رواية جارية في ثياب ملكية الفصل السابع عشر 17 بقلم نرمين نحمد الله
********
الفصل السابع عشر:
+
غادرهم المأذون وشاهده...
ليسند جسار رأسه المطرق بين كفيه ...
لا...لا يستطيع التخلي عن آسيا !!!
لكن حقيقتها التي ظهرت ستفتح عليه أبواب الجحيم من جديد!!!
ماذا سيفعل قاسم النجدي لو علم أن حفيدته الهاربة تقيم هنا معه منذ تركتهم؟!!!!
ماذا سيظن؟!
سيظنه أغواها استجابة لثأره القديم!!!
وربما يؤجج هذا العداوة من جديد...
ليعود منجل الثأر يحصد الرؤوس بلا رحمة!!!
+
ربت كساب علي كتفه وهو يقول بحكمة:
_هون عليك يابني...من يدري لعل الله يحدث أمراً!
نظرت إليهما آسيا بقلق ثم قالت بتردد:
_ماذا سنفعل الآن يا بدر؟!
رفع جسار رأسه إليها لينظر إليها طويلاً ثم قال ببطء:
_جسار يا آسيا...وليس بدر...لقد مضي عهد التخفي...
+
شعرت بحسرته في كلماته تجلد ضميرها بالسياط...
هذا الرجل سواء كان بدر او جسار لم يقدم لها سوي كل خير...
بينما هي أفسدت له حياته كلها...
+
هتفت بأسف:
_أنا كنت لعنة علي هذه العائلة...ليتك تركتني أرحل !!
تنهد جسار وهو يقول بحزم:
_فات أوان هذا الكلام الآن يا آسيا...الآن مصيرنا واحد وطريقنا واحد.
قالها وهو يقوم من مكانه ليقول بضيق:
_سأعود لغرفتي...وأنتِ ستبيتين في غرفة ياسين...منعاً للأقاويل...
+
نظرت إليه وهو ينصرف عنها عائداً لغرفته في حسرة...
كم تمنت لو يبقي معها ولو قليلاً...
حتي يطمئن قلبها الذي يكاد يتوقف الآن ذعراً!!!
كم تتمني لو يغمرها الآن بحنانه الذي تعرفه...
لعلها تتصبر به علي قلقها من غدها...
+
لكن عقلها نهرها!!!
كفاكِ ضعفاً يا آسيا...
كفاكِ ضعفاً وأنانية...
هو الذي يحتاج للدعم الآن وليس أنت!!
+
لكنها للأسف لا تملك ما تفعله له...
حتي مجرد البقاء جواره..
لقد لفظها من حياته من أول ليلة...
ليشعرها أنها ليست سوي واجب ثقيل!!!
+
اقترب منها العم كساب متأملاً ملامحها باشتياق كاسح وهو يقول بحنان:
_كيف لم أنتبه للشبه بينكما؟! أنتِ تشبهين فريدة إلي حد كبير.
التفتت إليه آسيا وهي تقول بابتسامة شاحبة:
_يبدو أنك تعرف أمي جيداً!
ابتسم كساب في شرود وهو يقول بمرارة:
_أعرفها؟! فريدة هي عمري كله!
اتسعت عينا آسيا بصدمة وهي تسأله:
_عمرك كله؟!!!
تنهد في حرارة وهو يقول لها :
_تعالي معي يابنتي...سأريكِ شيئاً...
+
سارت معه آسيا حتي غرفته الكائنة خارج المنزل الكبير...
دخلها لبضع دقائق ثم خرج حاملاً قلادة مميزة منحها لها قائلاً بشرود:
_هذه هي الذكري الوحيدة التي حملتها منها...سقطت منها يوماً وهي تسير في الطريق...كنت أتبعها خلسة كعادتي...ولم أكد أراها حتي التقطتها لتبقي تذكرني بها...
هزت آسيا رأسها بحيرة وهي تسأله:
_ما حكايتك مع أمي بالضبط؟!
جلس العم كساب علي أحد المقاعد خارج غرفته...
ثم تنهد وهو يقول بعمق:
_الحكاية طويلة...لكن لا بأس...ليس شيئٌ أحَبُ عندي من الكلام عنها!!!
ابتسمت آسيا في حنان وهي تجلس جواره لتقول برفق:
_أخبرني يا عمي.
+
أسند كساب رأسه علي ظهر مقعده مغمضاً عينيه وهو يقول:
_فريدة كانت جارتي في البلدة...أحببتها منذ كانت صغيرة تتمايل بضفائرها علي الطريق...لا أذكر أن امرأة سواها تملكت دقات قلبي كما فعلت هي...ولما لم أستطع مصارحتها بشعوري...كنت أحاول لفت انتباهها بأي صورة...كنت أتتبعها في كل مكان تذهب إليه...أنظر إليها لعل عينيّ تفضحان ما عجزت عن البوح به...ظللت علي هذا لسنوات...حتي هيئ إليّ أنني نجحت عندما لمحتها مرة تبتسم لي...
+
ابتسمت آسيا في حنان ثم همست :
_وماذا حدث بعدها؟!
تنهد كساب قائلاً:
_لقد سبقني والدك رحمه الله وتقدم إليها...وافق والدها بالطبع لأن نسب النجدي لا يرد...التقيتها بعدها في السوق لتنظر إلي نظرة لن أنساها ما حييت...وكأنها تخبرني أنها لا ذنب لها وأنني هو من تأخر...
هزت آسيا رأسها وهي تسأله بدهشة:
_أنت لم تحدثها أبداً؟!
ابتسم كساب وهو يقول:
_ليس كل الحديث بالشفاه يا صغيرة...حديث العيون أصدق وأمتع..
ثم أردف بشرود:
_تزوجت فريدة من سعد النجدي...ولم أكد أبتلع حسرتي عليها حتي قُتل ابن عمي وذهبت ظنون الجميع لعائلة النجدي نظراً للعداوة القديمة بين العائلتين...ليبدأ بعدها مسلسل الدم الذي قطعه جسار بشجاعة وأنا ساعدته...
عقدت حاجبيها لتسأله :
_ماذا تعني؟!
قال بحزن واضح:
_عندما قُتل ابن عمي طلبوا مني أنا أن آخذ ثأره...ولما كان سعد هو الابن الأكبر لقاسم النجدي بعد وفاة عمك حبيب بمرض شديد...فقد طلبوا مني أنا أن أقتله...
شهقت آسيا بعنف وهي تسأله بارتياع:
_أنت الذي قتلت أبي؟!
+
نظر إليها كساب طويلاً ثم قال بأسي:
_هذا ما ظنته فريدة أيضاً...ظنتني قتلت زوجها...لكنني أقسم لكِ يابنتي أنني لم أفعل...لقد وجدوه مقتولاً علي الطريق...لكنني لا أعرف من قتله...
أومأت آسيا برأسها وهي تهمس:
_وماذا حدث بعدها؟
+
قال كساب بشرود:
_وقتها تشابكت كل الخيوط...اشتعلت العداوة أكثر بين العائلتين...وسقط القتلي من الجانبين ...ووسط دائرة الانتقام هذه وجد جسار نفسه مطالباً بثأر جديد...لكن سمية الغالية التي عشقته من كل قلبها أقنعته بالهروب من هذا كله....هي التي اقترحت عليه أن يهربا معاً من كل هذا حتي يتوقف نزيف الدم...وهذا فعلاً ما حدث بعد هروب جسار ووفاة والده كامل القاصم وسفر جدك للمدينة مع أحفاده.....
+
صمتت آسيا طويلاً ثم هزت رأسها بحزن وهي تهمس:
طوال هذه السنوات ونحن نعيش في رعب...حمزة ابن عمي الذي حُرم من البقاء بيننا وأبعده جدي خوفاً عليه...أنت لا تتصور الرعب الذي كنت أشعر به لمجرد سماع اسم جسار القاصم...لقد تربيت علي الخوف منه...وحتي الآن لا أصدق أنه هو بدر الرقيق الحنون الذي قابلته هنا....
قال كساب بحكمة:
_من يدري يا بنتي...لعل زواجكما يكون نهاية العداوة بين العائلتين.
هزت رأسها نفياً وهي تقول:
_ليس في هذه الظروف يا عمي...زواجنا سيبدو وكأنه تستر علي خطيئة وليس زواجاً حقيقياً...سيظنون أن جسار أغواني ليحقق انتقامه بخسة...ليعود نزيف الدم الذي لن يتوقف هذه المرة.
ثم أردفت بألم:
_ليتهم يقتلونني أنا ويدعونه هو وياسين الصغير!
+
نظر إليها كساب وهو يلمح صدقها في عينيها فسألها بحنان:
_تحبين جسار يا بنتي؟!
نظرت إليه في تردد أظهر مشاعرها الدفينة...
ثم قالت بشرود حزين:
_وماذا يفيده حبي يا عمي؟! حبي لن يزيده ولن ينقصه...أنا لست سوي واجب ثقيل أداه مضطراً...لعنة أصابت عالمه الذي ضحي بعمره لأجله ...ليتني لم آتِ إلي هنا...ليتني متّ فعلاً كما حاولت أن أوهمهم...
+
قالتها وهي تندفع نحو غرفتها الخارجية باكية بانهيار...
فتنهد العم كساب في حزن وهو يتأمل السماء بنجومها في شرود....
+
غافلاً عن عيني جسار اللتين كانتا تراقبانهما من خلف جدار قريب...
بعدما استمع للجزء الأخير من الحوار للأسف...
لم يكن يقصد التصنت عليهما...
لكنه شعر بالقلق عندما تفقد آسيا ولم يجدها مع ياسين الصغير...
ولا في المنزل كله...
ذهب ليسأل العم كساب عنها ليستمع مصادفة لحديثهما...
+
أطرق برأسه وهو يفكر أن الأمور تعقدت كثيراً...
مشاعر آسيا نحوه لابد أن تختفي...
يجب أن تتخلص من حبها اليائس له...
بل يجب أن تكرهه !!!
+
لن يسمح لها أن تضيع عمرها بحب لا طائل منه...
هو لن يكون سوي لسمية...
هو رجل غير قابل للقسمة كما قالت عنه يوماً!!!
+
لابد أن يتوقف عن معاملتها بحنانه السابق...
سيتجاهلها ...بل سيقسو عليها...
حتي ينتزع حبها هذا من قلبها...
لتعود حرة وترحل من هنا متي شاءت!!!
+
التفت نحو غرفتها الخارجية المضاءة ليحسم قراره الأخير...
جسار لن يكون كبدر يا آسيا...
لن يكون!!!
==========================================================================
صعدت ساري إلي سطح المنزل تحمل دميتها الحبيبة ....
فتحت الباب برفق لتجد النور مضاءً...
ابتسمت في سعادة وهي تراه جالساً علي الأرجوحة الكبيرة هناك...
+
تقدمت نحوه فابتسم لها فارداً ذراعه جواره ليهمس بحب:
_تعالي.
جلست جواره ليضمها إليه بأحد ذراعيه ويربت علي وجنتها بالآخر هامساً:
_لماذا أنتِ مستيقظة إلي الآن؟!
رفعت وجهها إليه وهي تهمس:
_لقد كان يوماً طويلاً...لكنه انتهي نهاية سعيدة...جوري استعادت قدرتها علي النطق...
تنهد قائلاً:
_لكن عمار سيطلقها...أنا أدرك شعوره الحارق الآن...
دفنت رأسها في كتفه وهي تشعر بالأمان لتهمس :
_لو أرادها حقاً سيعرف كيف يستعيدها...
ثم عادت ترفع رأسها إليه لتهمس في عاطفة:
_كما فعلت أنت!
+
نظر إليها طويلاً...
ثم همس بصوت يحمل زخات من الندم:
_هل تذكرين ليلة زفاف جوري وعمار...لقد قلتِ لي يومها أنكِ ستكرهينني طوال عمرك...
تنهدت في حرارة وهي تشيح بوجهها لتقول بشرود:
_رغم أن فعلتك يومها ذبحتني...لكنني أحسست أنك تغيرت حقاً منذ تلك الليلة...
ثم التفتت إليه لتهمس:
_أحسست أن نبتة من حبي بدأت تنمو ببطء في صدرك...تجاهد كي تري طريق النور...لتزهر براعمها بقلبك وتمنحني عشقاً لم أتخيله يوماً...
ثم أسندت رأسها علي صدره لتهمس:
_حذيفة الذي أحببته طوال عمري وضل عني في تيه غفلته وعبثه...عاد إلي من جديد....
رفع ذقنها إليه وهو يهمس برجاء:
_سامحتني؟!
+
أومأت برأسها وهي تهمس:
_من كل قلبي يا حبيبي.
+
تأوه بقوة وهو يسمعها منها لأول مرة...
حلوة...
نقية..
صادقة...
تماماً مثلها!!!
+
أخفي وجهها في صدره هامساً بهيام:
_قوليها دوماً يا ساري...اجعليني اسمعها منكِ في كل وقت...اجعليها ترياقاً لي من سموم الماضي...احميني بها من شر نفسي...
رفعت رأسها إليه لتهمس بحب:
_حبيبي...حبيبي...حبيبي...
1
كاد يشعر بروحه تذوب منه مع حروفها التي ليست كأي حروف!!!
هذا حب لا يلقاه المرء إلا مرة واحدة في عمره...
محظوظ هو بملاك مثلها أحبه رغم زلاته...
+
رغم كل النساء اللاتي سارت خُطاهنّ علي دربه...
وحدها ساري استطاعت طمس آثارهن جميعاً...
لتصل وحدها لعرش قلبه...
متربعة في تملك !!!
+
ابتسم وهو يقبل جبينها بعمق ثم همس بشرود:
_أشعر اليوم بشعور غريب...وكأنني ولدت من جديد...وكأن عمري السابق كله في كفة...وعمري من اليوم في كفة أخري!!!
همست بسعادة:
_لا تتخيل سعادتي بك يا حذيفة...كم حلمت بهذا اليوم!
+
نظر لعينيها بعمق وهو يسألها بدهشة تمتزج بالاعتذار:
_كيف تحملتِ حبي طوال تلك السنوات...كيف استطعتِ التعايش مع قسوتي وتجاهلي لكِ؟!
أخذت نفساً عميقاً ثم همست ببطء:
_لم يكن اختياراً يا حذيفة...الحب الذي يولد وينمو معنا صغاراً يمتزج بدمنا وخلايانا...يصير جزءاً منا...لا يمكنني تذكر لحظة واحدة من أيامي السابقة ولا أذكرك معها...حبك كبصمة يدي مميزة لا تتغير...وتخصني وحدي...لا أشارك أحداً فيها...
رفع إبهامها إليه يقبل باطنه هو يهمس أمام عينيها:
_ولن يشاركك فيها أحد...
ابتسمت وهي تهمس:
_أنا أصدقك يا حذيفة...الآن أصدقك...قلبي يخبرني أنك تغيرت...
+
ثم مدت أناملها تداعب شعره لتهمس بحب:
_أنا أراهن نفسي عليك...وسأربح رهاني.
قرص وجنتها مداعباً وهو يهز رأسه هامساً بهيام:
_لا أصدق أنني أسمع هذا منكِ...لقد كاد شعري يشيب لنيل رضاكِ ...
نظرت إليه بعتاب وهي تهمس:
_لم يكن الأمر بهذه الصعوبة...أنا لم أطلب سوي نظرة صادقة كهذي التي أراها في عينيك الآن...
+
نظر إليها طويلاً...
يتأمل ملامحها بعشق جارف....
ثم مال بعدها علي شفتيها بتردد...
يخاف أن تخذله ككل مرة....
لكنه لم يلبث أن حسم تردده سريعاً وهو يبثها عبر قبلاته حبه وندمه واعتذاره ....
وكثيراً جداً من وعوده...
أنه لن يكون من اليوم إلا لها!!
1
ويبدو أن قبلاته الصادقة حملت رسالته ببراعة...
ليشعر بها -ولأول مرة -تستجيب له بعاطفتها...
ساري التي سيجاهد نفسه الآن كي يستحقها...
وليته ينجح في اختباره الأيام القادمة!!
==========================================================================
كان واقفاً في غرفتهما يجمع أغراضه ...
عندما تقدمت نحوه ببطء...
تتأمله بأسف واضح...
همست باسمه بكل ما أوتي قلبها من عاطفة :
_عمار.
لم يلتفت إليها وهو منهمك في جمع أغراضه لكنه هتف بخشونته المعهودة:
_ماذا تريدين؟!
وقفت أمامه تمنعه من الاستمرار فيما يفعله فنظر إليها كارهاً وهو يقول:
_انزلي عند والدتك حتي أنتهي من عملي...وأرحل عنكم للأبد...
+
امتلأت عيناها بالدموع وهي تمسك كفه الذي طالما كتبت عليه لتهمس:
_لماذا طلقتني يا عمار؟!
نزع كفه منها بعنف وهو يهتف:
_لتعودي لذاك الرجل الذي كنت ستهربين معه...اليوم لا حاجة لكِ في الهرب...انطلقي في الطريق الذي اخترتِه لنفسك.
+
سالت دموعها علي وجنتيها وهي تهمس :
_أنت لا تفهم!
هتف بغضب هادر:
_ولا أريد أن أفهم...لقد أديت واجبي نحوك ووقفت جوارك حتي شُفيتِ تماماً وبهذا أكون قد كفرت عن خطئي معكِ...وهأنذا أغادر حياتك للأبد...كما كنتِ تتمنين...
+
هزت رأسها بعجز وهي تشعر أن لسانها انعقد...
أين الأحاديث الكثيرة التي ادخرتها لتسمعها له...؟؟!!
أين اعترافاتها واعتذاراتها عن سوء ظنها فيه؟!!!
أين همسات امتنانها وشكرها لكل ما منحه لها طيلة هذه الأيام؟!!!
بل طيلة هذه السنوات...
لسانها يعاندها وكلماتها كلها هربت من علي شفتيها فجأة...!!!
+
ورغماً عنها ودون أن تشعر...
وجدت نفسها تسحب قلمه من قميصه...
لتجذب كفه من جديد وتكتب:
_لا تتركني...أرجوك...
+
وكأنها شعرت أن هذا هو أصدق تواصل بينهما...
عندما تمسك كفه في تملك فيتشرب جلده كلماتها لتصل إلي قلبه أسرع!!!
+
قبض كفه علي كلماتها بقوة مغمضاً عينيه للحظات...
وكأنه يحتفظ بكنز كلماتها الأخيرة كي لا يفقده!!!
يحاول السيطرة علي كل مشاعره الهادرة كبحر هائج الآن...
ويتمني لو يضمها اليه مرة أخيرة يودعها بعدها للأبد....
+
رفع رأسه لأعلي وكأنه يهرب منها ثم همس ببطء:
_لم تكوني لي من البداية يا جوري...أنا الذي أصررت علي عناد قدري...
+
فتحت شفتيها تريد أن تخبره أنها ما عادت تشعر نحوه كالسابق...
أنها تريده جوارها...
أنها تتمني لو لم تعد لها قدرتها علي النطق...
لو بقيت خرساء طوال عمرها...
كي لا تفقده!!!!
لكنها لم تستطع...
شئ أقوي منها يشل لسانها وحركتها...!!!!
+
ظلت تنظر إليه طويلاً في عجز يمتزج بالتوسل...
لكنه انتزع عينيه من سجن عينيها أخيراً ليغلق حقيبته ...
ثم أشاح بوجهه ليقول ببرود تعلم الآن جيداً ما يخفيه:
_وداعاً يا جوري!
+
قالها وهو يغادر الشقة تاركاً إياها متجمدة خلفه...
لا تصدق هذا الذي يحدث لها...
لا تصدق كل هذا التحول في مشاعرها نحوه...
لا تصدق كيف تحول عمار البغيض الذي كان يثير وجوده كل الرعب في أعماقها....
إلي رجل لم تعد تري أمانها إلا معه...
+
جلست علي طرف فراشها تنظر للباب الذي خرج منه بصدمة عجزها....
تري...هل تعود يوماً يا عمار...؟!!
هل تعود؟!!!!!
==========================================================================
وقف ياسين في شرفة غرفة عاصم الهاشمي...
حيث يقيم الآن مع رقية...
أخذ نفساً عميقاً يحاول استيعاب ما سمعه من ذلك الرجل مصطفي منذ ساعات...
آسيا لازالت علي قيد الحياة!!!!
إذن لماذا اختفت كل هذه الفترة؟!!!
وما صحة ما قاله ذاك الوغد عن علاقتها بصاحب المزرعة هذا؟!!!
+
لا لا لا....
هو يعرف آسيا جيداً...
لقد تربي معها....
لا يمكن أن تفعل ما يشين...
لكن....ألا يحتمل أن يكون هذا الرجل هو الذي أغواها؟!!!
ألا يحتمل أنه هو الذي يجبرها علي البقاء معه؟!!
+
كاد يجن بأفكاره الهائجة عندما عادت إليه رقية تحمل هاتفها لتقول بقلق:
_لقد أجريت اتصالاتي...كلام الرجل صحيح فيما يتعلق بمكان تلك المزرعة لكن مالكها لا يدعي بدر...اسمه الحقيقي جسار القاصم...
+
اتسعت عينا ياسين في ارتياع وهو يهتف بجزع:
_جسار القاصم!!!!
ازدردت رقية ريقها ببطء وهي تقول بتوتر:
_من هذا الرجل؟!
هز ياسين رأسه وهو يقول بصدمة:
_إنه الرجل الذي يطاردنا بالثأر منذ سنوات...لكن الثأر يؤخذ من الرجال...هذا الخسيس اعتدي علي حرمة نسائنا...غير اسمه ليغوي آسيا!!!!!
قالت رقية بتعقل:
_كيف يغويها وهي تعشقك أنت يا ياسين؟! ربما كانت فقط تعمل هناك ...
خبط علي سور الشرفة بكفه وهو يهتف بغضب:
_كيف تقيم هناك معه وحدها طيلة هذه الشهور....جسار القاصم لن يضيع هذه الفرصة لينتقم منا....ذاك الوغد انتظر كل هذه السنوات متخفياً...ولم يجد إلا آسيا لينفذ فيها انتقامه....؟!!!!
+
أخذت رقية نفساً عميقاً تستوعب به مشاعرها تلك اللحظة...
تخمد به لهيب قلبها الذي يشتعل غيرة من خوفه علي معشوقته...
وسعادته الملهوفة التي لم تخفَ عليها عندما علم أنها لازالت علي قيد الحياة...
تسكت به صراخ روحها التي تطالبها بالتمرد علي وضعها الغريب الذي طال...
وتستجيب لصوت العقل الذي يأمرها الآن...
+
لقد حان وقت الرحيل يا رقية!!
ارفعي رأسك ياابنة أبيك ...
وانفضي عن قلبكِ رداء ضعفه...
وعودي كما كنتِ رقية الهاشمي التي لم ولن يكسرها أحد.....!!!!
+
تناول ياسين مفاتيحه ليقول لها بسرعة:
_يجب أن نري حلاً لهذه الكارثة...حان الوقت لنعود لبيت العائلة..
+
تجمدت مكانها لحظات تنظر إليه طويلاً.....
ثم هزت رأسها نفياً وهي تقول بهدوء:
_عد أنت لبيت العائلة...أنا لن أعود معك...
+
عقد حاجبيه بشدة فأعطت له ظهرها وهي تقول بثبات تحسد عليه:
_لقد مات والدي الذي تزوجتني لأجل نفوذه...وحبيبتك عادت للحياة وتحتاج وجودك جوارها الآن لتنقذها مما هي فيه...الآن لم يعد لزواجنا معني...
سار ليقف قبالتها قائلاً بصدمة:
_ماذا تقولين يا رقية؟!
+
نظرت لعينيه وهي تقول بقوة:
_لقد وعدتك ألا أتركك طالما تحتاجني...وأنت الآن في غنيً عني...هاقد وفّت رقية الهاشمي بكل وعودها معك...والآن جاء دورك لتفي بوعدك معي...
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسألها بحذر:
_أي وعد؟!
اقتربت منه خطوة وهي تعقد ساعديها علي صدرها رافعة رأسها بكبرياء لتقول:
_وعدتني ألا تفعل إلا ما يرضيني...وأنا الآن أريد .....الطلاق...
+
تهدج صوتها في عبارتها الأخيرة رغماً عنها...
ليفلت من عقال سيطرتها علي جميع جوارحها الآن...
فيما ظل هو ينظر إليها طويلاً...
لتلتقي عيناهما للحظات واجهته فيها بقوتها التي تميزها...
قبل أن تعطيه هي ظهرها من جديد لتنسحب قبل أن يخذلها تماسكها...
+
لكنه أمسك ذراعها ليديرها إليه ثم أمسك كتفيها لينظر في عمق عينيها هامساً:
_تريدين أن نفترق يا رقية؟!
+
هربت من عينيه لتقول بثبات:
_نعم...وبسرعة...
ابتسم في سخرية مريرة هامساً:
_بسرعة؟!!!
زفرت زفرة قصيرة وهي تقول بانفعال:
_زواجنا كان مجرد خطإ كبير...لم ندفع ثمنه وحدنا...بل دفعه معنا غيرنا...وآن الأوان لنصلح هذا الخطأ ويمضي كل منا في طريقه....
اقترب منها أكثر حتي كاد يلاصقها وهو يهمس عاتباً:
_زواجنا خطأً يا رقية؟!
هتفت بنفس الانفعال:
_نعم ...خطأ...ورقية الهاشمي لن تسمح -بعد- بأي نقطة ضعف في حياتها ...حتي لو مات عاصم الهاشمي ...وحتي لو فقدت دعمه وقوته...سأبقي قوية كما عهدني وكما عهدت نفسي...
ثم أردفت بنفس القوة وهي تشير للمكان حولها:
_الحمد لله أن هذا تم هنا...وأنا في بيته وفي غرفته...أشعر بروحه تؤازرني في قراري...
+
نظر إليها طويلاً في صمت قبل أن يسألها بنبرته اللائمة:
_وقلب رقية الهاشمي؟! هل يوافقك علي قرارك هذا؟!
+
رفعت رأسها في كبرياء لتقول :
_أخبرتك قبلاً لو تعارض قلبي مع كبريائي سأسحقه تحت قدمي وأرفع كبريائي علي رأسي...
تنهد في حرارة...
ثم أطرق برأسه للحظات...
قبل أن يرفع وجهه إليها لينظر لعينيها طويلاً...
لكنها لم تتأثر...!!
+
لقد أجادت السيطرة علي جوارحها تماماً هذه المرة...
مد أنامله يتحسس وجنتها برفق للحظات وهو لا يزال غارقاً في بحر عينيها الهائج....
لتشعر بروحها تنسحب منها رويداً رويداً...
وهي تشعر بالسكينة في لمساته...
فأغمضت عينيها وهي تهمس باعتراض:
_ياسين!!
أحاط وجهها بكفيه وهو يقترب بشفتيه من شفتيها هامساً:
_لقد وعدتكِ ألا يمس رقية الهاشمي إلا رجل يحبها ...
فتحت عينيها بترقب...
وهي تنظر إليه بتساؤل...
+
فاقترب بشفتيه أكثر وهو يهمس:
_وأنا ..أحبك بجنون ...
+
تناول شفتيها بقبلة عميقة...
وهو يستشعر صدق كلماته...
هو لم يقلها ليسترضيها...
ولا ليثنيها عن قرارها...
لكنه قالها وهو يعنيها...
من للحب سوي رقية؟!!!
بل لمن خلق الحب إن لم يكن لها؟!!!!
+
أفاقت لنفسها بعد لحظات غابا فيها عن العالم في دنيا أخري من عاطفتهما الخاصة....
لتنظر إليه في عدم تصديق...
+
فرفع كفها إليه يقبل باطنه ليهمس أمام عينيها:
_الآن فقط...أقولها أمام عينيك دون قيود...أقولها وأنا أعنيها بكل حروفها...أنا أحب رقية الهاشمي التي لم ولن أعرف امرأة مثلها...
+
ثم ضم رأسها لصدره وكأنه يدفنه في ضلوعه هامساً:
_بعيداً عن نفوذ عاصم الهاشمي...وحتي لو عادت آسيا من جديد...قلبي الآن لا يحمل سوي حب واحد...حب أعظم من أن أضحي به مهما كان...حب رقية ...سلطانة العشق التي ملكت جوارحي وداوت جروحي...
+
شعر بدموعها تبلل قميصه...
فرفع وجهها إليه وهو يمسح دموعها هامساً:
_لا بكاء بعد اليوم يا غاليتي...قلبك لن يعارض كبرياءك بعد اليوم...كلاهما سيرفع علي رأسك ورأسي أنا أيضاً...
+
ابتسمت وسط دموعها وهي تشعر بصدق حبه الذي طالما انتظرته...
ليأتيها في نفس اللحظة التي كادت تموت فيها يأساً...
ياسين الآن صار لها كاملا....
لكن آسيا!!!!
+
سألته بتردد:
_وماذا عن آسيا يا ياسين؟!
أطرق برأسه وهو يقول :
_لن أتخلي عن آسيا هي ابنة عمي ولها معزة خاصة عندي...لكنها لم تعد عشقاً يتملكني...ما كان يمنعني عنك طيلة الأيام السابقة لم يكن حبي لآسيا...لكن شعوري بالذنب نحوها...شعوري من الخزي أن أعشق من جديد وقد كنت أنا السبب في موتها...لكنني الآن وبعدما صار أمامي الخيار متاحاً...أدرك أنني لم أعشق امرأة كما عشقتك أنتِ يا رقية....
ثم نظر لعينيها هامساً بعشق جارف:
_الآن يتحرر قلبي من أغلال ماضيه ليرتع في ربوع عشقك الساحرة...الآن تكونين صديقتي وحبيبتي وزوجتي...
دفنت وجهها في صدره وهي تقول:
_اااااااااه يا ياسين...لو تعلم كم اشتقت لسماع هذا منك...
4
ضم رأسها لصدره بقوة وكأنه يريد غرسها بين ضلوعه....
ثم رفع وجهها إليه وهو يهمس:
_لو تعلمين كم اشتقت أنا لقولها لكِ!!!!
1
ابتسمت وسط دموعها وهي تهز رأسها ...
لقد صدقت رقية الهاشمي في قسمها لنفسها ليلة زفافها...
وصار ياسين النجدي بقلبه وروحه ملكاً لها...
==========================================================================
صعد ياسين درجات سلم بيت العائلة الكبير ليلتقي عمار الذي كان يستعد للمغادرة...
نظر ياسين لحقيبته في يده هاتفاً:
_إلي أين تذهب يا عمار؟!
قال عمار بغلظة:
_جوري استعادت قدرتها علي النطق...وجدك جعلني أطلقها...وأمرني بترك المنزل...
زفر ياسين بقوة ثم قال له بقلق:
_دع حقيبتك هذه جانباً....وتعال ننظر ماذا سنفعل في هذه الكارثة...
عقد عمار حاجبيه وهو يهتف:
_أي كارثة؟!
سبقه ياسين وهو يقول بتوتر:
_سأنتظرك عند جدي.
+
دخل ياسين غرفة جده الذي كان جالساً علي كرسيه كعادته فسأله بهدوء:
_هل عدت أخيراً مع زوجتك؟!
قال ياسين بتوتر:
_هناك أمر يجب أن تعرفه يا جدي كي نستطيع التصرف بسرعة.
دق قاسم علي الأرض بعصاه وهو يقول بحذر:
_ماذا عندك؟!
+
تردد ياسين لحظات ثم قال بحسم:
_آسيا لازالت علي قيد الحياة.
+
وقف قاسم هاتفاً بصدمة:
_ماذا؟!
قال ياسين باضطراب:
_لقد تعرف عليها رجل زارني الليلة في منزل عاصم الهاشمي...لقد كان يعمل في المزرعة التي تقيم هي فيها الآن.
+
هز قاسم رأسه وهو يسأله بغضب هادر:
_أي مزرعة؟!!!
أشاح ياسين بوجهه للحظات ثم عاد يواجهه قائلاً:
_مزرعة في(.......)...لكن المشكلة ليست في هذا...المشكلة في مالك المزرعة...
+
ضيق قاسم عينيه بتساؤل فقال ياسين بحذر:
_جسار القاصم!
+
وضع قاسم كفه علي صدره وهو يشعر بألم شديد ...
لكنه تحامل علي نفسه ليقول بانفعال واضح:
_جسار القاصم اعتدي علي حرمة نسائنا؟! الخسيس هرب من ثأره مع الرجال طيلة هذه السنوات ليحقق انتقامه من فتاة!!!
+
وصل عمار في هذه اللحظة ليستمع للجزء الأخير من الحوار...
فسأل ياسين بقلق:
_ماذا حدث يا ياسين؟!
+
التفت إليه ياسين ليخبره...
عندما سمع صوت ارتطام خلفه...
لقد سقط قاسم النجدي...
قلبه لم يحتمل الصدمة!!!
==========================================================================
اجتمعت العائلة كلها حول فراش قاسم النجدي بالمشفي يتبادلون النظرات بحيرة تمتزج بالقلق...
قاسم وبرغم قسوته وتسلطه علي الجميع...
لكنه كان الوتد لهذه العائلة...
وجوده فقط كان كفيلاً لإشعارهم بالقوة والأمان...
وعندما سقط هكذا فجأة...
وجدوا أنفسهم يشعرون بالضياع....
عائلة النجدي لن تساوي شيئاً لو رحل هذا الرجل...!!!
1
قاسم النجدي هو الذي كان يجمع شتات هذه العائلة وخيوطها بكفه...
لو قدر الله له الموت الآن...
فإن هذه العائلة لن تفقد أمانها وقوتها فقط...
لكنها ستفقد روحها كلها!!!
+
لهذا تنفس الجميع الصعداء عندما استعاد وعيه ليتفحص ملامحهم بترقب...
ثم همس بصعوبة:
_آسيا...أريد آسيا....
+
توجهت فريدة -الصابرة-نحوه...
والتي كانت أقلهم صدمة -للعجب-من خبر وجود آسيا علي قيد الحياة...
قلبها الصادق أخبرها قبل أن يخبروها...
أن "الكريستالة" الهشة ستعرف كيف تتدبر طريقها عندما تصقلها الظروف ...!!!!
+
صحيح أنها قلقة مما سيفعله بها قاسم النجدي...
ومما تحمله لها الأيام مع جسار ذاك...
والذي يعلم الله ما الذي فعله وسيفعله بها....
لكن قلبها المؤمن أنبأها أن الذي حفظ لها ابنتها طيلة هذه الشهور لن يضيعها....
ستعود ابنتها لحضنها سالمة...
+
هذا يقينها بربها الذي لم يخذلها يوماً...!!!
+
جلست فريدة علي طرف فراشه وهي تبتسم بشحوب لتقول:
_لا تقلق يا عمي...سنعيدها...اهتم بصحتك فحسب....
+
نظر قاسم للسقف في شرود...
وهم يراقبونه بتفحص...
هم يعرفون شرود قاسم النجدي جيداً...
سيأتي بعده أمر جلل....!!!
+
وصدق حدسهم عندما التفت نحو أحفاده ليهمس بصعوبة:
_أخبروا حمزة أن يعود.....آن له أن يرجع!!!!
==========================================================================
1
استيقظت آسيا من نومها علي طرقات قوية علي باب غرفتها الخارجية...
نهضت من سريرها وهي تنتبه أنها نامت بثوبها هنا ...
لقد غلبها النوم بعد ليلة عصيبة من البكاء...
كل الحقائق التي تكشفت لها بالأمس جعلتها في حالة من الصدمة وعدم التصديق...
لكنها للأسف...
مجبورة هي علي المضي في الطريق الذي اختارته بنفسها...
وليتها لم تفعل!!!!
+
عادت الطرقات بقوة أكبر علي الباب هذه المرة...
فقامت لتفتحه...
وجدت جسار أمامها يبدو العبوس علي وجهه...
فهمست بقلق:
_ماذا بك يا بدر؟! هل جد شئ؟!
+
تأمل ملامحها المنهكة وهو يشعر نحوها بالشفقة...
لازالت بثوبها من البارحة...
عيناها الذابلتان تفضحان ليلة قاسية من البكاء والسهر...
والخوف!!!
لاريب أنها تشعر بالخوف من مستقبلها هنا...
الخوف من عائلتها...
بل...والخوف منه هو نفسه!!!
+
كم يود لو يمنحها الأمان الذي يعرف جيداً كم تحتاجه الآن...
لكنه لا يستطيع...
بعدما سمعه بأذنيه بالأمس من كلماتها التي أشعرته بأنها تحبه....
كل همسة حنان منه الآن جريمة في حقها!!!!
+
كل كلمة رقيقة وكل نظرة عطف ستعمق شعورها نحوه أكثر...
وهو ما لا يريده الآن!!!
آسيا يجب أن تبقي حرة...
قلبها ينبغي أن يتحرر من عشقه الوليد له!!!
حتي يمكنها الرحيل من هنا متي شاءت بكل يسر...
+
لهذا تجاهل كل شعوره بالشفقة والحنان نحوها ليقول بخشونة:
_قلت لكِ أنني جسار...لا تدعيني بدر ثانية...
+
أطرقت برأسها وهي تستوعب قسوته الجديدة معها...
والتي لم تختبرها قبلاً...
لاريب أنه يكره وجودها الآن أكثر...
لكنه مضطر لتحمل وزرها للنهاية...
كأي رجل نبيل!!!
+
ضم قبضته بقوة يداري عنها شعوره وهو يقول بقسوة:
_لماذا قضيتِ ليلتكِ هنا؟! ألم آمركِ أن تبيتي مع ياسين...هل تنقصنا أحاديث العاملين هنا؟!!!!
+
هزت رأسها وهي عاجزة عن النطق...
تشعر بالإهانة...بالامتهان...
لكنها تستحق!!!
هي التي وضعت نفسها في هذا الموقف !!!
+
لذا قالت بعد صمت لحظات طويلة دون أن تنظر إليه:
__آسفة يا جسار.
+
كانت المرة الأولي التي يسمع فيها اسمه الحقيقي منها...
وليته لم يفعل...
هل يمكن أن تحمل الحروف مشاعر صاحبها كما تفعل مع آسيا؟!!!!
عندما كانت تدعوه "بدر" ...
كانت حروفها تتراقص ...!!!!
تحمل له زخّات من امتنانها وحنانها ورقتها الفطرية دون تكلف...
تحمل له شعورها نحوه بالأمان والثقة!!
+
والآن وهي تدعوه "جسار" هكذا...
يشعر بحروفها ترتعش في خوف يمتزج بالحيرة...
وكأنها تشكو منه وتشكو إليه في نفس الوقت...!!!
نعم....حروفها تأتيه مشبعة بألمها وعُتبها علي قسوته الجديدة...
وكأنها عندما تدعوه"جسار" تذكره بما حملته له طوال عمرها من خوف ورهبة!!!
+
لكنه عاد يتجاهل كل هذا وهو يقول بجفاف:
_اذهبي الآن لغرفة ياسين...سأنجز بعض الأعمال وآتيكم بعد العصر...
+
قالها ثم أعطاها ظهره منصرفاً بسرعة...
فتأملت خطواته المنصرفة بحسرة...
لقد ذهب بدر الحنون الرقيق المتفهم...
ولم يبق سوي جسار الذي عاشت عمرها السابق تخشاه...
ويبدو أن عمرها القادم لن يخالف عهدها معه!!!
+
أغلقت باب غرفتها خلفها بعدما خرجت لتتوجه نحو المنزل الكبير...
توجهت نحو غرفة ياسين التي صارت الآن غرفتهما معاً...
فجسار بالطبع لن يشاركها غرفته!!!
بدلت ملابسها بأخري أكثر راحة...
وخلعت حجابها لتمشط شعرها في شرود...
+
ما أشد مرارة الخذلان!!!
عندما يخذلك كل من حولك...
حتي من ظننتهم أقرب الناس إليك...
+
يقولون لي : كوني قوية!!
من أين لي بقوة وسط هذا الحطام الذي يملأ روحي؟!
أنا لست أملك إلا دموعي وحسرتي علي ما كان...
وحدي أقاوم كي أقنع أنفاسي -فقط-بالبقاء في صدري...
فلا تنقطع!!!
وحدي أجاهد خطايا ماضٍ تطوقني بحبال من لهيب...!!
وحدي أربّت علي خوف قلبي من غدٍ يرهبه كالكابوس!!!
وحدي...
وحدي...!!!
+
هكذا كانت تحدث نفسها عندما دخل عليها ياسين ليقول بمرح طفولي:
_يا إلهي...كم أنت جميلة....أنتِ تبدين ك"سندريللا"!!!
ابتسمت وهي تفيق من خواطرها البائسة...
ثم ضمته لصدرها هامسة بحنان:
_وأنت تبدو كالأمير الشجاع...أنت بطلي يا ياسين...
دخل جسار في هذه اللحظة...
ليراها لأول مرة بهذه الصورة...
شعرها الذي يبدو كخيوط الذهب السائلة ينسدل كستار كثيف علي كتفيها...
لينافس عينيها في بريقهما الأخاذ...
تضم الصغير لصدرها في حنان بصوتها الذي يمزج براءة الأطفال بسحر النساء...
أناملها الرقيقة تداعب شعره برقة فتبدو كأنها حورية خرجت من إحدي حكايا العشق الأسطورية...
لتعزف علي قيثارة من الإحساس...
لقد كان يظنها فاتنة...
والآن يراها....آسرة!!
+
وقف لحظات يتأملها مأخوذاً دون أن تشعر هي به...
حتي انتبه لعبارتها الأخيرة التي قالتها لطفله...
ياسين!!
أي ياسين كانت تقصد وهي تتفوه بها...؟؟؟!!!!
أي ياسين هو أميرها وبطلها...؟؟؟!!!
أي ياسين كان بقلبها وهي تضمه بهذه الصورة الحانية؟؟!!!
ياسين طفله...أم ياسين عشقها القديم؟؟؟!!!!
+
عقد حاجبيه بشدة عند هذه النقطة...
وهو يشعر بضيق غريب...
وماله بها هو؟؟؟!!!
إنها ليست سوي غريبة تعهدها بالحماية...
فلتعشق من شاءت...
لا شأن له بمشاعرها...
بل لا شأن له بها علي الإطلاق!!!!
+
جعله إدراكه الأخير هذا يهتف في خشونة:
_اخرج الآن يا ياسين...أريد الحديث مع آسيا وحدنا.
+
انتفضت واقفة عندما رأته وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف خجلاً وذعراً...
لماذا عاد الآن...
ألم يقل أنه سيعود قبيل العصر؟!!!!
+
مدت يدها لحجابها بسرعة تتناوله...
عندما خرج ياسين الصغير من الغرفة بسرعة...
لفت حجابها كما اتفق لكنه انزلق من علي شعرها بسرعة ليسقط علي كتفيها....
+
ازدردت ريقها بارتباك...ثم أطرقت برأسها هامسة:
_ماذا تريد يا جسار؟!
+
أشار إلي حجابها المنزلق وهو يقول بجفاف:
_اخلعي هذا عندما تكونين في المنزل...الخادمات هنا يتناقلن الأحاديث بلا تحفظ...يجب أن تتعاملي معي بطريقة طبيعية أمام الجميع ...
+
أومأت برأسها إيجاباً...
ثم همست في ضعف:
_هل تريد شيئاً آخر؟!
زفر بقوة وهو يقول بخشونة:
_وكفّي عن تدليل الصغير هكذا...لا أريده أن يتعلق بكِ أكثر...حتي لا يشقّ عليه الأمر عندما ترحلين...
+
دمعت عيناها رغماً عنها وهي تسمعه يتحدث عن رحيلها بهذه البساطة...
وهو يعاملها بهذا الأسلوب الجديد...
رفقاً بي يا جسار...
لا تنقصني قسوتك هذه...
كفاني ما قد لاقيت ...
وما سألاقي!!!!
هكذا حدثت نفسها وهي تعطيه ظهرها كي لا يري عينيها الدامعتين...
وضعت كفها علي شفتيها تمنع انهمار دمعها الذي لم يعد لها سواه في غربة روحها هذه!!!
+
أساء فهم حركتها فجذب مرفقها نحوه ليهتف بقسوة:
_ولا تعطيني ظهركِ عندما أكلم...
+
قطع عبارته وهو ينظر لعينيها الدامعتين مأخوذاً...
لم تكن المرة الأولي التي يراها فيها تبكي...
لكنها المرة الأولي التي يراها فيها بهذه الهشاشة وهذا الضعف...
وهذا القرب!!!
أم أن هذا الضعف كان نابعاً منه هو نفسه؟!!!
+
نظرت إليه ترمقه بسهام من عتبها الممتزج برجائها هامسة:
_لماذا صرت تعاملني هكذا؟!
ثم أردفت بنفس الهمس المتألم الذي يحمل أنّات روحها الكسيرة:
_أنا أعرف أنني أُثقل عليك...لكنني الآن ليس لي أحد غيرك...
+
قالتها ثم انتفض جسدها كله بنحيبها الذي ما عادت تقوي علي كتمانه...
ليجد نفسه دون وعي يجذبها من مرفقها ليضمها إليه بقوة...
وهو يربت علي ظهرها في صمت....
لامست أنامله خيوط الذهب السائلة والمسماة -ظلماً-شعرها...
فأخذ نفساً عميقاً ليأتيه ممزوجاً بعبير الذهب الساحر....
+
أغمض عينيه لحظات...
لا يعرف سر هذا الشعور الغريب الذي يملؤه...
لا...إنه ليس مجرد شعور رجل بامرأة...
لكنه شعور بالاحتواء...
أو علي الأدق...بالاكتمال!!!
وكأنها كانت تنقصه حتي إذا ما ضمها...
وجد فيها كماله وتمام نقصانه...!!!!
+
ظل علي إحساسه-الغادر-بها للحظات...
قبل أن يستفيق فجأة من شعوره...
ليؤنبه ضميره بقسوة...
هل نسيت سمية بهذه السرعة يا جسار؟!!!!
+
ارتد عنها مصعوقاً فابتعدت عنه بخجل...
وهي تكاد تقسم علي علمها بما يشعر به الآن...
لم تكن تتوقع يوماً أن يضمها هكذا...
كما لم تتوقع أبداً أن يكون شعورها هكذا يوم يفعل!!!
ودت لو تشكره علي هذا الأمان الذي شعرت به بين ذراعيه...
لكن نظرة واحدة لملامحه كانت كافية لتدرك ..
كيف هو الآن شعوره بالندم...!!!!
+
جسار لا يحبها...
ولا يريد أن يحبها...
هو يريد العيش بين أطلال سمية للأبد...
ووجودها معه يذبحه بشعور الخيانة...!!!!
+
كانت تدرك كل هذا...
لهذا لم تستطع أن تمنع نفسها من أن تهمس بشرود وكأنها تهذي:
_سأرحل يوماً ما ....وستنتهي القصة بالنهاية السعيدة للجميع...
+
قالتها وكأنها تطمئن بها نفسها...
قبل أن تطمئنه هو...
وكأنها تقنع نفسها بوجود معجزة قادرة علي حل وضعهما المتشابك...
وفك كل تلك العقد...
+
نظر لشرودها في حزن يمتزج بالضيق...
وهو لا يجد ما يقوله...
هو يريد الهرب من أمامها الآن فقط بأي صورة...!!!
+
توجه نحو الباب بخطوات متثاقلة ليسمعها تقول خلفه في رجاء :
_لا تقسُ عليّ ثانية ...لا تدّعِ دوراً ليس لك...لو كنت تفعل هذا لتضمن رحيلي من هنا...فأقسم لك أنني سأفعل يوماً...
+
أغمض عينيه بقوة دون أن يلتفت إليها...
وهو يشعر بكلماتها كالسهام موجهة لقلبه باحتراف...
كل سهم يعرف مكانه وتأثيره!!!
+
هز رأسه بعجز وهو يشعر أنه عالق مع هذه الصغيرة التي دخلت عالمه فجأة...
لتقلبه له رأساً علي عقب...
ومن يدري...ماذا تخبئ له أيامه معها؟!!!!!
======================================
انتهى الفصل
+