اخر الروايات

رواية حصنك الغائب الفصل الثامن عشر 18 بقلم دفنا عمر

رواية حصنك الغائب الفصل الثامن عشر 18 بقلم دفنا عمر



رواية حصنك الغائب 
بقلم دفنا عمر 
الفصل الثامن عشر! 
____________

+


" روحي استلمي الكوبون يا بلقيس! "

+


أراد أبيها أن يختبر المزيد من رد فعلها.. هل تستجيب لتروي أبوته العطشى لتعافيها؟ وجاءته الإجابة سريعًا وهو يراها تنهض متوجه إليه.. إلى من تعرفه.. من لا تخافه.. ولا تخاف في وجوده شيء! 

+


راحت تقترب وكلما دنت منه كلما انفصل عن حاضره وأصبح محيطهما ساكن الحركة، متجمد برواده الحاضرين گ لقطة تعرض على شاشة لا يتحرك بها سوى تلك الفاتنة التي تتهادى إليه بخطوات عزفت على أوتار ثباته فبعثرته وصار فُتات.. عسل عيناها يتألق ويكاد يسيل من حدود عيناها ليتدفق على وجنتيها، تطالعه بابتسامته مهلكة..وما أن وقفت أمامه حتى بسطت كفها الرقيق تطالب بورقتها المحتضنة حروفها.. حروفها التي تشابكت بأصابعه قدرا.. قدرًا لا يفهمه..قدرًا حيره..ولا يعرف لما تُنسج حولهما تلك المصادفات گ خيوط عنكبوت.. نعم دعاها من خلال أبيها ليختبر تأثيرها عليه لينفي لعقله أنها تستحوذ على تفكيره، وأنه حين رآها بحلم قصير الليلة الفائتة.. لا يعني هذا شيئًا ..مجرد حلم عابر.. لكنه الآن ينهزم مع همسها الضعيف وهي تغمغم له بخفوت شديد.. شديد لدرجة أنه لم تلتقطه أذنيه.. ماذا كانت تقول؟! فليسألها دون تأخير.. هي فرصته ليسمع صوتها عن قرب و………… 

7


( أنت جريت قبل ما تاخد هديتك يا يونس، أنت كمان كسبت كوبون بأسمك تحضر بيه مع أسرتك ثلاث أيام متتالية) قام أبيه تلك المرة يستلمه مع بعض عبارات الشكر! 

+


صوت عامر نحر فرصته الوحيدة أن يسألها عن ماذا كانت تهمس! وهل تعرفه قبلا؟ وهل……. كم سؤال وود طرحه لمعرفة جوابه .. لكن الفتاة أخذت ورقتها ورحلت.. تركت بالهواء عبقها الذي يشبه عبقه.. لتتصاعد درجات حيرته ولتلتهب جذوة غموضها أكثر وأكثر..! 

+


وعاد صوت عامر يصدح من جديد: 

+


_ لحسن الحظ ان الفايزة التالتة معانا، والدها يبقى " السيد عاصم أبو المجد" اللي مشاركنا ببصمة هنا بمنتجاته الغذائية المميزة..ودلوقت بهني جميع الفائزين مرة تانية وشكرا لمشاركتكم احتفتلنا المتواضع لمرور عامين على مشروعنا اللي كبر بثقتكم فينا.. وبإذن الله انتظروا المزيد وكل مميز مننا..!
……………… ..
بينما عامر يحدث عاصم ، كان الأخير بملكوت أخر ..حدقتاه التقطت رحيل ظافر ورصد قبلها توتره ونظراته لابنته.. ابنته التي تبدل حالها منذ خطت قدميها هذا المكان، وكأن فك شفرتها لا تُحل إلا هنا.. عيناها لا يضوي عسلها إلا حين ترى ظافر.. البسمة لا تفارق شفتيها، تجاوبها وهي تخط أسمها بوعيٍ اعتقد انه لن يعود لها بتلك السهولة.. كل مرة يُحضرها لمحيطه تحدث بحالتها طفرة.. ربما الطبيب لديه حق بظنونه، ظافر وبلقيس تلاقوا بطريقةٍ يجهلوها.. لكن حتمًا سيعلم كل شيء بوقت قريب.. قريب جدًا..!
_______________________

+


_ وحشني صوتك يانور عيني.. اتكلمي بقى يا بلقيس.. قولي وحشتيني يا ماما..! 

+


تريد ان تتكلم وتستجيب لتلك الباكية المشتاقة لسماع صوتها، لكن شيئًا ما يعجزها..يُلجمها.. وكأن حروفها مقيدة ولا تتحرر إلا حين تراه..!

+




                
أحاطت وجهها براحتيها: هفضل مستنية اللحظة اللي هتحكيلي فيها كل حاجة جواكي وتفتحيلي قلبك زي زمان يا بلقيس.. أنا اللي عمرك ماخبيتي عني حاجة.. ودايما كنتي كتاب مفتوح قدامي..!

+


أُظلمت عيناها وتجمد عسلها بسحابة دموع وخبأت وجهها بصدر والدتها تحتمي بها گ القطة ..ليت صفحاتها تُشرع من جديد لتقرأها كما كانت.. ليتها لم تخدع.. ليتها لم تكذب..هي تستحق النفي بعالمها الذي عاقبت به ذاتها.. ابتعدت حتى لا تسبب بأذاهما من جديد بسذاجتها.. ابتعدت لأكتشافها قذارة البشر وقباحتهم..!

+


أدركت خوفها فاشتدت ذراعيه حولها وهي تهدئها:  متخافيش ياحبيبتي انتي في حضن أمك وفي عين ابوكي.. محدش هيقدر يأذيكي تاني..!

+


وجففت باقي عبراتها وقالت بمرح:  إيه رأيك أما بابا يجي من عند الدكتور بتاعك نسهر كلنا ونشوف فيلم زي زمان؟ 

+


هزت رأسها بابتسامة، فقبلتها دُرة بعمق وراحت تتحدث معها لتعيد لحظات دافئة حين كانا يثرثران بشتى الأحاديث..! حتى إن لم تحدثها لكن يكفي نظراتها المتفاعلة معها.. لم تعد غائبة وشاردة..وهي أكيدة أنها بيومٍ قريب ستملأ العالم حولهما بشدو صوتها وضحكتها..! 
______________

+


يعني ظافر هو منقذ بلقيس يا دكتور؟!"

+


أردف الطبيب بنبرة قاطعة:  بعد اللي شوفته بنفسي امبارح في المطعم..من ردود أفعال بلقيس، أكاد أجزم إن هو اللي انقذها.. وبشكلٍ ما تواجد معاها يوم الحادث.. وده كلام مبقاش فيه شك عندي يا سيد عاصم! 

+


شعر بالتخبط من حديث طبيب ابنته، وكل الدلالات بالفعل تشير لصحة ما يقول الأول! 

+


فاستطرد الطبيب حديثه: 
_ انت مش قولتلي ان ظافر أصله من المنصورة؟
عاصم بإقرار:  أيوة هو قال كده! 
_ يبقي واضحة، هو كمان عارفها.. لأنه امبارح حاول يتجنبها.. ولما اسمها فاز في السحب اتوتر جدا.. صدقني كل اللي بقوله بنيته على أساس ردود افعال مستحيل اكون أخفقت في تقيمها گ طبيب متخصص..في رابط ما بيجمع ظافر وبلقيس! 

+


_ طب والعمل دلوقت..بنتي فعلا مش بتتحسن غير في وجوده، مش معقول كل يوم اخدها عنده، احل الموضوع ده ازاي؟ أكلمه مثلا واشرحله ولا إيه بالظبط؟!

+


الطبيب: أكيد هنتكلم معاه..ومن ناحية توديها هناك فهي هتروح فعلا..لأن حسب فوزها في السحب هتروح 3 أيام بشكل طبيعي ومجاني! 

+


_ يعني قصدك اروح بيها هناك.. وده هيبان طبيعي! 

+


ضوت عينه بغموض مغمغما: 
لأ، مش انت اللي هتوديها يا سيد عاصم! 
الأخير بتساؤل:  أمال مين؟
_________________________

+


منذ وفاة والدته وهو بحال لا يسر.. أنطوى وأصبح لا يستجبب لمحاولتها بإخراجه من عزلته وحزنه.. حتى حين أتى شقيقه " أيهم" لم يستطع مساعدته.. وبعد فترة اضطر للعودة لعمله وأسرته وحياته وهو يوصيها بشدة على " رائد" وأنه سيتواجد بأي لحظة يحتاجون فيها إليه..وطلب منها الصبر، فحتمًا ستنقشع الغمة ويذهب البائس عن قلب زوجها ويعود إليها.. وهي صابرة.. لن تكل أو تمل من مساعدته واخراجه من قوقعة حزنه وكآبته.. مهما عاندها وقاومها ستكون جدارًا صلب يتلقى كل زوابعه وعواصف عضبه إلى أن يهدأ ويسلم لأمر الله وقدره..!

+



        

          

                
غاب في غفوته كثيرًا.. ستوقظه حتى يأكل ويتناول دوائه! 
عبرت إليه وراحت تداعب خصلات شعره بنعومة، ثم تمرر أناملها على ظهره بحركات تعلم أنها تروقه، هي عاداته التي تعلمها.. انحنت عليه بصدرها وتمتمت جوار أذنه بحنان:  حبيبي رائد.. يلا كفاية نوم بقى ياقلبي.. قوم عشان تاخد علاجك وكمان. تقعد معايا شوية انا عملتلك حاجة بتحبها هتفتح نفسك! وكمان هنقرء سوا قرءان لمامتك..! دي الهدية اللي هي بتستناها روحها كل يوم منك!  

+


تسرب صوتها الحاني لمدارك عقله..فتح جفنيه ببطء وطافت عيناه عليها وتذكر والدته كيف كانت توقظه بهذا الدفء.. أصبحت زوجته تتفنن بكل شيء يمكن أن يشعره بالراحة والسكينة.. ولا يعرف هل تعلم مسبقا ما يحبه.. اما هو من صار يستقبل كل ماتجود به براحة.. اعتدل بنصف جلسه والحزن يشوب وجهه على فراق والدته التي رغم فقدانه كل شيء لم يفقد شعوره بحنانها حتى لو أظهر لها العكس دائما.. ليتها ظلت معه.. ليتها ظلت حتى يتذكر كيف كان يعاملها.. لكنها رحلت وتركته!  لتزداد غربة روحه دونها..! 

+


تنبأت بمسار أفكاره، فأحاطت وجهه الكئيب براحتيها وقبلت جبينه قبلة طويلة، ثم أمالت رأسه على صدرها لتبثه دفء مشاعرها وهي تغمغم: 
كل حاجة هتعدي يا رائد..مامتك هتفضل موجودة بروحها حواليك ودعواتها هتفصل باقية ليك..! ثم رفعت رأسه وراحت ترسل لعيناه فيضًا من عشقها له وهو يتلقى نظراتها الحانية گ قطرات الندى التي تروي شيئا داخله مستمعا لوعودها الصادقة: 

+


أوعي تحس بالغربة وانا معاك.. أنا وطنك يا رائد.. أنا موجودة عشانك انت وبس..حتى لو طوفان دمر كل ماضيك..يمكن يكون ده احسن ليك ومنتهى الخير اللي انت مش عارفه..مين قال ان لو الذاكرة رجعت هتكون مبسوط؟ مش يمكن تكون اتعس إنسان وتقول يا ريتني ما افتكرت!  أرضى بنصيبك مهما الدنيا خدت منك ناس حبيتها..احمد ربنا انه عوضك.. انا استنيتك كتير اوي يا رائد..مكانش عندي أمل اشيل اسمك في يوم، عشان كده مش هضيعك ابدا ولا هسيبك تحس بالضياع وانا موجودة.. انا الحاضر اللي هتعيشه.. أنا ذكرياتك الجاية واللي اوعدك إنها هتكون جميلة..ساعدني اعديك من المحنة عشان انا وانت في مركب واحد.. طول ما انت ضايع انا ضايعة وتايهة! 

+


خدرته مشاعرها الجارفة ولآليء دموعها تتساقط على بشرتها الناعمة.. ولمست كلماتها أوتار قلبه..ووجد نفسه گ المسحور بعروس البحر التي شقت الموج الساكن بشاطئه واقتحمت عزلته..وبدون مقدمات جذبها لأحضانه وغمرها بقبلات متلاحقة كأنه أيضًا يعدها بألا يضيعها أو يستسلم للضياع بعد الآن..وبلحظات انغمسا سويًا بعالم من متعتهما الحلال.. فنسى حزنه وهو ينهل من بحرها ولم يهاب الغرق.. ونست هي بانصهارها بين ضلوعه من تكون! 
__________________________

+


أرقدت رأسه على قدميها التي لا تكسوها سوى غلالة شفافة وأناملها تغوص بخصلاته السوداء وعيناها تتأمل استرخاءه الشارد وهو يطالع نقطة بعيدة.. متذكرة بنشوة لحظاتهما الماضية كيف كانت!  وكيف ذاب معها دون حواجز بمشاعر بدت كل يوم تتأصل جذورها داخله تجاهها.. لمساته ونظراته وكلماته جميعها تنكهت بحنانه وكأنه يخبرها انه استسلم لقدره عازفًا عن فك طلاسم ماضيه مكتفيًا بحاضره معها..! 

+



        
          

                
_ من امتى وانتي بتحبيني؟ 

+


باغتها بسؤاله وهو يطالعها من زاوية رقاده كطفل يتوسط برأسه حِجر والدته بدلال.. فتألق الليل بعيناها وهي تجيبه بنبرة لمست قلبه بصدقها: 
_ من يوم ماعرفت ان في حاجة في الدنيا دي اسمها حب..وقد ما فرحت بحبك وخبيته جوايا.. انكويت بالغيرة عليك وانا بشوفك بتتنقل بين بنات حوا ومش حاسس بحبي وشايفني صديقة..! كنت بتقطع اما بشوفك مع غيري او احس انك ممكن تحب حد.. كنت عايشة بالأمل انك تحبني انا.. رفضت كل اللي كان بيتقدملي.. كنت بشوفك أبو ولادي الوحيد يا رائد!  

+


رفع كفه ليمرر انامله على وجهها الناعم بحنان وهو يغمغم بصوت يطرب خلاياها الهائمة به: 
متحاسبنيش على ماضي مش فاكره.. لكن حاسبيني من دلوقت! 

+


_ احاسبك على إيه؟

+


همست بخفوت فاعتدل ليجيب سؤالها وعيناه تطوف على تقاسيمها بحنان ورغبة لا تهدأ كلما بصرها: 
_ حاسبيني على الحاضر معاكي.. حاسبيني لو بصيت لغيرك بعد كده.. وأكيد ده مش هيحصل! 
_ ليه؟
تسائلت بلهفة مترقبة كلماته، فجاد عليها بما لم تتوقعه وهو يقول: 
اللي آوتني في عز ضياعي وعملت من حضنها حصن حماني وطن بدد غربتي..  ووهبت ليا روحها سكن عن طيب خاطر..وداوت بصبرها جروحي وأوجاعي واتحملت كل عواصفي وغضبي وحزني، ازاي اشوف غيرها بديل؟!

+


غامت رؤيتها بدموع تسربت من ينبوع عينيها، فتتبعتها أصابعه وكلما جففها زاد سيلها غزارة..فغمسها لتتوسط قلبه وهو يهدهدها برقة تاركًا لمشاعرها العنان على صدره.. هو يفهم ما تشعر وأصبح يشاطرها كل شيء..حتى رغبتها التي اشتعلت بين احضانه شاركها جنونها وهو يتلقى جوع روحها بنهم مماثل! ليتحدا بكيان واحد لن ينفصل إلا بنزع الروح عن جسديهما المتلاحمان! 
_____________________

+


تراقب طفلتها وهي تلعب بين أبناء العم وضحكتها تملأ الأرجاء وتطرب قلبها وعيناها تفيض حبًا، وهمست لزوجها الذي يجاورها: 

+


_كان نفسي بلقيس ماتبقاش جميلة كده يا عاصم.. اللي عانيته في حياتي بسبب جمالي خلاني خايفة عليها لما تكبر ماتلاقيش واحد يصونها.. خايفة تكون مطمع لحد معندوش ضمير..! 

+


تمتم وعيناه لم تحيد عن صغيرته: 
متخافيش يا دُرة انا مستحيل اخلي مخلوق يأذيها ، هتفضل تحت عيني طول الوقت..ثم برقت عيناه بتمني: تعرفي نفسي في إيه يا دُرة؟ 
_ نفسك في أيه؟
استدار وعاد يطالع ابنته التي تتمايل على أرجوحة صغيرة بمساعدة عابد:  نفسي يزيد ابن اخويا هو اللي يتجوز بنتنا لما تكبر.. مافيش حد ممكن استأمنه عليها غيره.. انا بحب يزيد أوي.. وعارف معدنه وأخلاقه وشهامته.. يزيد رغم انه طفل بس عنده القدرة يهتم بكل اللي حواليه برجولة مبكرة ..مبالك اما يكبر؟ لو يزيد اخد بنتنا هموت وانا مرتاح في قبري! 

+


هتفت بجزع:  بعد الشر عليك ياحبيبي.. ربنا يحفظك ليا انا وبنتك.. ثم استطردت تشاطره الرغبة:  ياريت ياعاصم.. انا كمان بحب يزيد وبتمنى نفس أمنيتك يارب تتحقق ويزيد وبلقيس يكونوا لبعض..! 

+



        
          

                
بينما هما يتهامسان..كان يتابع حوارهما ذاك الطفل قدرًا ودون أي نيه للتلصص، فقط مصادفة جعلته يمر من تلك الزاوية ليقطف إحدى أزهار حديقتهم كي يهديها خلسه لابنة العم الجميلة بلقيس.. طفلته المدللة وأميرة قلبه الذي رقص فرحًا بعد سماع حوار العم الأقرب له.. إذًا اقترانه بها حين يشتد عوده هو امنية الغالي! ..اطمأنت روحه المتيمة ان رغبة العم وزوجته وافقت رغبته التي اخفاها عن الجميع.. متى إذًا تمضي الأيام ليصبح شابًا يافعًا ويختطفها على جواد عشقه لترمح بين جنبات قلبه؟ حتما ستبادله مشاعره حين تكبر..لما لا.. أليس يهتم بها.. يلاعبها.. يحوطها بحنانه الفطري ويخاف عليها.. وهي تتقبل رعايته وتكافئه دائما بضحكاتها حوله وركضها خلفه.. هي أيضًا تحمل نفس النبته لذات العشق.. وستدرك هذا حين تصبح شابة..!

+


_يزيد.. يزييييد.. ماترد عليا.. عملت إيه في مشروع بتاع 6 أكتوبر؟! وصلت لاتفاق؟

+


انتفض يزيد من شروده على صوت رفيقه، وتمتم: 
معلش يا احمد سرحت شوية.. بخصوص مشروع اكتوبر.. ايوة اتفقنا بشكل مبدئي ماتقلقيش! 

+


رمقه بنظرة ثاقبة وقال:  مالك يا يزيد؟
_ مافيش..!
_ يزيد أنت من امبارح مش مظبوط وبتسرح كتير.. في حاجة حصلت معاك؟"
رد باقتضاب: قولت مافيش يا أحمد! 
_ إزاي مافيش.. انت تركيزك ضايع من بعد مارجعت من سهرتك مع عمك في مطعم ظافر.. في حاجة حصلت ضايقتك؟ ده انا قلت هتكون مبسوط عشان بنت عمك معاك يعني و… ..

+


قاطعته همسة يزيد:  مين قالك انها معايا.. ؟!

+


لم يكن سؤال بقدر ما كان إقرار بحقيقة بدت جلية داخله ويقين شطر قلبه بعد كشفه أن ظافر هو ملاذ حبيبته.. وليس هو.. يقين وضعه أمام صورة لا تقبل التضليل، هي متعلقة بهذا الشخص دون غيره.. نظراتها، لهفتها، دماء الحياة التي تُضخ بوجهها حين تراه.. كلها أشياء تخبره بهذا الواقع الذي دمر أمله المستتر ان تعود إليه حين تتعافى وتراه بشكل جديد وأعمق من ذي قبل.. لكن هيهات أن يحدث.. بوصلتها ليست متوجهة لزاويته.. بل لأخر.. وعليه أن يعيد حساباته.. خرائط أحلامه بها يجب أن تُمحى من عقله بعد الآن.. لن يتعلق بأذيال عشقها حتى وان نزف كل دمائه واحتضر.. فلم يمت أحدًا من العشق قبلًا..الحياة تمضي بصاحبها بكل الأحوال.. ومن الغباء أن يترك روحه أسيرة دون أن يحررها من قيدها اللعين.. إن كان طمسها داخله قرار.. سيكون أهم وأعظم قرار اتخذه بكل حياته..!

+


_ يزيد أنا قلقان عليك بجد، حاسس إنك تعبان يا صاحبي.. أحكيلي وفضفض يمكن ترتاح! اتكلم وانا هسكت ومش هناقشك بس خرج اللي جواك يا يزيد بلاش تسكت! 

+


التفت له ومقلتيه تَستطرُ بها كل معاني العزيمة رغم طيف الألم الواضح: " ماحَكَ جلدكَ مثل ظافرِك"..يعني محدش هيساعدني غير نفسي يا أحمد.. وأنا عارف ازاي هساعد نفسي وابقى كويس! 
________________________

+


ثلاثتهم جائعون وسط صحراء وهو بينهما حائر..
أمامه تفاحة واحدة تبدو شهية.. هل يقتسمها بينهما.. أم يأكلها وحده؟..وجد أحداقهما تطالعانه باستجداء هز قلبه.. وقرر التنازل لهما عن تفاحته وليبحث لنفسه عن شيء يسد جوعه الغريب.. شطرها نصفين وأعطاها لهما وابتعد يطالعهما بابتسامة رضا يخفي بها ألم جوعه الذي يفترس معدته.. وفجأة ظهر شاب أخر من العدم بصحرائهم القاحلة.. ليقف جوار بلقيس ينظر لها.. فابتسمت له ومنحته نصف تفاحتها كاملة واختبئت خلفه لتعلنها صراحتًا انه أصبح ملاذها الوحيد بتلك الصحراء..بينما هو يراقبها بحسرة وخذلان وألم فاق جوعه حتى أن برد شديد سرى بعروقه وأحتل جسده المرتجف.. اقتربت " عطر" بذات اللحظة ومنحته نص تفاحتها مبتسمة وهي تمسك يده.. فتبدل صقيعه بدفء عجيب أنساه كل وجعه وخذلانه من الأولى.. ونبتت حوله أزهار لم ترى عينه مثيلها من قبل!  ورائحة فواحة جديدة على أنفه.. وبقدر غرابتها، بقدر ما أنعشته وردت روحه بقدرة عجيبة! 

+



        
          

                
رنين متواصل صدع ليخترق مدارك عقله.. ليهتز عالمه ويتلاشى ويعود لأرض واقعه ملتقطًا هاتفه مجيبا بنعاس:  السلام عليكم! 

+


صوت أنثوي يشوبه بعض التردد: 
وعليكم السلام. ورحمة الله وبركاته..!
صباح الخير يا يزيد.. أسفة لو بتصل بدري كده بس! 

+


استعاد جزءًا من وعيه متسائلا: عطر؟! 

+


_ أيوة يا يزيد.. أسفة لو بتصل بدري كده بس! 

+


_هو الساعة كام؟

+


_ الفجر أذن من نص ساعة! 

+


فاعتدل بعد أن طغت الريبة على البقية الباقية من نعاسه قائلا:  الفجر؟ وليه اتصلتي في وقت زي ده.. حصل حاجة عندك؟ حد تعبان؟ خالتي ولا عمي فيهم حاجة؟؟؟ 

+


_ أهدى يا يزيد في إيه كلهم بخير والله مافيش حد تعبان

+


انعقد حاجبيه:  كلكم بخير؟!  أمال كلمتيني ليه دلوقت.. طب انتي كويسة؟ في حاجة مضيقاكي؟

+


تشعر بحماقة شديدة الآن! كيف تشرح وضعها واتصالها الغير لأئق بتوقيت محرج گ هذا.. والأهم كيف تطمئن عليه بعد هذا الحلم العجيب اللذي أرقها وجعلها تنتفض مفزوعة وهي تناديه..شيء قبض صدرها وأشعرها أنه ليس بخير.. شعور أفقدها رجاحة العقل وهي تدق هاتفه بهذ الوقت المتأخر لتسمع فقط صوته وتطمئن عليه"

+


_ عطر.. ماتردي عليه انتي قلقتيني عليكي! 

+


تجرعت ريقها بتوتر وهتفت كاذبة:  أنا أسفة كنت قصدي أكلم ياسين.. بس رنيت عليك غلط! 

+


اشتم رائحة كذبها فغمغم بعد أعاد ظهره للوراء مسترخيًا:بلاش كدب.. انتي قاصدة تكلميني.. في حاجة مضيقاكي؟ انطقي يابنتي! 

+


صمتت هنيهة، وبعد إلحاح منه أجابته: أقولك ومش هتتريق عليا زي عوايدك! 

+


_ قولي مش هتريق.  

+


ترقرقت عيناها لا إراديًا وخيالها يعيد عليها تفاصيل حلمها المفزع به وهو يقف على حافة صخرة صخمة.. يده تبحث عن منقذ يجذبه من الحافة.. مدت يدها تحاول أنقاذه.. فلم تصل إليه.. فتزعزعت به الصخرة وأوشك على السقوط لبئر لا ترى فيه سوى الظلام.. صرخت منادية عليه فاخترق صوتها أذن والدتها التي هرولت توقظها.. ثم حذرتها أن لا تقص حلمها لأحد حتى لا يُفسر..لم تخبرها.. ولن تخبره..!

+


_ ياعطر.. انتي بتروحي فين.. قولي حصل إيه وولله مش هسخر منك! 

+


تنهدت وهي تجفف دموع زحفت على وجنتها وهتفت: 
خلاص يا يزيد مافيش حاجة.. انا بس حلمت حلم وحش وقمت مفزوعة.. وماما قالتلي مانحكيش أحلامنا الوحشة لحد لأنها ممكن تتحقق..!

+


تذكر نصف التفاحة التي منحتها له عطر في حلمه، فتمتم ببعض الشرود: أنا كمان حلمت حلم.. بس مش قادر احدد هو حلو ولا وحش..!
تسائلت: حاسس بأيه بعد ماصحيت منه؟ سمعت إن أثر الحلم جوانا هو نص تفسيره! يعني حسب شعورك بعده هتعرف حلو ولا وحش! 

+



        
          

                
غاص عقله بتفاصيله وتذكر بلقيس وهي تختفي خلف ذاك الغريب وتعطيه نصف تفاحتها وتركته جائع.. فشعر بنصلٍ حاد يُرشق بقلبه.. لكنه تذكر أيضًا عطر وهي تمنحه النصف الأخر وكيف تبدلت صحراءه لأبهي صورة، وعبأت الفضاء حوله رائحة زكية.. فتبدد حزنه لسعادة غزته بقوه! أيهمار إذًا يُرجح ويصنف حلمه؟ ضيقه في الأولى ..أم سعادته مع الثانية!؟!

+


_ مش هتحكيلي حاسس بإيه بعد الحلم؟

+


تسائلت بحذر لتطمئن، فراوغها:  لو حكتيلي حلمك.. هحكيلك حلمي! 
_ مش هقدر.. ثم عادت تهمس بخجل: 
بس انت كويس بجد يا يزيد ومافيش حاجة مزعلاك؟

+


امتزج صوتها بحنان غريب استشعره بنبرتها..وتذكر أنه بالفعل لم يكن بحالة جيدة بعد أن تيقن من صلة ظافر بحادث بلقيس، وأنه بطريقة لا يعلمها يؤثر بها .. كيف إذًا شعرت عطر بما يعانيه؟؟

+


_ يعني مش عايز تقولي؟

+


قاطعت استرسال ذاته بسؤالها فابتسم مجيبا بامتنان: أنا كويس ياعطر.. اطمني! 

+


تنهدت براحة، فوصله تنهيدتها فتعجب قائلا:  يااااه.. انتي كنتي للدرجة دي قلقانة يا قردة! 

+


لم تستاء تلك المرة.. يكفيها أن الراحة عادت تستوطن روحها بعد حلمها القاسي به.. فليقول ما يشاء..لن تغضب! 

+


_ماشي الله يسامحك، عموما انا هقفل وأسفة على اتصالي في الوقت ده! 
_ ولو قولتلك ياعطر إنك اتصلتي في الوقت المناسب؟

+


_ إزاي؟

+


_ كنت محتاج حد يسأل عليا ويكلمني دلوقتي بالذات.. حد غير أمي أو بابا أو اخواتي اللي قلقهم كان هيزيد لو سمعوا صوتي..!

+


_ وانا افرق إيه عنهم؟؟؟

+


تسائلت بترقب، فغمغم بصدق: 
أنتي بتقدري تغيري مودي وتخليني ابتسم واضحك، طول عمرك بتقدري تعملي كده! 

+


_ هترجع تتريق عليا؟ أنت شايفني أراجوز بيضحك؟!

+


هتفت بحنق طفولي محبب، فضحك مرددًا: 
لا والله أنا بقول الحقيقة بدليل اهو طول المكالمة بضحك معاكي مع إني قبلها ماكنتش كده.. وبعدين أراجوز إيه ده انتي مهندسة قد الدنيا..! 

+


ابتسمت بغرور:  أيوة كده اعترف بمكانتي..!

+


_ منا معترف يا باشا من زمان.. ولسه منتظرك عشان تيجي تتدربي الأجازة الجاية وتاخدي خبرة في شغلك! وقبل ما تبرطمي بكلام فارغ.. أنسي تشتغلي عند حد غريب.. أنا سبتك المرة اللي فاتت لأنك كنتي زعلانة!  فاهمة ياقردة؟؟

+


_ وانت على كده في الشركة هتقولي ياقردة قدام الناس؟
هتف بغرض استفزازها:  اه طبعا عادي هقولك كده! 

+


كاد يتخيلها وهي تجز على أسنانها وتهتف بحنق: طب مش جاية وابقى شوفلك قردة بجد تتنطط بين المكاتب وتجننك! 
ضحك ملء صوته ولا يعرف كيف يتبدل مزاجه السيء ما أن يحادثها.. بينما هدرت هي بعبارات غضب طفولية كما يراها دائما ثم أغلقت معه..
________________

+



        
          

                
" تليفون حضرتك بيرن يا هانم! "

+


التقطت السيدة الهاتف وما أن سمعت ما قاله محدثها حتى اعتصرت الهاتف بين أصابعها وحدقتاها يقتام سوادها، ورعشة خوف تسللت لفرائصها: 

+


_ بلقيس خرجت لوحدها؟؟؟؟ إزاي ؟ يعني ابتديت ترجع لوعيها؟
أجاب محدثها:  معرفش يا" تيماء" هانم بس دي أول مرة اشوفها خارجة من غير والدها أو والدتها..!

+


هدرت بفحيح غاضب:  أنت مش بتاخد مني فلوس عشان تقولي معرفش.. تقب وتغطس وتجيلي أرار الموضوع.. لازم اعرف بلقيس لسه تايهة ولا ابتدت تخف ووعيها يرجع! ولا عايزني ازعل وازعلك معايا! 

+


الشاب بخوف من بطشها:  اديني حضرتك فرصة لبكرة وهعرفلك كل حاجة! 

+


اغلقت وعيناها شاخصة ومئات الاحتمالات تطوف رأسها.. فإن عادت بلقيس وتماثلت للشفاء ستكون نهايتها..فلن تعود      هِرّة ناعمة وساذجة كمان كانت..ستعود بمخالب قاسية لن تهدأ إلا حين تنغرز بعنقها لتقتلها انتقامًا وثأرًا.. ستتذكر كل شيء فعلته بها وكيف وشت بها وسلمتها لذئاب بشرية وتركتها فريستهم يلوكوها كيفما شاءوا.. وهي لن تنتظر مصير گ هذا.. طبيعتها المسالمة الآن لن تقوى على مجابهة انتقام تخاف مجرد تصوره! لن تسمح أبدًا بخسارة ما تحياة.. وربما تدفعها غريزة البقاء لذنبٍ جديد وجرم أبشع گ دفاع مستحق عن ما حصدته..!

1


وآن الآوان لتخطيط أخر إن عادت للملكة قوتها..!
___________________________

+


" الحقني ياعاصم.. بنتي مش لاقياها في البيت كله.. بلقيس اختفت"

+


استقبل ثورتها بهدوء مريب:  اهدي يا دُرة.. أطمني أنا عارف هي فين متخافيش! 

+


_ عارف؟! ازاي عرفت، طب قولي هي فين طمني! 

+


بدت نبرته غامضة تشبه إجابته:  راحت المكان الوحيد اللي بتنسى فيه خوفها وحذرها..راحت ترجع نفسها الضايعة.. واحنا لازم نسيبها تمشيه بإرادتها.. مش هنحاصرها تاني دُرة! 
_______________________

+


قدميها تعرف الطريق إليه.. عقلها يستوعب وجوده ببساطة عجيبة لا تناسب التيه الذي تحياه.. وكأنها لا تدرك حقيقة سوى أن منقذها هناك، ما عاد مجهولًا..تعي بسلاسة غريبة كيفية الوصول "لحصنه" لتتدثر بأمانه الذي ما عاد غائب.!

+


عبرت بوابة المطعم الزجاجية.. متجنبة النظر لرواده القليلين بهذا الوقت.. طافت أنظارها كل الزوايا بحثا عنه.. فوجدته هناك يحادث شابً أخر، فافتربت حتى غدت خلفه، فبصرها عامر تقف ساكنة تطالع صديقه الغير منتبه لها.. فلوح بعيناه كي ينظر خلفه.. فالتفت لتتراءى له بنفس طلتها ودفء عيناها شبيهة العسل..! لاحظ ارتجافة طفيفة أصابتها، ربما أحداق المحيطين حولها أزعجتها بشكلٍ ما..  فتخطي دهشته سريعًا وتمتم بصوت رخيم:  إنتي جيتي ازاي..؟ عاصم بيه معاكي؟ 

+


أظهرت ورقتها الصغيرة وكأنها تذكره باستحقاقها المجيء بعد فوز أمس.. وجد نفسه يبتسم وهو يسأل بصوت هاديء: فهمت، يعني جاية عشان وجبة الغدا؟ انتي جعانة دلوقت؟!
هزت رأسها بذات الصمت!..فقادها لطاولة منعزلة نوعًا ما عن طاولات الرواد، وتبعته بتسليم تام، فقال: تحبي تاكلي إيه؟
لم تجيبه، ولما طال صمتها غمغم:  تحبي تاكلي على ذوقي؟ أومأت برضا فاستطرد:  طيب خليكي هنا ماتتحركيش.. وانا هعملك أوردر واجي..اتفقنا! 

+



        
          

                
أطاعته بسكونها.. فغادر تحت أنظار " عامر" الذي تابع ما حدث بذهول فاغرًا فاهه ببلاهة، وبدا على وجه معالم غباء واضحة! ثم غمغم لذاته بتعبيراته وجهه الذاهلة: هو في إيه بالظبط؟
______________________

+


_ وصلت المطعم..! 
_ تمام.. فتح عينك وإياك تغفل عنها لحظة! 
_ تحت أمرك! 
__________________

+


_ ممكن افهم إيه اللي بيحصل؟

+


تأفف ظافر:  وبعدين معاك يا عامر.. قولتلك مافيش حاجة البنت جاية تتغدى وده حقها بالكوبون اللي فازت بيه امبارح! 

+


_ ظافر.. مابحبش حد يستغباني.. البنت دي مش طبيعية.. نظراتها ليك غريبة، وانت كمان فيك حاجة متغيرة..! هو أنت تعرفها من قبل كده؟ 

+


_ لأ..!  لفظها قاطعة ثم أكمل وهو يبتعد عنه ملوحًا: استعجل الأوردر اللي انا طلبته وركز في شغلك ياعامر بلاش دور المحقق بتاعك ده..! 

+


حك عامر ذقنه بنظرة شاخصة متمتمًا لذاته:  أقطع دراعي إن ما كان في حاجة تخص البنت دي مش طبيعية.. بس هتروح مني فين ابن الشباسي! 
___________________

+


يراقبها باندماج وهي تتناول طعامها وفتاته يتساقط منها، ويدها مرتعشة قليلًا، تحشو فمها بحبات الأرز وهي تترقبه وكأنها تخاف أن يختفي من أمامها لحظة، غير عابئة بما يتساقط أو غير مدركة له.. فقط ترصد وجوده! 

+


رغمًا عنه ابتسم وشعور غريب غزاه تجاهها، كأنها طفلته وهو المسؤلة عنها..! تذكر اتصاله على أبيها منذ دقائق وتوصية عاصم له ان يهتم بها وأن يقوم بتوصيلها لمنزلهم الذي أرسل إليه موقعه، تعجب داخله من هذا الطلب وتلك الأرياحية والثقة التي منحه إياها.. لكن بكل الأحوال هو سيكون أهلًا لتلك الثقة..

+


انتبه فجأة أنها تهم بابتلاع قطعة لحم ضخمة دون أن تعي، فحذرها قائلا: لا أستني ماينفعش تبلعي قطعة الأستيك كلها بدون تقطيع، تحبي اقطعها قطع صغيرة عشان تاكلي بسهولة؟!

1


أشارت له بإيماءة، فشرع بتمزيق شريحة اللحم وفتتها لقطع صغيرة، ووضعها فوق حبات الأرز هاتفا:  يلا بقى خلصيها كلها، عشان أوصلك لبيت والدك..!

+


أطاعته وهي تأكل وربما لا تشعر بمذاق أو حتى جوع فقط تطالعه.. بعد برهة شعرت بامتلاء معدتها حد الآلم وآنت من كثرت ما تناولته.. فأزاحت صحنها بعيدا.. فأردف:  شبعتي؟ 
هزت رأسها، فقال وهو يناولها محرمة معقمة:  طب خدي دي نظفي مكان أكلك..!
فعلت ومازالت أهدابها عالقه بوجه، فشرد وعقله يتسائل
لما أصابتها تلك الحالة وهذا الخرس؟!
الخرس؟؟!! كيف مع همسها أمس؟!.. يبدو أنها تتحدث أحيانًا..أشتعلت رغبته الفضولية لمعرفة ما همست له أمس، فأحنى كتفيه قليلا وتمتم:  

+


كنتي بتقوليلي إيه امبارح وانتي بتستلمي الكوبون؟! 
حدقتاها تتحرك على وجهه فيعود ليهمس:  إنتي تعرفيني قبل كده؟ ممكن تكوني شوفتيني في المنصورة صح؟ أكيد شوفتيني هناك! 

+



        
          

                
سعلت فجأة واختنقت، فهرع يناولها كاسة مياه، تجرعتها كاملة ثم صارت أنفاسها تلهث أثر اختناقها القصير، فتمتم: 

+


أنا أسف لو وترتك بأسئلتي.. خلاص يلا عشان أرجعك بيتك! 
………………… .

+


المارة يحدجوهما بنظرات متعجبة، وهم يشاهدون تشبثها الغريب بذراعه، فحاول إثنائها برفق وقد صابه حرج شديد:  

+


أنسة بلقيس ..مايصحش تمسكيني كده أهدي ومتخافيش..! سيبي دراعي وانا همشي جمبك! لم تستجيب فواصل: 
الناس كده هيفهموا غلط.. اسمعي كلامي وامشي جمبي وانا واوعدك مافيش حاجة هتأذيكي.. يلا وريني الشجاعة!  

+


تعجب لاستجابتها تلك المرة، وأصابعها تحرر ذراعه ببطء لترتخي جانبها وعيناها معلقة بمحياه أغلب الوقت، أما هو عيناه تتفقد الطريق باهتمام، فاحتمالات تعثرها واردة بكثرث لتركيزها المشتت بين الطريق والنظر إليه! 

+


تعمد ألا يستقل معها سيارة، أولا لقرب البيت بمسافة تسمح بالترجل.. وثانيٍا كي يجعلها تسير بجوار المارة حتى تعتاد احتكاك الأخرين، افترض ان هذا سيفيدها.. ربما وفق بهذا التصرف لقراءته كتب متخصصة بالطب النفسي الذي يجذبه أحيانًا لمطالعته والإبحار في خباياه..! 

+


(هل تتشبث هكذا بالجميع؟ هل يلمس ضعفها كل عابر سبيل..؟ كم يشفق عليها، بحالتها تلك وجمالها الملحوظ هي مطمع لكثيرين.. ومازال يتعجب لثقة أبيها أن يتولى هو توصيلها.. لما لم يفترض أنه شخصٍ سيء ومستغلًا لفتاته؟ لو كنت بموضعه ما استأمنت أحدًا..!)

+


ظلت التساؤلات ترتع وتجول بذهنه وهو سائر جوارها وحالتها تستفزه ليحلل تصرفاتها دائمًا..وغموضها يثيره بشكل كبير..!  

+


لاح الآن منزلها.. وها هي والدتها تقف قرب البوابة ويبدو عليها علامات القلق ..قلت ما أن اقتربت:  السلام عليكم.. متخافيش حضرتك.. هي جت المطعم، بس انا اتصلت فورا بسيد عاصم عرفته بوجودها، وطلب مني أوصلها، وقالي انه هيبلغ حضرتك ويطمنك! 

+


تمتمت وهي تتفحص ابنتها:  قالي، وكتر خيرك انك وصلتها لهنا..!..فواصل: واضح أنها حفظت الطريق خصوصا انه مطعمي مش بعيد عنكم..!
_ أيوة فعلا واضح كده.. طب اتفضل يا ابني عاصم في الطريق ووصاني ارحب بيك! 
_ لا أعفيني يا امي مش هقدر.. لازم ارجع عشان شغلي! 
عاتبته:  يعني مش عايزنا نرد جميلك.. طب حتى فنجان قهوة على السريع.. يلا اتفضل وعاصم دقايق هيكون هنا، هو قال عايزك بخصوص شغل بينكم! 
تذكر ظافر بالفعل أنه أخبره بطلبية مواد غذائية. جديد لمطعمه، فرضخ بتهذيب:  طيب تمام.. بس اتمنى عاصم بيه ما يتأخرش! ..
_ لا اطمن هو. على وصول!

+


تبعها بعد ذلك ووصله همس السيدة المُدلل لابنتها وهي تحدثها: 
( زمانك جوعتي يانور عيني.. هحضرلك أكل حالًا)

+


حمحم بحرج قائلا: أنا أسف حضرتك  للتدخل بس الأنسة بلقيس اتغديت كويس جدا ومش هتاكل دلوقت!

+



        
          

                
دُرة بدهشة:  اتغديت؟ غريبة دي تقريبا مش بترضيي تاكل بسهولة من حد غيري.. يمكن بالصدفة أكلتها حاجة بتحبها؟!
_ أنا معرفش هي بتحب إيه.. بس هي أكلت شريحة استيك، ورز أبيض! 

+


اتسعت عيناها بذهول مردفة:  استيك؟؟؟ أكلته بجد؟؟
غمغم بتأكيد:  أيوة والله أكلته ما شاء الله! 
مازالت على ذهولها وهي تقول:  بس بلقيس عمرها ما حبت اللحمة بكل أنواعها..!! مستحيل كانت تاكل لحوم! 

+


شابته الدهشة هو الأخر ولم يجد ما يعلق به فصمت، ثم تسلل إليه سعادة من نوع أخر، إنتشاء رجولي أنه استطاع انجاز شيء معها لم يفعله قبله.. تلك الجميلة لا تأكل اللحم.. لكن تناولته من يده هو.. وهذا استثناء ارضاه بشكل لا يفهمه! ألهذا الحد يؤثر بها؟ لما؟ عاد السؤال يطوف داخله إلى وصلا إلى ردهة الأستقبال بفيلتهم الأنيقة، فقالت دُرة: 
اتفضل يا ابني هطلع بلقيس أوضتها وهاجي يكون عاصم وصل! 
أومأ لها بتهذيب فرحلت، وعين بلقيس عالقة به حتى توارت عن ناظريه تمامًا.. فجالت عيناه أرجاء محيطه بدايتًا من بعض الثرايات الرقيقة المعلقة بسقف الردهة، ثم قطع الأثاث الكلاسيكي القديمة الموزعة بشكل أنيق في الأركان وألوان الجدران التي تناغمت مع كل هذا وأضفت على المكان طلة مريحة للنفس والعين ..!

+


بينما حدقتاه تطوف الزوايا وقعت على برواز فخم يضم بين أضلعه بلقيس بشعرها شديد الطول والسواد ووجهها يضحك مُلصقة وجنتها بوجنة أبيها.. ومقلتاها يضوي عسلها بروعة، ونظرتها مفعمة بالثقة والذكاء وربما لمس لمحة غرور، لكن لم يراها منفرة.. فمن حظى بفتنها يليق به بعض الغرور وإن كان لا يفضل تلك الصفة إن تجاوزت الحد .. شرد بها وباسباب تحولها لتلك الفتاة الهشة الخائفة من مجرد صوت صاخب حولها.. من سرق تلك النظرة وأين ذهب شعرها الذي نقص من طوله الكثير.. كم هي لغز بالنسبة له ولا يعرف له حلًا.. ظل على شروده وهو يحلل وجهها ولم يعي لشيء إلا حين سمع أحدهم من خلفه:  السلام عليكم! 

+


التفت سريعًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! 
عاصم:  أسف تعبناك معانا وعطلناك يا ظافر..! 
_ لا أبدا مافيش تعب! بس
عاصم:  بس أيه؟
ظافر:  بدون زعل يعني.. بنت حضرتك ماينفعش تروح مكان لوحدها بحالتها دي.. زي ما انت فاهم مافيش أمان.. ممكن تتعرض لأي موقف يأثر عليها أكتر..! 

+


أثنى عاصم داخله على أخلاق هذا الشاب وأمانته.. هو محق لا يجوز الثقة بأحد.. وهو بالفعل لم يمنحه ثقته كما ظن ظافر، فكل خطوة خطتها قدم ابنته ولحظة قضتها خارج حدود عرينه كانت تحت أنظاره من خلال مقاطع بث مباشر تابعه بهاتفه، بعد أن استعان لأجلها بأحد رجال الحراسات الخاصة والمدربة على المراقبة دون لفت انتباه والقدرة العالية على الحماية إذا لزم الأمر..منحها الحرية.. لكن وهي تحت بصره.. لن يتركها تتأذى مرة أخرى.. كما لن يقيدها بعد ذلك! 

+


_أسف لو ملحوظتي ضايقة حضرتك! 

+


هكذا تمتم طافر، فأجابه عاصم:  بالعكس كلام صح جدا وبشكر أمانتك وصدق النصيحة ياظافر..! 

+


( عاصم بيه.. الجاكت اللي حضرتك طلبته! )

+


تناول المعطف من الخادمة وأمرها بالرحيل، ثم. نزع عنه غلافه البلاستيكي الشفاف، ووضعه أمامه والتزم بعص الصمت، ثم غمغم بعدها وكأنه يحدث نفسه:  تعرف إن صاحب الجاكت ده هو اللي انقذ بنتي؟! 

+


جحطت مُقلتي ظافر بذهول متفحصًا المعطف الذي التقطه بتلقائية وهو يفتشه بموضع محدد، وما أن بصر أسمه المحتجب بجيب صغير بحروفه المعدنية، حتى حدثت له صدمة حقيقية جعلته يجلس على أقرب مقعد له وذاكرته تستعيد بقوة تفاصيل ذاك اليوم البعيد وكأنه يحياة مرة أخرى، حين طارد بسيارته هو وصديقه ثلاث أوغاد وأنقذ فتاة غارقة بدمائها مشوهة الوجه ببشاعة..وشعر كأن همهمتها المستغيثة تصدح من جديد بتلابيب عقله المشوش.. مسد ظافر جبينه وانعقاد حاجبيه وتقطيبته تزداد تجعيدًا..كل هذا وعاصم يراقبه ردود أفعاله عن كثب، وخبرته  وشعوره گ أب.. أخبره أن كل ظنونه هو والطبيب في محلها.. ذاك الشاب هو من أنقذ ابنته.. هو ملاذها الذي تعلقت به ولا تجد في سواه ملاذ! 

+


أغرورقت عيناه وهمس بمشاعر متهدجة: 

+


_ يعني انت اللي انقذت بنتي يا ظافر؟

+


رفع عينه ونظر إليه فوجد رجلًا أخر مغاير لذاك المتماسك القوي.. وجد أبٍ بأقصى صور الضعف ودموعه مُسالة على وجه.. كم مؤلم بكاء الرجل وكم هو حدث جليل..والد معذب مفطور القلب على ابنته.. لم يتحمل قلب ظافر رؤية انهيار ذاك الرجل المهيب، فاقترب منه وأمسك كفيه بقوة وهو يحدثه برفق:  عملت اللي قدرت عليه يومها.. ياريتني قدرت انقذها من البداية.. بس للأسف لما شوفتها كانت………… !

+


صمت ظافر متجرعا غصته لا يعرف ماذ يقول وكيف يصف ما رآى.. فانهار عاصم منتكس الرأس يبكي بشكل لم يستطع مقاومته.. فما كان من ظافر سوى رفع هذا الرأس المنتكس وصوته بدأ بقوة السيف وهو يؤازره:  متبكيش يا عاصم بيه.. واللي عنده بنت زي بنتك عمره راسه م تنحني أبدًا .. لو كنت شوفت وشوش الخنازير اللي خطفوها ازاي متشوهة بمخالبها والرعب والخزي ماليهم بعد ما بنتك قاومتهم بكل قوة وشجاعة كنت عرفت انها علمتهم درس لو عايشين مستحيل ينسوه.. ولولا إني كنت عايز انقذها يومها، أقسم بربي ماكنتش سبتهم..! بس ربنا مش هيسيبهم.. خليك واثق في ربنا.. محدش بيهرب من أثامه.. ذنب بنتك هيلاحقهم عايشين ولا ميتين!  ( ماتو) هكذا همس عاصم من بين بكاءه
فهتف طافر:  ماتو؟ إزاي؟ عرفت ازاي؟

+


هدأت وتيرة بكاءه قليلا وقص له باقتضاب ملابسات ماحدث بعدها.. فسبح ظافر بقصاص ربه العادل بوقتها واستحقاق ثلاثتهم ذاك المصير المأساوي! 
……………………… ..
مضى بعض الوقت، استعاد عاصم رباطة جأشه، وراح يقص له كل تحليلات الطبيب واستنتاجاته وربط تعافي بلقيس به.. وبعد أن صار كل شيء واضح، تسائل ظافر: 

+


_ يعني الطبيب محتاج يقابلني؟
_ أيوة.. بيقول انك انت الوحيد بعد ربنا اللي تقدر تساعد في علاج بنتي وتخليها ترجع لطبيعتها تاني..!

+


غمغم ظافر بشهامة هي سمة من سماته:  وانا أي حاجة في ايدي وممكن تساعد بنتك هعملها.. وبإذن الله هزور الطبيب انهاردة مش هستنى لبكرة.. وربنا يمن عليها بشفائه عن قريب! 
……………….. 
تركه ظافر وراح يلملم ذاته المبعثرة المآخوذة بفعل اكتشاف تلك الحقيقة..أن الفتاة التي أنقذها هي ذاتها بلقيس؟! كيف حدثت كل تلك الصدف بينهما.. وكأنها عالقة به بخيط رفيع لا تبصره عين.. اينما وجد أحدهم.. حضر الأخر بطريقةٍ ما..! 

+


تُرى.. ماذا تُخبيء المقادير لبلقيس؟ 
هل بظهور تيماء مرة أخرى ستصاب بمحنة جديدة وينالها كيد حية رقطاء؟
وهل وجود ظافر سيمثل فارقًا لها وتتعافي بشكل كامل؟
انتظروا الفصل القادم
_____________________

+


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close