبضته المضمومة وهو يراقب ملامح عمه المتجهمة عندما قال باستهجان:

_تهرب من بلدك وأهلك وواجبك طوال هذه الأعوام خوفاً وجبناً...ثم تعود الآن لتطلب منا أن نصم العائلة كلها بالعار ونذهب إلي قاسم النجدي طالبين الصلح؟!!!!!

كظم جسار غضبه بصعوبة...لكنه ظهر علي وجهه الذي احمر بقوة مع بروز عرق جبينه بدماء الحمية...

هو لم يهرب خوفاً ولا جبناً...

هو فعلها ليقطع هذه الحرب المتبادلة بين العائلتين والتي كان يسقط بسببها خير شباب البلدة....

فعلها ليشعر بالأمان بعيداً عن هذا الجو المحتقن بالضغينة والأحقاد...

فعلها وهو موقنٌ من صحة قراره ولو عادت به الأيام فسيفعلها من جديد...

هناك خطٌ رفيع فاصل بين الشجاعة والحماقة...

وبين الحذر والجبن...

وهو يعرف أنه كان ولايزال واقفاً علي هذا الخط لم يتجاوزه!!!

لهذا رفع رأسه وهو يقول لعمه بحزم لا يخلو من توقير:

_لقد جئتُ أطلب دعم عائلتي راجياً مصلحة الجميع...فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عمي.

ضاقت عينا غيث القاصم وهو يتأمله بمزيج من الغضب والتفحص...

فتدخل كساب في الحوار قائلاً بذكاء:

_لو تذكر يا غيث ...أنا الأكبر سناً...وكان من المفترض أن أتولي أنا زعامة هذا المجلس مكانك.

تألقت عينا غيث بغضب وهو يلتفت نحو كساب بحدة....

فابتسم كساب في نفسه وهو يشعر بقرب نجاح خطته...

لهذا أردف بثقة:

_لكنني أثق في سداد رأيك...لهذا أرجو أن تستمع لكلمتي قبل أن تصدر حكمك.

عادت الهمهمات الساخطة من الحضور الغاضب تدوي في المجلس...

لكن غيث رفع كفه عالياً فعاد السكون بعد لحظات...

ثم خبط بعصاه علي الأرض عدة مرات متتالية قبل أن يقول ببطء:

_قل ماذا عندك!

تنهد كساب بحرارة ثم قال بحزمٍ متعقل:

_لقد تزوج جسار حفيدة النجدي وانتهي الأمر...ذهابنا إليه مجرد إرضاء بسيط للرجل بعدما حدث هذا دون علمه...هذا أهون تعويض عما حدث...وليس تقليلاً من شأن العائلة...

كز غيث علي أسنانه وهو يهتف بغيظ:

_وماذا كان الداعي لهذه الزيجة من الأساس؟!!!

كاد جسار ينفعل بالرد عليه...

لكن كساب ربت علي ركبته بقوة قبل أن يقول هو بحزم أقوي:

_أنا الذي أشرتُ عليه بهذا كي نجبر عائلة النجدي علي الصلح.

التفت إليه جسار بحدة...

لكن كساب أردف بنفس النبرة القوية:

_نعم...نحن عائلة القاصم من أجبرنا عائلة النجدي علي الصلح بهذه الزيجة...والآن يريدون منا الذهاب إليهم كترضية بسيطة لحفظ ماء وجوههم ونحن لسنا أقلّ كرماً من أن نفعلها.

ساد الصمت للحظات بعد كلمات كساب التي أصابت أهدافها...

وأطرق جسار برأسه مخفياً ابتسامة إعجابه...

العم كساب عرف كيف يلعب علي الوتر الصحيح...

لقد أرضي حمية آل القاصم وجعل الأمر يبدو لهم كما يريدون...

انتصار جديد علي عائلة النجدي!!!

وفي نفس الوقت استنفر نخوتهم ومروءتهم التي يعرفها ليجعلهم يوافقون علي الذهاب بأنفسهم للصلح..

ماكرٌ أنت أيها الكهل الطيب...!!!


+




        

          


                

بينما صمت غيثٌ لبضع دقائق مقلباً بصره بين جسار وكساب...

قبل أن يقول بحسم:

_غداً بعد صلاة العشاء أعطيك كلمتي الأخيرة.

==============================================================

عاد  جسار مع عمه كساب بسيارته بعدما أنهي مهمته في بلدته بنجاح...

صحيح أن الثمن الذي دفعه كان باهظا لكنه ليس بنادم...

نعم...عمه غيث القاصم كان هو الوحيد الذي وقف في صفهما أمام العائلة...

ليخرس جميع الألسنة المعارضة....

ومن حسن حظه أن غيث القاصم هو الذي صار كبير العائلة بعد أبيه...

لأنه -وعلي الرغم من حبه الشديد للسيطرة والتملك-يزن الأمور بعقله بعيداً عن التعصب والقبلية....


+



لكن ماذا عن الثمن الذي اضطر لدفعه كي يرضخ الجميع لطلب الصلح....؟!!!

الثمن كان تخليه الكامل عن إرثه من أبيه ...

ليس فقط في المال والأرض...

لكن في المكانة كذلك!!!

جسار القاصم وأولاده من بعده لن تكون لهم كلمة في مجلس العائلة....

نعم...لقد قال له عمه غيث بالحرف:

_أنت اخترت أن تكون غريباً منفياً فاقبل قدرك وقدر أولادك من بعدك!!

لكنه مع كل هذا يشعر بالرضا....

هو كان زاهداً في المال والأرض والمكانة منذ زمن...

ولا يزال...

كل ما كان يعنيه هو آسيا !!!

كيف يعيدها لعائلتها وحياتها مرفوعة الرأس محفوظة الكرامة...

كما أن هذا الصلح لن يعود بالخير علي آسيا فحسب...

لكنه سيطمئن أخيراً علي ولده ياسين...

نعم...

ستُغلق دفاتر الثأر القديمة للأبد...

وينام الجميع آمنين مطمئنين بلا خوف من غدٍ...

وهذا هو المقابل الثمين الذي يهون أمامه كل شئ!!!


+



وجواره كان عمه كساب يفكر في شرود...

من كان يقول أنه بعد كل هذه الأعوام...

تنتهي قصة الثأر هذه هكذا بتقدير المولي عز وجل...؟!!!!

من كان يخبره أن ابنة فريدة التي عاش مخلصاً لحبها طوال هذه السنوات ربما تكون سبباً في إعادتها إليه؟!!!

من كان يواسي قلبه الذي عاني عذاباته وحده طوال هذه السنوات بأن حصاد الصبر قد يكون أروع مما تمني؟!!!

نعم...الآن يمكنه الحلم بها من جديد...

حلماً مزيناً ببعض الأمل هذه المرة...

بعدما خنقته مخالب اليأس عمراً!!!


+



قُطعت أفكاره عندما وصل بدر لمدخل المزرعة...

فترجل من السيارة ليقول له بشرود:

_سأذهب إلي غرفتي ...أحتاج لأختلي بنفسي قليلاً...


+



قالها وهو يسرع الخطا نحو غرفته يكاد قلبه يسبقه إلي قلادتها التي احتفظ بها طوال هذه السنوات...

لتبقي شاهدة علي غرامها الذي لم تزده الأيام إلا اشتعالاً....

ويريدها اليوم أن تشهد كذلك علي فرحته بقرب تحقيق حلمه...!!!

راقب جسار انصرافه بابتسامة متفهمة وهو يدرك شعوره الآن...

عمه الذي ترك كل شئ خلفه منذ سنوات من أجل امرأة...

رغم أنه يعلم أنها تكرهه الآن ظناً منها أنه من قتل زوجها...

لكنه بقي علي عهد قلبه معها...

فياله من وفاء...

وياله من حب!!!


+



تنهد في حرارة وهو يدلف إلي داخل المنزل الكبير...

ولم يكد يغلق الباب خلفه حتي وجدها تندفع نحوه من غرفة الصغير لتلقي نفسها بين ذراعيه وهي تهتف بلهفة باكية:

_عدتَ يا جسار؟!!! الحمد لله...الحمد لله...


+



ضمها إليه بقوة وهو يشعر بارتجافها الخائف بين ذراعيه...

لتمتزج ابتسامته الحانية بعاطفته الدافئة الآن وهو يربت علي ظهرها هامساً بحنان:

_لا تخافي يا صغيرتي...جسار وفي بوعده معك....وكل شئ سيكون علي ما يرام...

ابتعدت عنه وهي تملأ عينيها من ملامحه بشغف...

لم تشعر بالخوف في حياتها كلها كما شعرت به في الساعات السابقة...

كانت تخشي عواقب عودته لعائلته بعد كل هذه السنوات...

وبعد فراره من التزامه -القهريّ-بالثأر...

وليس هذا فحسب...

لكن قصة زواجه من حفيدة غريمهم اللدود...

وطلبه -المتعنت -بأن يذهبوا إليه بأنفسهم في بيته طالبين الصلح!!!


+



عقلها كان يخبرها أن موافقتهم علي الأمر ستكون مستحيلة...

لكن هذا لم يكن ما يؤرقها...

بل خوفها الشديد علي جسار من بطشهم لو أرادوا به سوءاً!!!!


+



احتضن وجنتها برفق وهو يطفئ نيران خوفها بفيض حنانه الغامر هامساً بتأثر:

_كنتِ خائفةً إلي هذا الحد؟!!!

ربتت بكفها علي كفه المحتضن لوجنتها هامسة بلهفة:

_دعك مني وأخبرني كيف صارت الأمور معك؟!!!


+



زفر زفرة قصيرة...

ثم مضي يحكي لها ما حدث هناك  ...

حتي انتهي فهتفت هي بانفعال:

_هذا ظلم...يأخذون مالك وأرضك وأنت الذي تعود إليهم لتمنحهم الأمن بعد خوف كل هذه السنوات؟!!!

هز رأسه قائلاً بتعقل:

_إنهم لا يفكرون هكذا يا صغيرتي...أنا في نظرهم هاربٌ جبان ...لكن كل هذا لا يهم...ما يعنيني الآن هو سلامتكِ أنتِ وياسين...

ازدردت ريقها ببطء وهي تتعلق بعينيه هامسة:

_متي ستذهبون لجدي؟!!

أطرق برأسه قائلاً باقتضاب:

_غداً إن شاء الله...لقد هاتفتُ حمزة واتفقت معه ...


+



ابتعدت عنه خطوة وهي تقول بمزيج من الترقب والقلق:

_هل...ستأخذني معك؟!!

قبض أنامله بقوة وهو يرفع رأسه لأعلي للحظات...

ثم عاد ينظر إليها قائلاً بحزم:

_لا...ليس الآن...ليس قبل أن أطمئن تماماً....


+



ابتعدت خطوة أخري وكأنها تمهد لنفسها الفراق الذي تشعر أنه آتٍ لاريب....

وهي تتشبث بنظراته كمن يلاحق السراب في بيداء قاحلة...

نظراته التي تحمل الآن حديثاً لا تفهمه...

وما عاد يجديها أن تفعل...

لقد اقتربت النهاية كثيراً...

اقتربت بأسرع مما توقعت...!!


+



وأمامها كان هو يقرأ استجداءها -الملكيّ-بعينيها...

نعم..ملكيّ...!!!

نظراتها كانت تحمل حباً صادقاً لاريب فيه ...

حباً يقرع باب قلبه الموصود بقوة جبارة...

لكنها كانت تحمل مع هذا الحب هالاتٍ من قوتها -المستحدثة-تحذره من أي نظرة شفقة !!


1



خاصةً عندما ابتعدت خطوة لاحقة لتغتصب ابتسامة باهتة وهي تقول بتماسك:

_لم أكن أحلم أن ينتهي الأمر بهذا الكمال...غداً أعود لعائلتي وعملي ودراستي...ظننتُ أن الخروج من هذه المزرعة سيكون نهاية شعوري بالأمان ...والآن أراه بداية جديدة مزدانة بالوعود...

تعلقت عيناه بعينيها اللتين غامتا خلف سحب داكنة من دموع تناقض حديثها المدّعي...

وقدماها تختلسان خطوة خلفية جديدة...

لتردف بلهجة أقوي لكن بصوت متهدج هذه المرة:

_الآن تنطلق الفرس بجموح في طريقها بلا عوائق....


+



خفق قلبه بعنف وهو يشعر بخطواتها المبتعدة ...

كل خطوة تحكم وثاق قيده -الجديد-معها أكثر...

وليس العكس!!!

ليجد نفسه يتقدم نحوها ...

ليقطع كل الخطوات التي ابتعدتها بخطوة واحدة...

حتي أمسك كتفيها بقوة هامساً أمام عينيها بدفء:

_وأنا معكِ حتي تكملي الطريق!!

******

انتهى الفصل


+




الرابع والعشرين من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close