اخر الروايات

رواية جمر الجليد الجزء الثاني الفصل السابع عشر 17 بقلم شروق مصطفي

رواية جمر الجليد الجزء الثاني الفصل السابع عشر 17 بقلم شروق مصطفي


— "طيب خلاص، أنا هقوم أشيل السمك وأخد شاور، بس انتي ريحي، وأنا هعملك حاجة خفيفة تاكليها."

مع بداية حملها، تغيرت شخصيتها وأصبحت متقلبة المزاج، فكانت تبكي لأتفه الأسباب، وأحيانًا تصبح عصبية، وأحيانًا أخرى تغمره بالرومانسية، وأوقاتًا أخرى تشمئز من أشياء كانت تحبها من قبل.
وانصهر الجليد بقلم شروق مصطفى
بعد انتهائه من الاستحمام وإزالة رائحة عطره، جهز لها وجبة أخرى، فتناولتها ثم ابتسمت له بحب، وتحدثت:

— "اعذرني لو بضايقك من تصرفاتي أحيانًا، بس مش عارفة ليه بعمل كده بجد… يمكن من شهور الوحم."

نظر إليها الآخر بنظرة مستنكرة وسألها مازحًا:

— "أحيانًا بس؟! ده كتير يا بيبي! بس ولا يهمك… أقوليلي بقى، شهور الوحم دي هتخلص إمتى بس؟!"

همسة ضمت شفتيها إلى الأمام بملامح حزينة، وبدأت بالبكاء:

— "كده يعني… مش طايقني؟! آه، انت وحش على فكرة!"

قهقه وليد بصوت عالٍ، ثم جذبها إلى داخل أحضانه، يهدئها كما يهدئ طفلته المدللة:

— "آهي قلبت في لحظة! يا بنتي، انتي ما بتصدقي وتتفّتحي! حقك عليا، انتي زي العسل وعلى قلبي زي العسل… بس أنا هموت وأنام بجد، ممكن تسيبيني أنام شوية؟"

ثم عدّل وضعيته، وافترش السرير بجانبها، وهي لا تزال داخل أحضانه. ابتسمت له قائلة:

— "بحبك أوي يا وليد، ربنا يبارك لي فيك يا رب وتستحملني."

غلبه النعاس وأغمض عينيه، ثم ردّ بصوت ناعس:

— "وأنا كمان بحبك أوي والله…"

نظرت همسة إليه وهو نائم كالأطفال، وبدأت تمرر أناملها على وجنتيه بحنان، ثم قبلته وهمست له برقة:

— "بحبك أوي…"

واستسلمت هي الأخرى لسلطان النوم.

...

في إحدى الكافيهات

كانت تجلس بهدوء يُنافي ذاك الصراع المُقيم داخلها، كانت شبه حاضرة؛ فالعقل يعلن العصيان، والقلب ينبض بنبض جديد، معلنًا رفع راية الاستسلام وبدء صفحة جديدة. وحينها، نهرها عقلها بشدة: "أفيقي أيتها البلهاء!" ولكنها فاقت من شرودها على صوت أخيها...

كان هيثم ينظر إليها بحزن، فقد كان أكثر من يشعر بما أصابها منذ الرحيل. حاول أن يجذبها إلى الحديث حتى يخفف عنها، ولكنها كانت في عالم آخر.

"إيه يا بنتي، فينك؟"

انتبهت إلى حديثه وردّت سريعًا:

"معاك، كنت بتقول حاجة؟"

كاد أن يتكلم، لكن رنين هاتفه ارتفع فجأة، فأشار إليها قائلاً:

"هعمل المكالمة وأرجعلك."

غادر هيثم للحظات، بينما ظلت مي تسرح مجددًا حتى شعرت بأحدهم يسحب الكرسي أمامها. ظنت أنه عاد سريعًا، فقالت دون أن ترفع نظرها:

"إيه يا ابني، خلّصت بسر..."

لكنها ابتلعت بقية كلماتها داخل حلقها عندما رفعت بصرها. لم يكن أخيها، بل كان هو! واه، يا قلبها اللعين، ما زلت تخفق من أجل من رحل.

ساد صمت تام بينهما، لم يُسمع فيه سوى هدير أنفاسهما المتسارعة وكأنهما في سباق ماراثون. عيناها كانت تشتعل بعاصفة هوجاء، خليط من الغضب، والاشتياق، والألم، والعتاب، والحنين لتلك الذكرى. أما عيناه، فكانتا مليئتين بالشوق واللهفة والحنين.

قطع شرودها وصول النادل لأخذ طلباتهما، فنظرت إليه في حيرة، بينما كان معتز أكثر انتباهًا، فطلب لهما المشروب وغادر النادل.

ظلّت مي تنظر في جميع الاتجاهات متجنبة عينيه، تودّ لو تلمح أخاها حتى تنسحب. لكن صوت معتز اخترق حاجز صمتها وهو يناديها باسمها:

"مي، بصّي لي ممكن؟"

توجّهت بنظرها إليه سريعًا وردّت بتوتر، بينما عيناها غير ثابتة:

"هو... هو فين هيثم؟"

أخذ نفسًا عميقًا وزفره ببطء، ثم قال:

"مي، أنا اللي طلبت من هيثم يقابلك بره البيت، وهو موجود هنا قريب. أنا بس محتاج أتكلم معاكي، ممكن تديني فرصة؟"

نظرت إليه بتهكم، وقالت بحدة:

"وإيه اللي فكّرك تيجي تتكلم دلوقتي؟ لسه فاكر أصلاً؟ أظن مفيش بينا أي كلام ممكن يتقال، وأنا هعرف هيثم فين..."

قالت جملتها وهي تهمّ بالمغادرة، لكنه وقف أمامها يمنعها، وتحدّث برجاء:

"مي، أرجوكي اقعدي نتكلم الأول بهدوء، ممكن؟"

أدارت وجهها بغضب، لكنها جلست مجددًا، تدفع بأصابعها على الطاولة بعصبية، وعيناها تتجهان إلى كل مكان عدا عينيه. لكنها لم تستطع الصمود، ففي كل مرة كانت تخذلها نظراتها لتلتقي بعينيه، فشعرت بتضارب عنيف بين عقلها وقلبها.

لقد ذاقت مرارة الفراق والبعد، لكن شعورها بالخذلان حين انسحب وسافر دون حتى محاولة أخرى، كان يؤلمها أكثر. لكن لماذا الآن؟

تنهدت بعمق، وظلت تفرك يديها بتوتر، وخفقات قلبها لم تهدأ. وأخيرًا، نظرت إليه وسألته بصوت خرج بالكاد:

"وليه دلوقتي جيت؟"

لمح الخاتم يلمع بين أصابعها، فشعر ببعض الطمأنينة، ثم صمت قليلًا قبل أن يواصل حديثه بنبرة يملؤها الأسف:

"بجد آسف على كل شيء صدر مني، من أول يوم شفتك فيه لحد آخر يوم. بعادي عنك كان بالنسبة لي موت بطيء، مكنتش عايش بجد، وكل ما افتكر نظرة الانكسار والخوف والخذلان في عيونك، كنت بتعذب."

نظر إليها بعمق، ثم تابع بصوت متهدج:

"مي، أنا كنت صريح معاكي من البداية، مكدبتش عليكي. يشهد ربي إني قبل ما أخد أي خطوة معاكي، كنت طويت صفحة الماضي تمامًا. وبعد ما عرفتك، شفت فيكي خوفك من غضب ربنا حتى مني شخصيًا، ووقتها فوقتيني على حاجات كان نفسي نبدأها مع بعض..."

ابتسم بخجل، وقال:

"فرحت جدًا لما لبستِ الحجاب، أوي."

ثم أخذ نفسًا عميقًا، وزفره ببطء، قبل أن يضيف بصوت مبحوح:

"أيوه، سبتك غصب عني. كان لازم أبعد، مي. كنت بعاقب نفسي ببُعادك، وحلفت إني مش هرجع إلا وأنا أستحقك بجد، ودايمًا كنت بدعي إن ربنا يغفر لي."

ظلت صامتة، بينما هو لا يحيد بنظره عنها. تابع بصوت رجاء:

"مي، أنا محتاجك جنبي أوي، محتاج نبدأ صفحة جديدة. حاولي ترمي الماضي بعيد، واغفري لي قسوة الجرح اللي فات. أنا بحبك بجد، إنتِ أول وآخر حب عشته. صدقيني، وارجعي لي، وادّي لعلاقتنا فرصة تانية..."

كانت تستمع إليه بقلبها الذي بدأ يتراقص من السعادة، رغم محاولاتها لإخفاء ذلك. طال صمتها، فتنهد بيأس، وقال:

"مي، أرجوكي، اتكلمي! قولي إنك موافقة تدينا فرصة واحدة! مستعد أنفذ لكِ أي حاجة حتى لو طلبتي أرمي نفسي في النيل!"

وأخيرًا، خرج صوتها متحشرجًا من أثر دموعها التي انهمرت بلا توقف:

"موافقة..."

نهض معتز بسرعة واقترب منها غير مصدّق:

"قلتي إيه؟!"

ابتسمت مي غصبًا من هيئته، لكنه فجأة جثا على ركبته أمامها، ممسكًا بيدها:

"قوليها تاني، سمعيني!"

نظرت حولها في خجل وهمست:

"اقعد مكانك، الناس بتتفرج علينا، يا مجنون!"

لكنه لم يبالِ، وظل مصرًا:

"مش هقعد غير لما أسمعها تاني."

أشاحت بوجهها، وهمست بخجل:
وانصهر الجليد جزء ثاني
"موافقة بقى!"

توقف ولم يتحرك من مكانه، وتمنى في تلك اللحظة أن يضمها بين ذراعيه ويدور بها فرحًا، لكنه سرعان ما عاد إلى واقعه، منتبهًا إلى من حوله. لمح هيثم جالسًا في ركن بعيد، ينظر إليه باستفهام، متسائلًا عن سبب توقفه المفاجئ، لكنه ابتسم له وعاد إلى مكانه. أغمض عينيه وكأن روحه قد عادت إلى مكانها بمجرد سماعه لموافقتها.

معتز، مبتسمًا بسعادة غامرة:
"أنا أسعد واحد بجد النهارده... ياااه، بجد، ربنا بيحبني عشان جعلكِ من نصيبي."

مي، مترددة قليلًا قبل أن تسأله:
"طيب، ممكن أسألك سؤالًا؟"

معتز، بسعادة واضحة لسماع صوتها موجهًا له الحديث:
"سؤال واحد بس؟! لا، اسألي عشرة لو تحبي."

مي، وقد عقدت حاجبيها قليلًا:
"ليه كنت بتجي مكان شغلي؟ وليه كنت بتمشي ورايا؟ إيه السبب؟"

معتز، متنهدًا تنهيدة حارة خارجة من أعماقه:
"كنت بحفظ ملامحكِ قبل ما أقابلكِ النهارده... كنتِ أنتِ اللي هتحددي مصيرنا. لو افترقنا، كنتُ على الأقل مليت عيني منكِ، يمكن يكون ده آخر يوم أشوفكِ فيه. كنت براقب كلامكِ، ضحكتكِ، حركتكِ، وتلقائيتكِ... كنت بحفظهم."

توقف قليلًا، ثم أكمل بصوت تغلفه مشاعر الامتنان:
"لكن الحمد لله، ربنا بيحبني وبيحبكِ لأنه جمعنا تاني. وإن شاء الله، أعوضكِ عن كل اللي فات."

مي، وقد تذكرت حديث والدتها، تحدثت بصوت هادئ مفعم بالتأمل:
"وأنا كمان أخطأت في حق ربنا... تأخيري في ارتداء الحجاب كل السنين دي، ورفضي لكل محاولاتهم في البيت لإقناعي بلبسه، بحجة إني لسه صغيرة، أو لما أتجوز هلبسه، أو لما أقتنع بيه الأول... كل ده كان خطأ مني، لكن رجعت لربنا، وفعلا ربنا غفور رحيم."

توقفت للحظة، ثم أكدت بحزم:
"لكن الأهم إننا نثبت... وما نرجعش لنفس الخطأ والمعصية تاني. لأن وقتها، لا أنا هسامحك، ولا هيبقى فيه فرصة تانية!"
بقلم شروق مصطفى
معتز، وقد ارتسمت الجدية على ملامحه:
"إزاي تقولي كده؟! مش بعد ما ألاقي الذهب في إيدي أروح أدور على الفالصو! أنا نويت، بإذن الله، نبدأ حياتنا مع بعض، ونعمل عمرة، ونرجع كأننا لسه مولودين من جديد، زي خلقتنا الأولى."

مي، مبتسمة بعدما لاحظت أنه لا يزال يحتفظ بخاتمه:
"حاجة كويسة جدًا... ياريت بجد ن..."

لكنها لم تكمل حديثها، إذ قطع كلمتها وقوف معتز فجأة، مبتسمًا لشخص ما. تتبعت عيناه، لتجده هيثم يدخل في أحضانه، يربت على ظهره ويبارك له:

هيثم، بفرحة صادقة:
"كان قلبي حاسس إنكم هتتصافوا... مبروك!"

جلس، ثم نظر إلى أخته مازحًا:
"نقول مبروك؟ أنا شوفت كل حاجة... كنت قاعد ورا، وشوفت معتز وهو بيتنطط!"

احمر وجه مي خجلًا، فقد فهمت الآن ما قصده بكلامه قبل دخولها للمكان، وعلمت أنه كان جزءًا من هذه الترتيبات.

معتز، وقد عادت الحياة إلى وجهه من جديد، ممتنًا:
"أنا بجد مش عارف أشكرك إزاي على وقوفك جنبي، ومساعدتك ليا."

هيثم، بابتسامة أخوية دافئة:
"يا بني، إحنا إخوات، وبعدين، لو كنت لاقيتك مش مناسب، أو إنك شاب طايش وتافه زي معظم شباب اليومين دول، مكنتش ساعدتك. لكن أنا شوفت فيك إنك راجل، أد المسؤولية، ويُعتمد عليك، وهتشيلها في عينيك."

معتز، متحمسًا:
"طيب، أقدر أتقدم رسميًا للبيت إمتى؟"

هيثم، ممازحًا:
"تتقدم إيه! ما أنتو لابسين خواتم الخطوبة، ولا استنى ألبس نظارة وأتأكد؟!"

قهقه ضاحكًا عندما أخفت مي يدها أسفل الطاولة، وشاركهما معتز الضحك، ثم نظر لها بحب، ولاحظ احمرار وجنتيها.

معتز، محاولًا كبح حماسه:
"طيب، نحدد كتب الكتاب إمتى؟ بلاش تأخير، كفاية كل اللي مرينا بيه. إيه رأيكم الخميس اللي بعد اللي جاي؟"

هيثم، معترضًا بلطف:
"إنت مستعجل ليه كده؟! مش لما عاصم يرجع بالسلامة هو ومدام سيلا الأول، وبعدين تكتبوا كتابكم؟ ولا إيه؟"

مي، متدخلة برأيها:
"آه، صح! مفيش حاجة هتتم غير برجوع سيلا."

معتز، موافقًا بعد تفكير:
"اللي أنتم شايفينه مناسب. أنا هكلم عاصم وأبلغه، وأعرف هينزل إمتى."

هيثم، ناهضًا من مكانه:
"على خير الله... إحنا هنمشي دلوقتي، لأني عندي شغل تاني في العيادة. يلا بينا يا مي."

معتز، مبتسمًا لها بجاذبية:
"ماشي... مع السلامة."

غادروا المكان، بينما أخرج معتز هاتفه ليهاتف أخيه عاصم، الذي فرح كثيرًا لفرحته. أبلغه عاصم بموعد رجوعهم، فأغلق معه معتز الهاتف، متنهدًا براحة واطمئنان. دفع الحساب، التقط متعلقاته، ثم غادر، حاملًا بداخله أملاً جديدًا لحياة قادمة.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close